تاريخ القرآن في الدراسات الغربية المعاصرة
الجزء الأول: النظريات المعاصرة حول تاريخ القرآن

نشر قسمُ الترجمات بموقع تفسير عددًا من المواد العلمية حول تاريخ القرآن في الدراسات الغربية، سواء بشكل موادّ منوّعة أو ضمن ملفّات، ومع هذا التزايد في المواد ارتأى القسم إعادة نشرها في كتاب مجمّع ومرتّب وفق محاور تيسِّر للقارئ الاطلاع على هذا النتاج، وقد تم تقسيم الكتاب إلى أربعة أجزاء، هذا هو الجزء الأول، ويدور حول النظريات المعاصرة حول تاريخ القرآن.

  تنتظم الدراسة الغربية للقرآن -منذ انطلاقها وإلى المرحلة المعاصرة- في ثلاث مساحات بالأساس؛ حيث تدرس: (ما قبل النصّ «سياق النصّ التاريخي والنصِّي- تاريخ تشكّل النص منذ كان مجموعة من البلاغات إلى أن جُمع ودُوِّن في نسخة ذات سُلطة»، النص «بنية النصّ الشكلية والموضوعية»، ما أمام النصّ «عالم التلقّي التفسيري والجمالي والشعائري»)، ويعدّ الاهتمام بدراسة تاريخ تشكّل نصّ القرآن منذ كان مجموعة من الآيات إلى أن تم تدوينه وجَمْعه في نُسخة معتمدة ملزمة (مصحف عثمان/ المصحف الإمام)، أحد أبرز مساحات الدرس الغربي للقرآن، بل إنّ هذه المساحة هي ربما النقطة التي شكّلَت منطلق هذا الدرس، وقد اقتصر عليها العمل الغربي على القرآن إلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي تقريبًا، وهو ما دفع الكثيرين لانتقاد الدراسات الغربية لانحصارها في دراسة تاريخ القرآن وإهمالها دراسة نصّ القرآن ذاته .

ويعدّ كتاب (تاريخ القرآن) لنولدكه هو النتاج الأكثر بروزًا ودلالة على الدرس الغربي لتاريخ القرآن، فهذا الكتاب يَعتبره الكثيرون عنوانًا على هذا الدرس، وقمة جبل ثلج يشمل العديد من المحاولات لدراسة القرآن فيلولوجيًّا وإعادة ترتيبه تاريخيًّا وتقديم نسخة نقدية له مع أسماء سابقة ومساوقة ولاحقة على عمل نولدكه، مثل هيرتشفيلد وموير وريتشارد بل وروديل.

 وكما أن عمل نولدكه ظلّ علامةً على الدراسة الغربية للقرآن في طور نضجها ومثالًا يُحتذى للعديد من الدارسين بمنهجه الفيلولوجي الذي يدقق في القرآن كمصدر موثوق ومعاصر لفترة الدعوة المحمدية، فإنه كذلك يمثِّل فضاءً مناسبًا لبيان إشكال مركزي في الدراسة الغربية لتاريخ القرآن ستكون إثارته سببًا مركزيًّا من أسباب تحوّل حقل الدراسات القرآنية الغربية في كلّ المساحات، وبالطبع في مساحة دراسة تاريخ القرآن، فكما يخبرنا موتسكي فإن كتاب (تاريخ القرآن) -بكونه مشروعًا استشراقيًّا أكثر منه كتابًا لمؤلّف- يشهد خلافًا بين رؤيتين للتعامل المنهجي مع قضية تاريخ القرآن، بالتحديد في مسألة التعامل مع المرويات الإسلامية حول تاريخ الجمع باعتبارها موثوقة وصالحة لبناء سردية موثوقة حول هذا التاريخ، حيث نجد أنّ نولدكه وبشكل عامّ يتماشى مع السردية التقليدية ويَقبل المرويات حولها بشكل مجمل، في حين نجد شفالي في نسخة 1919 التي تولَّى تحريرها يقدِّم الكثير من الشكوك حول الجمع البكري بالذات، وبالتالي حول نسخة حفصة، وحول عمل الجمع العثماني وطبيعته، كانت مراجعات شفالي تبدو وكأنها تلتقط تلك المشكلة البارزة منذ بداية صعود ما تسميه حياة عمامو بـ(المقاربة النقدية) مع بلاشير ونولدكه وجولدتسيهر ثم شاخت، والتي تشكّك في إمكان استخدام المصادر الإسلامية كمصدر موثوق للتأريخ، والإشكال أنه إذا كان هذا الطرح النقدي هو الذي يؤطِّر محاولة كتابة تاريخ الدعوة من خلال القرآن وحده كمصدر مساوق وموثوق ويلفظ كلّ الأدبيات الإسلامية المشكّك فيها، فإنّ الثغرة المنهجية تبدو في أنه لا دليل على هذه الموثوقية والمعاصرة للقرآن نفسه إلا الأدبيات الإسلامية الملفوظة ذاتها! وقد كانت مراجعات شفالي واحدة من الرؤى المبكّرة المبرزة لهذا الإشكال المنهجي في الرؤية الغربية لتاريخ القرآن، إلا أنها ربما لم تكن كافية لزعزعة أُسس الحقل النظرية أو المنهجية، وتم طرح محاولات عامة لسدّ هذه الثغرة ولو بشكل غير دقيق كما مع مونتجمري وات وحديثه عن (نواة حقيقية) من المرويات في السيرة دون أن يحدد منهجية لتحديدها وتفريقها عن غيرها!، ومع الركود الذي أصاب هذا الحقل في ما بعد الحرب الثانية لعدد من الأسباب ظلّت المشكلة مختفية وراء المحاولات غير الدقيقة لحلّها، بل اعتبَر بعضٌ مثل رودي بارت أنه لا مشكلة على الإطلاق، وأنه يمكن أن يطمئن الباحث الغربي لمعرفته عن تاريخ القرآن وعن تاريخ الدعوة المحمدية كما استقرت في الفترة الكلاسيكية .

إلا أنه وفي سبعينيات القرن الماضي وضمن عدد من العوامل والأسباب، عاد التشكيك في اعتماد المصادر الإسلامية بصورة أكبر مع كتاب وانسبرو حول تاريخ القرآن (الدراسات القرآنية: مصادر ومناهج تفسير النصوص المقدسة)، والذي خلص فيه لعدم إمكان الاعتماد على المصادر الإسلامية في بناء سردية حول تاريخ القرآن، حيث تقدِّم وفقًا له تاريخًا زائفًا، واعتمد بدلًا من هذا على قراءة النصّ وفق منهج نقد الشكل، ثم ظهرت في إثر كتابه وتشكيكه الجذري في المصادر الإسلامية الطروحُ التنقيحية التي افترضت من الناحية المنهجية إمكان استخدام المصادر غير العربية والأركيولوجية كمصدر وحيد لبناء تاريخ القرآن وسياقه والإجابة عن كلّ الأسئلة حول النصّ ولغته وطبيعته و(مؤلفه) وسياق المخاطبين الذي توجّه له.

وقد تلاقَى نقد وانسبرو وتشكيكه في الأُسس المنهجية والنظرية التي قام عليها البحث الغربي الكلاسيكي في القرآن مع زيادة الاهتمام بتطبيق المناهج الأدبية على القرآن في هذه الفترة -التي كان هو أول مطبّقيها كما أسلفنا- وكذلك مع ظهور مخطوطات الجامع الكبير بصنعاء -الحدث الذي حظي بأهمية علمية وإعلامية كبيرة لتوفيره كنزًا أركيولوجيًّا من فترة الإسلام المبكّر-، وهذا المركَّب من التغيير المنهجي والمصدري كان له الأثر الكبير على تغيير بنية الدراسات الغربية للقرآن وخصوصًا في مساحة تاريخ القرآن، حيث نتج عن هذا أربعة مسارات معاصرة لدراسة تاريخ تشكُّل القرآن:

1- إعادة بناء المصادر: حيث يتم إعادة النظر في الروايات الإسلامية التقليدية والمناهج المعرفية الإسلامية، من أجل الوصول لموقف دقيق من السردية الإسلامية التقليدية نفسها ومدى موثوقيتها ومدى إمكان الاعتماد عليها وعلى المناهج المعرفية التي تنتهجها في بناء تاريخ القرآن، يتمثّل هذا في أعمال باحثين، مثل: غريغور شولر، وهارالد موتسكي.

2- دراسة البُعْد المفهومي في تاريخ تشكُّل النصّ وظهور سُلطته: حيث يتم دراسة مفاهيم سُلطة النصّ وحُجّيته ومرجعيته الذاتية من داخل النصّ؛ لتكوين فهم عميق حول عملية اعتماد النصّ كنصّ ذي سلطة في الإسلام واقترابه أو ابتعاده من تاريخ تشكيل الكتاب المقدّس، ولفحص عملية تشكيل النصّ لسلطته، يتمثّل هذا في أعمال: أنجيليكا نويفرت، ونيكولاي سيناي، ودانييل ماديغان، وآن سيلفي بواليفو.

3- محاولة الاعتماد على الأدلة الإيبغرافية وحدها في النظر لتاريخ النصّ: حيث يتم رفض الأدبيات الإسلامية حول تاريخ النصّ واللجوء لأدلة مثل النقوش والعملات في بناء تاريخ القرآن وتاريخ الإسلام المبكّر، ويتجلّى هذا في أعمال التنقيحيين، مثل: بريمار، وهوتنج، ودي نيفوا، وفالكر بوب، وغيرهم.

4- دراسة المخطوطات: حيث يتم دراسة المخطوطات المكتشَفة للقرآن، سواء مخطوطات صنعاء أو غيرها -مثل مخطوطات برجستراسر، ومثل مصحف باريس- في محاولة لفهم تاريخ تدوين القرآن، عبر استخدام المناهج الإيبغرافية والكوديكولوجية الحديثة بطريقة بعيدة عن التحيّزات التنقيحية المسبقة تجاه المصادر الإسلامية، وهو ما يتم مع أسماء، مثل: ديروش جودارزي، وبيرجمان، وصادقي، وأسماء هلالي، وغيرهم.

وقد ترجمنا على موقع تفسير عددًا من الدراسات والمقالات التي تتناول كلّ هذه المسارات الأربعة، وقد ارتأينا إعادة نشرها بشكلٍ مجمّع ومرتّب ييسِّر على القارئ تكوين نظر كلّي بهذه المساحة في شكلها المعاصر، وبالتالي سيأتي هذا الكتاب على أربعة أجزاء، وهذا الجزء الأول الذي بين أيدينا سيتناول المسار الأول المتعلق باستكشاف قدرة المصادر الإسلامية على بناء سردية إسلامية موثوقة حول تاريخ القرآن.

الترجمات المختارة في هذا الجزء:

في هذا الجزء ننشر خمس دراسات؛ الأولى: (متى أصبح القرآن نصًّا مغلقًا؟) لنيكولاي سيناي، وهذه الدراسة تعتبر مقدمة نظرية، حيث تتضمن عرضًا لتاريخ النظريات الغربية حول تاريخ القرآن منذ منجانا مرورًا بوانسبرو وإلى الجدل المعاصر، وكذلك محاولة نظرية لفهم الخلاف بين هذه النظريات ومداه وأسبابه، كما تنتهي ببلورة تصور خاص حول تاريخ النصّ. الدراسة الثانية: (جمع القرآن: إعادة نظر في النظريات الغربية في ضوء التطورات المنهجية المعاصرة) لهارالد موتسكي، وهذه الدراسة تتجاوز العرض أو النقاش النظري إلى عملية فحص للنظريات الغربية الكلاسيكية والتنقيحية حول تاريخ القرآن، وعودة للمصادر الإسلامية عبر استخدام منهج نقد المصادر والاستفادة من عمل دارسين، مثل: جوينبول وشولر حول دراسة المرويات الإسلامية حول تاريخ جمع القرآن تبرز تقدّم هذه المرويات عن التأريخات الغربية المفترضة والتي تؤخرها إلى القرن الثالث. ثم دراسة: (تدوين القرآن: ملاحظات على أطروحتي وانسبرو وبورتون) لغريغور شولر، وتتضمّن عرضًا لأهم أطروحتين معاصرتين حول تاريخ القرآن، أي: أطروحتَي بورتون ووانسبرو ثم تقدّم تعليقًا نقديًّا على هذه النظريات، ثم دراسة لفارين، بعنوان: (هل تأخّر ترتيب القرآن لِمَا بعد عهد النبوّة؟) يناقش فيها كذلك بعض الطروحات حول تاريخ القرآن، وفي الأخير مقالة لغريغور شولر تتناول عملية جمع القرآن بمراحله المتتالية كبراديغم للتدوين في العلوم الإسلامية.

وهذه الدراسات الخمس تستطيع أن ترسم للقارئ صورة عن الرؤى النظرية والمنهجية الغربية حول تاريخ القرآن، وتقدّم كذلك مثالًا واضحًا على محاولة إعادة الثقة في المصادر الإسلامية عبر إعادة بنائها وبيان قِدمها وموثوقيتها في بناء سردية عن تاريخ القرآن.

وجدير بالذِّكْر أن هذه الترجمات سبق ونشرناها بشكلٍ مستقلّ على موقع تفسير ضمن قسم الاستشراق، وفي إعادة نشرها هاهنا قمنا فقط بحذف الحواشي المكرّرة في ضوء النشر المجمع وتعديل وإضافة بعض الحواشي، كما أنه وفي سياق هذا النشر الإلكتروني السابق تم وضع مقدّمات لكلّ مادة على حِدة تعمل على إبراز موضوع اشتغالها وتوضيحه، وقد آثرنا الإبقاء على هذه المقدمات هاهنا ليبرز للقارئ قبل الولوج لكلّ مادة موضوعها وطبيعة المقاربة التي تعمل عليها.

كذلك نوضح أن تقسيم الدراسات ضمن هذه الأجزاء الأربعة لا يعني حصر اشتغال إحدى هذه الدراسات بهذا الجزء وحده، حيث يؤدي تشابك اشتغال بعض الدراسات -نتيجة طبيعة العمل العلمي نفسه- إلى إمكان إفادتها في تكميل صورة دراسات منشورة في أجزاء أخرى، إلا أنَّ نشر دراسةٍ ما ضمن جزء محدد يعني أن دورها في توضيح فكرة هذا الجزء أكبر، مع عدم نفي إفادتها في فهم المناحي الأخرى التي ستتناولها الأجزاء القادمة.

المؤلف

إعداد/ قسم الترجمات بموقع تفسير

مسئولو قسم الترجمات بموقع مركز تفسير للدراسات القرآنية

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))