مخطوطات المصاحف بين التناول الإسلامي والاستشراقي
الواقع - الإشكالات – الآفاق (1-2)

ضيف الحوار : أحمد وسام شاكر
شهدت الآونة الأخيرة عناية خاصّة بمخطوطات المصاحف في الدّرسَيْن الإسلامي والاستشراقي، ويأتي هذا الحوار مع أ. أحمد وسام شاكر لإلقاء الضوء على هذا التناول لمخطوطات المصاحف، ويتناول الجزء الأول من هذا الحوار واقع هذا التناول، ومناقشة بعض الإشكالات المتعلقة بمخطوطات المصاحف.

  شهدتْ مخطوطات المصاحف مؤخرًا عناية خاصّة في ساحة الدرس القرآني، وازداد الاهتمام بها سواءٌ ‏في واقع الدرس الإسلامي أو الاستشراقي، وتنوّعت المساحات المختلفة في توظيف هذا الدرس لمخطوطات المصاحف، ‏ ‏وفي هذا الحوار مع الأستاذ/ أحمد وسام شاكر -الباحث والمهتم بالمخطوطات القرآنية المبكّرة- نجتهد في ‏تسليط الضوء على مخطوطات المصاحف بين التناول الإسلامي والاستشراقي، وذلك من خلال ثلاثة محاور: الواقع، والإشكالات، والآفاق، ويختصّ الجزء الأول من الحوار بتناول محورَيْن منها:‏

المحور الأول يدور حول واقع دراسة مخطوطات المصاحف في التناول الإسلامي والاستشراقي، فيتناول جذور ‏العناية بهذه المخطوطات على الجانبين، ومدى إمكان الاستفادة من مخطوطات المصاحف في بعض القضايا؛ كإثبات موثوقية ‏النصّ القرآني وبعض العلوم التراثية كالرسم والقراءات، وواقع الاستفادة من هذه المخطوطات في الدرس المعاصر، كما يستكشف ‏دوافع العناية الاستشراقية بمخطوطات المصاحف، وكيفية الاستفادة ممّا طرحه المستشرقون في هذا المجال.

ويتناول المحور الثاني بعض الإشكالات المتعلّقة بمخطوطات المصاحف، ومنها: موثوقية الاعتماد على مخطوطات ‏المصاحف، والضوابط التي ينبغي مراعاتها في الحكم على المخطوط، وكيفية إثبات تواريخ المصاحف مع خلوّ ‏كثير منها من تقييدات الختام ونحوها، وإشكالية ضعف المعلومات الواردة في فهارس المخطوطات حول ‏المصاحف، وكيفية التعامل معها.

وأمّا المحور الثالث فيتناول بعض أهم الآفاق في توظيف مخطوطات المصاحف، خاصّة في ‏الدفاع عن القرآن الكريم.

نصّ الحوار

المحور الأول: واقع دراسة مخطوطات المصاحف في التناول الإسلامي والاستشراقي:

س1: تحظَى مخطوطات المصاحف بحضور بارز في الآونة الأخيرة على مستوى الواقِعَيْن الإسلامي والاستشراقي، وقبل الانتقال لمحاولة استكشاف هذا الواقع نودّ أن نتعرّف منكم على مدى وجود جذور لهذه العناية -برأيكم- في تراثنا الإسلامي.

أ/ أحمد وسام شاكر:

يمكن لنا تتبُّع جذور الاهتمام التراثي بالمصاحف من خلال هذه الروافد:

* كُتُب رسم المصحف: تهتم هذه الكتب بإحصاء الكلمات القرآنية المرسومة في المصاحف العثمانية والتي جاءت مخالفة للرّسم القياسي بالحذف والزيادة والإبدال والقطع والوصل ورسم الهمزات، وأشهر مؤلَّفات هذا العلم: (المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار) للإمام أبي عمرو الداني (ت:444هـ)، و(مختصر التنزيل في هجاء التنزيل) لتلميذه سليمان بن نجاح (ت:496هـ). ومدارُ هذا العلم على الرواية عن مشايخ الرّسم المتقدِّمين والنظر في المصاحف المخطوطة العتيقة. وقد تتبَّع الداني عشرات المصاحف العُتُق وأشار إليها في كتابه تعزيزًا للرواية الشفوية أو لمعرفة طريقة رسم كلمةٍ ما عند انعدام الرواية لديه. ومن المصاحف الخطِّيَّة التي طالَع أصولها:

- مصحف كُتِبَ في زمن الغازي بن قيس الأندلسي (ت: 199هـ).

- ومصحف كتَبَهُ ونَقَطهُ حكم بن عمران الأندلسي النّاقِط في سنة 227هـ.

- ومصحف آخر جُلِبَ له من جامع عتيق، مؤرّخ في سنة 110هـ، وهو يرقى لزمن خلافة هشام بن عبد الملك الأموي.

- زِد على ذلك عشرات المصاحف الأخرى التي وسمها بـ«العتيقة» و«القديمة» التي اطّلع عليها في الأندلس وفي رحلته إلى المشرق.

* كُتُب اختلاف المصاحف: أورد النديم الورَّاق (ت:384هـ) في الفهرست عددًا من هذه الكتب، وأقدمها تأليفًا: كتاب (اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق) لابن عامر اليحصبي (ت:118هـ) أحد القراء السبعة. وهذه المؤلَّفات -كما يظهر من عناوينها- تعتني بذِكْر فروقات الرّسْم والقراءات في المصاحف التي أنفذها الخليفة عثمان بن عفان إلى أهل الأمصار (مكة والشام والبصرة والكوفة والمدينة) بعد الجمع الثاني للقرآن حوالي سنة 25- 30هـ. وغالب الكتب التي ذكرها النديم في عِداد المفقود اليوم، لم يصِلْنا منها سوى (كتاب المصاحف) لأبي بكر بن أبي داود السجستاني (ت: 316هـ).

وقد تضمن هذا الكتاب المهم:

- روايات جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان.

- اختلاف القراءات في مصاحف الصحابة.

- المصاحف العثمانية وما يتعلّق بها من مسائل.

- أخبار تتعلّق بشكلِ المصحف وما أُدْخِل عليه من تحسينات.

- الأحكام والمسائل الفقهية المتعلّقة بالمصحف.

* كُتُب فضائل القرآن: ومن أهمها كتاب (فضائل القرآن) لأبي عبيد القاسم بن سلَّام (ت: 224هـ) وبنفس العنوان للمستغفري، وابن الضريس، والفريابي. تعتني هذه الكتب في الأساس بذِكْر فضائل السور والآيات، وفضل قراءة القرآن وتعليمه، وغيرها من مسائل القرآن وأحكامه وحروفه، بيدَ أنها جمعتْ لناروايات تُفيد الباحث في معرفة شكلِ المصحف الأوّل في عصر الصحابة وما أُدخل عليه من تحسينات مثل فواصل الآي، وعلامات الخموس والعشور، والتزيين والتذهيب، وكتابة الفواتح والخواتيم، وغير ذلك. ولا تخلو هذه الكتب من ذكرِ اطّلاع مؤلِّفيها على المصاحف العتيقة؛ انظر مثلًا إلى ما ذكره ابن كثير (ت: 774هـ) في (فضائل القرآن) من رؤيته المصحف العثماني، يقول: «وأمّا المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها -اليوم- الذى في الشام بجامع دمشق عند الركن، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديمًا بمدينة طبرية، ثم نُقِلَ منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمسمائة، وقد رأيته كتابًا عزيزًا جليلًا عظيمًا ضخمًا بخطٍّ حَسَن مبين قوي بحبر محكم، في رَقٍّ أظنّه من جلود الإبل، والله أعلم، زاده اللهُ تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا».

* كُتُب الخِطَط والرحلات: هذه النوعية من الكتب من مظانّ البحث في أخبار وتاريخ المصاحف في العالم الإسلامي، ومن الكتب التي أُفِيدُ منها كثيرًا في أبحاثي كتابُ (المواعظ والاعتبار بذكرِ الخِطط والآثار) للمقريزي (ت: 845هـ)، وكتب الرحلات مثل رحلة ابن بطوطة ورحلة ابن جبير؛ فإنهم يذكرون مشاهداتهم للمصاحف العتيقة في خزائن المساجد والمدارس في البلدان التي طوّفوا بها.

وغير ذلك كثير مما لا يتسع المقام لذِكْره.

ويصلح فيما ذكرته -وهو نزرٌ يسير من روافد العناية التراثية بالمصاحف- أن يكون ردًّا على السرديَّة الشعبيّة الرائجة بيننا، والتي تزعم أنّ الاشتغال بالمصاحف المخطوطة هو في الأساس من عمل المستشرقين أو أنّ المستشرقين هم أول من استحدث هذا الاشتغال؛ وهم مجانبون للصواب في ذلك. والذي أراه هو ضرورة فكّ هذا الارتباط الذّهني وإعادة الأمر إلى منبعه الأصل؛ فالمستشرقون -وأستعير هنا عبارة المحقّق عبد السلام هارون- هم شركاؤنا في البحث العلمي، لكن ليس من الحكمة ولا الكرامة في شيء أن نستعير عقولهم في صَغار الأذلاء، وقد منحَنا اللهُ القدرةَ وحُسن الفهم والدّرس لما كُتِبَ بِلُغتنا وبِوَحْي نفوسِنا العربية[1].

س2: برزَتْ في الواقع المعاصر جهود عديدة لنشر مخطوطات المصاحف، ما أبرزُ هذه الجهود من وجهة نظركم؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

من أهم الجهود المبذولة في نشر المصاحف المخطوطة -بطريقة نظاميَّة- في العالم الإسلامي؛ ما يقوم به اليوم مركز (إرسيكا) في إسطنبول، حيث ينشط المركز منذ عام 2007م في نشر مجموعة من نُسَخ المصاحف المخطوطة المبكّرة بتحقيق الدكتور/ طيار آلتي قولاج. وقد أسهَمَت هذه النشرات العلمية في بزوغ نجم الدراسات المصحفيَّة في عالمنا البحثي الناطق بالعربيَّة، وقد كتبتُ في هذا الموضوع ورقة أسميتها: (جهود نشر المصاحف المخطوطة في العالم الإسلامي)، ستُنْشَر قريبًا إن شاء الله.

س3: بالرغم من استخدام بعض مخطوطات المصاحف للطعن على موثوقية القرآن لدى بعض المستشرقين إلّا أنّ بعض الباحثين المسلمين يرون إمكان الاستفادة من مخطوطات المصاحف في الرَّدّ على الادعاءات والشّكوك التي تُثار حول موثوقية النصّ القرآني، فهل تتفقون مع هذه الوجهة؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

أتّفقُ جزئيًّا مع هذا الرأي؛ إِذْ يمكن الاستفادة مثلًا من أدبيات المدرسة «التقليدية الحديثة» (neo-traditionalism) -وَفق تقسيم بهنام صادقي الرباعي لدارسي أصول الإسلام والقرآن في الأكاديمية الغربية- والتي قدّمتْ في السنوات الأخيرة بحوثًا تاريخية نقدية أعادت الثقة في المجمل للمصادر التراثية الإسلامية فيما يتعلّق بموثوقية النصّ القرآني والجمع المبكّر للقرآن، بعد هجمات التشكيك المعرفي التي شنّتها عليها المدرسة التنقيحية ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي. ومن رموز هذه المدرسة: هرلد موتزكي، غريغور شولر، آندرياس غوركي، بهنام صادقي، نيكولاي سيناي، وغيرهم. ولا أنسى أيضًا بحوث إيستيل ويلان التي قدّمتها في إثبات التدوين المبكّر للقرآن اعتمادًا على نقوش قبة الصخرة المؤرّخة سنة 72هـ والمصادر الأدبية الإسلامية.

وينبغي على الباحث العربي المسلم أن يُدرك حقيقتين مهمّتين:

1- البحوث الاستشراقية الغربية لم تتجاوز السردية الإسلامية، بل إنها اليوم تعيش مرحلة استعادة الثقة بها تدريجيًّا، وهذا ما أكَّدَ عليه موتزكي في مقاله ذائع الصيت (جمع القرآن: إعادة تقييم المقاربات الغربية في ضوء التطوّرات المنهجية الحديثة) المنشور عام 2001م، بقوله: «...لكن الآراء الغربية التي تدّعي أنها تستبدل بالسرديَّة الإسلامية سردية أكثر منطقية، وأكثر موثوقية من الناحية التاريخية؛ من الواضح أنها بعيدة كلّ البعد عما يدّعيه أصحابها لأنفسهم»[2]. في المقابل، تميل البحوث الأخيرة إلى قبول «النواة الأساسية» لروايات جمع القرآن في عهد الخليفة عثمان بن عفان[3].

2- البحوث الحديثة التي أُجريت على المخطوطات القرآنية المبكّرة -بخاصّة المدعومة بالتحليلات الفيزيائية التي أعادت عشرات الرقوق القرآنية العتيقة إلى القرن الأول الهجري- عزّزت من مصداقية الرواية الإسلامية وأحرجت التيار التنقيحي وعادتْ به خطوات إلى الخلف. ويَخْلُص مايكل ماركس وتوبياس واكيم في دراستهما المنشورة عام 2019م بعنوان: (تأريخ المخطوطات القرآنية باستخدام الكربون المشع) إلى أنّ نتائج التحليلات الكربونية التي أُخْضِعَتْ لها تلك القِطَع = تقوِّض فرضية الجمع المتأخّر للقرآن وظهور الإسلام في القرن الثامن عِوضًا عن القرن السابع الميلادي[4]. وهو الأمر الذي أكّد عليه أيضًا فرانسوا ديروش؛ إِذْ يرى أنّ الأدلة الجديدة التي قدّمتها لنا المخطوطات القرآنية المبكّرة = تُنهي سِجال الجمع المتأخِّر للقرآن الذي أثارته المدرسة الشكوكية[5].

س4: يدعو بعض المتخصّصين في الدراسات القرآنية لتوظيف مخطوطات المصاحف في تثوير قضايا مهمّة تتصل ببعض العلوم التراثية كقضايا علم الرسم والقراءات وغير ذلك، فما تقييمكم لهذه الدعوة؟ وما تقييمكم لمدى حضورها في الواقع العلمي؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

لمَسْنَا في السنوات العشر الأخيرة، ظهور هذا اللون من المقاربات التراثية للمصاحف المخطوطة[6]، فيقوم الدّارس لعلم الرّسم مثلًا باختيار مجموعة من الظواهر الكتابية القديمة التي نَصَّتْ عليها كتب رسم المصحف وجاءت مثبتةً في مصحف المدينة المنورة (المكتوب بالرسم العثماني)، فيعقد مقارنة بينها وبين ما يجده في المصاحف المخطوطة القديمة، وهو يبتغي من ذلك: تعزيز هذه الروايات وإثبات أنّ بعض الظواهر الكتابية التي وُسِمَتْ بالضَّعف والشذوذ؛ لها شواهد خطيَّة تقوّيها؛ وإن كان المعتمد بخلافها. ومن ذلك مثلًا: رسم كلمة (شيء) في سورة الكهف بزيادة ألِف بعد الشين (لشايء) = فقد ضعَّف علماءُ الرسم روايات إثبات الزيادة في غير موضع الكهف، بيدَ أن المصاحف المخطوطة جاءت معززةً لهذه الرواية.

وأمّا علم القراءات، فإنه أقلّ حضورًا على الساحة العلمية من علم رسم المصحف؛ ذلك أنّ الباحثين في علم القراءات لم يدركوا بعدُ أهمية المصاحف المخطوطة، لا سيّما مصاحف القراءات المضبوطة على قراءات الأئمة السبعة، ومن ثَمّ فإنّ الكتابات في هذا الباب قليلة جدًّا. ورغم ذلك، فإن لصديقنا الدكتور/ أحمد حاتم السامرائي اشتغال على مصاحف القراءات، وقد أعدَّ أطروحته للدكتوراه في هذا الموضوع، وقدّم لنا محاضرة بعنوان: (مصاحف القراءات وأهميتها في الدراسات القرآنية)، وأنا أنصح من له اشتغال بعلم القراءات أن يطّلع عليها ويفيد من مباحثها العلمية.

س5: لا يخفى ما تحتلّه دراسة مخطوطات المصاحف في الواقع الاستشراقي من عناية خاصّة، وفي ضوء اهتمامكم بهذا الأمر نودّ منكم تسليط الضوء على الجذور التاريخية لهذه العناية في الواقع الاستشراقي، ومتى بدأت هذه العناية حتى بلغت ما نراه الآن من واقع كبير لا تخطئه عين الدارِسين والمهتمين بهذا الجانب؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

تعود جذور العناية الاستشراقية بمخطوطات المصاحف إلى القرن الثامن عشر الميلادي، حيث ظهر هذا الاشتغال العلمي أوّل ما ظهر مع اللاهوتي والمستشرق الدنماركي جاكوب كرستيان جورج أدلر (1756- 1834م). كان أدلر مهتمًّا بالكتابات الكوفيَّة، ودرسَ عددًا من القِطَع القرآنية القديمة المحفوظة في المكتبة الملكية بكوبنهاجن. وقد كان الاهتمام في الدوائر الأكاديمية آنذاك منصبًّا على (الباليوغرافيا) paleography؛ وهي علم دراسة الخطوط القديمة وتطورها استنادًا إلى الوثائق الماديَّة. فكانت إرهاصات العناية بالمصاحف المخطوطة في الغرب المسيحي من باب التعرّف على الخطوط العربية القديمة وتطوّرها عبر الأزمان والأعصار. ثم وقع تطورٌ نوعيّ في منتصف القرن التاسع عشر رافقَ حركة نقل المخطوطات القرآنية إلى المكتبات الأوربية من قِبَل الرحّالة والمستشرقين الفرنسيين والألمان والإنجليز الذين كانوا ينشطون في البلاد الإسلامية كمصر وبلاد الشام والعراق؛ فنظَّمَت الأكاديمية الفرنسية للنقوش والآداب عام 1858م مسابقة لأفضل عمل نقدي يؤلَّف في تاريخ القرآن، وألمحت إلى الرقوق القرآنية القديمة التي استحوذتْ عليها المكتبة الملكية (المكتبة الوطنية الفرنسية اليوم) من ترِكة المستشرق ونائب القنصل الفرنسي في القاهرة آسلان دو شرفيل عام 1833م (وقد استولى عليها الأخير من جامع عمرو بن العاص بالفسطاط). وقد شارك في هذه المسابقة ثيودور نولدكه الذي قدّم عام 1860م أطروحته المشهورة (تاريخ القرآن) والتي تحوّلت لاحقًا إلى كتاب من عدّة أجزاء شارك في تحريره تلميذه شفالي، وأوتو برتزلز، وبرجستراسر. وفي النصف الأول من القرن العشرين، اشتغل عدد من المستشرقين -منهم برتزل وبرجستراسير وجيفري- على تحقيق ونشر مجموعة من كتب علم الرّسم والقراءات كالمقنع للداني والمصاحف للسجستاني والمحتسب لابن جنّي وغيرها، كما قاموا بتصوير آلاف الأوراق من المصاحف العتيقة المحفوظة في عددٍ من خزائن الكتب في شمال أفريقيا وأوروبا. وكانوا يأملون بعملهم هذا إصدار نسخة نقدية للقرآن الكريم بدعم أكاديمية العلوم البافارية بميونخ (وهو ما يعرف بمشروع الحواشي النقدية)[7]. لكنّ الظروف السياسية حالت دون تمكّنهم من إنجاز هذا العمل على الوجه الذي يرضيهم، وتوقّف هذا المشروع تمامًا بحلول الحرب العالمية الثانية، ورثاه المستشرقون وتحسّروا عليه. وقد ضَعُفَ الاهتمام الاستشراقي بالمصاحف العتيقة بعد عام 1945م بوفاة أساطين هذا المجال، ثم عاود الظهور مجددًا بعد اكتشاف مصاحف الجامع الكبير بصنعاء عام 1973، فأشرقتْ شمس هذه الدراسات من جديد، وصارت اليوم جزءًا من الدراسات القرآنية الغربية، وهو ما نلحظه من هذا الحضور البارز في الأوراق الأكاديمية المنشورة في المجلات العلمية الغربية ابتداءً من عام 2010م مرورًا بالندوات والمؤتمرات والورشات التي تقام سنويًّا حول موضوع (كوديكولوجيا وباليوغرافيا المصاحف العتيقة)، وانتهاءً بالمشاريع العلمية الكثيرة التي يموّلها الاتحاد الأوروبي، وتأسيس كراسي للقرآن الكريم في المؤسّسات والمعاهد الأوروبية والأمريكية.

س6: يتبادر إلى الأذهان سؤال حول أسباب عناية المستشرقين بهذا المشغل البحثي، وكثرة الدراسات الصادرة عنهم في هذا الباب، وفي ضوء متابعتكم للحقل الغربي واشتغاله بمخطوطات المصاحف نودّ منكم تسليط الضوء على أهم أسباب عناية المستشرقين بمخطوطات المصاحف ودراستها.

أ/ أحمد وسام شاكر:

كما ذكرت آنفًا؛ فالكتابات الاستشراقية الأُولى كانت تتمحور حول علم الكتابات القديمة (الباليوغرافيا)، ثم تطوّر الأمر شيئًا فشيئًا فصار الدارسون الغربيّون للخط العربي وتطوّره يعتمدون على النقوش العربية بالإضافة إلى المصاحف الخطيَّة القديمة، وأُشير هنا مثلًا إلى كتاب الباحثة/ نبيهة عبود الصادر عن معهد الاستشراق بجامعة شيكاغو عام 1939م، بعنوان: (North Arabic Script and Its Qur’anic Developments)، فقد اهتم بأصول الخطّ العربي والكتابات القرآنية. ومع بداية الاهتمام الاستشراقي بـ(تاريخ القرآن) في منتصف القرن التاسع عشر، صار البحث عن الرّقوق القرآنية المبكّرة المكتوبة على الرَّق في القرنين الأول والثاني الهجريين مطلبًا لا منأى عنه؛ ذلك أنّ المنهج التاريخي النقدي الذي يعمل وفقه هؤلاء الباحثين يقتضي الرجوع للوثائق المادية المصاحبة للفترة الزمنيَّة التي كُتِبَ فيها النصّ، ومن ثمّ يقومون بمعارضتها بالمصادر التراثيَّة الإسلامية، ويصحّحون الروايات على أساس تحليلهم للوثائق المدروسة. ويوضّح آرثر جيفري هذه المنهجية الغربية، فيقول في تفريقه بين منهجي (أهل النقل) و(أهل التنقيب) ما يأتي: «وأمّا أهل التنقيب فطريقتهم في البحث أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصوّرات بأجمعها ليستنتجوا بالفحص والاكتشاف ما كان منها مطابقًا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الإسناد يجتهدون في إقامة نصّ التوراة والإنجيل كما أُقيم نصّ قصائد هوميروس أو نصّ رسائل أرسطو الفيلسوف»[8].

ويمكن أن ألخّص لكم أسباب العناية الاستشراقية الغربية بالمصاحف في عدّة محاور:

1- دراسة الخطّ العربي وتطوّره عبر القرون.

2- التعرّف على حالة النصّ القرآني في فترة صدر الإسلام إلى عصر ابن مجاهد.

3- توثيق القراءات القرآنية ومتابعة تطوّر الرّسم من خلال المصاحف القديمة.

4- الجوانب الفنية والجمالية والتعرّف على الصناعة المادية للمخطوط القرآني.

س7: دائمًا ما يكون هناك حذرٌ في التعامل مع الدّرس الاستشراقي ونتائجه وإمكان البناء والتعاطي معه، فما تقييمكم لمقدار الإفادة المنهجية من الجهود الغربية في التعامل مع مخطوطات المصاحف؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

علينا أنْ نُدرِك بدايةً أنّ الدراسات الاستشراقية ليست على قلبِ رجلٍ واحدٍ، فثمة اتجاهات ومناهج مختلفة بل ومتناقضة في الأُسس والنتائج؛ فالدراسات القرآنية الغربية اليوم -بتعبير فرِد دونر- تعيش «حالة من الفوضى» لافتقارها للإجماع العلمي على كثير من قضاياها المركزية[9]. وتعيد أنجليكا نويفرث ونيكولاي سيناي هذه «الفوضى» إلى جملة من الأسباب الموضوعية؛ منها: عدمُ وجود اتفاق في الرأي بين الباحثين الغربيين حول الكثير من القضايا المنهجية الأساسية، ووجود قدرٍ كبيرٍ من انعدام الثقة المتبادل بين العلماء أنفسهم، وضَعْفٌ في تدريب وتخريج الدارِسين المستقبلين للقرآن وهو ما يُشَكِّل -في رأي هذين الباحثَيْنِ- عائقًا خطيرًا أمام التقدّم العلمي في هذا الميدان[10].

وأمّا عن مقدار الإفادة المنهجية من الجهود الغربية في مجال دراسة المصاحف المخطوطة، فقد ذكرتُ شيئًا من ذلك في جواب سؤال سابق، وسأركّز هنا على إيراد أهم مجالات الإفادة:

- الدراسات الباليوغرافية والكوديكولوجية: تميل هذه الدراسات إلى الاهتمام بالمصاحف المخطوطة من حيث كونها آثارًا ماديَّة دون التعرّض للنصّ القرآني نفسه (أي الفيلولوجيا)؛ فتَدْرُس الخطوط وتطوّرها وتحاول تصنيفها إلى مجموعات اعتمادًا على الأساليب الخطيَّة المؤرّخة منها، وكذا تَدْرُس الصناعة الماديَّة للمخطوط القرآني كالأحبار والأصباغ والألوان، والكراريس والحياكة وأنماط التجليد (التسفير)، ودراسة وتحليل (خوارج النصّ/ حرود المتن) وكلّ ما يتعلّق بالتاريخ المادي والاجتماعي للنّسخة. ومقدار الإفادة من هذه الدراسات سيكون كبيرًا لأنها ستضيف لمعلوماتنا الشيء الكثير عن (التاريخ المادي) للمصاحف وطرائق صناعتها في العالم الإسلامي شرقًا وغربًا. ولا يخفى عليكم أنّ هذه المقاربة تستدعي النظر المباشر في المصاحف المخطوطة -وهو الأصل- وعدم الاقتصار على النُّسَخ المصورة.

- دراسة القراءات والرسم وعدّ الآي: وهذا اتجاه متقاطع مع الدراسات القرآنية، ظهر -حسَب تتبعي له- في تسعينيات القرن الماضي على يد ياسين دوتون، وهو أكاديمي مسلم، نشر مجموعة من المقالات التحليلية لبعض المصاحف المخطوطة التي ترقى للقرن الأول الهجري. يقوم دوتون في أبحاثه بتحليل الرّسم والقراءات وعدّ الآي في المصاحف ثم يقارن المعلومات التي جمعها من المخطوط القرآني بالكتب التراثية المصنّفة في هذه العلوم؛ فهو يجمع بين المنهج النقدي الغربي والمنهج التراثي الإسلامي. والنتائج التي توصّل إليها تعزّز كثيرًا من مصداقية الكتب التراثية.

- دراسات تاريخ الفنّ: يهتم فيه مؤرخو الفنّ بتحليل الزخارف والعناصر الفنية الموجودة في المصاحف؛ كفواصل الآي والخموس والعشور وفواتح وخواتيم السور والإطارات المزخرفة، ويسعَون لتأريخها اعتمادًا على دراسات التقاليد الفنية السابقة على الإسلام والنماذج المعمارية المؤرّخة والتي نشاهد آثارها في الجامع الكبير بصنعاء، والجامع الأموي بدمشق، وجامع عقبة بن نافع في القيروان. ويرجى مستقبلًا أن توظَّف دراسات تاريخ الفنّ لخدمة المصاحف المخطوطة.

- مشاريع رقمنة المصاحف: وهذا رافد آخرمهم، يتيح للدارِسين نسخًا رقمية عالية الجودة من المصاحف المخطوطة عبر شبكة الإنترنت. ومن أهم مشاريع رقمنة المصاحف اليوم مشروع «المدونة القرآنية» Corpus Coranicum الذي يتيح للدارِس صورًا ضوئية كاملة لمصاحف القرون الهجرية الأولى من مختلف مكتبات العالم. ويوجد أيضًا موقع (Gallica) التابع للمكتبة الوطنية الفرنسية، والذي يتيح لزوّاره تصفُّح مئات القِطَع المصحفية في شكل رقمي قابل للتحميل على جهاز الحاسوب. وأكثر المكتبات الأوروبية اليوم تُمَكِّن الداخل إليها من تصفح مخطوطاتها المصورة عبر خدمة (المكتبة الرقمية) (Digitial library).

والواقع أنّ دراسات المصاحف المخطوطة القديمة في الغرب يحمل لواءها اليوم فرانسوا ديروش، وهذا الرجل ينبغي التعامل مع كتاباته بجديَّة ويقظة لأنه مُطَّلِع على أكثر مجموعات المصاحف في العالم، فهو يُمثّل مرجعية للباحثين الغربيين في مجال النقل الكتابي للقرآن، حتى إنّ الاكاديمي الغربي/ وليد صالح في مراجعته النقدية اللاذعة لكتاب (ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من الرجال) لديفيد باورز، يقول: «ديروش هو الجرّة العملاقة التي نجاهد جميعًا -على قِصَرِ قامتنا- للوصول إلى مقابضها. وإذا كنت تنوي إعادة كتابة الخطوط العريضة للتاريخ الإسلامي المبكّر؛ فيجدر بسرديتك أن توافق الجدول الزمني الذي قدّمه ديروش؛ ذلك أن المخطوطات [القرآنية] ​التي سلّطَ عليها الضوء لا يمكن غَضّ الطّرف عنها»[11]. ومن نافلة القول الإشارة إلى أنّ ديروش لا ينتمي للاتجاه التنقيحي، بل يميل إلى طريقة شولر وموتزكي مع ضعفٍ في قراءة المصادر العربية، لكنه على كلّ حال يُمثل مرجعية للكُتّاب الغربيين في مجال الكوديكولوجيا، وهو مجال جديد على باحثينا في العالم العربي؛ فينبغي الاطلاع على أعماله.

س8: برزت في الآونة الأخيرة بدايات اهتمام بتعريب كتابات المستشرقين في الدراسات القرآنية، ومنها بطبيعة الحال كتاباتهم المتعلّقة بمخطوطات المصاحف، ما تقييمكم لهذا الحراك ورؤيتكم لنجاحه في تقريب الجهود الغربية وإِطْلاع الدارِسين العرب عليها؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

ثمة عائق لغوي يَحُول دون إِطْلاع كثير من الباحثين العرب على الإنتاج الاستشراقي في مجال المصاحف المخطوطة، برغم حرص هؤلاء الباحثين على التعرّف على هذا الإنتاج والاشتباك معه معرفيًّا، لكن عدم إتقان اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية = يعيق مساعي الاتصال العلمي بالباحثين الغربيين. وهنا تأتي الترجمة لتساعد في تقريب الفجوة بين الدارِسين، وقد اطّلعتُ مؤخّرًا على ما يقوم به (مركز تفسير للدراسات القرآنية) من نشر ترجمات عربية لكثير من الأوراق الأكاديمية الغربية -وكنتُ قد طالعتُ أصولها قديمًا- فألفيتُها نافعةً جدًّا، ورأيتُ تفاعل بعض الدارسين العرب معها، بل إني صرتُ أُحيل إلى هذه الترجمات لدقّتها وأمانتها في نقل الأفكار وسلامة عبارتها من الناحية اللغوية والفنية. وفي تصوّري، فإنّ المستشرقين يتابعون هذا الحِراك ويهتمون كثيرًا أن تصِلَ أفكارهم للقرّاء العرب، وإن كانوا في الأصل لا يكتبون لنا، وطريقتهم في البحث لا ترفع من شأن التراث بل تنظر إليه نظرة الأجنبي الغريب عنه، ولسنا في حاجة إلى متابعتهم في ذلك، فينبغي إذًا التنبّه لهذه القضية عند تقديم أبحاثهم للقارئ العربي.

المحور الثاني: دراسة مخطوطات المصاحف؛ أبرز الإشكالات:

س9: تثير صحة الاعتماد على مخطوطات المصاحف إشكالية لدى بعض الباحثين، في رأيكم كيف يمكن الاعتماد على المخطوط في ضوء هذا الإشكال؟ وهل كلّ قطعة خطِّية وصلتْ إلينا يُمكن الاعتماد عليها؟ وما أهم الضوابط التي ينبغي مراعاتها فيما يصحّ الاعتماد عليه وما لا يصح؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

أُثيرت هذه القضية بعد الإعلان عن «اكتشاف» أوراق من مصحف قديم، مكتوب على الرَّق، تحتفظ به مكتبة جامعة برمنجهام عام 2015م (أعاده الفحص الكربوني المشع إلى الفترة ما بين 568 و645 ميلادي؛ أي إلى القرن الأول الهجري). وقد بادر حينئذ بعض الباحثين المسلمين إلى وضع مجموعة من الضوابط المنهجية التي يرون ضرورة تفعيلها قبل التعويل على أيّ مصحف مخطوط، وهي[12]:

1. أن يغلب على الظنّ تقدُّمه، وبالأخصّ أن يكون من القرن الأول الهجري.

2. أن يكون كاتبه ممن عُرِف بالعلم بالرّسم والضبط وعلوم الأداء، أو أن يقرأه ويطّلع عليه عالمٌ بها.

3. أن يَظهر بعد دراسته وعرضه على كتب الرّسم والضبط صحّتُهُ فيهما.

وفي هذه «الضوابط» الموضوعة نظر (بالأخصّ الضابط الثاني والثالث)؛ ذلك أن العلماء التراثيين كانوا يتحرّون المصاحف التي يَغلب على ظنّهم أنها قديمة وصالحة للاحتجاج في باب الرّسم والهجاء، دون أن يشترطوا معرفة اسم كاتبها ودرجة علمه وضبطه؛ فإنّ أكثرها يكون خاليًا من ذِكْر ذلك. وأخشى إنْ طبّقنا هذه المعايير «الصارمة» أن يبطُلَ حينئذ الاحتجاج بجميع القِطَع المصحفية من القرون الهجرية الباكرة؛ لأنها لا تستجيب لهذه الشروط، فنحن لا نعلم مَن كتبها ولا أين كُتبت ولا متى كُتبت ولمن كُتبت ومَن عارضها. لكننا نضع تقديرات بناءً على المعلومات المتوفّرة لدينا، وإن هذه التقديرات قابلة للتعديل عند نشر أبحاث واكتشافات جديدة. فلا جزم ولا قطع في هذه المسائل.

فلكلّ مصحف مخطوط أهميته وقيمته العلمية والتاريخية والفنية، تبعًا للعصر الذي كُتِبَ فيه، سواء أكان من القرن الأول الهجري أو القرن الثامن الهجري. وإذا ثبت لنا أن هذا المصحف غير مزوّر أو مقلَّد، جاز للباحث أن يقيم دراسته عليه ويحتجّ به في المسائل التاريخية العلمية والفنية التي يروم إثباتها.

س10: كثير من المصاحف المخطوطة تخلو من تقييداتٍ للختام تبيّن لنا تواريخ كتابة هذه المخطوطات، ومع ذلك يثبت بعض الباحثين تواريخ تقديرية لهذه المصاحف، فكيف يمكن إثبات التواريخ في ضوء هذا الإشكال ثم البناء عليها بحثيًّا؟ وفي رأيكم، ما أهم الضوابط في التعامل مع هذا النوع من التأريخ؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

هذه الإشكالية ما زالتْ رهن البحث ولم يصل فيها الدارِسون إلى قولٍ فصل. ومدارها على المصاحف المخطوطة التي كُتبت قبل القرن الثالث الهجري؛ لأنها خلو من تلك التقييدات، فيتعذّر معرفة تواريخها بطريقة مباشرة. ومن بعد القرن الثاني الهجري، تبدأ المصاحف المؤرّخة بالظهور، وذلك بطريقين: نصوص الوقف (التحابيس)، وقيود الفراغ (حرود المتن). فمن ذلك مثلًا الرَّبعَة المشهورة التي أوقفها الوالي العباسي أماجور على مسجد بمدينة صُور سنة (262هـ)، ومصحف مجزأ صحّحه الخيقاني سنة (292هـ)، ومصحف فَضل (295هـ)، ومصحف حاضنة المعز بن باديس (410هـ)، وغيرها كثير. وأمّا مصاحف ما قبل القرن الثالث الهجري، فإنّ أكثرها يكون قِطَعًا، كراريس وأوراق متفرّقة ومتناثرة بين المجموعات، لا تتضمّن أيّة عباراتٍ أو قيودٍ ختامية يمكن الاستدلال بها على تاريخ كتابتها؛ فيلجأ الخبراء في علم الباليوغرافيا والكوديكولوجيا وتاريخ الفنون -يُضاف لهم أحيانًا خبراء الفيزياء- إلى وضع تواريخ تقديرية لهذه القِطَع اعتمادًا على الخبرة التراكمية والاطلاع المعمَّق على مجموعات المصاحف حول العالم. ومؤخّرًا صار هناك اطمئنان في الوسط العلمي الغربي من إرجاع قِطَعٍ قرآنية بعينها إلى القرن الأول الهجري بعد تعريضها للتحليل الكربوني المشع (كربون 14)، بل إنّ النتائج تكون -في كثير من الأحيان- مصدّقة للتحليل الباليوغرافي (أي تحليل أشكال الحروف).

وعلى هذا الأساس لا يجوز للباحث العلمي أن يقطَع بتاريخ النُّسْخة القرآنية عند غياب حرد المتن الذي يُذْكَر فيه تاريخ النَّسخ، وإنما يكتفي بوضع تواريخ تقديرية استنادًا إلى خبرته بعلم الخطوط إن كان من أهل المعرفة والنّظر، أو يقلد عالمًا يثق في علمه وخبرته ودرايته بمخطوطات المصاحف.

س11: يُدّعى في بعض مخطوطات المصاحف نسبتها لمعيَّنِين؛ فيقال هذا مصحف عثمان وهذا مصحف عليّ وغير ذلك، ما تقييمكم لهذه النسبة؟ وهل يصح منها شيء برأيكم؟ وهل ثَمّ ضوابط ومعايير منهجية يمكن من خلالها التثبّت من هذه النسبة والحُكم عليها صحّةً وخطأً؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

هذه قضية مشهورة في عالم المصاحف. يقول الأستاذ طه الولي: «إنّ الناس من فرط حرصهم على التشرّف بنيل هذا الأثر العظيم يتوهّمون أنّ كلّ مصحف مكتوب بالخطّ الكوفي على الرّق لا بدّ وأن يكون هو النّسخة نفسها التي كُتبت في أيام عثمان ولو لم تكن في الواقع كذلك».

والملاحظة التي يذكرها (الولي) دقيقة؛ فلا نعرف مصحفًا مكتوبًا بالخط الحجازي -وهو أقدم من الكوفي- منسوبًا لأحد الخلفاء أو الأئمة أو التابعين.

ولهذه النّسب أشكال وأنواع مختلفة، أذكرها لكم إيجازًا:

- النِّسَب الشفوية: تكون هذا النسبة جزءًا من سردية لتاريخ شعبي متوارث عبر الأجيال، ولا تكون بالضرورة مثبتة على المصحف نفسه، ومثال ذلك: المصحف المنسوب لعثمان بن عفان في مدينة طشقند بأوزباكستان، فإنّ له قصةً شعبية متوارثة تختلط فيها الحقيقة بالخيال، يضاف لها عنصر (دم) الخليفة الذي قُتِلَ وهو يقرأ في هذه النّسخة. وقد رأينا بعض الجماعات الصوفية في آسيا الوسطى ترتبط عاطفيًّا بمصحف الخليفة، فيتباركون بلمسه وتقبيله والقراءة فيه.

- النسبة بنفس خطّ المصحف: تكون هذه النسبة محاكاةً للخطّ الكوفي الذي كُتب به المصحف في القرن الثاني أو الثالث الهجري، وقد تكون بخطّ الناسخ أو غيره، وبعضها يأتي في صورة (قيد فراغ) يوضع في الورقة الأخيرة من المصحف: «كتبه عثمان بن عفان»، «كتبه عليّ بن أبي طالب»... وأحيانًا تكون موضوعة في صفحة مزخرفة كما في مصحف متحف الآثار التركية والإسلامية برقم (457)، حيث نقرأ فيه كتابةً بخطّ كوفي: «كتبه عثمان بن عفان في سنة ثلاثين».

- النسبة بخطّ متأخّر: بعض نُسَخ المصاحف تكون مكتوبة بخط يرقى للقرن الرابع أو الخامس الهجري، لكنّك واجد فيها (قيود فراغ) تنسبها لعَلَم من أعلام القرن الأول الهجري! وأُعطي هنا مثالًا بمصحف تحتفظ به دار الكتب المصرية مكتوب بالقلم الكوفي المشرقي، جاء في آخره: «هذا الخطّ خطّ مولانا وسيدنا الإمام الصادق عن الله الأمين جعفر بن الإمام الباقر لعلوم الدين...». والدعاية العقائدية واضحة من وراء هذه النسبة بغرض رفع قيمتها والتكسّب من ورائها عند مَن يجهل ذلك.

- اختلاق الدم: اشتهر في كتب التاريخ أنّ الخليفة عثمان بن عفان لمّا قُتل في داره، سَقَطَتْ قطرات مِن دمهِ على المصحف على قوله: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾[البقرة: 137] . وقد صار الدّم من علامات ثبوت النِّسبة إلى الخليفة عثمان! والواقع أن بعض المزوِّرين يعمد إلى نضح الدّم، أو لعلّه حبر بلون أحمر، على مواضع من المصحف ليُظَنّ أنه مصحف الخليفة عثمان، وقد أشار لهذه القضية الأستاذ محمد زاهد الكوثري: «وكثير من الماكِرين يجترئون على تلطيخ بعض المصاحف القديمة بالدّم، ليُظنّ أنّه كان بيد عثمان حينما قُتل. وكم من مصاحف مُلطّخة بالدم في خزانات الكتب».

وهل يَصِح من هذه النِّسَب شيء؟ يميل أكثر الدارسين المسلمين والمستشرقين إلى عدم قبول هذه النِّسَب لعدم أصالتها، ومن الدلائل التي أضعها بين أيديكم لاختبار هذه النسبة:

1- الدليل الخارجي: لم يُعْرَف عن الخليفة عثمان بن عفان أو الإمام عليّ بن أبي طالب كتابتهما للمصاحف، بل كانَا كغيرهما من الناس يستكتبان من عُرِفَ بجودة الخط والإتقان. وقد أشار ابن كثير قديمًا إلى هذه القضية، فقال في معرض حديثه عن المصاحف العثمانية: «يُقال لهذه المصاحفِ: الأئمَّةُ. وليستْ كلُّها بخَطِّ عثمان، بل ولا واحِدٌ منها، وإنَّما هي بخَطِّ زَيْدِ بن ثابتٍ، وإنَّما يُقالُ لَها: المَصاحِفُ العُثْمانِيَّةُ؛ نسبةً إلى أمْرِهِ وزَمانِهِ وإمارَتِهِ». وكان الإمام عليّ يمرّ على نُسَّاخ المصاحف في الكوفة فيُعجبه خطُّهم ويقول لهم: أَجِلْ قَلَمَك، هكذا نوّروا ما نَوَّر الله.

2- الدليل الداخلي: جميع المصاحف المنسوبة للخلفاء مكتوبة بخطّ كوفي يابس، مستقيم الزوايا، وقد ثبت لدينا اليوم أنّ المصاحف الأولى كانت مكتوبة بالخطّ المكي والمدني (اصطلاحًا الحجازي) وهو خطّ لين، غير منتظم، في ألِفاته تعويج إلى يمنة اليد وأعلى الأصابع وفي شكله انضجاع يسير، كما وصفه النديم في كتابه (الفهرست). وإذا كانت هذه المصاحف الكوفية ترقى للقرن الثاني أو الثالث الهجري تقديرًا؛ فكيف يستقيم إعادتها إلى القرن الأول اعتمادًا على (قيود الفراغ) تلك؟

3- تعددية المصاحف: ثمة عشرات المصاحف المنسوبة إلى الخليفة عثمان بن عفان في المكتبات العربية والأوربية، والمصحف العثماني لم يكن إلا واحدًا، فكيف يصح عقلًا أن يكون عثمان قد كَتب كلّ النُّسَخ المنسوبة له؟ وقد أشار السمهودي (ت:911هـ) وغيرُه إلى ذلك، يقول: «والمصحف الإمام الذي قُتل عثمان -رضي الله عنه- وهو بين يديه لم يكن إلا واحدًا، والذي يظهر أنّ بعضهم وضع خَلُوقًا على تلك الآية تشبيهًا بالمصحف الإمام».

وفي الختام أنبّه إلى أن عدم صحة نسبة تلك المصاحف إلى الخلفاء كعثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب = لا يُلغِي قيمتها التاريخية والعلمية والفنية، فلا تلازم بين الأمرين.

س12: يرى بعض الدارِسين ضعف المعلومات الموجودة في فهارس مخطوطات المصاحف في الكتابات، فهل تتفقون مع هذه الملحوظة؟ وما أهم ما يحتاجه الدّارِس لهذه المصاحف من عناصر توصيفية يحب الدّارس لهذه المصاحف أن يجدها في قوائم الفهارس؟

أ/ أحمد وسام شاكر:

هذا صحيح إجمالًا؛ الفهارس العربية المطبوعة في القرن العشرين تعاني ضعفًا وفقرًا شديدًا في مادة المصاحف المخطوطة، ولا أُبالغ إن قلتُ إنّ فهارسَ المكتبات الأوروبية المصنّفة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين = أعظمُ فائدةً منها في استعمالها المنهج الوصفي والتحليلي وكمية المعلومات التي يجدها الدّارس لنُسَخ المصاحف المخطوطة وخصائص وفرادة كلّ نُسخَة، ولا جَرَم لأنّ مَن صنعوا تلك الفهارس كانوا من كبار علماء المشرقيّات في زمنهم. ولا يُفهم من كلامي أنها مبرّأة من الأخطاء والعيوب!

ومِن أبرزِ المشاكل التي يعانيها الدّارس مع هذه الفهارس:

1- عدم تضمين المصاحف في الفهرسة: بعض الفهارس المطبوعة لا تُدخِل المصاحف أصلًا في جملة المخطوطات العربية المفهرسة! وسبب ذلك فيما يظهر لي أنهم رأوا أن لا حاجة لذِكْر المصاحف فهي لا تَدْخُل -في تصوّرهم- في المخطوطات التي يُرجى تحقيقها؛ فمَن هذا الباحث الذي سيحقّق مُصحفًا مخطوطًا؟! وأذكر أنّ العلّامة الكبير أحمد تيمور باشا -رحمه الله- ألّف رسالة نفيسة عام 1919 سمّاها (نوادر المخطوطات وأماكن وجودها)، فما ذكر شيئًا من مخطوطات المصاحف.

2- فَقْرٌ شديد في المعلومات: المطَّلِع على هذه الفهارس لا يكاد يخرج بفائدة علمية منها اللهم إلا معرفته بوجود عدد من المصاحف القديمة المكتوبة على الرَّق بالخطّ الكوفي، أوراقها كذا، مقاسها كذا، مسطرتها كذا، وتاريخ كتابتها كذا. فهذا العمل الأوليّ أشبه بـ(بطاقات الفهرسة) لا المنتج النهائي لعملية الفهرسة بمعناها الشامل، فهي في المحصلة لا تُسْمِن ولا تُغني من جوع من حيث إعطاء الدارس تصورًا كاملًا عن النّسخة وخصائصها وخطّها وزخرفتها وتجليدها والقِطَع المتفرّقة منها في المكتبات الأخرى.

3- الإيجاز المخلّ: والملاحَظ أنّ كثيرًا من الفهارس لا يَذكر إلا النزرَ اليسير من خصائص وسمات النّسخة القرآنية، فتكتفي مثلًا بالقول إنها مكتوبة بالخطّ الكوفي.. وهذا مصطلح عامّ جدًّا، يلزم أن يُتْبَع بذِكْر خصائص الحروف وطريقة رسمها، وإلا وقع الباحث في حيص بيص، لا يدري ما فرق هذه النُّسخة عن أختها والكلّ مكتوب بـ(الخط الكوفي). والوقت ثمين، وحريٌّ بالفهرس أن يكون عتبةَ الباحث إلى المخطوط، يُسهِّل عليه المهمّة ولا يُعقِّدها.

 4- الغلط في نسبة المصاحف: كثير من الفهارس لا تُفرّق بين تاريخ النُّسخة الفعلي وبين القيود أو الإضافات اللاحقة عليها، فإنْ وَجَد المفهرِس مصحفًا فيه عبارة تنسبه لأحد الخلفاء أو التابعين؛ أثبت النسبة والتاريخ دون تحقيق، فيكتب في الفهرس: مصحف بخطّ الحسن البصري، مصحف بخط عقبة بن نافع، مصحف بخط الإمام جعفر الصادق، مصحف بخط الإمام عثمان... وهلمّ جرًّا. والصحيح أن يميِّز المفهرِس بين تاريخ النسخة نفسها وما أُضيف إليها من قيود في أزمنة لاحقة، ويكون ذلك بمضاهاة الخطوط ومعرفة عادات وتقاليد نُسَّاخ المصاحِف.

والذي أراه هو ضرورة تجاوز أكثر الفهارس العربية القديمة -وقد ذكرنا شيئًا يسيرًا من عيوبها- والعمل على بناء فهرسة جديدة للمصاحف المخطوطة، على أساس علمي ومنهجي سليم، وأن يتولى هذه المهمة الجليلة ثُلّة من الخبراء في مجالات الفهرسة وعلمِ المخطوطات وعلم المصاحف.

 


[1] أصل العبارة في: تحقيق النصوص ونشرها، عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط7، 1998م، ص8.

[2] H. Motzki, “The Collection of the Qur'an A Reconsideration of Western Views in Light of Recent Methodological Developments,” Der Islam, vol. 78, 2002, p. 31.

[والاقتباس المباشر من الترجمة العربية للمقال التي أصدرها مركز تفسير للدراسات القرآنية، ص69].

[3] G. Schoeler, “The Codification of the Qurʾan: A Comment on the Hypotheses of Burton and Wansbrough,” The Qurʾān in Context: Historical and Literary Investigations into the Qurʾānic Milieu, Brill, 2010, p. 788. See also, H. Motzki, “Alternative Accounts of the Qur an’s Formation”, The Camrbrdige Companion to the Qur’an, 2006, p. 62.

[4] M. Marx and J. J. Tobias, "Radiocarbon (14C) Dating of Qurʾān Manuscripts.” Qurʾān Quotations Preserved on Papyrus Documents, 7th–10th Centuries, Brill, 2019, p. 190.

[5] F. Deroche, Qur’ans of the Umayyads, Brill, 2013, p. 14. And more recently, F. Deroche, “The Manuscript and Archaeological Traditions: Physical Evidence,” The Oxford Handbook to Qur’anic Studies, Oxford University Press, 2019, p. 178.

[6] راجع في ذلك مثلًا كتاب: ظواهر كتابية في مصاحف مخطوطة: دراسة ومعجم، دار الغوثاني للدراسات القرآنية، ط2، 2016م.

[7] للوقوف على تفاصيل مشروع الحواشي النقدية الذي تبنّته أكاديمية العلوم البافارية في عشرينيات القرن الماضي، ينظر: المستشرق الألماني بيرجشتراسر وآثاره في الدراسات القرآنية، ناصر المنيع، مجلة جامعة الملك سعود، مج22، يناير 2010م، (22/ 127- 166). وبتوسّع في: الحواشي النقدية للقرآن الكريم في فجر مشروع الكوربيس كورانيكوم، عبد الرزاق بن هرماس، ضمن: القرآن الكريم من التنزيل إلى التدوين 1، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2018م، ص507- 542.

[8] كتاب المصاحف لابن أبي داود، صحّحه ووقف على طبعه الدكتور/ آرثر جيفري، مطبعة الرحمانية بمصر، ط1، 1936م، ص3- 4.

[9] F. Donner, “The Qur’an in Recent Scholarship: Challenges and Desirata”. The Qur’an in Historical Context, Routledge, 2008, p. 29.

[10] A. Neuwirth, N. Sinai and M. Marx, The Qurʾān in Context, Brill, 2010, p.1.

[11] W. Salih, Review Article: Muhammad is Not the Father of Any of Your Men: The Making of the Last Prophet, by David S. Powers, Comparative Islamic Studies, 2011, 6(1-2), p. 251.

[12] راجع: مقالة في المصاحف المخطوطة، مساعد الطيار، [مقال منشور على ملتقى أهل التفسير بتاريخ 11/ 10]. وراجع في نفس السياق كلمة صوتية مسجلة للشيخ أيمن رشدي سويد بعنوان: (كلمة حول مخطوطات القرآن الكريم في برمنجهام) [منشور على يوتيوب بتاريخ 24/ 7/ 2015]. وانظر في مناقشة هذه الآراء: المصاحف المخطوطة جوانب العناية بها والموقف من دراستها، غانم قدوري الحمد، ضمن: علم المصاحف، جمعية المحافظة على القرآن الكريم، ط1، 2018م، ص200- 204.

ضيف الحوار :

أحمد وسام شاكر

باحث ومترجم، مهتم بدراسة المخطوطات القرآنية المبكرة، وله عدد من المقالات والأبحاث والترجمات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))