منطلقات دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف؛ تحرير وتأصيل (2-3)

ثلاثية تناقش منطلقات بحث توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف، وبعد أن أصّلت المقالة الأولى للمنطلق الاستدلالي على بيان المعاني ودلّلت على صحته نظريًّا، تأتي هذه المقالة لتؤكِّد ذلك بصورة تطبيقيّة تبرز قدرة ذلك المنطلق على وضع بحث التوظيف على المسار الصحيح ومجاوزة الإشكالات التي تثيرها معالجته تبعًا للمنطلق النقلي الأكثر شيوعًا.

  تتبَّعْنا في مقالة سابقة[1] الناظم العامَّ والمنطلق الكلِّي اللازم لدراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف وما دار في رحاب مفهومه، وبينّا كيف أنه يجب أن يكون دائرًا في سياق الاستدلال بالمرويات على تقرير المعاني وتحصيلها، وذلك باعتبار أنّ حيثية التفسير عندهم تمثَّلَت في تبيين المعاني، وبالتالي فالموارد التي يوظفونها في التفسير من المرويات الإسرائيلية وغيرها هي أدوات تبيين لتحصيل المعنى والاستدلال عليه لا غير.

وقد دلَّلنا على صحة ذلكم المنطلق وأنه الأوجب في درس توظيف الإسرائيليات في مقالتنا السابقة بوجوب بناء منطلق درس المسائل في الفنّ تبعًا لحيثية الفنّ ذاته، وما يثيره خلاف ذلك من إشكالات في فهم المسألة والتعامل معها حال تم تجاوزه، وهو ما أثبتناه من خلال تتبُّعنا لإشكالات فهم التوظيف تبعًا للمنطلق الأكثر شيوعًا واستحضارًا في دراسة التوظيف وهو المنطلق النقلي، وبياننا لخلل الدّرس تبعًا له وعدم قدرته على فهم أبعاده المنهجية...إلخ؛ كونه لم يؤسّس على حيثية التفسير، بل ويعارضها.

وفي هذه المقالة نواصل استدلالنا لذلكم المنطلق المنهجي الذي قرّرْنا عَبر بيان كيفيات ترتُّب بحث توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف تبعًا له، وأثره في جعل البحث فاعلًا في فهم هذا التوظيف وأبعاده المنهجية من مناحٍ مختلفة، باعتبار أنّ ذلك أبرز ما يدلّل على وجاهة المنطلقات بصورة عامّة، حيث يبرز قدرتها العملية في وضع البحث على المسار الصحيح في فهم الظاهرة التي يدرسها.

ولا شك أنّ الأبعاد المنهجية المتصلة بتوظيف الإسرائيليات في تفسير السلف كثيرة ومتشعِّبة، إلا أننا سنجتهد في اختبار نجاعة ما قرّرنا من الناظم العام الضابط لمقاربة التوظيف بتسليط الضوء على بعض أمور رئيسة؛ تتعلّق بفهم هذا التوظيف وتحديد أهميته، وفهم أسباب حصوله في تفاسير السلف[2].

ونحن في استدلالنا لنجاعة المنطلق الذي قررنا في درس هذه الأمور سنجتهد في الجمع بين التنظير والتطبيق لِما في ذلك من زيادة لا تخفى في الاستدلال لفاعلية المنطلق، كما سنقوم بذكر خلاصات درس هذه القضايا تبعًا للمنطلق النقلي ونبين إشكالاتها العامة لِما له من أثر ظاهر في لحظ الفرق بين المنطلقات في المقاربة والتحليل للمسألة ومعالجتها، وأيّها الأَوْلَى بأن يكون ناظمًا للدرس وناموسًا لضبطه وبيانه على النحو الآتي:

توظيف المرويات الإسرائيلية في تفسير السلف؛ وجوهه وأهميته[3]:

تمثِّل الإسرائيليات أحد الموارد التي استحضرت في مدونة التفسير بكثافة شديدة، لا سيما في بداية انطلاقة التفسير عن طريق السلف، وهو الأمر الذي يشي بأهمية كبيرة لتوظيف هذه المرويات في التفسير، وعظيم الدَّوْر الذي تمثّله هذه الأداة في ممارسة الفنّ وتنوّع وجوه الإفادة منها؛ ليس فقط لوقوع توظيفها من مؤسِّسي التفسير وكبار رجاله، وإنما لحصول تتابعهم عليه قرونًا طويلة.

 وإنّ الناظر في جُلّ سياقات معالجة تقييم توظيف الإسرائيليات يجد أن طابعها العامّ -كما هو معلوم ولا يحتاج إلى إطالة في تقريره- هو التقليل الشديد من أهمية هذه المرويات واستحضارها في التفسير، والقول بأنه لا كبير جدوى من ورائه ولا عظيم طائل يرتدُّ على التفسير من حصوله؛ إِذْ لا يفيد إلّا في أمور ليس من وراء العلم بها كبير فائدة؛ كتعيين المبهَمات وغير ذلك مما لا حاجة لنا بمعرفته أصلًا، وهو الأمر الذي أفضى بالدّرس -تبعًا لذلك- لتقرير أمور عديدة؛ أبرزها: توجيه نقد كثير لمن قام بهذا التوظيف؛ لأنه زَحَم التفسير بمادة لا قيمة لها، بل وتحوِي تفاصيل مستبشَعة لا وجه لحضورها في بيان كلام الله...إلخ، وكذلك اعتبار عدم توظيف الإسرائيليات أحد المعايير الرئيسة لمدح التفاسير المنتَجة سلفًا وتقديمها، والمطالبة -تبعًا لذلك- بتجريد كتب التفسير منها، والتشديد على الـمُقْدِم على التفسير بضرورة البُعد عنها، كما هو معلوم.

ومن بين الإشكالات التي تلحظها في هذا الدرس لتوظيف الإسرائيليات في تفسير السلف أنك لا تجد معه توسعًا في فهم جوانب التوظيف ولا تظفر بحديث عن توظيف ذي بال وأثر؛ وإنما هو تعيين المبهمات والتوسّع في سرد تفاصيل بعض المجملات...إلخ، مما لا فائدة في تعيينهِ ولا بسطِ تفصيله، وهو أمر تأباه أمور كثيرة؛ ككثافة توظيف المرويات في تفسير السلف وشدّة حضوره ما يقتضي تنوعًا واسعًا في جوانب التوظيف والاستثمار والتفعيل، وكذلك وقوع التوظيف من مؤسِّسي العلم وتتابعهم عليه، والذي يؤشّر لأهمية شديدة له في جوانب مؤثرة وجوهرية لا جوانب هامشية لا يترتب عليها كبير أثر للتوظيف كما قلنا؛ ولهذا يشعر المطالع -العارف بأنساق الفنون وطرائق تشكّلها- بتردد في قبول هذا الدرس ومقرراته بصورة عامة؛ كونها تأتي على خلاف السائد في الفنون.

غير أننا متى استحضرنا أنّ منطلق درس توظيف الإسرائيليات الذي أنتج مثل هذا النظر هو المنطلق النقلي عن المرويات والذي يعارض حيثية التفسير كما بينّا قبلُ لم نستشكل ذلك؛ إِذْ تقويم أدوات التفسير التي يلجأ إليها المفسرون ويوظفونها في تعاطيه لا يمكن التبصُّر بوجوه إفادتها وبالتالي الحكم على جدوى توظيفها بصورة علمية راسخة إلّا عَبر التفسير ذاته وتأمل طبيعة دور كلّ واحدة فيه وأثرها في ممارسته ومقدار إفادتها فيه، وهو الأمر الذي لا يتجه إليه بتاتًا الدرس المنطلق من غير حيثية التفسير؛ إِذْ ينزع لمناقشة التوظيف من جوانب لا صلة لها بالتفسير أصلًا كما بينّا قبلُ، وبالتالي فإنّ عدم قدرته على التبصّر بوجوه هذا التوظيف واكتفائه بمسِّه من سطحه وحصره في زوايا شديدة الضيق يبدو متفهمًا جدًّا؛ إِذْ لا يسعه غيره لإشكال زاوية النظر عنده للتوظيف وانحرافها، وكذلك يبدو استشكاله لهذا التوظيف وتقليله لجدواه متوقعًا في ضوء ما بَدَا له من وجوه التوظيف التي وقع عليها، والتي لا تعطي كبير فائدة فعليًّا لتوظيف الإسرائيليات وتفضي حتمًا لاستشكال حضورها بالكلية، لا سيما وأن هذه الفوائد شديدة الضعف تطغى عليها -من وجهة نظر هذا الدرس- ما تحمله هذه المرويات من التفاصيل والمضامين المشكلة، كما هو معلوم.

وإنّ التساؤل الذي يفرض ذاته هاهنا هو عن أثر درس قيمة هذا التوظيف من خلال ما قرّرنا من المنطلق الاستدلالي، وهل سيتمكن من مجاوزة هذه الإشكالات؟ هذا ما نبيِّنه في السطور التالية:

بحث وجوه توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف وقيمته تبعًا للمنطلق الاستدلالي:

يمكننا القول في الحقيقة أننا حال جعلنا منطلق الدرس وناظم الفهم لتوظيف الإسرائيليات في تفسير السلف هو المنطلق الاستدلالي بها على تحصيل المعاني وتقريرها، فإن سائر الإشكالات الحاصلة في درسه تبعًا للمنطلق النقلي -لا سيما العجز عن فهم التوظيف والاكتفاء بمسِّه من سطحه- ستنتهي وتزول؛ ذلك أنّ درس توظيف المرويات الإسرائيلية سواء أكان منصبًّا على فهم وجوه هذا التوظيف، أو قياس مدى الحاجة إليه في ممارسة التفسير وما له من وزن نوعي في تعاطيه، وكذلك مقارنة أهميته بغيره من بين بقية الموارد...إلخ =لا بد له من ولوج ساحة التفسير ذاته وتبيّن وجوه إفادة توظيف هذه الموارد والانعكاس الحاصل على التفسير من جرّاء استحضارها، وهو الأمر الذي يتيح النهوضَ به على التمام المنطلقُ الاستدلالي بخلاف المنطلق النقلي الذي يحجبه ويحرف النظر عنه بالكلية؛ إنَّ بحث التوظيف تبعًا لذلكم المنطلق الاستدلالي على تقرير المعاني وبنائها يُلزم الدرس بتتبّع عملية التبيين ذاتها لدى المفسِّرين والتأمّل الطويل في المواطن التي تم فيها توظيف المرويات في توضيح المدلولات وإنتاج المعاني وإجالة البصر فيها وفي كيفيات التبيين الحاصلة فيها ومسالكه واستدلالاته، وهو ما يجعل هذا البحث يبتعد عن السطحية في المعالجة والاكتفاء بفهم الأمور ببعض الظاهر منها ويتيح له التغلغل في فهم التوظيف واستكناه أبعاده، وهو ما يقوده لاستخراج وجوهٍ عديدة للتوظيف تكون أكثر عمقًا، وكذلك يجعل عملية تقييم جدوى توظيف الإسرائيليات في التفسير المؤسسة عليه أكثر عدلًا ودقة؛ كونها تأتي مؤسسة على معرفة واعية بوجوه التوظيف أولًا وتقوم على درس محكم لجوانب التوظيف يتناسب مع جلالة مَن قاموا به من المفسِّرين، وكلّ ذلك بمعزل عن الحُكم على جدوى التوظيف ذاته سلبًا أو إيجابًا، وإنما الغرض أنّ هذا المنطلق يضع البحث منهجيًّا على الطريق الصحيح لفهم التوظيف والحكم عليه في ضوء ما يؤديه من وظائف، بغضّ النظر عن طبيعة النتيجة التي سينتهي إليها، والموقف الذي سيتخذه بشأن التوظيف قبولًا وردًّا، وهو ما سنحاول بيانه بشكلٍ تطبيقي عملي في السطور التالية:

وجوه توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف تبعًا للمنطلق الاستدلالي؛ نماذج تطبيقية:

 لا شك أنّ دراسة التوظيف وفقًا للمنطلق الاستدلالي الذي قررنا يحتاج بطبيعة الحال لاستقراء موسّع ودراسات عديدة تجليه، إلا أنني سأكتفي هاهنا باستعراض ثلاثة جوانب للتوظيف تجلَّت لي من خلال تطبيق عملي لدراسة التوظيف وتحليله من خلال هذا المنطلق؛ إذ الغرض بيان الصورة العامة لِما لذلكم المنطلق من أثر كبير في فهم جوانب التوظيف وتقويم جدواه وليس تتبع وجوه التوظيف ذاتها واستقرائها، وبيان ذلك على النحو التالي[4]:

أولًا: الإسرائيليات وتفسير ما استغلق معناه: وهي من وجوه التوظيف وجوانبه التي قد تستغرب للوهلة الأولى، إلّا أنّ المتتبِّع لتوظيف المرويات في التفسير عند السلف مستصحبًا المنطلق الذي ذكرنا يلحظها بجلاء في كثير من المواضع؛ إِذْ يظهر لديه أن مفسري السلف تمكنوا من خلال توظيف هذه المرويات من فكّ دلالات بعض الآيات التي قد يغمض معناها بالكلية ولا يتيسر الوقوف عليه؛ فالقرآن الكريم اتسمت معالجته للقصص أحيانًا بإجمال شديد حيث يطوي التفاصيل طيًّا ويكثفها تكثيفًا شديدًا في عبارات غاية في الإيجاز ما يترتب عليه لَبْسٌ أحيانًا في تحرير المدلول وتحصيله، يحتاج معه في تبيُّن المدلول للرجوع للقصص التفصيلي؛ ومن ذلك: ما أورده القرآن من جوابٍ للسامري حين سأله موسى -عليه السلام- عن سبب غوايته لبني إسرائيل وفتنته لهم بالعجل، حيث قال السامري مخاطبًا موسى -عليه السلام-: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}[طه: 96]، والناظر لهذا المقطع القرآني يجد أنّ السامري أجاب موسى بأنه:

- انفرَد برؤية أمرٍ لم يره غيره من بني إسرائيل أو معرفته.

- قبَض قبضة من أثر الرسول ثم نبذها.

- فعَل هذا الفعل من جرّاء تسويل نفسه له.

وظاهر جدًّا أن تحصيل مدلول الجواب ينتابه في ضوء ذلك الإيجاز الشديد قدرٌ من الغموض وعدم الوضوح، وإذا استحضرنا أن هذا الموطن لم يرِد له تفصيل في أيّ موطن آخر من القرآن، ولم يصح في شأنه حديث...إلخ، مما ييسر فهمه، وبالتالي يتعذر فكّ معناه بدون العودة لتفاصيل القصة التي يبرُز معها محامل الكلام والتي تتمثل في المرويات الإسرائيلية، وهو عين ما قام به المفسرون من السلف ممن وظفوا المرويات الإسرائيلية في التفسير حيث فسروا الجواب تبعًا لها؛ فجعلوا {الرسول} هو جبريل، و{الأثر} التراب الذي تحت حافر فرسه، وهو الذي قبض منه قبضة فألقاها على الحُليّ فكان منها ما كان؛ نظرًا لمعرفته السابقة بجبريل -عليه السلام- وأن تراب حافر فرسه له سرٌّ خاصّ.

وقد تتبَّعْنا اتجاهات التفسير لجواب السامري هذا -الموظفة للمرويات الإسرائيلية، والتي حاولت تعاطي التفسير بعيدًا عنها- في بحث خاصّ بينّا فيه كيف أن توظيف المرويات الإسرائيلية التي تعرضت لتفصيل القصة والتوسع في أمرها كان سبيلًا دقيقًا لدى مَن وظفها من المفسّرين لتحصيل المعنى على وجهٍ محرّر، وذلك خلافًا لمن حاولوا الإتيان بمعنى جديد لجواب السامري لسيدنا موسى في سورة طه اعتمادًا على ظاهر ما قد تعطيه دلالات الألفاظ، وكيف أنهم اضطروا لحمل الآية قيد الجواب على المجاز، وجاءت مقولتهم في تفسيرها مشكلة وبها أخطاء تفسيرية عديدة؛ حيث خالفَت نظم الآية وسياقاتها...إلخ، مما ناقشناه مفصلًا في بحثنا[5]، وكذلك قررنا فيه أن توظيف المرويات لا يعني نقل المدلولات عنها كما قد يتصور، وإنما هو توظيف استدلالي للمرويات ويخضع لقرائن استدلالية عديدة تكون لدى المفسرين في ضوء ما تعطيه دلالات الآي وسياقاتها.

إنّ التوصّل من خلال توظيف المرويات الإسرائيلية لتفسير ما استغلق معناه من الآيات يبدو أمرًا بيِّنًا لكلّ مطالع ودارس لهذا التوظيف من خلال علاقته بالتفسير ودوره بتقرير مدلولات التراكيب والاستدلال عليها، بحيث يمكننا القول بوضوح أننا حال أردنا إغفال توظيف دلالات المرويات الإسرائيلية عند تعاطي التفسير بالكلية والاعتماد على مجرد اللغة ومطلق دلالات الألفاظ، فإنّ كثيرًا من المواطن في القرآن مما فيه تعرّض للقصص الإسرائيلي سوف يكون تأويلها عُرضة لإشكالات عديدة، وتأمَّل مثلًا قوله تعالى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا}[طه: 87]، فإنّ المفسرين -حتى ممن يهاجمون توظيف الإسرائيليات في التفسير بضراوة- يقولون بأنهم حمّلوا أوزارًا من الزّينة التي أخذوها من المصريين، ولو أننا رفضنا ذلك بحجة أن القرآن لم يذكره، وأنه من باب التفسير الموظّف فيه الإسرائيليات؛ فكيف تتفسّر الآية ومثيلاتها؟!

ثانيًا: الإسرائيليات وتأكيد المعنى وتثبيته: فالطبري -مثلًا- وهو يعالج تفسير قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}[البقرة: 36]، ويستعرض مقولات السلف -الموظفة للمرويات الإسرائيلية في التفسير- في كلام إبليس لآدم وزوجه في الجنة والكيفيات التي دخل بها إبليس إلى الجنة سواء في جوف الحية أو فمها أو في صورة دابة =يلحظ أن القرآن وإن ذكر أن الشيطان وسوس لآدم وزوجه في مواطن، إلا أنه قال كذلك في موطن آخر متعلق بإخراج آدم وزوجه من الجنة: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف: 21]، فلما تلمّح أن المقاسمة تقتضي المفاعلة والمشافهة بين اثنين، وأنّ ذلك يقتضي أن يكون الشيطان باشر خطابهما بنفسه، قَطَع بأن الوسوسة لهما لم تكن كما المعهود من الشيطان لذرية آدم وإنما كان فيها مشافهة من إبليس لآدم وزوجه كما هو وارد في جلّ الأقوال؛ إِذْ هو مقتضى ظاهر لفظة المقاسمة في القرآن[6]، وردّ الطبريُّ القولَ بأنها كانت وسوسة عادية كالمعهود من إبليس لذرية آدم[7]، ثم رجّح أنّ الكيفية التي دخل بها الشيطان إليهما كانت عبر الحيّة لتتابع أقوال المفسّرين عليه، فقال: «وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون؛ بل ذلك -إن شاء الله- كذلك؛ لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك»[8].

إننا عند التأمّل فيما أورده الطبري[9] نستطيع التبصّر بالكيفية التي أعانت بها المرويات الإسرائيلية على دعم المعنى وترسيخه، فمن يطالع نصوص القرآن في قصة آدم وزوجه وخروجهما من الجنة يلحظ أن القرآن نصَّ على وقوع المقاسمة، وهو ما يقتضي خصوصية في لقاء إبليس لهما في الجنة وأنه كان به مشافهة ولم يكن وسوسة عادية فقط كما هو المألوف من وسوسة الشيطان لذرية آدم[10]، وإذا استحضرنا أن الشيطان طُرِد من الجنة قبل ذلك فإنّ تصوّر دخوله إليها صار ممكنًا لظاهر دلالة المقاسمة على وقوع المشافهة في مخاطبته لهما، وهو ما يجعل من إيراد المرويات الإسرائيلية من قِبل المفسّر داعمًا بلا شكّ لمعنى المقاسمة وبيان أنّ اللقاء كان فيه مشافهة وأن إبليس حتمًا دخل الجنة بعد أن طُرِد منها، ومؤكدًا لذلك على نحوٍ ظاهرٍ.

وهكذا يبدو لنا عميق صلة المرويات الإسرائيلية بالتفسير وضرورة النظر فيها لمن يبيِّن المعنى ويحرّره وأنها تُعِينه بذلك إعانات جوهرية وليست ثانوية يمكن الاستغناء عنها بسهولة في ممارسة التفسير وتعاطيه؛ ولهذا تجد أنّ أبا شهبة مثلًا -وهو بصدد نكيره على الطبري في إيراد هذه المرويات في آية المقاسمة- ومحاولته إنتاج تفسير جديد يفارق التفسير بتلك المرويات، اضطر -هربًا من شبح دلالة المرويات وما تعطيه من معنى- أن يرجِّح أن الأمر تم عَبر الوسوسة، وأن يعتمد في ذلك على توسيع معنى الوسوسة (الكلام الخفي) حتى لا تبدو معارضة للمقاسمة، فزعم بأنها قد تتم عَبر أميال!

يقول أبو شهبة: «ووسوسة إبليس لآدم -عليه السلام- لا تتوقف على دخوله في بطن الحية؛ إذ الوسوسة لا تحتاج إلى قرب ولا مشافهة، وقد يوسوس إليه وهو على بُعد أميال منه»[11].

ولو أنه قرر معنى المقاسمة ولوازمها من دخول الشيطان الجنّة بعد طَرْدِه منها بغضّ النظر عن إثبات الكيفية، لكان أسلم له، إلا أنه لو قال بذلك لكان مقاربًا لرؤية الروايات الإسرائيلية التي وظّفها السّلف، وهو عين ما يريد التفلُّت منه، ومن هاهنا وقع في هذا التعليل الغريب الذي قال به والذي لا يتسق بحال مع معنى الوسوسة.

ثالثًا: الإسرائيليات وتعديد المحتملات وترشيحها: إذا تأملتَ تفسير لفظة: {أُلُوف} في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ}[البقرة: 243]، في تفاسير السلف تجد لها معنيين بصورة عامّة؛ أحدهما: العدد الكثير وأن القوم خرجوا وهم كثيرو العدد. ثانيهما: أنها بمعنى الائتلاف وأنهم خرجوا متآلفين[12]. ومعنى الائتلاف قد يكون مجرد فرض لغوي، ولا شك أنّ وجوده في المروية الإسرائيلية مرشح له بصورة من الصور، بل إنه ربما كان السبب في ولادته كما سنبيِّن.

إننا في ضوء ما سبق يمكننا القول بأنّ دراسة توظيف المرويات الإسرائيلية في التفسير من خلال منطلق توظيفها في تقرير المدلولات والمعاني تكشف لنا عن أبعاد مهمّة جدًّا من استثمار هذه المرويات تُعين على فهمها والتبصّر بالتالي بجدوى توظيفها؛ فمن حيث فهم التوظيف من خلال هذا المنطلق ظهر لنا ثراء الجوانب التي وقع فيها وتعددها، ومن حيث الأهمية ظهر لنا أهمية هذا التوظيف؛ فهو من جانب قد لا يتيسر التفسير أحيانًا بدونه، ولا ينفكّ مدلول التركيب بغيره، كما أنه من جانب آخر يلعب دورًا مهمًّا في تحرير المعنى؛ تقريرًا له وترسيخًا لمضمونه وترشيحًا كذلك لأحد محتملاته ودعمًا لها، مما يجعلنا نعتبر أن المرويات الإسرائيلية من أدوات التفسير البالغة القيمة والأثر، وأنها ليست ثانوية في ممارسته أو بلا قيمة في تعاطيه[13].

ولا شك أن التوصّل لمثل ذلك يثبت بجلاء نجاعة ما قرّرنا من منطلق دراسة التوظيف؛ إِذْ به أخذ التوظيف في الظهور وتجلَّت بعض جوانبه بصورة أكثر عمقًا وتحرَّرت قيمته وجدواه كذلك على نحوٍ يتسق مع طبائع الفنون بشكلٍ عامٍّ وما يكون من أهمية مواردها التي يوظفها أربابها في بدء انطلاقتها بصورة كثيفة وتتابعوا على ذلك؛ فمن المستبعَد جدًّا أن يشتغل مؤسِّسو العلم وكبار رجالاته -وهم الأقرب عادة لروحه وإليهم يرتد معيار النظر في ما يكون استطرادًا وعارية من مسائله وموضوعاته وموارده وجهات استمداده- بتوظيف مادة معيّنة في تعاطيه، ويتتابعوا على ذلك قرونًا وهي تكاد تكون بلا قيمة في ممارسته بل ويكون عدم اللجوء إليها أولى من توظيفها واستثمارها في ساحته[14].

وإذا كنا في هذه المقالة دلَّلنا على نجاعة المنطلق الاستدلالي الذي قرَّرنا في بحث توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف من خلال تبيُّن آثاره في فهم هذا التوظيف والتبصُّر بجوانبه وتقويم جدواه، فإننا سنتابع -بإذن الله- هذا التدليل من زاوية أخرى؛ وهي أسباب حصول هذا التوظيف في تفاسيرهم، وهو مجال الحديث في مقالتنا التالية، والله الموفِّق.

 

 

 

 

[1] منشورة على هذا الرابط: tafsir.net/article/5201.

[2] هذه الأمور متعالقة مع بعضها كما هو بيِّن، إلا أننا -وكما سيأتي- سنجمع في كلامنا عليها بين فهم التوظيف وتقييم جدواه، وسنُفرد تفسير أسباب حصول التوظيف بمقالة لاحقة.

[3] دمَجْنا هاهنا بين فهم التوظيف وتبيّن وجوهه وبين الحكم بمدى جدواه وأهميته؛ وذلك طلبًا للاختصار من جانب، ولما بينهما من ارتباط واضح؛ إِذْ تقييم الأهمية تَبَعٌ -بصورة أو بأخرى- لما يظهره البحث من جوانب للتوظيف.

[4] سوف نقتصر في التمثيل حتى لا يطول بنا المقام، لا سيما وأن وجود مثال لكلّ جانب من جوانب التوظيف التي سنذكر كافٍ في بيانه، وهو المراد. وأما الاستقصاء للجوانب وتحرير طبيعة الأوزان المتعلقة بحضورها فيحتاج لاستقراءات واسعة وبحوث متتابعة وليس من غرضنا الخوض فيه، وإنما ضبط ناظم التعامل معه ليسير البحث في استخراجه بعد على هدى وبصيرة.

[5] ينظر بحثنا: «الإسرائيليات في التفسير؛ بين ضرورة التوظيف وإمكان الاستغناء»، وقد بينّا فيه كيفية أنّ في القرآن آيات لا تنفكّ إلا بالمرويات الإسرائيلية، وهو أمر وإن استثقله البعض إلا أنه لا يطعن في البيان العام للقرآن كما بينّا في البحث، وهو منشور على موقع تفسير تحت الرابط التالي: tafsir.net/research/25.

[6] يقول الطبري: «...ففي إخباره -جلّ ثناؤه- عن عدو الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: {إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21] الدليل الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرًا لأعينهما، وإما مستجِنًّا في غيره. وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلان فلانًا في كذا وكذا، إذا سبّب له سببًا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبّب السبب، فكذلك قوله: فوسوس إليه الشيطان، لو كان ذلك كان منه إلى آدم على نحو الذي منه إلى ذريته من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة بغير مباشرة خطابه إياه بما استزله به من القول والحيل، لما قال جلّ ثناؤه: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21]، كما غير جائز أن يقول اليوم قائل ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصح فيما زين لي من المعصية التي أتيتها، فكذلك الذي كان من آدم وزوجته لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليوم وذرية آدم لما قال جل ثناؤه: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21]...» تفسير الطبري (1/ 568).

[7] ذهب إلى هذا القول ابن إسحاق، حيث قال فيما أورده عنه الطبري: «وإنما أمر ابن آدم فيما بينه وبين عدو الله كأمره فيما بينه وبين آدم، فقال الله: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13]، ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قصّ الله علينا من خبرهما، قال: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه: 120] فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه، والله أعلم أي ذلك كان؛ فتابا إلى ربهما» تفسير الطبري (1/ 570). وقد انتقده الطبري، فقال: «وليس في يقين ابن إسحاق لو كان قد أيقن في نفسه أن إبليس لم يخلص إلى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به ما يجوز لذي فهم الاعتراض به على ما ورد من القول مستفيضًا من أهل العلم مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم، فكيف بشكه؟! واللهَ نسأل التوفيق».

[8] تفسير الطبري، ط. هجر، (1/ 567).

[9] يلاحظ هاهنا أنني استعنت بكلام الطبري؛ كونه من أبرز من اعتنى بالمعاني التي حرّرها السلف موازنة وترجيحًا، وبالتالي فكّ كثيرًا من مسالك النظر التي كانت عند السلف في لجوئهم لهذه المرويات في التبيين واستدلالهم بها لعدم نصّهم عليها، فالطبري وإن كان هو غير مستدلّ بها في ذاته في بدء تأسيس المعنى وتوليده؛ فالمرويات الإسرائيلية ورَدَتْه في مقولات السلف، أي: إنها صارت مستندات لأقوال تفسيرية بين يديه، ولكنه يحرّر الأقوال تبعًا للقرائن التي تظهر لديه والتي قد يكون منها المرويات ذاتها والنظر فيها وما يظهر له من مؤشّرات ودلائل مرجحة تبعًا لذلك، وهو أمر مهم لحسن التبصر بالسياق التاريخي لكيفية استفادة مَن تعاطى التفسير قبله عبر هذه المرويات وكيف كانت حركتها عندهم في بادئ الأمر، فنستفيد من تفكيك الطبري لوجوه استنادهم لهذه المرويات؛ كونهم لم ينصوا عليها، دون أن يكون تصنيفه للمقولات في كلّ آية تحت تبويبات واضحة دالة عليها حجابًا يعوق فهمنا لمنهج توليد المقولات والأدوات التي كانت فاعلة فيه.

[10] ولهذا تجد الطبري في تفسير مواطن وسوسة الشيطان لآدم في القرآن يضم إليها المحادثة وكلام إبليس لآدم وزوجه تنبيهًا منه على أنها لم تكن كالوسوسة المعهودة من الشيطان لذرية آدم، فيقول في تفسير الوسوسة الواردة في الأعراف في قوله: {فوسوس لهما الشيطان}[الأعراف: 20]: «وتلك الوسوسة كانت قوله لهما: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20]، وإقسامه لهما على ذلك...» تفسير الطبري (10/ 106)، وكذا يقول في تفسير الوسوسة في سورة طه وقوله: {فوسوس إليه الشيطان} [طه: 120] يقول: فألقى إلى آدم الشيطان وحدثه فـ{قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد} [طه: 120]...». تفسير الطبري (16/ 188).

[11] الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، ص: 180.

[12] هذا القول منسوب لابن زيد، وتُراجع المروية الإسرائيلية التي استند إليها في أن القوم كانوا مجتمعين لدى خروجهم من ديارهم وقريتهم في تفسير الطبري.

[13] هذا لا يمنع بطبيعة الحال من وجود مَناحٍ للتوظيف قد تكون ضعيفة وقابلة للنقاش في مدى الحاجة إليها، كما هو الحال في تعيين بعض المبهمات مثلًا والتي كانت محلًّا للنقد من قِبَل بعض المفسرين، إلا أن مناقشة المسألة من خلال هذه الأمور فقط مشكل كما هو ظاهر.

[14] يلاحظ أن الحكم على جدوى التوظيف هاهنا لم يكن منطلقه الخروج بما هو أكثر اتساقًا مع نسق الفنون وتشكّلها؛ فالأمر ليس تقديسًا للسابق ونفيًا لجريان الغلط عليه ومحاولة تصحيح مسلكه بكلّ وسيلة وسبب، ولكن هذا الحكم هو نتاج التحليل المنهجي المتجرد للتوظيف كما مرّ، وكونه خرج في النهاية بما يتّسق مع طبائع الفنون فهذه نقطة تقوِّي التحليل وتدلّ على وجاهته ولكنها لم تكن منطلقًا حاكمًا له كما هو ظاهر.

الكاتب

خليل محمود اليماني

باحث في الدراسات القرآنية، عضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر، له عدد من الكتابات والبحوث المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))