حَدِيثُ القرآن عن القرآن
في السّور المكِّية الأولى

المترجم : مصطفى أعسو
في هذه المقالة تقدّم بواليفو قراءة في السور المكية الأولى، باحثة عن ملامح خطاب القرآن عن ذاته وتأسيسه لسلطته ووضعيته الخاصّة ككتاب سماوي في هذه المرحلة من تاريخه.

  جَادَلَت آن سيلفي بواليفو -مؤلفة المقالة- في أُطروحتها للدكتوراه التي تقدَّمت بها سنة 2010م بعنوان: «القُرْآنُ من خلال القُرآنِ» عن قوة تماسك البنية الاستدلالية للنصِّ القُرآني في سياق تأسيس حجيته داخل الجماعة الإسلامية بصفته مُلهم وجودها، ودستور وحدتها، وهادي حركتها، وخلافًا للاتجاهات التي حاولت بناء لحظة أُخرى وفضاء آخر لتشكّل بدايات النصّ القرآني، فإنَّ بواليفو ما فتئت تؤكِّدُ أن النصّ القرآني -مهما تنازع الدارسون حول مصدره- فإنَّه ينبئ عن تحكّم قوي قاصد إلى تقديم القرآن بصفته نصًّا مُوحى به من لَدُن الذات الإلهية، ومن أجل ذلك استعرضت بواليفو شبكة الصلات والوشائج التي يخبر فيها القرآن عن نفسه بهذه الصفة، لكن إذا كان هذا ما تهدي إليه الدراسة السانكرونية التي تتناول القرآن بوصفه نصًّا مكتملًا بغضّ النظر عن تنزّله في الزمن؛ فإنَّ بواليفو ما لبثت أن طَرَحَتْ سؤال القراءة الدياكرونية (التعاقبية أو التاريخية) للنصّ القرآني، هل شَيَّدَ القرآن حجيته بوصفه وحيًا منذ اللحظة الأولى لانبثاقه، أم كان هذا تطورًا لاحقًا في مسيرة النصّ؟

وهو السؤال الذي سوف يجرّها إلى اجتراح هذه الدراسة التي بين أيدينا، والتي ركَّزت فيها على السور المكيّة المبكّرة اعتمادًا على الترتيب التاريخي الإسلامي، ممثلًا في طبعة الأزهر، وترتيب المستشرق الألماني نولدكه.

والخُلاصة التي توصلتْ إليها: أن تعبير الحجية لا يشمل ضرورةً النصَّ كلّه في البدء، ولم يُعَرَّف القرآن بصفته وحيًا منزلًا منذ الوهلة الأولى كما عُرِّف فيما بعد، وأنَّ المَتْنَ القرآني كان ما يزال في طَوْرِ التشكّل، إلا أن بواليفو توصّلت كذلك إلى أن القرآن -في هذه المرحلة المبكرة ذاتها- أبرز كونه قولًا ينتمي لمصدر مفارق، فعبر التفريق بين الذِّكر والدعاء القرآني ومضمونهما من تحذير وبيان لقدرة الله من جهة وبين مصدر هذا الذِّكر والدعاء من جهة أخرى، أو كما تقول: بين المحتوى والأجرأة، وكذا عبر تحليل بعض السمات النصية مثل صوت النصّ والالتفات في الضمائر، تتوصّل بواليفو إلى أن القرآن يُظهِر كونه قول الله ويفترض نقله بهذه الوضعية ذاتها لإبراز هذه الوضعية الإلهية تجاه مستمعيه، كما يبرز تجاه مستمعيه إلزامًا وطلبًا للطاعة واستجابة للإنذار، وهي الملامح التي ستتجلى بصورة أكبر في المراحل اللاحقة من تاريخ النصّ كجزء من سلطته. 

إنّ هذا الاشتغال الدقيق على أحد مراحل تاريخ النصّ له أهميته في إبراز الكثير من الملامح الأولى التي ظهرت بها سمات النصّ القرآني، كما أن لهذا الاشتغال المنطلق من تحقيب نولدكه لتاريخ القرآن، الملتزم به، والذي كذلك في بعض الأحيان يميل لتقسيم المرحلة ذاتها إلى مراحل جزئية؛ فائدة مهمّة تتمحور حول إثارة سؤال عن مدى كفاءة هذا التحقيب خصوصًا مع الالتزام به بكلّ حَدِّيَّة، فما يبدو هو أن الالتزام الحَدِّي به يفضي لفرضيات واسعة حول أفكار النصّ، وأيها ظهر منذ المراحل الأولى، وأيها تأخّر لمراحل لاحقة، وهي الفرضيات التي ستتغير تمامًا لو  تبنينا طرقًا أخرى في التحقيب.

وبغضّ النظر عن نتائج هذه المقالة في ذاتها، فإن ما يثيره اشتغال بواليفو الدقيق فيها حول أحد مرتكزات الدرس الاستشراقي للقرآن منذ نولدكه =هو أبرز ما يدفع لأهميتها وأهمية تسليط الضوء عليها.

المؤلف

آن سيلفي بواليفو - Anne-Sylvie Boisliveau

أستاذة محاضرة في تاريخ الأمم الإسلامية بجامعة ستراسبورغ، متخصصة في الإسلاميات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))