منطلقات دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف؛ تحرير وتأصيل (3-3)

ثلاثية تناقش منطلقات بحث توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف، وبعد أن دلَّلت المقالتان السابقتان على صحة المنطلق الاستدلالي على بيان المعاني نظريًّا وتطبيقيًّا، تأتي هذه المقالة كحلقة ختامية تواصل ذلك من خلال استعمال ذلكم المنطلق في بحث أسباب حضور الإسرائيليات لدى السلف، وبيان أثره في فهم ذلك الحضور ومجاوزة الإشكالات التي تثيرها معالجته تبعًا للمنطلق النقلي الأكثر شيوعًا.

تمهيد:

  قرَّرنا قبلُ أنّ منطلق دراسة توظيف المرويات الإسرائيلية في تفسير السلف وما اتصل بذات مفهومه في التفسير هو المنطلق الاستدلالي بهذه المرويات على تقرير المعاني وتحصيلها، وقد اجتهدنا في مقالتنا الأولى[1] في الاستدلال لصحة هذا المنطلق من خلال اتّساقه وحيثية فنّ التفسير الذي جرى حصول التوظيف في رحابه، وكذلك قمنا في مقالتنا الثانية[2] بمتابعة الاستدلال له عبر تسليط الضوء على أثره التطبيقي في وضع البحث في دراسة التوظيف على الطريق السويّ، وتجاوز الإشكالات الحاصلة في دراسته من خلال المنطلق النقلي الأكثر حضورًا وهيمنة في سياق بحث التوظيف، وذلك من خلال التطبيق العملي على تأمّل جوانب التوظيف وتحرير جدواه وقيمته في التفسير. وفي هذه المقالة نتابع كذلك استدلالنا التطبيقي لبيان نجاعة هذا المنطلق من خلال بيان أثره في درس مسألة لها أهمية كبيرة، وهي أسباب حصول توظيف الإسرائيليات في تفاسير السلف، وبيانه كالتالي:

المرويات الإسرائيلية وأسباب توظيفها في تفسير السلف؛ نظرات عامة:

لعلّ من الأمور البدهية في العلوم أن يكون لتوظيف بعض الموارد في ساحاتها -لا سيما عند مؤسِّسيها وتتابعهم على ذلك- أسبابٌ ودوافع تتصل أبرز ما تتصل بالفنّ ذاته الذي قاموا بتوظيف هذه الموارد فيه، ولما كانت المرويات الإسرائيلية جرى توظيفها في تفسير السلف فإن من البداهة بمكان أن يكون بحث الدواعي والنظر في الأسباب التي أفضت لذلكم التوظيف مرتبط أصالة بالتفسير ذاته ودائر حوله؛ إِذْ هو مجال التوظيف ودائرة وقوعه، غير أن الناظر في منتوج الدرس في بحث الأسباب التي أفضت بمفسري السلف إلى توظيف الإسرائيليات في التفسير يلحظ أنه يدور عادة على التفسير الذي طرحه ابن خلدون في مقدمته، حيث قال وهو بصدد الكلام على التفسير النقلي المسند للآثار المنقولة عن السلف: «...قد جمع المتقدمون في ذلك [يعني: التفسير النقلي] وأوعوا، إلّا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغَثّ والسمين، والمقبول والمردود؛ والسبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأُميَّة، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البَشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود؛ فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومَنْ تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب، ومعظمهم من (حِمْيَر) الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلّق له بالأحكام الشرعية التى يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفى أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيُتحرَّى فيها الصحة التى يجب بها العمل، وتساهل المفسِّرون في مثل ذلك، وملؤوا الكتب بهذه المنقولات، وأصلها -كما قلنا- عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بَعُد صِيتهم، وعظمت أقدارهم؛ لِمَا كانوا عليه من المقامات في الدّين والمِلَّة، فـتُلُقِّيَت بالقبول من يومئذ...»[3].

فهذا التفسير الخلدوني لأسباب حضور الإسرائيليات في التفسير لدى الأوائل له حضور شائع جدًّا، حيث تنقله عادةً الدراسات التي تقارب هذا التوظيف وتدرس أسبابه كما هو معلوم لمن يطالعها[4].

والناظر في التفسير الخلدوني يجده يُرْجِع إجمالًا أسباب حضور الإسرائيليات لـمُسْلِمة أهل الكتاب ممن سَكنوا البادية مع العرب وليس لديهم تحقيق في معرفة صحة ما يروون، وأنهم بقوا على ما كان عندهم من الروايات بعد إسلامهم لا سيما وأنها ليست مما يتصل بالأحكام الشرعية، وقام الناس بتلقِّي هذه الروايات عنهم بعد إسلامهم -خاصّة وأنهم صارت لهم بإسلامهم مكانة سامية- وتساهلوا في نقلها لذات السبب الذي جعل مُسْلِمة أهل الكتاب يحتفظون بها أولًا؛ وهي عدم اتصالها بالأحكام الشرعية.

إنّ سبب حضور المرويات الإسرائيلية في بدايات المجتمع المسلم -ومن بينها حضورها لدى المفسرين الأوائل وفقًا لابن خلدون- هو سدّ بعض الحاجات النفسية؛ لِما توفره مادة المرويات من معلومات عن أمور تتشوّف لها النفوس وتتطلع لمعرفتها؛ كبدء الخليقة...إلخ[5].

وبغضّ النظر عن مناقشة السبب الخلدوني في ذاته مما ليس غرضًا لنا في هذا المقام، إلا أن الناظر في تعليله لهذا الحضور لدى أرباب التفسير يستغربه بل ويستشكله؛ كونه لا يطرح أسبابًا يظهر منها اختصاص لفنّ التفسير في توظيف رجاله لهذه المرويات، خاصّة وأنّ هذا التوظيف -كما قلنا- وقع من مؤسِّسي العلم وتتابعوا عليه ما يوجب له أسبابًا خاصّة كما هو المعهود في أنساق الفنون، ولكنه يجنح لتعميم تحليله لبقاء استمرار المرويات وتداولها في المجتمع على مدونات التفسير بصورة متعسفة وفيها عدم اعتبارٍ لحيثية التفسير، كما أن أسبابه التي يطرحها تبدو ظاهرة البَون جدًّا في اعتلاقها بالتفسير ومشاغله.

إلا أننا حين نتبصر ثانية أنّ مثل هذا التحليل ينظر لتوظيف المرويات في التفسير من خلال المنطلق النقلي -والواضح جدًّا في كلام ابن خلدون[6]- لم نستغرب نتائجه تلك التي ليست فقط تُبايِن واقع العلوم بل وتبدو مبتوتة الصلة بالتفسير أصلًا؛ ذلك أنّ تصوّر أنّ المفسِّر مجرد راوية وناقل للمرويات يقوم بإلغاء حيثية فنّ التفسير أصلًا؛ كونه يجعل المشتغل بإيراد أحد الموارد فيه لا يعدو محض ناقل لها في فضاء مفتوح لا يحدُّه شيء ولا يلزمه لازم من دائرة الفنّ الذي ينقل في ساحته، وبالتالي فإنّ إسقاط التحليلات المجتمعية العامة على اشتغاله وتوظيفه هو النتيجة المتوقعة؛ إِذْ لا خصوصية لهذا الاشتغال أصلًا تنبع من حيثية المجال الذي وقع فيه وتوجب تغايرًا يجب اعتباره في تعامله مع هذه المرويات عن غيره.

على أننا متى نظرنا لأسباب حضور المرويات الإسرائيلية في تفسير السلف من خلال المنطلق الاستدلالي الذي قررنا فإن الأمر يبدو مختلفًا جدًّا؛ فتأمُّل أسباب علاقة الإسرائيليات بالتفسير في ضوء المنطلق الاستدلالي ومحاولة فهم الأسباب العلميّة والمعرفية التي أدت لاستحضار هذه المرويات وتوظيفها بصورة كثيفة ومتتابعة يجعل النظر يصوَّب إجمالًا على التفسير ذاته وكيفيات ممارسته وتعاطيه لدى السلف والأهداف التي يتوسلها وطبيعة الأدوات الموظّفة في ساحته وعلقتها بتلكم الأغراض وتحقيقها، وهو ما يضع البحث على المسار المنطقي والطبيعي في فهم أسباب التوظيف ويهيئ له التربة السليمة لإنبات النتائج الأكثر علمية.

وقبل أن يمضي بنا الحديث في هذه النقطة، ومحاولة المشاركة بتحليل عملي تطبيقي لهذا التوظيف في ضوء استحضارنا للمنطلق الاستدلالي تجدر الإشارة إلى أن حضور المرويات في تفسير السلف يعود بنا بطبيعة الحال في فهم أسباب استحضار هذه المرويات في ساحات تفاسيرهم بصورة ظاهرة وكبيرة للنظر في المراحل الأولى للتفسير؛ إِذْ فهم حضور أحد أدوات التفسير كثافة وضعفًا في تلك المرحلة يستلزم النظر في البدايات التأسيسية لتكوّن فنّ التفسير وتخلّقه وتأمل دوافعها وطبيعة المشاغل والهموم المعرفية التي سيطرت عليها، وكذلك صلة هذه الأداة بذلك كله وأثرها في تحصيله؛ وذلك لأن المعرفة الإنسانية ذاتها إذا كانت «تفقد طابعها متى نسي الناس الظروف التي نشأت في أحضانها والمسائل التي تولت الجواب عليها والوظيفة التي وجدت من أجلها»[7]، فإن الأدوات التي أنتجت هذه المعرفة يكون شأنها كذلك وأشد.

وفيما يلي نحاول أن نسلّط الضوء على التفسير في حقبة السلف، حتى نحاول توسّل فهم أسباب استحضار المرويات الإسرائيلية في ساحاته:

التفسير عند السلف؛ نظرة في المشاغل ومستلزماتها:

كان مشغل التفسير عند السلف كما بينّا تدور رحاه على كشف مدلولات التراكيب وليس التوسّع فيما وراء ذلكم من أغراض كما بينّا قبلُ، وغير خافٍ أن تفسير أحد النصوص على هذا النحو ومحاولة التبصّر بمدلولات ألفاظه وتراكيبه يقتضي من بين ما يقتضي أن يجيل المرء نظره أولًا في هذا النصّ بعمق ليفحصه فحصًا دقيقًا، ثم يوظّف ثانيًا من الأدوات ما يوظّف -بحسب طبيعة المقطع الذي يفسره من النصّ- ما يعينه على توسّل كشف المدلول وتقريره، فإذا كان النصّ مثلًا يعرض لأمور لها سابق وجود عليه، فإن المرء لكي يحسن فهمها وتفسير مدلولاتها على نحوٍ محرّرٍ فإنّ عليه أن يبحث في هذه المجالات والموضوعات التي ذكرها النصّ، وكلما ازداد توسُّعُه في البحث في تلك المجالات عظُم فهمه لمرامي النصّ فيها وتقررت عنده معانيه وانفكت له مستغلقاته وانفتحت أمامه محتملاته ووجوه المعاني المتنوعة التي يمكن أن يفهم في ضوئها[8]، ثم يعود للنصّ ثانية متأملًا أيّ المعاني أوفق به تبعًا لقرائن يلحظها فيه؛ من دلالة اللفظة والسياق وجمع المتناظرات وغير ذلك[9]، ثم هو في كلّ ذلك يستحضر فيما يتقرّر لديه من معان من مادة المجالات التي توسّع في النظر فيها ما يدلّل على أصول هذه المعاني التي لحظها.

وهو أمر مشاهد وبيِّن في واقعنا، فلو أن الإنسان وقع على كتاب نفيس مقولاته شديدة التركيز، فإنه قد لا يتيسر له فهم بعض نصوصه لا سيما التي يشتد التركيز فيها والإيجاز في إيرادها، أو يستوعب بعض معانيه بصورة سطحية بسيطة، وقد لا يتيسر له فكّ الإشارات الخفية والمرامي البعيدة التي تحتاج لكدٍّ ذهني كبير في استلماحها، فإذا حاول القراءة والنظر في هذه المناحي التي طرقها النصّ في مؤلفاتها الأخرى، فإنه يزداد بصرًا بالنصّ؛ فينفك له الموجز منه وتظهر له دلالاته وتتقرّر معانيه، بل إنه كلّما توسع وقوي علمه بهذه المناحي تفتحت له وجوه أكثر في فهم النصّ وانفسحت له فيه احتمالات عديدة للنظر.

 ولا شك أنّ المرء هاهنا متى تصدى لشرح الكتاب فإن الأمر يوجب عليه عند ذكره لأحد المعاني التي يريد حمل أحد مواطن نصّ الكتاب عليها وتوجيه دلالاته إليها أن يقوم بذكر مستنده ودليله، وهو ما يدعوه من بين ما يدعوه لضرورة استحضار نصوص ونقول من واقع المناحي المفصّلة التي يمّم وجهه صوب مادتها، كما أنه متى كثرت وتعدّدت بين يديه الاحتمالات في المعاني، والتي يمكن أن يحمل النصّ عليها، ولم يجد في قرائن النصّ ذاته ما يمنع، فإنه قد يرجّح أحد المعاني بواقع كثرة وروده في هذه المجالات المفصلة التي قرأ فيها، وغير ذلك من القرائن التي تلوح.

وإذا تأملنا عملية التبيين على هذا النحو ونظرنا لتوظيف الإسرائيليات من خلال المنطلق الاستدلالي بها على تقرير المعاني -أمكننا بوضوح لحظ أسباب استحضار المرويات الإسرائيلية في تفسير السلف على نحوٍ محرّرٍ؛ فالسلف كانوا أمام نصّ بِكر قد أورد الكثير والكثير من القصص، إلا أن إيراده لهذا القصص اتّسم بالإيجاز -كما هو معلوم- والاختصار وطيّ العديد من التفاصيل في عبارات موجزة مركزة، ولما كان التفصيل أدعى لفكّ دلالات الموجز، وترسيخ معانيه وتبيُّن لطيف إشاراته، وكذلك أَعْوَن على ترشيح محتملاته والموازنة بينها -كان رجوع السلف لهذه المادة المفصّلة للقصص القرآني والتي تمثَّلَت في المرويات الإسرائيلية أمرًا ضروريًّا ومهمًّا جدًّا لتبيين القرآن الكريم.

فمن خلال اللجوء لهذه المرويات وتوظيفها تمكنوا من فكّ دلالات الآيات التي قد يغمض معناها بالكلية كما بينّا في تفسير جواب السامري لموسى -عليه السلام- في سورة طه، حيث ظهر معنا كيف أنّ النصّ القرآني عرَض جواب السامري بطريقة شديدة التركيز والإجمال أدت لوجود قدر ظاهر من الغموض في تحصيل معنى الجواب وتبيُّن مراداته بوضوح، وكيف استطاع المفسرون عبر المرويات الإسرائيلية التي تعرضت لتفصيل القصة والتوسع في أمرها أن يتمكنوا من تحصيل المعنى على وجهٍ محرّرٍ.

وكذلك أفادوا منها في تقرير المعاني وترسيخها؛ وقد مرَّ بنا كيف كان توظيف الإسرائيليات مؤكدًا لمعنى المقاسمة الذي أشار إليه القرآن في قصة آدم وإبليس ومرسخًا له، ولهذا استحضر السلف المرويات لدى كلامهم عليه، ولمّا صار دخول الشيطان للجنة لازمًا بعد طردِه منها أضحى هناك مجال لبيان كيفية ذلك حتى يكتمل التصور في الفهم والتفسير؛ ومن ثم نقلوا من المرويات الإسرائيلية بعض صور الكيفيات التي لا تتعارض مع القرآن في شيء والقول بها ممكن، بل إنهم رجحوا منها ما تكاثر حضوره في المرويات؛ كون تتابع المرويات على أمر أدعى لقبوله عن غيره؛ ولهذا تجد الطبري رجّح ما رجحوه تبعًا لكثرة القائلين به.

وكذلك أفاد السلف من المرويات الإسرائيلية في ترشيح المحتملات التفسيرية وتكثيرها؛ ففي قول ابن زيد بأن لفظة: {أُلُوف} بمعنى: (الائتلاف)، تلاحظ أن المعنى اللغوي للّفظة لا يأباه[10]، إلا أنه قد كان مجرد فرض كما بينّا؛ إذ الأمر يتعلّق بقصة، ولا شك أن وجود رواية تدلّل على المعنى الذي تحتمله اللغة يدعم وجود الاحتمال ويُعِين على ترشيحه.

على أننا لو تأملنا انطلاقة التفسير الأُولى لربما قلنا بأنّ النظر في هذه المرويات هو مَن أعان على لحظ الاحتمال أصلًا، وأنه لمّا لم يكن هناك ما يعارضه من ظهور دلالات الألفاظ أو السياق...إلخ، أقرَّه المفسِّر وأتى بالرواية دليلًا على المعنى الذي قال به[11].

إننا لو استحضرنا ذلك لقلنا بأن لجوء السلف للمرويات الإسرائيلية ونظرهم فيها كثّر الاحتمالات بين أيديهم وعدّد زوايا فهمهم للنصّ، وأعانهم على فكّ إشاراته والانتباه لها، خاصة وأنهم قبل كلّ شيء أرباب اللغة التي نزل بها النصّ، ففي عودهم للتفاصيل تتفتّق معاني النصّ عندهم ويميزون منها ما قد يتفق مع النصّ تبعًا للسياق ومرامي الألفاظ في القرآن وما ليس كذلك، وأنّ ذلك أثرى مادة التفسير بقوة عندهم، وهو أمر يلحظه بوضوح كلّ من يطالع تفاسيرهم للقصص القرآني خاصّة.

وهكذا يظهر لنا بجلاء كيف أنّ تأمُّل أسباب توظيف الإسرائيليات في تفاسير السلف من خلال المنطلق الاستدلالي يجعل البحث يتبصّر من جانب بأنّ هذا التوظيف يرجع لأسباب علمية ومعرفية تتّصل بمشاغل التفسير ذاته وما تيسره هذه المرويات من تحقيقٍ لها وإسهامٍ كبير في تحصيلها بصورة تجعلها أحد أدوات التفسير البارزة، ولا يضل وجهته فيقوم بإسقاط وسحب تعليلات اجتماعية ونفسية عامة على التفسير؛ فيأتي من جهة بما يخالف أنساق الفنون والتعامل مع فهم مواردها، ومن جهة أخرى يطرح عللًا لا تبدو وجيهة في ذاتها بل تكون منبتة الصلة بالمجال ذاته. بل إننا نقول أيضًا إن هذه التعليلات ذاتها مما تحتاج لمراجعة في ذاتها؛ كونها ربما لم تكن لتوجد على هذا النحو لو لم يقع الخلل في تصور صلة المرويات بالتفسير، لا سيما وأن التفسير هو أحد الميادين الرئيسة الذي جُلِبَت في ميادينه هذه المرويات بكثرة بالغة.

كما أن هذا المنطلق وتوظيفه في الفهم يفتح آفاقًا أرحب لِلَحْظ ما لهذه المرويات من خصوصية في تاريخ التفسير وما نتج عنها من إثراء لساحته ربما لم تتوفر لغيرها من بقية الأدوات، لا سيما في الآيات المتعلّقة بالقصص الإسرائيلي؛ ذلك أن هذا المنطلق:

- يجعل الناظر يشتبك مع فعل التبيين الذي دار عليه التفسير عند السلف كما بينّا، ويهتم بالبحث في طبيعة أغراضه ومستلزماته وما يفرضه من أدوات على من يقوم به، وبالتالي يكون أقدر على فهم أسباب حضور هذه الأدوات وما لها من خصوصية، ولا يحجب عن تأمل التبيين ذاته ومستلزماته بسبب الضعف الشديد الذي انتابه في حركة التفسير بعد السلف وكثرة الاهتمام بما وراءه من سرد اللطائف واستخراج الأحكام...إلخ.

- كذلك يدفعه لتأمُّل حركة إنتاج المعاني وتقريرها وكيفيات بنائها وتحريرها، وبالتالي يكون أفهم للأدوات التي أسهمت فيها وتبيّن طبيعة أوزانها النوعية، ولا يحجبه ظهور المعاني والاحتمالات التي شققها مفسرو السلف عن طريق بعض الأدوات وشهرتها بعد ذلك من النص نفسه في التفاسير -مِن تأمُّل دَور هذه الأدوات التي أسهمت في إنتاج هذه المعاني وأعانت على تحصيلها وما لبعضها من خصوصية فيه عن غيرها[12].

إنّ الأجيال الأولى من المفسرين كانوا أمام نصٍّ، راموا فهمه وانشغلوا بتبيُّن مرامي ألفاظه وكشف مدلولاته انشغالًا كثيفًا، فكانت هذه المرويات الإسرائيلية بالنسبة لهم مادة شديدة الأهمية وأداة بالغة الفاعلية في ممارسة التفسير، حيث أعانتهم على تعديد محتملات ألفاظ القرآن وتراكيبه وتثوير النظر لدقائقه ولطيف إشاراته وفهم ما غمض منه؛ ولهذا كثر توظيفها وحضورها في تفاسيرهم وحصل منهم التتابع عليه، وإنّ استكشاف علائق وأسباب ارتباط هذه المرويات بالتفسير عبر استحضار المنطلق الاستدلالي بالمرويات على تقرير المعاني يجعل البحث يعتدل في سَيْره ويتمكن من القبض والإمساك بالأسباب العلمية لحضور هذه المرويات في التفسير وما تؤديه من دور كبير في تحقيق مشاغل التفسير.

خاتمة:

يمثّل موضوع توظيف الإسرائيليات في التفسير -لا سيما تفسير السلف- أحد المسائل الشائكة في التفسير والتي وقع بسببها نقدٌ كثير لمفسري السلف ومَنْ نقَل مقولاتهم، وانعقدت مشروعات علمية عديدة لتتبعها ونقدها في مدونات التفسير...إلخ. وقد انشغلنا في هذه المقالات ببيان المنطلقات التي يجب أن يصدر عنها درس هذا التوظيف، لا سيما وأن جُلّ الدرس الحاصل له نجَم عن منطلق مشكل معارض لحيثية التفسير كما ظهر معنا في دراسات أخرى.

وقد قررنا أنّ منطلق دراسة توظيف هذه المرويات يجب أن يكون دائرًا حول كيفيات الاستدلال بها على تحصيل المدلول وتقريره، وإنتاج المعنى وتحريره، وقد قمنا بالاستدلال لصحة هذا المنطلق من جانبين رئيسين؛ أحدهما يتصل بحيثية التفسير ذاته والتي توجب أن يكون بناء منطلقات فهم المسائل المتعلقة بالتفسير مرتبط بها كما هو الحال في نسق الفنون، وأنّ توظيف المفسّرين من السلف للمرويات الإسرائيلية في التفسير ما دام قد ارتبط بتبيين المعاني والتي هي حيثية التفسير الرئيسة، وكانت هذه هي الغاية التي حكمت أنظارهم في التعامل معها، فإن منطلق درس التوظيف يجب أن يدور حول كيفيات الاستدلال بها على تقرير المعاني وتحصيلها لا غير، كما أننا اهتممنا بالتدليل على خطورة تجاوز حيثية التفسير عند بناء منطلق النظر في فهم التوظيف عبر نقاشنا للمنطلق النقلي -الأكثر حضورًا في دراسة التوظيف- وكيف أن هذا المنطلق لتركبه على غير حيثية التفسير فإنّ الدرس من خلاله وقع في إشكالات عديدة ولم يتمكن من فهم التوظيف، كما تعرض لانحرافات جعلته يخرج في نقاشه وتأصيله للمسألة عن حدّ التفسير وينتهي بشأنها لمقررات ونتائج خاطئة.

وأما الجانب الثاني من استدلالنا للمنطلق الذي قررنا، فكان البيان العملي والتطبيقي لدرس التوظيف من خلاله في عدد من الأمور المتصلة به؛ كمعرفة جوانب التوظيف ووجوهه، والحكم على جدواه وأهميته، وكذلك معرفة أسباب حصولة في مدونة التفسير، وقد بينّا أثر هذا المنطلق في بحث هذه المسائل والنظر إليها، وكيف أنه يضع البحث فيها على الطريق المنهجي السليم، كما عقدنا شيئًا من المقارنة بين نواتجه فيها ونواتجه تبعًا للمنطلق النقلي وبينّا الفارق الكبير بين المنطلقين في النظر والنتائج، وكيف أن الأول هو الأَوْلى بالصواب في أن يكون ناظمًا لدرس التوظيف.

إننا وفي ختام هذا البحث الطويل لتوظيف الإسرائيليات في تفسير السلف وما دار في رحاب مفهومه يمكننا القول بأننا نظنّ -وما التوفيق إلا من الله وإليه يرجع الفضل كلّه- أننا وَلَـجْنا مسألة كان وجه الحقّ فيها شاحبًا فردَدنا إليه نضارته، وكانت منطلقات الدرس لها مشوشة فرتّبنا نواظم الفهم وأقمنا نواميس البحث، وكان السير فيها مضطربًا فكشفنا ما به من خلل وأظهرنا ما به من علل، ووضحنا صُوى الطريق للسائرين وكشفنا معالمه، ونصبنا ما يكفل صحة السير ويضمن رشد المسلك ويحفظ حصاد السعي. 

إنّ التفسير منه ما هو صُلْبٌ ومنه ما هو تَبَعٌ، وصلبه هو تبيين المعاني كما قررنا، وإن المرويات الإسرائيلية كانت أحد أدوات التفسير المهمّة بل شديدة الأهمية التي لعبت دورًا مهمًّا في إثراء ساحة دائرة الصلب فيه والدفع بها للأمام من جوانب عديدة، ونظرًا للخلل الواقع في منطلقات دراستها ظهرت تآليف عديدة وانعقدت مشروعات علمية كبيرة ناقدة لها، وهو ما نعتقد أنه -في ضوء نقاشنا- صار بحاجة لمراجعة جذرية وإعادة درس للمسألة من جديد بذات القوة التي جرت في نقدها، وهو أمر له أهمية كبيرة؛ لما ييسره من فهم اشتغال كبار المفسّرين بشكل دقيق، والكفّ عن اتهامه وسَحْب الأحكام الخاطئة عليه وهو مهم جدًّا، وكذلك لما يتيحه من اشتغال بما يتصل بصلب التفسير، والذي يعاني ضعفًا ظاهرًا في الاهتمام به رغم أن الاشتغال بعصب العلوم هو سبيل تجديدها وإعادة إنتاجها وتثويرها مرة أخرى، وأيضًا لما يفتحه من آفاق في إمكان توظيف واستثمار إحدى الأدوات التي جرى هجرانها بصورة بالغة في الفنّ والتحذير من توظيفها رغم عظيم أهميتها في أخصّ دوائره ومسيس خدمتها لصُلبه، وهو ما نحسب أنّ السير فيه وفقًا لما طرحناه في بحثنا لهذه المسألة وما قررناه من منطلق درسها كفيل بتحقيق تلكم الغاية على نحو محرّر، والله الموفِّق.

 

 

[1] منشورة على هذا الرابط: tafsir.net/article/5201

[2] منشورة على هذا الرابط: tafsir.net/article/5203

[3] مقدمة ابن خلدون، (1، 455-456).

[4] راجع حضوره في دراسات كلّ من الذّهبي ومحمد أبو شهبة وآمال ربيع، وغيرها كثير.

[5] هذا التعليل لحضور الإسرائيليات في التفسير تجده كذلك في بعض الطرح الاستشراقي، ومن ذلك مثلًا أطروحة كلود جيليو «Aspects de l'imaginaire islamique commun dans le commentaire de Ṭabarī»/ أوجه المتخيل الإسلامي الجمعي في تفسير الطبري»، والتي انتهت لجعل الفائدة من توظيف الإسرائيليات مرتبطة بتغذية المتخيل الإسلامي الجمعي. وقد ناقشنا طرحه بتوسّع في بحث خاصّ باللغة الفرنسية، ولعلّ الله ييسر لنا تعريبه في قابل الأيام.

[6] حيث يقول: «فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفى أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يُرجع إلى الأحكام فيُتحرَّى فيها الصحة التى يجب بها العمل، وتساهل المفسِّرون في مثل ذلك، وملؤوا الكتب بهذه المنقولات». وراجع بياننا لذلك في مقالتنا المنشورة على موقع تفسير: «القول بانحصار توظيف المرويات الإسرائيلية في القصص وعدم دخولها في العقائد والأحكام؛ قراءة نقدية»، على هذا الرابط: tafsir.net/article/5169.

[7] الموضوعية في العلوم الإنسانية، صلاح قنصوة، دار التنوير، 2007، ص23، 24.

[8] لا شك أن تعميق النظر في هذه الموضوعات التي عرض لها النصّ مما كان سابقًا عليه لها فوائد أخرى جليلة خلافًا للتفسير ذاته، كإمكان إجراء عمليات التناص ذاتها بين النصّ والسابق عليه مما يتصل بذات الموضوع، وبالتالي فهم كيفيات تعاطي النصّ الجديد مع الموضوع ذي الجذر القديم وكيفيات عرضه له والجوانب التي أغفلها والتي ركز عليها...إلخ، مما يبرز غايات ومقاصد شديدة الأهمية للنصّ الجديد إزاء الموضوع المعالج، وكذلك طرائق معالجة لا يتيسر لحظها بحال بدون مثل ذلك التناص.

[9] يلاحظ هاهنا أننا نتكلم عن مراحل فقط لإبراز عملية التبيين؛ وإلّا فهي متعالقة في ذهن المبين؛ فهو يقرأ في الجوانب التي تقاطع معها النظر وتتفتح له المحتملات وغيرها، وهو مستحضر في ذات الوقت للنصّ وما قد يسوغ من المعاني في حملها عليه وما لا يسوغ.

[10] ولهذا اعتمد الطبري في دفعه على كثرة القائلين بالأول، فقال: «وأولى القولين في تأويل قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ}[البقرة: 243] بالصواب، قول من قال: عنى بالألوف: كثرة العدد، دون قول من قال: عنى به الائتلاف، بمعنى ائتلاف قلوبهم، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم، ولا تباغض،... لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين». تفسير الطبري، ط: هجر، (4/ 423).

[11] سواء أكانت اللغة هي التي تفتح الاحتمال للمفسر فيبحث في المرويات ليقويه أو كان النظر في المرويات هو مورد ولادة الاحتمال فإن علاقة المرويات بالاحتمال ترشيحًا أو تعديدًا لها أهمية لا تخفى.

[12] لعلّ مما قد يُتَأمَّل في سبب كثير من الغلط في الجوانب المتعلقة بدرس توظيف الإسرائيليات في التفسير هو أن الاشتغال بتبيين المعاني الذي أوجب حضورها لدى السلف قلّت العناية به بعد السلف بصورة ظاهرة جدًّا؛ إِذْ كثُر التوسّع في مفهوم التفسير بعدهم والكلام فيما فوق المعنى اعتمادًا في الغالب على ما تقرّر من المعاني التي أنتجوها، ومن هاهنا صارت المرويات الإسرائيلية مع مرور الزمن وكأنَّ حضورها وتوظيفها ليس له سبب واضح لضعف الاشتغال بالموجب الذي أوجب حضورها، خاصّة وأنها مصدر أجنبي وبه تفاصيل مستشكلة وليس على وِزان بقية أدوات التفسير الأخرى المشتهرة، وإذا أضفنا لذلك ما انتاب حيثية التفسير ذاته من تشوش لدى كثير من النظار بفعل أمور كثيرة؛ منها توقف مسيرة التبيين ذاته التي تقوم عليها، وتوسع مفهوم التفسير وانزياحه عنها بصورة بالغة السعة، سهُل علينا تصور الخلل الحاصل في بحثها وما وقع فيها من انحراف عن حيثية التفسير بصورة عامة، وإغفال لها ولأثرها في نظر المسألة من جوانب عديدة.

الكاتب

خليل محمود اليماني

باحث في الدراسات القرآنية، عضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر، له عدد من الكتابات والبحوث المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))