التدريس غير الأكاديمي للتفسير
والحاضنة المعرفيّة الغائبة

أثمر تدريسُ كثير من العلوم خارج الإطار الأكاديمي حواضن معرفيّة لها اشتغال واضح بمشاغل هذه العلوم وقضاياها، إلا أن التدريس غير الأكاديمي للتفسير -رغم الحضور الواسع- لم يُثمر مثل هذه الثمرة، وتتعرَّض هذه المقالة لتتبع واقع هذه الظاهرة، وكذلك تجتهد في الكشف عن عللها وأسبابها، وتطرح بعض النظرات في سبيل المعالجة.

مدخل:

  للعلوم شرايين تُمِدُّها بالحياة، وتَحفظُ لها حضورَها وتطويرَها وديمومةَ الاشتغال بها؛ كالتأليف فيها وتدريسها والمباحثة في قضاياها وغير ذلك، مما لا يُمكن أن يُستغنَى في أكثر العلوم بواحدٍ منها عن الآخر، وإلا ذهب بريقُها، بل ربما انكسفت شمسُها فلا تَبقى منها سوى ذِكرى ليس لها حضورٌ حقيقيٌّ في ميدان العلم.

ويظلّ شريانُ (تدريس العلوم) من أهم شرايين الحفاظ على حياتها، وهو السبيل الرئيس لإيراثِ العلم، واكتشافِ المواهب، وتفتيقِ الأذهان. ومجالسُ العلماء -التي ازدانت بأخبارها كتبُ السِّيَر والتراجم وغيرها- دالُّةٌ على هذا، كاشفةٌ عن أثر هذه المجالس في العناية بالعلوم، وتثويرها، وبناء حواضن معرفيّة من شأنها أن تُكمِّلَ وتُضيفَ وتَنقُدَ وتُحرِّرَ، إلى غير ذلك من الممارسات العلمية التي تَبُثُّ الرُّوحَ في جسد العلوم.

ورغم ما جَدَّ في مسار عملية تدريس العلوم الشرعيَّة من تأطيرها أكاديميًّا، وما صاحب ذلك مِن تغيُّر في طريقة تعاطيها مع العلوم، وطبيعة الأهداف الدراسية فيها، وتأطير مناهجها، إلى غير ذلك مما لا تخفى آثارُه؛ إلّا أن التدريس خارج الإطار الأكاديمي ظلَّ أحدَ العناصر المهمَّة في حياة العلوم والمعارف، فضلًا عن إتاحته فرصةَ التعلُّم لشرائحَ عديدة من طُلّاب العلم ممَّن لم يتهيَّأ لهم الانتساب الأكاديمي، وهو ما يُعين على تكوين حاضنة معرفيّة موسَّعَة للعلوم، والذي مِن شأنه أن يُثريَ حركةَ العلم بقوة، ويدفع بها إلى الأمام؛ لكثرة الطاقات المجتمعيَّة التي تتكاملُ في خدمة العلوم وتبذُلُ في ساحاتها.

وإذا نظرنا إلى واقع تدريس العلوم الشرعية خارج الإطار الأكاديمي سنجد أن ميادينَه شديدة السّعة، وهو ما أثمر حراكًا علميًّا كبيرًا في ساحاتها لا تخفى آثارُه على ناظرٍ في واقعنا المعرفيّ؛ لا سيّما في مجالات كالفقه واللغة والأصول والحديث والعقيدة.

ورغم حضور العملية التدريسية للتفسير خارج النسق الأكاديمي إلّا أن الناظر في ثمرتها لا يجدها كغيرها من بقية العلوم؛ حيث لم تَنتج عنها حاضنةٌ معرفيّةٌ قويةٌ للعلم كما سنبيّن، في هذه السطور سأحاول تسليط الضوء على واقع هذه الظاهرة، وأبين أهم أسبابها وعللها، مع طرح نظرات في كيفية مجاوزة هذا الواقع ومعالجته.

واقع الحاضنة المعرفيّة للتدريس غير الأكاديمي للتفسير:

 إنَّنا إذا نظرنا إلى واقع تدريس التفسير خارج الإطار الأكاديمي فإننا سنجد أن درس التفسير -شأنه شأن كثير من العلوم- له حضورٌ واسعٌ، بل إنّ كثيرًا من غير المشتغلين بعلم التفسير يحرصون على إقامة دروسٍ لتفسير القرآن الكريم أو التعليق على بعض الكتب المؤلَّفة فيه، ولا عجب في ذلك؛ إذ موضوع القرآن الكريم هو رأس كلّ أمر، وأصل كلّ خير.

إلّا أن واقع هذه الحالة التدريسية للتفسير خارج الإطار الأكاديمي يختلف عن واقع غيره من العلوم الشرعية؛ حيث إنها في أغلب أحوالها لا تُثمِر حواضن معرفيّة للاشتغال المتخصِّص بعلم التفسير، ولا تُحدِث تراكمًا معرفيًّا في العلم لدى الدارسين، بل لا تُؤسِّس ما يُمكن أن يُراكَم عليه معرفيًّا بعد ذلك، ويُمكن تلخيص توصيف هذه الحال بأنه ثمّة حركة واسعة في تدريس التفسير خارج الإطار الأكاديمي، إلّا أنها حركة فضفاضة، لم تُنتج ما أنتجته حركة الاشتغال بغيره من العلوم.

وهو أمرٌ يُمكن للناظر مقارنته بالطفرة الكبيرة التي وقعت في علم الحديث مثلًا، وما نَتج عن تدريسه خارج الدوائر الأكاديمية من تكوين حاضنة قويّة أسهمت إسهامًا ضخمًا في نشره، ورفع الوعي به، ودفع عجلته، وتحريك مياهه، وتثوير العديد من مسائله وقضاياه، وغير ذلك مما هو معلوم ومشاهَد، وكذلك الأمر في ميادين أخرى كالفقه واللغة والأصول والعقيدة؛ حيث نجد في هذه الميادين دفعًا كبيرًا خارج دوائر التخصّص الأكاديمي، بما يمثِّل رافدًا قويًّا في إثراء هذه العلوم والارتقاء بها، ويتكامل مع الإطار الأكاديمي الحاصل فيها.

بينما إذا نظرنا في واقع التفسير؛ فإنّ عملية تدريسه خارج الإطار الأكاديمي رغم سعتها إلّا أنها لم تثمر مثل هذه الثمرة، وثمَّة ندرة واضحة في شريحة طلَّاب علم ممن لديهم إدراكٌ جيدٌ لمشاغل العلم الرئيسة، أو مؤهلاتٌ للتحريرِ والبحثِ العلمي في قضاياه والتعاملِ مع الشبهات والمستجدّات المتعلقة به، حيث يغلب على الساحة التعليمية غير الأكاديمية في التفسير شرائح من الدارسين المحبِّين للقرآن الكريم والراغبين في الاقتراب منه، وهذا في نفسه خيرٌ عظيمٌ، إلا أن المشكِل ما يصاحب هذه الحالة مِن غيابٍ واضحٍ للتوجّه العلمي المعمَّق والنشاط البحثي، بما ينعكس بوضوح على واقع التفسير والتفاعل مع قضاياه.

فالحاضنة المتكوّنة في تدريس التفسير ليست كنظيراتها في تدريس العلوم الأخرى، ولا تمثِّل حاضنة علميّة بمعنى الكلمة، تُسهم في الارتقاء بالعلم وتثوير مسائله والدفع به، بل إنها متى أفرزت اشتغالًا بحثيًّا فإنه يقتصر غالبًا على جوانب التدبُّر واستنباط الهدايات ونحو ذلك، وهذا مما لا يحتاج لإطالة في التدليل عليه.

إشكالٌ رئيسٌ في تدريس التفسير:

ومن خلال ملاحظتي لطرفٍ من واقع تدريس التفسير خارج الإطار الأكاديمي -مدرّسًا ومراقبًا- كنتُ أسجّل بعض الملاحظات لمحاولة الوقوف على أسباب هذه الظاهرة، وكان واقعُ تدريس سائر العلوم لا يفارق عينيّ اللتين لم تُخطئا التباينَ الواضحَ بين منتَج كلٍّ، وكان التركيز على ما يتعلَّق بطريقة التعاطي مع العلم نفسه كعِلم، لا ما يتعلَّق بطُرُق التدريس أو مهارات التعليم ونحو ذلك، ولهذه الجوانب مقامات أُخَر.

وقد تحصَّل لديَّ مِن ذلك عددٌ من الظواهر التي تعتري غالب الدرس التفسيري، إلّا أنَّ الملاحَظ أنَّ أكثرها يرتدُّ إلى إشكال رئيسٍ يتعلَّق بتصوُّر موضوع علم التفسير نفسه، والتعاطي معه في ضوء هذا التصوُّر، والذي تفرَّع عنه عددٌ من الظواهر المشكِلة في تدريسه، والتي أدَّت إلى غياب هذه الحاضنة كثمرة مرجوّة من الدرس التفسيري، ونحتاج أن نقف وقفة مع هذا الإشكال المحوريّ قبل أن نتعرَّض لهذه الظواهر حول تدريس التفسير؛ كونها ترتدُّ في أغلبها إليه وتتفرَّع عنه.

إنَّ المطالع لمصنَّفات التفسير لا تُخطِئ عيناه شدّةَ سعة مادتها؛ من بيان للمعاني، وإعراب للآيات، وعرض للقراءات، واستنباط للأحكام، وسرد للمواعظ، إلى غير ذلك، وهو الأمر الذي يسبِّب إشكالات كثيرة في طريقة التعاطي العلمي مع كتب التفسير، وكيفية بناء خارطة للترقي المعرفي في التحصيل من خلالها، ومن ذلك: أثره الواضح في عملية التدريس، والتي صارت لا تخضع لنَسَقٍ علميٍّ ثابت له حدود ظاهرة خاصّة به كما هو الشأن في التعاطي مع سائر العلوم، بل تحوَّلت لفضاء مفتوح يخضع في كثيرٍ من الأحيان لاهتمامات القائم بالتدريس ذاته.

وإذا كان هذا التباين الكبير واقعًا في الممارسات التفسيرية للمصنِّفين في كتبهم، ووقع نظيره في الجانب التنظيري لموضوع علم التفسير؛ بين تضييق له ليكون مقتصرًا على بيان المعاني، وتوسعة له ليشمل به استنباط الأحكام والهدايات وغيرها =فليس معنى ذلك أنه ليست هناك خصيصة للعلم كان من المفترض أن تكون هي محور الاشتغال في الدرس التفسيري؛ فإننا إذا نظرنا في موضوع علم التفسير رغم هذا الاختلاف -تطبيقًا وتنظيرًا- نجد مساحةً لا يكاد يُختلف في اعتبارها هي صُلب موضوعه ومشغله الرئيس، وهي: بيان معاني القرآن الكريم، ثم يقع الاختلاف بعد ذلك في إدراج ما زاد عليه من استنباط أو أحكام أو غير ذلك في موضوع التفسير[1].

لذلك فإن هذا المشغل المشترك -وهو بيان المعاني- ينبغي أن يكون صُلبًا في عملية تدريس التفسير، وهذا المشغل في ذاته له عدّة رُتب؛ يختلف التعاطي معها باختلاف مستوى المتلقِّين، وهو أَوْلى ما ينبغي أن يكون عليه مدار الترقِّي في مراتب الدراسة؛ بداية من العناية ببيان المعنى نفسه وتوضيحه، مرورًا بالتدليل عليه، وعرض الأقوال فيه، وتوجيهها، والترجيح بينها، إلى غير ذلك من الممارسات العلمية التي تدور حول بيان المعنى.

ظواهر عامَّة في الدرس التفسيري:

إذا اتضَّح هذا الإشكال الرئيس والذي يتلخَّص في عدم وضوح موضوع التفسير، ومن ثَمَّ عدم تمحور عملية تدريس العلم حوله باعتباره مشغل العلم الرئيس؛ أمكن تصوُّر وجه الإشكال في كثيرٍ من الظواهر الغالبة على الدرس التفسيري، والتي تسبَّبت في غياب الحاضنة المعرفيّة لعلم التفسير كمنتَج منتظر من منتجات تدريسه.

وقد رددتُ هذه الظواهر إلى أربع ظواهر رئيسة، وهي:

الأولى: تغليب الجانب الوعظي على درس التفسير.

الثانية: طرح مشاغل العلوم الأخرى وتغليبها على موضوع العلم.

الثالثة: الاستقلال بإنشاء المعنى التفسيري، والاعتماد الصُّوري على مدونة التفسير.

الرابعة: عدم رعاية مراتب تكوين الدارسين في علم التفسير.

أولًا: تغليب الجانب الوعظي على درس التفسير:

لا شكّ أن القرآن الكريم هو خيرُ موعظة، ووَعْظُ الناس مِن خلال بيان معانيه وتنزيلها على واقعهم وحثُّهم للعمل بها =من أعظم الأمور نفعًا، وما أحوجنا إلى أن يكون الوعظُ والتذكيرُ منطلقًا من القرآن الكريم، ملتزمًا بمنهجه، في زمن تكاثرت فيه الفتن، وتكالبت فيه الشبهات.

لكنَّ الإشكال في عدم التمييز بين مقامين: مقام الوعظ والتذكير بهدايات القرآن وإرشاداته والذي له أهدافه ومقاصده، ومقام الدرس التعليمي الذي يُقصد من ورائه تأسيس طالب علم في هذا الفنّ، وتكوين بنية معرفيّة يُمكن البناء عليها بعد ذلك.

ومن أظهر الإشكالات التي يلحظها الراصد لحالة تدريس التفسير هو الاستغناء بهذا النوع من درس التفسير عن التدريس الذي يَعتنِي بصُلب العلم تدريسًا وتأصيلًا، ولهذه الظاهرة أثرُها في طريقة التعاطي مع التفسير، وقد أورثت انطباعًا باعتبار دروس التفسير نوعًا من أنواع دروس الرقائق والسلوك، مع قصرها على ذلك، ولا شكَّ أن هذه الحالة لا تخلق بيئة صالحة لتكوين حاضنة معرفية لهذا العلم.

ومنشأ الإشكال -كما أشرنا سابقًا- هو عدم تبيُّن مادة التفسير وموضوعه، بالإضافة إلى عدم وضوح هدف الدرس التفسيري بدقَّة من بادئ الأمر، وعدم تحديد المنتَج المقصود منه، وهذا أمر ينبغي أن تكون العناية به بدهيَّةً من بدهيَّات التدريس في أيّ علم من العلوم؛ فدرس الفقه مثلًا الذي يُقصد فيه إلى تعليم عموم الناس كيفية الوضوء والصلاة يختلف في تناوله ومساره عن الدرس الذي يُقصد منه تخريج طالب علم في الفقه يترقَّى بعد ذلك في مراتب العلم، فضلًا عن الدرس الذي يقصد إلى تناول الجوانب الإيمانيّة والسلوكيَّة في العبادات.

وهذا كثيرًا ما يقع في دروس التفسير عند تغليب جانب الوعظ عليها؛ وفضلًا عمّا ذكرتُه سابقًا من تأثيرٍ على تصوُّر درس التفسير؛ فإنّ بعض الدروس من هذا اللون لا تخلو من إشكالاتٍ خاصَّةٍ في تناولها؛ فإن موضوع الآيات نفسها كثيرًا ما يكون غائبًا في ثنايا الوعظ، ولا يُتبين وجه تفرُّع الوعظ عن الآيات، فضلًا عمّا يقع أحيانًا من إشكالات في طريقة الاستنباط من الآيات وتنزيلها على الواقع ونحو هذا، مما يحتاج إلى مراجعة وتقويم، ولكنه سياق آخر غير سياق موضوعنا في هذه المقالة.

ثانيًا: طرح مشاغل العلوم الأخرى وتغليبها على موضوع العلم:

لا يخلو الدرس التفسيري خارج الإطار الأكاديمي من قائمِين على التدريس يَغلب على تعاطيهم الجانبُ العلميّ لا الوعظي، وبالرغم من أن هذا قد يُظنّ معه أن يُفرز حاضنة علمية للتفسير لاختصاص شريحته غالبًا بطلَّاب العلم، إلا أن الأمر ليس كذلك في كثير من الأحيان؛ ففي ضوء عدم الانطلاق من صُلب موضوع العلم -كما أسلفنا- فإنّ التدريس يخضع هاهنا للمشاغل الأساسية للقائم بعملية التدريس من خلال عرض الآيات؛ فمن يَغلب عليه الاشتغال العقدي ربما توسَّع في ذكر مسائل الاعتقاد ومقولات الفِرَق الإسلامية فيها، ونفس الأمر إذا كان الفقه هو الغالب على اشتغاله، فنجد التوسّع في ذكر المذاهب الفقهية فيما يَعرِض له من مسائل الفقه، وطول الاستطراد في هذا الجانب، وكذا مَن كان له اشتغال لغوي أو نحوي أو غير ذلك، وكثيرًا ما يقع توسُّع شديد يُنصَرَفُ به عن موضوع الآيات ذاتها.

ولا يمكننا في هذا المقام إغفالُ كون التفسير علمًا تلتقي في مصنّفاته علومٌ شتّى، وأنّ من هذه المصنّفات ما هو معروف بغلَبة جانب من هذه الجوانب عليه، كما أُلِّف في تفسير آيات الأحكام مثلًا، إلّا أن هذه الغلَبة في مقام التدريس -خاصة في مقام التأسيس- تُفقِد التفسير خصيصته، وربما أتت على صُلب اشتغاله الرئيس، وهذا واقع كثيرٍ من دروس التفسير لمن تأمّل، الأمر الذي يتفرّع عنه عدّة إشكالات في الدرس التفسيري، من أبرزها:

- عدم وضوح الملامح الخاصّة لعلم التفسير لدى الدارسين، وعدم الانتباه لخصائصه وموضوعاته وقضاياه الخاصة؛ نظرًا لتحوُّل درس التفسير إلى ميدان للتشعُّب عن موضوعه في مختلف العلوم بحسب غلَبة اختصاص المدرِّس، وربما كانت الصلة بين ما تُشعِّب إليه وموضوع التفسير مقتصرةً على إشارة في عبارة المفسِّر أو إلماحة من طرفٍ بعيدٍ، فلا يُورِث ذلك أيَّ ملامح للعلم في نفوس الدارسين، ولا يتمايز للطالب كيف تكون مادة التفسير قسيمةً لمادة العقيدة أو الفقه أو الحديث أو غيرها من المواد، ولا يظهر له وجه اختصاصها، فيقع الانطباع الذي يغلب على كثيرٍ من الطلاب أن التفسير مادة فضفاضة غير واضحة الملامح، وأنها ليست من جنس العلوم التي تُدرس وتُحرَّر وتختصّ بمباحث ويُترقى في مراتبها كسائر العلوم، وهذا بالمشاهدة واقعٌ عند قطاعٍ كبيرٍ من طلَّاب العلم.

- الطول الشديد في تدريس الكتاب الواحد من كتب التفسير أو أجزاء منه، ولو كان الغالب على هذا التطويل موضوعات العلم لما كان ثمة إشكال متى قُيّد ذلك بمراعاة مستوى الدارسين، إلا أن هذا التطويل يقع كثيرًا بسبب تقرير مسائل مما يندرج في اهتمام المدرِّس نفسه، مما يطيل الأمر على الدارسين خاصّة في المراحل الأولى، فينصرفون عن الدرس؛ إذ لا حاجة تدفع للإقبال عليه؛ كونه محضَ تقريرٍ لمباحث يُقبِلون عليها في فنون أخرى بتفصيل أوسع.

ثالثًا: الاستقلال بإنشاء المعنى التفسيري، والاعتماد الصُّوري على مدونة التفسير:

من الظواهر المشكِلة في تدريس التفسير: استقلال المدرِّس بإنشاء المعنى التفسيري؛ إمّا بالتفسير المباشر لآيات القرآن، أو بالاعتماد الصوري على أحد كتب التفسير، ومنشأ الصورتين ومؤدَّاهما قريب.

أمّا استقلال المدرّس بإنشاء المعنى التفسيري؛ فلا يخفى أنّ من الصور التي كانت حاضرة في مجالس العلم سلفًا إملاء المدرِّس طلّابَه تفسيرَه الخاصّ، وهي صورة مقبولة ما دام المدرّس ممن توافرت فيه مؤهّلات التفسير، ويُشبهه الفقيه الذي يُملي على طلَّابه في الفقه، فمثل هذا لا يكون مقبولًا إلّا ممَّن كان متأهّلًا لذلك، وإن كان من المستغرب أن يكون هذا أصلًا في تدريس الفقه، وأن يُنشِئَ كلُّ مدرِّس مادته الخاصة واختياراته الفقهية لإملائها على الطلاب، فلِمَ لا يكون مثله مستغربًا في مقام تدريس التفسير؟!

إنّ من أسباب وقوع هذا الأمر عدم الانتباه إلى وظيفة المدرّس ابتداءً: مفسِّر أم مدرِّس للتفسير؟ وكما أن هناك فرقًا بين الفقيه ومدرِّس الفقه، والنحويّ ومدرّس النحو؛ فينبغي أن يُنتبه إلى هذا الفرق في هذا المقام، وإن كان هذا الأمر ينال حظًّا من الرعاية في سائر العلوم إلا أن حظَّ التفسير منه أقلّ؛ لعدم وضوح طبيعة التفسير كعلم ومشاغله وقضاياه.

بالإضافة إلى أن هذه الطريقة من شأنها ألَّا تؤهل الطالب للتعامل مع التراث التفسيري الكبير، وألّا تنبِّهه إلى الوجهة الصحيحة في التعامل مع العلوم؛ في التعامل مع تراث سابق فهمًا وتحريرًا ونقدًا، ثم تكون الإضافة بعد ذلك بحسب سياقها ومدى تأهُّل المضيف لذلك.

ونحتاج أن نقرِّر هنا مرة أخرى الفرق بين الدرس الذي يغلب عليه الجانب الوعظي، والدرس التعليمي الذي يُراد من خلاله تخريج طالب علم في هذا الفنّ الخاصّ، فالدرس الوعظي قد يكون الأمر فيه أوسع؛ لطبيعة مادته وأهدافه، شريطة انضباطه بضوابط العلم.

أمّا الظاهرة الثانية وهي الاعتماد الصوري على كتب التفسير؛ ففي كثير من الأحيان يكون الدرس في شرح كتاب من كتب التفسير والتعليق عليه، إلّا أنّ حضوره في مادة التدريس حضورٌ صوريٌّ؛ فلا يُركَّز على صناعة مؤلِّفه، وترجيحاته واعتباراتها، وطرق التدليل، وكيفية صياغته للعبارات وعرضه الأقوال، إلى غير ذلك من صنيع المفسِّر، فيكون حضوره ثانويًّا، كأنه فهرس لعرض بعض المقولات فحسب، ثم تكون مادة الدرس هي إنشاء المدرِّس نفسه للمعاني التفسيرية، ولا شك أن هذا يجعل جُلّ كتب التفسير على حدٍّ سواء؛ فالأمر راجع أولًا وآخرًا إلى ما سيقوله المدرّس بغضّ النظر عن الكتاب، فيغيب عن الدرس التفسيري وظائف كتب التفسير، واختلاف مراتبها.

وينشأ هذا بسبب عدم وضوح وظيفة المدرّس للكتاب التفسيري أثناء تدريسه، وعدم الالتفات إلى طبيعة البناء المعرفي في قضايا العلم التي ينبغي أن يكون تأسيسها في عقل الطالب من أولويات الأهداف؛ من تدريبه على التعامل مع التراث التفسيري، والتفطُّن لأدوات العلماء واعتباراتها، وإنّ مثل هذا الدرس هو الذي يورث المَلَكات في بناء التفسير، وإدراك مناهج المفسرين بصورة واقعية بعيدة عن التوصيفات السطحيّة التي كثيرًا ما تُوصف بها المناهج.

رابعًا: عدم رعاية مراتب تكوين الدارسين في علم التفسير:

من سُنن تلقِّي العلوم أن يتدرّج طالبُها في معارفه ومهاراته وتحصيل أدواته، ويُراكم اللاحق فيها على السابق شيئًا فشيئًا؛ حتى يتمكَّن من تحقيق التكوين المعرفي المطلوب في العلم، ويترقَّى في مراتبه، وهذا الأمر وإن كان حاضرًا في تدريس كثير من العلوم خارج الإطار الأكاديمي، إلا أنه يُلاحظ في أكثر دروس التفسير عدم مراعاتها لهذا الجانب، ولهذا الأمر عدّة مظاهر، منها:

- أننا إنْ وجّهنا النظر إلى صُلب اشتغال العلم -وهو بيان المعنى كما ذكرنا سلفًا-، وتجاوَز درسُ التفسير إشكالية تغليب الجانب الوعظي عليه؛ فإنّ كثيرًا من دروس التفسير فيما يتعلَّق بالمعنى تكاد تدور في مستوى واحد من التعامل مع المعنى التفسيري؛ من بيانه أو ذكر الأقوال فيه اختصارًا أو توسُّعًا، دون أن يُلحَظ اختصاص المعنى بمراتبَ في تناوله في دروس التفسير؛ كان من المفترض أن تكون محلًّا لترقي الدارس.

بينما إذا نظرنا في تدريس علمٍ كالفقه مثلًا فإن مرتبة التعرف العام على الأحكام الفقهية تأتي في مرتبة يدرس فيها الطالب متنًا فقهيًّا عادة، ثم تأتي بعد ذلك مراتب التدليل، وذكر الخلاف في المذهب، ثم ذكر الخلاف العالي، وربط الأصول بالفروع، إلى غير ذلك من مراتب الترقي في موضوع العلم الخاصّ، ومن ثَمَّ يمكن تصنيف هذه الدروس بحسب رتبة المتلقِّين من دروس للمبتدئين أو للمتوسطين أو المتقدِّمين.

بينما إذا نظرنا إلى دروس التفسير فلا نكاد نجد مثل ذلك، وغالب الدروس العلمية فيه لا تتجاوز المراتب الأولى في الاشتغال بالمعنى، والتوسُّع الواقع في بعض دروس التفسير غالبُه في أمور خارجية عن صُلب اشتغال العلم، أمّا التوسُّع والترقي الذي يُمكِّن الطالب من أدوات هذا العلم، وينمّي ملكاته، ويبصِّره بصنعة العلم، واعتباراته وإشكالاته؛ فهو غائب إلى حدٍّ كبيرٍ.

ولا يخفى أثر ما ذكرناه سابقًا من غياب موضوع العلم ومشاغله، وعدم ظهور آثارها في التعاطي ومراتب الترقّي في حضور هذه الظاهرة.

وبعد هذا العرض لأهم الظواهر في التدريس غير الأكاديمي للتفسير، والتي أثَّرت على تشكيل الحاضنة المعرفيّة المرجوّة للعلم؛ نستعرض بعض النقاط المهمّة في سبيل المعالجة لتفعيل هذا الدرس؛ سعيًا لتحقيق الغرض المنشود من استثماره في خدمة هذا العلم الشريف.

الحاضنة المعرفيّة الغائبة؛ نظرة في المعالجة:

من خلال العرض السابق لهذه الظواهر التي اعترَت الدرس التفسيري، وحَدَتْ به عن تكوين حاضنة معرفيّة قويّة في العلم بخلاف عددٍ من العلوم الأخرى، ومن خلال تبيُّن أثر غياب موضوع العلم واختصاصاته في كثير من الظواهر المتعلقة بالدرس التفسيري؛ فإنه يأتي على رأس إجراءات المعالجة: ضرورةُ تحقيق الاستيعاب الجيد لوظيفة هذا العلم الخاصّ وموضوعه، وتمييزه عن غيره من العلوم، وأن يكون هذا الأمر حاضرًا عند مدرِّس التفسير، حاضرَ الأثر في درسه؛ فإن لهذا أكبر الأثر في طريقة التعاطي مع العلم، والتعامل مع كتبه، وتطوير العملية التدريسية لتكون مماسّة لقضايا العلم، ومن ثَمَّ تأصيل الطلاب فيه، وبتحقيق ذلك تندفع أغلب المعوِّقات التي تحول دون أن يبلغ التدريس ثمرته من تكوين حاضنة معرفية قويّة للتفسير كما بينّا لاحقًا.

وكذلك فإنّ هذا الاستيعاب يُعين على تمييز رتبة المعلومات التي يتلقّاها الدارسون في هذا العلم، فمعلومات أيّ علم من العلوم ليست على وِزان واحد في رتبتها وأهميتها داخل العلم، ومن أهم المعايير في هذا الترتيب: قياس مدى قربها وبعدها من موضوع العلم، ومدى تأثيرها فيه، كما أن له أثره في اختيار المعلومات المناسبة للدارس بحسب مستواه؛ فإنّ اختيار المعلومات في أيّ منهج تعليمي ينبغي أن يكون بحسب النظر في رتبة هذه المعلومات في هذا العلم.

ومن الأمور المهمّة أيضًا في سبيل المعالجة: إدراك المدرِّس للكيفية التي أُلِّفت بها مسائل هذا العلم عامة، وأن يولي الكتاب الذي يدرّسه عناية خاصة في هذا الباب، فلا يقتصر على الوقوف على مفردات المسائل، بل يجتهد في الغوص فيما وراء ذلك، وأن يحرص على لفت أنظار الطلاب إلى ذلك؛ ليُمكّنهم من الإمساك بمعاقد الكتاب، ويُنمِّي فيهم ملكة التعامل مع غيره، ومتى تحقّق ذلك أمكن تحقيق مراعاة الأوزان النوعيّة للمعلومات داخل العلم، وداخل كتاب التفسير المقصود بالشرح، مع مراعاة مرحلة التلقي، والمدة الزمنية المقرَّرة أو المتوقعة لدراسة الكتاب.

ومن الأمور المهمّة أيضًا: وضوح وظيفة مدرِّس التفسير، والتفريق الواضح بين المفسِّر ومدرِّس التفسير، ولهذا الأمر أثره في معالجة إشكال استقلال المدرّس بإنشاء المعنى التفسيري، وعدم تفعيل كتاب التفسير في الدرس أو حضوره صوريًّا، والذي يؤثر على مخرجات الدرس التفسيري، ويُبقي مشاغل العلم الرئيسة غائبة عن عقول الدارسين.

وكذلك فإنَّ من الأمور الضروريّة في طريق المعالجة: وضوح الأهداف والمخرجات المقصودة من عملية التدريس؛ معرفيًّا ومهاريًّا وسلوكيًّا، فالنظر في ذلك في ضوء الشريحة المستهدفة والمنتَج المقصود تحقيقه لدى الطالب له أثره الكبير في تحديد طبيعة الدرس وطريقة التناول، وبهذا يمكن أن تُصنَّف دروس التفسير إلى أنواع بحسب أهدافها، دون أن يذوب الدرس الذي يُعني بالتأسيس في العلم في غيره، فيغيب وتغيب الثمرات المرجوّة من ورائه.

خاتمة:

إنّ وظيفة النهوض بالعلوم وخدمتها تقع على أكتاف كلِّ مَن وقف على بابٍ مِن أبواب خدمتها؛ مِن تدريس أو تأليف أو بحث علمي أو غير ذلك، وباب تدريس العلوم من أهم هذه الأبواب، ودروس التفسير خارج الإطار الأكاديمي من أخصب البيئات التي ينبغي اغتنامها لتخليق هذه الحاضنة المعرفيّة التي تعتني بهذا العلم الشريف وتنهض به، ومن الخسارة أن تضيع كثير من الجهود التعليمية، ولا تحصّل ثمرة حقيقية من مشتغلين حقيقيّين به وباحثين في مسائله، أو تُثمر نهضةً في تثويره والعناية به.

وقد اجتهدتُ في هذه المقالة في التنبيه على أهم الظواهر التي عطّلت إحداث هذه الحالة المرجوّة، مع تسليط الضوء على إشكال رئيس تتفرَّع عنه كثيرٌ من هذه الظواهر، وأشرتُ إلى عدّة نقاط أراها ضرورية في سبيل المعالجة، ويظلُّ هذا الموضوع جديرًا بمزيد عنايةٍ وتأمُّلٍ من المشتغلين بهذا العلم الشريف، واللهَ أرجو أن يفتح على معلِّمي الناس الخير أبواب الخير، وأن يهديهم أرشد أمورهم بما يحبه ويرضاه.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

[1] حول الاختلاف في مفهوم التفسير ضيقًا وسعةً؛ يُراجع كتاب: «أصول التفسير في المؤلفات»، إعداد: وحدة أصول التفسير بمركز تفسير للدراسات القرآنية، (ص58-95)؛ حيث استعرض عددًا من التعريفات للتفسير، وسلَّط الضوء على مسألة الضيق والسعة في مفهوم التفسير، والكتاب من إصدارات مركز تفسير، ومنشور على هذا الرابط: tafsir.net/publication/7981.

وقد اعتنى د. محمد صالح سليمان، بدراسة هذه القضية وآثارها في بحث: «تفاوت مفهوم التفسير؛ الدلائل والآثار ومنهج التعامل»، وهو منشور بمجلة الجامعة الإسلامية للعلوم الشرعية- العدد 192- الجزء الأول، السنة: 53، شهر رجب 1441هــ.

وللباحث الدكتور/ خليل محمود اليماني، عنايةٌ خاصّةٌ بهذه القضية، وسبق له تناولها من عدة جوانب من خلال عدد من المقالات المنشورة على موقع تفسير، من أهمها:

- «معيار تقويم كتب التفسير؛ تحرير وتأصيل»، على هذا الرابط: tafsir.net/article/5110، وهي ألصقها بما ذكرناه.

- «مقاربة في ضبط معاقد التفسير؛ محاولة لضبط المرتكزات الكلية للعلم ومعالجة بعض إشكالاته»، على هذا الرابط: tafsir.net/article/5299، وهي أوسع في تناول الإشكالات بصفة عامة ومنها: موضوع التفسير.

كما تعرَّض للقضية نفسِها منطلقًا من بحثِ ما له مركزيّة حاضرة في ميدان التفسير، فتعرَّض لهذه المسألة منطلقًا من تفسير السلف في مقالة: «تفسير السلف؛ الأهمية والضرورة»، والمنشورة على هذا الرابط: tafsir.net/article/5274، وكذلك من خلال تفسير الطبري في مقالة: «جامع البيان للطبري؛ قراءة في أسباب مركزيته في التفسير»، على هذا الرابط: tafsir.net/article/5139.

الكاتب

محمد مصطفى عبد المجيد

حاصل على ماجستير التفسير وعلوم القرآن، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))