تاريخ القرآن في الدراسات الغربية المعاصرة
الجزء الثاني: نشأة وطبيعة سلطة القرآن
تناول الجزء الأول من هذا الكتاب المجمّع (تاريخ القرآن في الدراسات الغربية المعاصرة: الجزء الأول: النظريات المعاصرة حول تاريخ القرآن)[1]، النظريات الغربية المعاصرة حول تاريخ القرآن، وأورد بعض الترجمات -لكُتّاب مثل شولر وموتسكي- التي ناقشت قدرًا مركزيًّا من هذه النظريات مثل نظريات وانسبرو وبورتون وعلاقتها بالنظريات الكلاسيكية مع نولدكه وشفالي ومنجانا، وعلاقة كلّ هذه النظريات بالسردية الإسلامية التقليدية عن تاريخ القرآن ونظرتها للمرويات الإسلامية ومدى مصداقيتها، وكذلك عرضت هذه المواد للتطوّر الذي حدث في المناهج الغربية في تعاملها مع مدى موثوقية السردية الإسلامية عن تاريخ القرآن، وما يفضي إليه من إعادة الاعتبار للسردية الإسلامية حول تاريخ القرآن، فألقي الضوء بهذا على التعامل التاريخي المعاصر مع قضية تاريخ القرآن، أي التعامل القائم على دراسة ظهور النصّ وتشكيل سلطته من خلال فحص المصادر الأدبية التاريخية بشكل أساسي (سواء عبر تكذيبها، أو عبر إعادة بنائها والاعتماد على النواة الصحيحة من أخبارها).
وأمّا هذا الجزء الثاني من الكتاب فيتناول التعامل النظري في الدراسات القرآنية الغربية مع قضية تاريخ القرآن، وهو تعامل حديث ظهر وتشكّل في العقود الأخيرة.
فقد أدى ازدياد اهتمام الدراسات الغربية للقرآن بالمنهجيات الأدبية والمنهجيات الكتابية، والتوسع في تطبيقها على القرآن، والتركيز الواضح على ما يبديه القرآن من وعي ذاتي ومرجعية ذاتية، وكذا الاتساع في فهم عملية تشكُّل سلطة الكتاب المقدس -والذي ازداد مع اكتشاف مخطوطات قمران-؛ أدى ذلك إلى تغيّر في نمط مقاربة الدرس الغربي للقرآن لقضية تاريخ القرآن ونشأة سُلطته، حيث لم يَعُد بالإمكان الاكتفاء في تحليل هذه القضية بدراسة تاريخ تشكّل النصّ وتدوينه تاريخيًّا، بل أصبح من المحتَّم فهم عملية إعلان السلطة في سياق نصّي وسياق تناصّي، أي في سياق ينطلق من فهم البنية الداخلية للقرآن وكيفية بنائه لسُلطته وإعلانه عنها، وكذا في سياق يلتفت لعلاقة هذا الإعلان عن السلطة بالكتب المقدسة السابقة وبمجتمعات هذه الكتب التي يتوجه لها القرآن فيمن يتوجه لهم.
في هذا السياق لم يُنظر لعملية تدوين القرآن ثم جمعه فإعلان نسخة قياسية ملزمة منه، كعملية قام بها المجتمع لافتراض نصّ معتمد وذي سُلطة بشكل رجعي، بل يُنظر لها كمرحلة ضمن عملية بدأت بالأساس داخل القرآن، وتصبح سُلطة القرآن سمة من سماته تتعلّق برؤيته لذاته وبعلاقته بأمّ الكتاب، سمة متكرّسة في شبكة المفاهيم التي يصف بها نفسه والتي يؤطر بها علاقته بالكتب المقدسة السابقة عليه، وبالتالي تظهر في علاقته بهذه الكتب وبمجتمع المؤمنين وبكيفية تدبيره للعلاقة بين الشفاهة والكتابة.
ولأنّ هذه المساحة من الاهتمام هي مساحة حديثة، نشأت في سياق صعود الاتجاه التزامني في الدراسات القرآنية الغربية المعاصرة، وكذلك في سياق هذا الاهتمام الغربي المعاصر بدراسة العلاقة بين القرآن والكتب السابقة، كعلاقة حوارية وتفاوضية قائمة على التناص مع هذه الكتب وإعادة بنائها في ضوء قيم جديدة، فإنّ الكتابات في هذه المساحة ليست كثيرة، ومن أمثلتها: (الصورة الذاتية للقرآن، الكتابة والسلطة في كتاب المسلمين المقدس)، لدانييل ماديغان، وكتاب (المرجعية الذاتية للقرآن) الذي حرّره شتيفان فيلد وضمّ عددًا من الدراسات لكتاب مثل نويفرت وسيناي وآن سيلفي بواليفو، وكتاب (القرآن من خلال القرآن: مصطلحات وحجج الخطاب القرآني حول القرآن ومعجمه) لآن سيلفي بواليفو، إلا أن هذه المساحة تبدو واعدة خصوصًا مع توسع دارسين مثل جون سي ريفز ورفين فايرستون وغيرهما في مدّ مساحة اهتمامهم بعملية نشأة سلطة النصوص المقدسة -من نصوص نبوية إلى نصوص ذات سُلطة أولية إلى نصوص ذات سلطة أو نصوص معتمدة- من الكتاب المقدس إلى القرآن.
ويضم هذا الجزء الثاني من الكتاب المجمّع جملة مواد؛ أربع دراسات وعرضين لكتابين مهمّين، تهدف لرسم صورة حول هذا النمط الغربي الحديث في التعامل مع القرآن وتاريخه؛ وتستهلّ مواد هذا الجزء بدراسة لأنجيليكا نويفرت: (وجهان للقرآن: القرآن والمصحف)، والتي تتناول فيها نويفرت هذا الجدل في الدراسات الغربية حول شفاهة القرآن وكتابيّته، وحول مفهوم (الكتاب) في القرآن، وعلاقته بمفهوم الكتاب المقدّس، وبمفاهيم السلطة والقداسة، وهي دراسة تحاول بحث ملامح ظهور السلطة القرآنية بشكل دياكروني تعاقبي، وكذلك بشكل تناصي باستحضار سياق الجدل القرآني مع تصورات المؤمنين في الشرق الأدنى القديم حول طبيعة الكتاب المقدس وحول الكتاب السماوي.
وتأتي الدراسة الثانية لنويفرت كذلك: (القرآن والتاريخ: علاقة جدلية)، تطرح فيها نويفرت تصورًا حول عملية اعتماد القرآن كنص ذي سلطة داخل القرآن نفسه أو ما تعبّر عنه بـ«الاعتماد من أسفل»، وتعتبره سابقًا ومؤسسًا لعملية الجمع والتدوين وإعلان السلطة في المجتمع كـ«اعتماد من أعلى»، ثم تأتي بعد ذلك دراسة: (إعلان سُلطة القرآن داخل القرآن) لآن سيلفي بواليفو والتي تحاول فيها استعراض كيفية إعلان القرآن لسلطته عبر إستراتيجيات نصية معيّنة، وما الدلالة الدقيقة للسلطة، وكيف أن هذه السلطة هي سلطة حازها القرآن كَسِمَةٍ من سماته بعيدًا عن الشكل الذي وُجِد فيه، وأنّ جمع القرآن لاحقًا يعدّ عملية تثبيت فِعلي فحسب لسلطة أعلنت مسبقًا بشكل كامل، ثم تأتي بعد ذلك دراسة أخرى لآن سيلفي: (حديث القرآن عن نفسه في السور المكية الأولى)، لتدرس عملية الإعلان هذه بشكل دياكروني من خلال تحليل ظهورها في السور المكية المبكرة.
ثم يطرح الملفّ عرضين لكتابين مهمّين؛ الأول عرض لكتاب (القرآن من خلال القرآن: مصطلحات وحجج الخطاب القرآني حول القرآن ومعجمه) لآن سيلفي بواليفو، كتبه ميشيل كويبرس، وكتاب بواليفو يدور حول الإستراتيجيات التي اتّبعها القرآن في تأسيس ذاته ككتاب على غرار الكتب المقدسة له ذات السلطة والمرجعية، والثاني عرض لكتاب (الصورة الذاتية للقرآن) لدانييل ماديغان، كتبته يامنة مرمر، يدور حول مفهوم الكتاب في القرآن.
وجدير بالذِّكْر أنّ هذه الترجمات سبق أن نشرناها بشكلٍ مستقلّ على موقع تفسير ضِمن قسم الاستشراق، وفي إعادة نشرها هاهنا قُمْنَا فقط بحذف الحواشي المكرّرة في ضوء النشر المجمّع وتعديل وإضافة بعض الحواشي، كما أنه وفي سياق هذا النشر الإلكتروني السابق تم وضع مقدّمات لكلّ مادة على حِدَة تعمل على إبراز موضوع اشتغالها وتوضيحه، وقد آثرنا الإبقاء على هذه المقدّمات هاهنا لِيبرُزَ للقارئ قبل الولوج لكلّ مادة موضوعُها وطبيعةُ المقاربة التي تعمل عليها.
[1] يمكن مطالعة الجزء السابق على هذا الرابط: tafsir.net/translation/162.
الملفات المرفقة
مواد تهمك
- إعلان سلطة القرآن... في نصّ القرآن
- تاريخ القرآن في الدراسات الغربية المعاصرة؛ الجزء الأول: النظريات المعاصرة حول تاريخ القرآن
- التفسير في الدراسات الغربية المعاصرة؛ الجزء الثالث: دراسة المعنى التفسيري
- الدراسات القرآنية والمنعطف الأدبي؛ قراءة في أهم الدراسات الأدبية الغربية للقرآن
- القرآن من خلال القرآن؛ مصطلحات وحجج الخطاب القرآني حول القرآن، آن سيلفي بواليفو
- التفسير في الدراسات الغربية المعاصرة؛ الجزء الثاني: الدراسة الداخلية لكتب التفسير