التفسير في الدراسات الغربية المعاصرة
الجزء الثالث: دراسة المعنى التفسيري
تناوَل هذا الكتاب المجمّع في جزأيه الأول والثاني واقع الدراسة الغربية للتفسير؛ فاهتمّ الجزء الأول بالإشكالات النظرية والمنهجية للدراسة الغربية للتفسير، وضمّ في ثناياه جُملة دراسات حديثة تسلِّط الضوء على مساحات متنوّعة من الإشكالات القائمة في الدرس الغربي للتفسير كما استقر في المرحلة الكلاسيكية (نشأة الدراسة الغربية للتفسير والإشكالات الحافة بها، طرق التصنيف والتحقيب المتبنّاة في التعاطي مع التفسير، مساحات الاهتمام المركزية في الدرس، سياسات الطبع والنشر وأثرها في رؤى الباحثين الغربيين الكلاسيكيين، وغير ذلك)، واهتم الجزء الثاني بالدراسة الداخلية لكتب التفسير في الدرس الغربي، وجمع عددًا من الدراسات التي عالجت الأبعاد الداخلية للمدوّنات التفسيرية، فتناولت مناهجها وطريقة تعاملها مع المصادر ومع التراث التفسيري السابق عليها وموقعها في تاريخ التفسير كنمط محدّد من التأليف وحقل علمي له ملامحه الخاصّة.
وفي إطار محاولة تكوين فهم متكامل للدراسة الغربية المعاصرة للتفسير، يتناول هذا الجزء الثالث والأخير من الكتاب، معالجات المعنى التفسيري في الدراسات الغربية المعاصرة، فيجمع عددًا من الدراسات التي قدّمَت معالجات لمعاني بعض آيات وسور القرآن، بشكل يتّصل بالمدونات التفسيرية التراثية والمنهجيات التقليدية وطرقها، أو اشتباكًا مع المعنى التفسيري من منظور المناهج المعاصرة.
وبحكم اهتمام هذا الكتاب المجمّع بالتفسير في الدرس الغربي المعاصر، فإننا اقتصرنا في هذا الجزء الأخير -كما هو بيِّن- على الدراسات الغربية التي تهتم بمعالجة المعنى التفسيري مرتبطة في ذلك -بغضّ النظر عن شكل هذا الارتباط- مع التقليد الإسلامي ومدونات التفسير، ولم نتطرق للدراسات التي تهتم ببناء المعنى من خلال أدوات التسييق التاريخي والنصّي في سياق الشرق الأدنى القديم المتأخر؛ مثل دراسات أوري روبن أو آدم سيلفرستاين، كون هذه الدراسات لا تهتم في أصل اشتغالها بالتفسير الإسلامي والمعاني الحاضرة فيه، وإنما هي أقرب لأن تكون درسًا للقرآن نفسه.
وقد شمل هذا الجزء إجمالًا دراسات تتناول المعنى التفسيري وفق منظور معاصر، ودراسات -لدارسين غربيين بعضهم من المسلمين- تتناول بالدرس معاني بعض الآي والسور، ومقالات تتناول طبيعة الدرس الغربي للتفسير نتيجة هذا الحضور للتفسيرات الإسلامية على ساحته.
وعلى المستوى التفصيلي ضمّ هذا الجزء تسع دراسات ومقالتين؛ الدراسة الأولى بعنوان: (الحجة البالغة؛ دراسة القرآن وتفسير الطبري في ضوء (السياسة) و(الخطابة) عند أرسطو)، لأولريكا مارتنسون، وهي دراسة تكثّف بشكل كبير قراءة المعنى التفسيري في ضوء المنهجيات المعاصرة، حيث تتناوَل مارتنسون تفسير الطبري في ضوء الجدل المعاصر حول اللغة والتواصل والمؤلّف والقانون، كذلك فإنها تهتم بدراسة المعنى مستحضرةً نقاشات وانسبرو حول تاريخ القرآن والتفسير، وتقرأ الخطاب القرآني ضمن سياق كتابَي أرسطو (الخطابة) و(السياسة)، مما يجعلها تبرز الاشتغال الغربي المعاصر حول التفسير في صلته بالقرآن في ضوء التطورات المعاصرة في فهم السياق الديني والنصي للشرق الأدنى القديم المتأخر.
ثم يضمّ الجزء أربع دراسات تمثّل اشتغالًا غربيًّا مباشرًا بالمعنى؛ الدراسة الأولى لمكسيم غوركي حول تفسير الآيتَين الأولى والثانية من سورة القمر في السياق الحديث وفي الإنترنت، يتناول فيها التعامل التفسيري الحديث عربيًّا وإسلاميًّا مع هاتين الآيتين وطبيعة هذا التفسير وعلاقته بالمدونات التراثية وكذلك بسياق المسلمين المعاصر خصوصًا فيما يتعلق بالكشوفات العلمية الحديثة، ودراسة لجوزيف ويتزتم عن دلالة المحصنات في الآية 24 من سورة النساء، تنطلق من التراث التفسيري وتستشكل المعاني المقدَّمة فيه وتقدم رؤية مغايرة لدلالة المحصنات، ثم دراستَان لماسيمو كامبانيني، يتناول فيهما القرآن من منظور مختلِف، حيث يحاول تأسيس ما أسماه بـ(الفلسفية القرآنية)، بما يعنيه هذا من بحث عن الرؤية الفلسفية للقرآن أو رؤية القرآن للحقيقة والمعرفة، ونجد في الدراستَين محاولة للاشتباك مع الرؤى الفلسفية لابن رشد والتأويل الظاهري لابن حزم، وكذلك بعض التفسيرات الموضوعية المعاصرة عند دراز والغزالي وحسن حنفي وفضل الرحمن مالك في سبيل تأسيس رؤية ظاهراتية للقرآن.
ثم يضمّ الجزء ثلاث دراسات تمثّل تفسيرات بقلم دارسين غربيين مسلمين، فيقدِّم مستنصر مير معالجة لمعنى آية ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ يعتمد على الرؤى المنهجية المعاصرة للفراهي وإصلاحي حول دور السياق في بيان معنى الآيات، ثم يقدِّم محمد عبد الحليم تفسيرًا لسورة مريم في ضوء المناهج البنيوية المعاصرة، ويمثّل تفسيره استحضارًا لبعض الرؤى المغيبة في السياق الغربي مثل البُعد الشفاهي في القرآن، وتمثّل الدراستان إيضاحًا للاستخدام المسلم -في السياق الغربي- للمناهج البنيوية، حيث يبرز هذا الاستخدام أولوية المعنى ولا يتوقف عند البُعد الشكلي أو عند المعنى (القديم)، ثم دراسة لريمون هارفي حول آية المكاتبة، وهي دراسة تحلِّل تطوُّر الآراء الفقهية والتفسيرية لهذه الآية في ضوء التطورات الاجتماعية والسياسة والمذهبية والقانونية للمجتمع المسلم في القرون الأولى، وتستحضر كذلك النقاشات الغربية حول نشأة التفسير ونشأة السلطة الفقهية للقرآن مع وانسبرو وباتريشيا كرون، وإلى جانب هذا فهي تعبّر عن همٍّ إسلامي معياري يتعلق بتصور القرآن عن المجتمع والعدالة.
ثم يختتم هذا الجزء بمقالتَين مهمّتين حول حقل التفسير المعاصر وأثر التغيّر الديموغرافي والبحثي في طبيعته؛ المقالة الأولى لبيتر كوبينز حول جدل المعيارية والموضوعية، والذي ازداد مع تنامي الدراسات التي يقدِّمها دارسون مسلمون ينطلقون من هموم معيارية معاصرة، حيث يتناول كوبينز كيف تمثّل دراسات التفسير تكثيفًا لهذا الجدل وكيف تمثّل كذلك -وفقًا لكوبينز- حلًّا له، والمقالة الثانية هي عرض الترجمة والتفسير الجديد الذي قدَّمه سيد حسين نصر، والذي يمثّل في حقيقة الأمر جدلًا حول الحقيقة فوق صفحة القرآن، مما يجعله فتحًا لنقاش إبستمولوجي وأنطولوجي من خلال القرآن، حيث يتناول بروس فودج الكتاب وموقعه ضمن التقليد الإسلامي وكذلك ضمن الدراسات الغربية للقرآن، وتقدِّم هذه المقالة الكثير من التساؤلات حول العلاقة الممكنة بين الرؤى الإسلامية المعيارية والدراسات الغربية الحديثة للقرآن، حيث يبرز كيف تغيِّب هذه الدراسات الكثير من ملامح الدراسة النقدية للقرآن، وهي الملامح الحاسمة من وجهة نظره، ويبرز كذلك الخلاف بين الرؤى التي يقدِّمها محرّرو الكتاب عن القرآن ككتاب للحقيقة والمعنى وبين القرآن كموضوع للدراسة التاريخية وفق الإبستمولوجي الغربي الحديث، فالمقالتان معًا تكثّفان هذا الجدل المعاصر حول القرآن والتفسير بين حدود (المعنى) و(الأمة).
وتمثّل هذه الترجمات في مجملها رصدًا لبُعد مِن أهمّ أبعاد التغيّر على ساحة الدراسات الغربية المعاصرة للتفسير، حيث يتم تجاوز حصر الاهتمام بالتفسير في دراسته كنظام فكري مستقل عن القرآن كما عند جولدتسيهر وبيكر وحتى جيليو، إلى النظر له -بجوار هذا- باعتبار دوره في عملية فهم أو بناء المعنى القرآني، مما يعني الاهتمام بـ(معنى القرآن) -كبُعد أساسي مغيَّب في الدراسات الغربية منذ المرحلة الكلاسيكية-، سواء على مستوى مباشر يتعلق بدلالة القول القرآني في بعض السور أو الآيات، أو على مستوى أوسع يتعلق بأفق المعنى الذي يخلقه هذا النص للمؤمنين، فضلًا عن الاهتمام بما يعنيه هذا النص للمؤمنين المعاصرين تحديدًا، مما يعني الاهتمام بـ(الأمة) الحية خلافًا لعزلها المعتاد عن النص.
ويتضاعف أهمية هذا البُعد نتيجة كون الكثير من الفاعلين على ساحته هم من المسلمين الغربيين، هذا يجعل المعنى الذي يهتم به الدارس ليس معنى بعيدًا زمانًا -حين يتم دراسة التراث- أو مكانًا -حين يتم دراسة الحاضر الإسلامي في العالم العربي وغير العربي-، بل هو معنى معاصر على المستويين، حيث يتعلق هذا المعنى الوجودي والفقهي والعقدي بمسلمين غربيين معاصرين، كذلك فإنّ كون هؤلاء ممن ينتمون لسياق الدراسة الغربية للقرآن والتفسير ويعملون في حدودها، يجعل عملهم مساءَلة لطبيعة الدراسة الغربية للتفسير.
ولعلّنا نستطيع أن نلمس أثر وأصداء هذا التغيّر في النقاشات الغربية المعاصرة حول دراسات التفسير والقرآن، حيث يمثل هذا التغيّر مقاومة أو زعزعة للحدود العامة التي استقر عليها الاشتغال الغربي في دراسة التفسير والقرآن، حيث يحضر القرآن في هذه الدراسات وعلى عكس طبيعة حضوره في المرحلة الكلاسيكية، ككتاب له معنى يتجاوز سياقه التاريخي الذي طالما حُصِر المعنى القرآني فيه، معنى يخصُّ مسلمين معاصرين، بل ويقدِّم رؤية عن الحقيقة والمعنى تمثّل فلسفة خاصة عالمية في مقابل الفلسفات المعاصرة؛ لذا نجد أن الكثير من النقاشات المعاصرة اهتمت بتناول أثر هذا التغير الذي ربما لا يمثّل فقط استشكالًا لحدود الحقل، بل لحدود العقل الغربي نفسه إنْ صح التعبير.
وجدير بالذِّكْر أنّ هذه الترجمات سبق أن نشرناها بشكلٍ مستقلّ على موقع تفسير ضِمن قسم الاستشراق، وفي إعادة نشرها هاهنا قُمْنَا فقط بحذف الحواشي المكرّرة في ضوء النشر المجمّع وتعديل وإضافة بعض الحواشي، كما أنه -وفي سياق هذا النشر الإلكتروني السابق- تمّ وَضْع مقدّمات لكلّ مادة على حِدَة تعمل على إبراز موضوع اشتغالها وتوضيحه، وقد آثرنا الإبقاء على هذه المقدّمات هاهنا ليبرز للقارئ قبل الولوج لكلّ مادة موضوعها وطبيعة المقاربة التي تعمل عليها.
مواد تهمك
- التفسير في الدراسات الغربية المعاصرة؛ الجزء الأول: الإشكالات النظرية في الدراسة الغربية للتفسير
- التفسير في الدراسات الغربية المعاصرة؛ الجزء الثاني: الدراسة الداخلية لكتب التفسير
- إعادة قراءة الطبري بعيون الماتريدي: إطلالة جديدة على القرن الثالث الهجري
- التفسير في الدراسات الغربية المعاصرة؛ قضايا منهجية، مساحات جديدة في تناول التفسير - مدخل تعريفي
- تاريخ القرآن في الدراسات الغربية المعاصرة؛ الجزء الأول: النظريات المعاصرة حول تاريخ القرآن
- التفسير باعتباره خطابًا؛ المؤسسات، والمصطلحات، والسلطة