القرآن في اللغة الإنجليزية؛ سيرة
بروس بي. لورانس

المترجم : مصطفى هندي
يأتي كتاب «القرآن في اللغة الإنجليزية» كمرجع شامل لترجمات القرآن في اللغة الإنجليزية، كما يهتم بتناول بعض الأمور النظرية حول ترجمة القرآن، مثل: قابليته للترجمة، الحفاظ على الإيقاع الخاص به في الترجمة، إمكانية أن تَحُلّ الترجمة محلّ النصّ العربي، وغيرها من أمور تتعلّق بسياسات الترجمة، تقدِّم (بينك) عرضًا للكتاب يحاول إبراز مميزاته ونقاط ضعفه.

القرآن في اللغة الإنجليزية سيرة [1]

بروس بي. لورانس[2]

  قدّم لنا بروس لورانس[3] أول مقدمة شاملة لتاريخ ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، وهي مساهمة مهمّة جدًّا في مجالٍ لم يحظَ حتى الآن باهتمام أكاديمي يُذْكَر. ولأن الكتاب صدر ضمن سلسلة من الكتب الصغيرة التي يُصدرها متخصصون وتستهدف عوامّ القراء، فمن المفترض أن يخاطِب غيرَ المتخصصين، إلّا أنه في الوقت نفسه يحتوي ببليوغرافيا شاملة لترجمات القرآن باللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى ملاحظات ثرية بالمعلومات، مما يجعله مرجعًا مفيدًا للطلاب وكذلك الباحثين الذين ينشدون نظرةً عامة حول الموضوع.

في أجزاء كثيرة من الكتاب نرى أطروحات الكاتب شخصية للغاية، ولذلك عيوبُه كما أن له مميزاته؛ فمن ناحية تجعل تلك الأطروحات السردَ جذابًا ومترابطًا، ومن ناحية أخرى، تتسبب في بعض التناقضات والخلل؛ فالمترجمون والترجمات والمنهجيات التي لا تحظى بتقدير كبير من المؤلف -بغضّ النظر عن تأثيرها- لا تحظى باهتمامٍ كبيرٍ يتجاوز الملاحظات الببليوغرافية العابرة، وفيما عدا ذلك، وخاصّة تلك الدراسات التي تهدف إلى التمثيل والمحاكاة الأدبية للأسلوب القرآني -مثل كتاب ساندو بيرك Sandow Birk المصوَّر بعنوان: (القرآن الأمريكي)[4]- فإنها تحظى باهتمامٍ كبيرٍ وتشغل حجمًا أكبر من الكتاب.

بالطبع، في مؤلَّف صغير مثل هذا لا يمكن أبدًا تجنب التحيز بالكلية؛ ولكن من اللافت للنظر، على سبيل المثال، أنه بالكاد ذكر ترجمة: (صحيح إنترناشونال Saheeh International) المتاحة في كلّ مكان تقريبًا على الشبكة.

يبدأ لورانس في المقدمة بمناقشة الجدل حول قابلية القرآن للترجمة، ويقدِّم رأيًا معارضًا لرأي التيار (المحافظ) مستشهدًا بالممارسة التاريخية، حيث هناك العديد من الترجمات التي أنتجها المسلمون. إلّا أنّ افتراض وجود تيار سُنِّي واحد ومتجانس -والذي يمثل له الكاتب في أغلب الكتاب بالخطاب المهيمن في الدولة السعودية- يمثّل مشكلة إلى حدّ ما. على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى المناقشات الأخيرة في إندونيسيا بين العلماء والإسلاميين والرموز الدينية المختلفة حول شرعية الترجمات (الحرفية) في مقابل الترجمات (التفسيرية)، فسنرى بوضوح تام أن هناك أطروحات مختلفة ومتنافسة داخل التيار السُّنِّي المحافظ، كما هي الحال في معظم الأوقات والأماكن. كما أنه لا يوجد تناقض واضح بين العقيدة الدينية والممارسة الفعلية للترجمة.

في إحدى الملاحظات (ص192، حاشية رقم 4) يشير لورانس إلى كتاب ترافيس زاده[5] عن التفسير الفارسي المبكر[6] كدليل ضد (حجج المذهب السُّني القويم) حول عدم قابلية القرآن للترجمة. في الواقع، لا تتعارض أيٌّ من ممارسات الترجمة التي وصفها زاده مع وجهات النظر (المحافظة) السائدة -والتي، في هذه الحالة، ربما يجب قراءتها على أنها آراء كبار فقهاء المدارس الفقهية داخل التيار السُّني- لأنّ أيًّا منها لم يتضمن إنتاج بديل للقرآن العربي يمكن قراءته واستخدامه في الأغراض التعبدية. فقط عندما يتعلّق الأمر بهذا الشكل من الترجمة -الذي ظهر في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى التأثير الأوروبي- يشعر بعض العلماء والمفكرين المسلمين بعدم الارتياح؛ وذلك لعدد من الأسباب[7]. ودون كبير اعتبار لهذه الأسباب، يتحامل لورانس على الاتجاهات المعارضة للترجمة التي تنطلق من المشاكل العقائدية أو اللغوية التي لا يمكن فصلها عن محاولات توفير بديل مستقل للقرآن العربي بلغات أخرى. وربما كان تقديم الكتاب لهذه الاتجاهات للقارئ مشحونًا بالكثير من العواطف؛ لأنها جزء لا يتجزأ من عالم القرآن غير العربي. ومع ذلك، يبدو أن لورانس يفترض أنه يجب أن نمنح مكانة مرموقة للترجمات (السليمة) التي تهدف إلى أن تحلّ محلّ النصّ المصدر (انظر الصفحات 43-44) من خلال جعل القارئ مساويًا للمُرتِّل (ص120)[8]، ومهما بدا هذا الطموح بعيد المنال، فهو هدف يجب أن نسعى إلى تحقيقه؛ وسرعان ما يرفض التحفظات على هذا الهدف باعتبارها تشغيبات (أرثوذكسية). ومع ذلك، لا يوجد إجماع في دراسات الترجمة المعاصرة على منهج مثالي واحد للترجمة يمكن أن يكون مستقلًّا عن وظيفة الترجمة وطبيعة القارئ المستهدف؛ لذا قد يكون من المفيد تحليليًّا أن تكون أكثر انفتاحًا تجاه الأفكار المختلفة حول ما يجعل الترجمة (مثالية).

 بعد مناقشة شرعية ترجمة القرآن وإيجاز بعض الجوانب المهمّة في تاريخ ترجمة القرآن إلى اللغة الإنجليزية -مثل الدور المركزي للحركة الأحمدية المهمشة- شرع لورانس في تقديم القرآن أو بالأحرى حياة النبي محمد للقارئ، وقد فعل ذلك بطريقة تنم عن تعاطف وإعجاب شديد. يروي لورانس سيرة النبي محمد على أنها قصة واضحة لا مكان فيها للبس، ولا تظهر في سرديته الروايات المتضاربة ولا الفجوات في معرفتنا عن حياته؛ كما ادّعَى أنه يعرف متى شعر النبي محمد بالسموّ أو الصفاء الروحي (ص2)، فقد أحب «ليالي» رمضان «الشهر ذو الخصوصية» (ص5)... إلى آخر ما حكاه. بالتأكيد هذا آخر نوع من الكتاب والجمهور يمكن أن تهمه وجهات النظر التنقيحية حول التاريخ الإسلامي المبكر[9]؛ إلّا أن أطروحة لورانس سلسة ومبسطة للغاية، كما أنه يتكلم بيقين لا سبيل لنا إليه، خصوصًا لو أخذنا بالمصادر الإسلامية التي تقدّم روايات مختلفة وكثيرًا ما تتعارض مع بعضها بعضًا في الظاهر.

علاوة على ذلك، فإن السبب الذي يجعل سرد سيرة النبي محمد كافيًا كمقدمة للقرآن لقارئ غير متخصص =غير واضح؛ والأكثر من ذلك، أن نسبة النصّ القرآني التي تتناول حياة النبي محمد صغيرة نسبيًّا، كما أنه في بعض الأحيان تبدو العلاقة التي يربط بها لورانس بين القرآن والأحداث في سيرة النبي محمد (سطحية) إلى حدّ ما. نرى هذا على سبيل المثال، في العلاقة التي رآها لورانس بين آية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج: 39-40]، وقرار النبي محمد بالهجرة؛ فإنّ جميع العلماء -مسلمين وغير المسلمين- تقريبًا يرون أن هذه الآيات مدنيّة، أي: نزلت بعد فترة طويلة من الهجرة، وأكثر العلماء المسلمين متفقون على أنّ النبي محمدًا وأتباعَه لم يُمنحوا إذنًا بقتال أعدائهم -كما يظهر من هذا النصّ القرآني- إلّا بعد عدّة سنوات من الهجرة[10]. ولكن بعد ذلك، لا يتطرق لورانس إلى قضية التسلسل الزمني للقرآن على الإطلاق، على الرغم من أنه كان سيصبح مناسبًا إلى حدّ ما لحالات مثل هذه. وبشكلٍ عام، يعطينا الفصل الأول انطباعًا بأنّ القرآن كان مخصصًا فقط لإرشاد النبي محمد طوال حياته ولتسيير قراراته، ولا يمنح القُرَّاء فكرة عن تنوّع أساليب القرآن وموضوعاته وتغيرها على مدار تاريخ القرآن.

الفصل الثاني مخصّص للتتبُّع التاريخي لأول ترجمة لاتينية ثم إنجليزية للقرآن في القرن التاسع عشر. يحتوي هذا الفصل على تدفّق سردي جذّاب للغاية وجدير بالقراءة، وينطبق الشيء نفسه على الفصل التالي الذي انتقل إلى مناقشة جهود المسلمين الأولى في ترجمة القرآن إلى اللغة الإنجليزية، مع التركيز على جهود مسلمي جنوب آسيا المهمّة للغاية.

إلّا أنّ الكتاب لم يخرج في أي لحظة عن نطاق العالم الناطق بالإنجليزية، هناك استثناء وحيد وهو تعرّضه لترجمات القرآن الأوروبية الحديثة إلى اللاتينية، أمّا غير ذلك فلا يوجد أيّ ذكرٍ لاحتمال أن تكون الإصلاحات الإسلامية في الهند التي بدأت في القرن الثامن عشر، وترجمات القرآن إلى الفارسية والأوردية التي بدأها شاه ولي الله الدهلوي (1703-1762) وأبناؤه، بالإضافة إلى الجهود المبكرة في طباعة القرآن =قد لعبت دورًا أساسيًّا في استعداد الكثير من العلماء والمفكرين الهنود للمشاركة في ترجمة القرآن الكريم. وعلى عكس الفارسية والأوردية، تستخدم الإنجليزية نمَطَ كتابةٍ وقراءةٍ مختلفًا تمامًا عن اللغة العربية. إنّ التوسّع في معرفة المزيد حول آثار إنتاج نسخ قرآنية ثنائية اللغة كان من الممكن أن يزيد الكتاب ثراءً، بدلًا من الاقتصار على حقيقة أنّ محمد أسد ومحمد عليّ قد مَنَحَا دورًا مهمًّا للنصّ العربي (ص70-73)، على سبيل المثال: لم يذكر المؤلف ما الذي يعنيه هذا لمسارِ قراءة كتبهم؟ لكنَّ طلبًا مثل هذا قد يكون خارج استيعاب كتابٍ بهذا الإيجاز. والأمل في المستقبل أن يكون هناك تركيز أكبر على تتبّع أثر إصلاح النصّ وتاريخ الطباعة على القرآن، وسيكون ذلك مثاليًّا جدًّا لو انطلق من منظور عالمي.

من المؤسف أن الكتاب -كما سبق وأشرنا- لا ينطلق من مسألة طباعة القرآن كمؤثر مباشر في إنتاج الترجمات، وقد كان لذلك تأثير واضح على العديد من الملاحظات التي قدّمها المؤلف. على سبيل المثال، يعتبر لورانس ببساطة أن عدد آيات القرآن هو 6239 آية (ص90) على الرغم من أنه يذكر في مكان آخر أن بعض الترجمات تستخدم أنظمة مختلفة لعدِّ الآيات (ص111). هذا التناقض سببه توحيد نسخ القرآن بعد نشر طبعة القرآن الكريم في القاهرة عام 1924 التي اعتمدت النظام الكوفي في عدِّ الآي. غالب الترجمات المبكرة المنتجة قبل هيمنة اللهجة القاهرية (العربية المصرية) على جميع أنحاء العالم الإسلامي كانت تتبع أنظمة أخرى لعدِّ الآيات، ولا تزال هذه الاختلافات متوارثة حتى يومنا هذا، كما يمكن رؤية ذلك في ترجمات الطائفة الأحمدية. بطريقة مماثلة، عندما يشير لورانس إلى محددات عنونة وافتتاح السور في ترجمات القرآن باللغة الإنجليزية، فإن نظرة مقارَنة على طبعات/نسخ القرآن العربية قد تساعد في تسييق ما يسميه لورانس «المقاربة المسرحية/المصطنعة والمتكلفة» (ص110) لبعض المترجمين.

بدءًا من الفصل الرابع، يصبح من الصعب متابعة سردية الكتاب، وغالبًا ما تتخلّلها خُلاصات ببليوغرافية لا تقدّم سوى القليل من المعلومات المتعلقة بسياق البحث. على سبيل المثال، يذكر لورانس المعهد الملكي الأردني «آل البيت للفكر الإسلامي» الذي أطلق موقع altafsir.com، لكنه يقتصر على تلخيص المميزات التقنية لذلك الموقع (ص91). لا يعرف القرّاءُ الأفرادَ أو المؤسسات وراء المعهد، كما لا يعرفون مصدر تمويلهم أو خلفيتهم الدينية.

من الصعب تحديد الموضوع الرئيس للفصل الرابع (القرآن في الواقع الافتراضي وما بعده). قد يكون هذا بسبب حقيقة أن مجال ترجمة القرآن إلى الإنجليزية قد أصبح أكثر تعقيدًا في النصف الثاني من القرن العشرين ولا يمكن نظمه في سردية واحدة مباشرة. يبحث الفصل عددًا من ترجمات القرآن الحديثة وغير الحديثة التي نُشر معظمها على شكلِ كتب أولًا، وبعضها القديم لا يمكن العثور عليه على الشبكة، بالإضافة إلى بعض المواقع التي تقدّم ترجمات باللغة الإنجليزية. الترجمات التي نوقشت بتعمّق تشمل تلك التي كتبها آرثر جون أربري[11] ومحمد عبد الحليم[12]؛ كما عرج الكاتبُ سريعًا على بعض الأعمال النسوية، أو على الأقلّ الأعمال التي كتبها نساء؛ والغريب أن هذه هي الحالة الوحيدة التي أشار فيها الكاتب إلى ترجمة صحيح إنترناشونال Saheeh International التي قام عليها ثلاث سيدات (ص99).

 يقدّم الفصلُ الخامسُ مناقشةً لخيارات المترجمين بناءً على العديد من الأمثلة التوضيحية التي تركّز على الاختيارات الأسلوبية، وخاصّة فيما يتعلّق بالقافية والإيقاع/السجع. هنا -ولأول مرة- تظهر خصائص النصّ القرآني، أو على الأقلّ بعضها، وهذا ما يجعل هذا الفصل لا غنًى عن قراءته. يبدو أن لورانس مغرم بشكلٍ خاصّ بالترجمات المُقفَّاة. من المؤسف أن الجهود السابقة للباحثين الألمان في القرن التاسع عشر في هذا المجال[13] لم تُذكر، مع الأخذ في الاعتبار أن دراسات القرآن الألمانية كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في مجال الاستشراق. قد يكون قرار المؤلف بالتعامل مع اللغة الإنجليزية على أنها مكتفية ذاتيًّا تمامًا ومنفصلة عن اللغات الأخرى سببه أن الكتاب التزم الاختصار، ولكنه منعه من تقديم نظرة أوسع وأشمل لمكانة اللغة الإنجليزية في مجال ترجمة القرآن في العالمَيْن الإسلامي وغير الإسلامي.

من الواضح أنّ مسألةَ الإستراتيجيات الأدبية المختلفة المستخدمة في محاكاة قافية وإيقاع القرآن أكثرُ أهمية بالنسبة للمؤلف من (سياسات ترجمة القرآن) التي غطّاها الفصل السادس بإيجاز سريع. تعرّض المؤلف بشيء من الاقتضاب إلى مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، لكن ما قدمه من معلومات قديم وخاطئ إلى حدّ ما. على سبيل المثال، يستشهد المؤلف بالموقع الإلكتروني القديم للمجمع، قائلًا إنه نشر ترجمات إلى «أكثر من عشرين لغة» (ص123)، حاليًا وصل عدد الترجمات المتاحة للتحميل إلى ما يقرب من خمسين لغة[14]، يستهدف المجمع على وجه التحديد اللغات التي لم يُترجَم إليها القرآن من قبل، مثل: الشيشوا، والتلغو، والمندرية، والأمازيغية، والرومانية، وما إلى ذلك[15]. تُوزَّع هذه الترجمات على جميع الحجاج الذين يزورون مكة؛ ولذا فإن الاعتماد على أرقام المبيعات لدى البائعين الأمريكيين -كما يفعل المؤلف في صفحات قليلة- قد لا يكون مناسبًا للحكم على النجاح التجاري لهذه الترجمات، لكنه بالتأكيد ذو صلة بالحكم على تأثيرها. واليوم ربما يعتمد هذا التأثير على التبرعات وعدد التحميلات ومواقع الويب والتطبيقات أكثر من اعتماده على مبيعات الكتب، على الأقلّ بالنظر إلى القرّاء المسلمين خارج الساحة الأكاديمية. وتجدر الإشارة إلى أن لورانس لم يتعرّض للأهمية الكبرى للتطبيقات الإلكترونية للقرآن.

إنّ الفصل المتعلّق بسياسات الترجمة يقتصر -لسوء الحظ- على مناقشة صورة القرآن الكريم في وسائل الإعلام الأمريكية الشعبية. كما لم نحظَ بنظرة ثاقبة في أسباب تجاهل مجمع الملك فهد لمشروع محمد أسد واعتماده ترجمة يوسف عليّ في بادئ الأمر، ثم اختيار ترجمة تقي الدين الهلالي ومحسن خان في النهاية؛ أو في أسباب التقابل بين ترجمة الهلالي وخان في المساجد الأمريكية[16]. كان تحليل المؤلف قائمًا على أن الإسلام الشيعي أقلّ اهتمامًا بإتاحة الوصول المباشر للقرآن من التيار السُّني في السعودية؛ يبدو أنه لا يدرك أن إيران في السنوات الأخيرة أنشأت مركزًا خاصًّا لترجمة القرآن في محاولة منها لمنافسة ترجمات مجمع الملك فهد في المملكة العربية السعودية. هناك أيضًا القليل من المناقشة للقرارات التفسيرية التي يتخذها المترجمون والتي تمسّ القضايا السياسية أو العقائدية أو الأخلاقية الصريحة؛ فمثلًا يجب على المرء أن يتساءل: هل قرار ترجمة كلمة (أولياء) في: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}[المائدة: 51] بـ friends أصدقاء/ allies حلفاء/ helpers مساعدين/ leaders قادة، أو الاقتصار على النقحرة وكتابتها awliyā، قد لا يكون مهمًّا بنفس القدر مثل قرار الالتزام أو عدم الالتزام بقافية نهاية الآيات؟

وبشكل عام، فإن كتاب: «القرآن في اللغة الإنجليزية؛ سيرة» يأخذ منعطفًا أمريكيًّا إلى حدٍّ ما خصوصًا عند الاقتراب من نهايته، وذلك في الفصل السابع والأخير الذي عقده المؤلف حول المناقشات المستفيضة في الإعلام الشعبي (الأمريكي) حول كتاب ساندو بيرك. بالتأكيد هذا الفصل مهمّ وجدير بالقراءة لأنه أول دراسة تفصيلية وثاقبة لهذا العمل غير المألوف. إلّا أنّ له أثرًا على تقليص الظاهرة العالمية للقرآن الإنجليزي إلى بعد النظرة الأمريكية للإسلام بعد 11 سبتمبر.

في الختام، يعدُّ هذا الكتاب خطوة أولى نحو رسم معالم تاريخ ترجمة القرآن إلى اللغة الإنجليزية، ومن المرجح أن يستمر البحث عن منظور عالمي في هذا المجال؛ ولكي نخطو بالبحث إلى الأمام فإننا بحاجة إلى مزيد من الأطروحات الفكرية الممنهجة حول الدور الذي لعبته اللغات الإمبراطورية في المنح الدراسية، والحملات الاستعمارية، وتأثيرها على المغتربين المسلمين، ووسائل الإعلام المعولمة، فضلًا عن الأبعاد التفسيرية لترجمة القرآن.[17]

 

 

[1] هذه الترجمة هي لمادة The Koran in English: A Biography. By Bruce B. Lawrence ، المنشورة في Journal of Qur’anic Studies، في 2019.

[2] مترجم هذه المادة، مصطفى هندي، مترجم، له عدد من الترجمات المنشورة.

[3] بروس لورانس (1943-) أستاذ العلوم الإنسانية بجامعة ديوك الأمريكية، ماجستير اللاهوت من مدرسة اللاهوت الأسقفية، وحاصل على الدكتوراه في تاريخ الأديان من جامعة ييل، تتركز اهتماماته في الأديان؛ خصوصًا الإسلام. له عدد من الكتب في هذا السياق، منها: «القرآن؛ سيرة، 2006»، «من هو الله؟ 2015». (قسم الترجمات).

[4] رسام أمريكي من كاليفورنيا، بدأ مشروعًا جديدًا لتعريف الأمريكيين بالإسلام وبتعاليم القرآن بشكلٍ غير مألوف وذلك عن طريق تحويل السور والآيات القرآنية إلى لوحات فنية يعرضها في معارض الرسم حول الولايات المتحدة. (المترجم).

[5] ترافيس زاده، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة هارفرد ببنسلفانيا، وهو حاصل على دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة هارفرد، ومجالات اهتماماته تتعلّق بالإسلام المبكر، والدراسات القرآنية، وعلم الإسكاتولوجي «الأخرويات»، والشعائر، والجغرافيا المقدّسة، ومن كتاباته: «القرآن الكريم، الترجمة وترجمة القرآن الفارسي، 2012»، و«رسم الحدود في العصور الوسطى للإسلام، الجغرافيا والترجمة والدولة العباسية». (قسم الترجمات).

[6] Zadeh, Travis, The Vernacular Qur’an: Translation and the Rise of Persian Exegesis (Oxford: Oxford University Press, 2012).

[7] للمزيد حول هذه المناقشات بين العثمانيين والمصريين، انظر كتاب: م. بريت ويلسون M. Brett Wilson، ترجمة القرآن في عصر القومية: الثقافة والطباعة والإسلام الحديث في تركيا Translating the Qur’an in an Age of Nationalism: Print Culture and Modern Islam in Turkey -(أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 2014)- ص116-156، 184-220.

[8] يقصد أن (قارئ) الترجمة الإنجليزية للقرآن يمكنه -من جودة الترجمة- أن يحاكي مَن (يرتّل) القرآن العربي. (المترجم).

[9] تشير الكاتبة إلى اتجاه بعض الباحثين فيما يعرف بالاتجاه التنقيحي، للتشكيك الكلي في مدى صدق المصادر الإسلامية، وقدرتها على تقديم سردية موثوقة ومتماسكة لبدايات الإسلام، وميلها لاستخدام مصادر غير عربية في بناء هذه السردية، ومن أبرز رواد هذه الاتجاه، جون وانسبرو ويهودا دي نيفو وباتريشيا كرون وجيرالد هوتنج، وقد عقد قسم الترجمات بموقع تفسير ملفًّا حول هذا الاتجاه يناقش أفكاره من وجهات متنوعة، يمكن مطالعته على قسم الترجمات بموقع تفسير. (قسم الترجمات).

[10]  في هذا الكلام عدم دقة، وإلا فنزول آية الإذن بالقتال كان لدى مهاجرة النبي كما ذكر ابن عباس، وأول صدام وقع كان في معركة بدر، وهي في السنة الثانية من الهجرة، أي أن الإذن بالقتال لم يكن بعد عدة سنوات كما تذكر الكاتبة. (قسم الترجمات).

[11] آرثر جون آربري (1905-1969)، مستشرق إنجليزي ولد في بورتسموث، وقد حصل على منحة في دراسة الكلاسيكيات، فدرس اليونانية واللاتينية في جامعة كامبريدج، وحصل على البكالوريوس من كلية برمبوك، توجه لدراسة اللغات الشرقية بتوجيه من أستاذه منسن، ودرس العربية على يد ألن نيكلسون، وكانت زمالة آربري بالقاهرة، وقد عيّن رئيسًا لقسم الآداب بالجامعة المصرية «جامعة القاهرة». اهتماماته الرئيسة تركزت في التصوف الإسلامي وفي الأدب، ففي 1935، نشر كتاب: «المواقف والمخاطبات» للنِّفَّري، وترجمه للإنجليزية، كما عمل على فهرسة المخطوطات العربية والفارسية، وترجم عددًا من أعمال الشاعر والمتصوف والفيلسوف الهندي محمد إقبال، وتعتبر المهمّة الأبرز التي قام بها أستاذ اللغات الشرقية ورئيس كرسي اللغة العربية بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية وأستاذ كرسي توماس آدمز في جامعة كمبريدج، هو ترجمته للقرآن إلى اللغة الإنجليزية، فقد ابتدأ مشروعه بترجمة آيات مختارة من القرآن في الخمسينيات، ثم أصدر ترجمته المفسرة عام 1955، بعنوان: «the Koran interpreted» في مجلدين. (قسم الترجمات).

[12] محمد عبد الحليم، من مواليد مصر، قرية الأسدية التابعة لمحافظة الشرقية، وهو أستاذ الدراسات الإسلامية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، ورئس تحرير مجلة الدراسات القرآنية الشهيرة «journal of Quranic studies»، ومن أهم وأبرز أعماله، ترجمته للقرآن الكريم، والصادرة في أكسفورد عام 2004. (قسم الترجمات).

[13] انظر: Devin Stewart, ‘Rhyming Translations of Qurʾānic Surahs’, IQSA Blog, February 23, 2015, iqsaweb.wordpress.com/2015/02/23/stewart-rhyming-translations/, retrieved August 7, 2018.

[14] في آخر تحديث للموقع وصل عدد الترجمات المتاحة الآن إلى 74 لغة. (المترجم).

[15] انظر: www.muslim-library.com/category/arabic retrieved August 7, 2018، ولمزيد من المعلومات عن مجمع الملك فهد، بما في ذلك النسخة المطبوعة من الترجمات الإنجليزية التي يعتبرها لورانس غير متاحة، متاحة في: شتيفان فيلد، "Muslim Translators and Translations of the Qur’an into English’"، مجلة الدراسات القرآنية 15: 3 (2015)، ص158-182، ولم يستشهد بها المؤلف (لورانس).

[16] انظر: Muslim Translators and Translations.

[17] في السياق نفسه لموضوع (ترجمات القرآن)، كنا قد ترجمنا محاضرة للمستشرق الألماني شتيفان فيلد ألقاها في جامعة هارفرد عام 2010 ضمن محاضرات هاملتون جب، بعنوان: «القرآن اليوم، لماذا نترجم ما لا يقبل الترجمة؟» ترجمة: حسام صبري، وهي منشورة ضمن الترجمات المنوعة على قسم الترجمات بموقع تفسير، على هذا الرابط: tafsir.net/translation/16. (قسم الترجمات).

المؤلف

يوهانا بينك - Johanna Pink

باحثة ألمانية، أستاذ الدراسات الإسلامية وتاريخ الإسلام في جامعة فرايبورغ.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))