إعادة قراءة الطبري بعيون الماتريدي
إطلالة جديدة على القرن الثالث الهجري

المترجم : مصطفى الفقي
يحظى تفسير الطبري بأهمية كبيرة في الدراسات الغربية سواء الكلاسيكية أو المعاصرة، حيث يُنظر لتفسير الطبري باعتباره تفسيرًا مركزيًّا وممثلًا لطبيعة الممارسة التفسيرية في التراث الإسلامي، وهي الفكرة التي يحاول الكثير من الباحثين الغربيين المعاصرين تفكيكها. في هذه الورقة يحاول وليد صالح إثبات عدم دقة كون تفسير الطبري ممثلًا للصنيع التفسيري السنّي العام، عبر مقارنته بتفسير الماتريدي، وبحث علاقتهما بالموروثات السابقة، وكذلك مدى حضور صنيعهم ضمن التفاسير اللاحقة.

  يظلّ التفسير أحد الاهتمامات المركزية للدراسات الغربية منذ الاستشراق الكلاسيكي، ويزداد هذا الاهتمام في العقود الأخيرة، وتحاول الدراسات الغربية المعاصرة حول التفسير إعادة التفكير في كثير من مساحات الدراسة الكلاسيكية للتفسير، مثل تحقيبه وتطوره وأهم مراحله ومدوناته، كما تحاول التوسّع في دراسة التفسير عقائديًّا وجغرافيًّا بحيث لا تقتصر على التراث السنّي بل تتناول التفاسير الصوفية والمعتزلية، ولا تقتصر على التفاسير الكبرى في العالم الإسلامي المعاصر في الهند وتركيا ومصر بل تشمل التفاسير في الصين وإفريقيا، كما لا تقتصر على التفسير المكتوب والمدوّن بل تبحث في التفسير الشفهي والضمني والترجمات التفسيرية في العصر الوسيط والمعاصر.

كذلك تهتم هذه الدراسات بتوسعة رؤاها للتفسير في ضوء المدوّنات المكتشفة والمحققة حديثًا، حيث تحاول عبر دراسة هذه المدونات إعادة التفكير في التصوّرات المركزية حول تاريخ التفسير وطبيعة مدوناته المركزية، خصوصًا مع اتساع رقعة هذه المدونات المدروسة ما بين المراحل المبكّرة والتكوينية وكذلك المراحل الكلاسيكية والمتأخّرة من تاريخ التفسير.

ويعدّ وليد صالح أحد أهم وأبرز الباحثين المعاصرين ضمن سياق الأكاديميا الغربية في دراسات التفسير، حيث بلور رؤية خاصّة لتحقيب وتاريخ هذا العلم، وحيث أصبحت طروحاته حول (تفاسير نيسابور) ودورها في تطور التفسير الكلاسيكي وكذلك رؤيته حول ابن تيمية أحد أهم محاور الاشتغال الغربي المعاصر على التفسير.

في هذه الورقة التي بين أيدينا يحاول وليد صالح إعادة النظر في موقع تفسير الطبري ومنهجه ومركزيته وفاعليته في تأسيس التفسير السنّي الكلاسيكي عبر مقارنته بتفسير الماتريدي، حيث يرى وليد صالح أن هذه المقارنة تستطيع أن تبرز لنا تعامل كلٍّ من المفسرَيْن مع الموروث التفسيري، سواءٌ المرويات أو الجدالات والحجاجات العقلية التي أثارتها النقاشات الكلامية الاعتزالية والأشعرية، حيث يبرز بهذا الطبري -وَفقًا لوليد صالح- لا بكونه ممثلًا للتفسير السنّي بل صانعًا لحدوده عبر الاختيار من المرويات والحجاجات وعبر بناء إستراتيجيات التوظيف للمرويات والأسانيد والحجج الفيلولوجية والكلامية، كما يبرز ما جرى اعتباره في سياق لاحق خروجًا عن نمط التفسير السنّي كالحال مع الرازي على سبيل المثال، مجرد امتداد لإحدى المساحات المتنوعة الموجودة قبل الطبري أو في سياق معاصر له، يحاول صالح إبراز هذا عبر المقارنة بين تفسيري الطبري والماتريدي لبعض الآيات ومدى حضور الجدل السابق فيها، وكذا طريقة استعمال الطبري للمرويات والمرجعيات التي يستند إليها عبر التسمية أو تلك التي يعمل على تجهيلها.

يصل صالح عبر هذا لعرض صورة مختلفة بعض الشيء للطبري ودوره في سياق نشأة التفسير الكلاسيكي السنّي وكذلك علاقته بتفاسير الفترة التكوينية مثل تفسير مقاتل، حيث يعرض رأيًا مغايرًا للسائد غربيًّا حول عدم اعتماد الطبري على مقاتل وحول كون مقاتل لم يمثّل مرجعًا مركزيًّا للتفسير السنّي العامّ إلى عصر الثعلبي، ويرى أن من الضروري التوسّع في دراسة تفاسير هذه المرحلة وفي دراسة العلاقات بينها بشكل تبادلي، فيقرأ الماتريدي في سياق الطبري كما يقرأ الطبري في سياق الماتريدي، حيث تؤدي هذه الدراسات المتوسّعة والمقارنة في نظره لإعادة تفكير ضرورية في هذه الفترة وملامحها المنهجية وإستراتيجيات توظيفها للمرويات التفسيرية والحجج العقلية السابقة، ودور هذه التفاسير الحقيقي في بناء التقليد التفسيري السنّي.

إنّ الدراسات الغربية تُولي تفسير الطبري مركزية كبيرة في تشكّل التفسير السنّي، وبغضّ النظر عن الاتفاق حول صحة هذه المركزية في سياق الدرس العربي، إلا أنه يمكن اعتبار هذه الورقة جزءًا من محاولات كثير من الباحثين الغربيين لتفكيك المركزية المعطاة لتفسير الطبري في سياق الدراسات الغربية، يتم هذا عبر عدد من الإستراتيجيات، كما أشرنا في بعض التعليقات داخل الترجمة، عبر استحضار الأسباب التي أدت لهذه المركزية في سياق نشأة الدراسات الغربية حول التفسير (يوهانا بينك)، وكذلك عبر قراءة الطبري ذاته ضمن مدونات القرن الثالث وبحث تأثير واستمرارية هذه المدونات في التفاسير اللاحقة (صالح)، أو دراسة مدونات الفترة الكلاسيكية وبحث صلاتها وعلاقتها بالطبري وبالتالي بحث أيهما أكثر تعبيرًا عن التفسير (صالح).

ما يهم في هذه الورقة هو ما تكشفه من نظرة الدرس الغربي للتفسير ومعطياته حول تاريخه ومؤلّفات المركزية، وكذا ما تبينه من اهتمام موسع عند بعض الدارسين الغربيين بامتحان الأفكار الموروثة غربيًّا حول التفسير، وهذه نقاشات من المهم الاطلاع عليها في الدرس العربي التفسيري وأن يتعرف عليها الباحثون العرب المهتمون بحقل الدراسات الغربية.

المؤلف

وليد صالح - WALID SALEH

أستاذ الدراسات الإسلامية، ومدير معهد الدراسات الإسلامية بجامعة تورونتو بكندا.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))