التفسير في الدراسات الغربية المعاصرة
الجزء الأول: الإشكالات النظرية في الدراسة الغربية للتفسير

نشر قسم الترجمات بموقع تفسير عددًا من المواد العلمية حول الدراسة الغربية للتفسير، سواء بشكل مواد منوّعة أو ضمن ملفات، ومع هذا التزايد في المواد ارتأى القسم إعادة نشرها في كتاب مجمع ومرتّب وفق محاور تيسر للقارئ الاطلاع على هذا النتاج، وقد تم تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، هذا هو الجزء الأول، ويدور حول الإشكالات النظرية للدراسة الغربية للتفسير.

  في القرن التاسع عشر الميلادي بدأ الاهتمام الغربي بالقرآن بشكله العلمي الذي نعرفه إلى الآن، فهذا القرن يعدّ عصر انطلاق الدراسة البحثية النقدية للقرآن بتعبيرات نويفرت، وقد تركّز الاهتمام الأساسي لهذه الدراسات المبكّرة بدراسة سياق القرآن التاريخي والنصِّي، ودراسة تاريخ تشكّل القرآن في نسخة موحّدة وقياسية (مصحف إمام)، أي أن هذه الدراسات تركّزت بالأساس في مساحة تاريخ القرآن، واشتغلت وفق المنهجيات الفيلولوجية المتاحة في هذا القرن، وهدفت -بحسب طبيعة الدرس الغربي في هذه المرحلة- لبحث ما يُعتبر (أصول) القرآن وعلاقته بالدعوة المحمدية، ومعناه (الأول) أو (القديم) المرتبط بسياقه التاريخي، ولم يكن التفسير (المعاني التي أنتجها المسلمون حول القرآن) موضع اهتمام في الكتابات المركزية لهذه الفترة، ومنذ هذا الوقت تكرّس في الدرس الغربي -وكما يرى جوزيف لمبارد وفراس حمزة وغيرهما- الفصل بين دراسات القرآن ودراسات التفسير، أو  بعبارة المسكيني الفصل بين (المعنى) و(التاريخ)، (الذات) و(الموضوع).

إلا أنّ هذا الفصل بين دراسات القرآن ودراسات التفسير لا يعني أن التفسير لم يدرس ضمن الدراسات الغربية، بل في حقيقة الأمر بدأت دراسة التفسير في مرحلة مبكّرة من الدراسات الغربية الحديثة، حيث اهتم جولدتسيهر بدراسة التفسير في كتابه الشهير (مذاهب التفسير الإسلامي)، إلا أن هذه الدراسة لجولدتسيهر لم تكن تعني تجاوز الفصل بين المجالين (القرآن) و(التفسير)، حيث ظلّ معنى القرآن (الأول) مسألة تاريخية تخصّ دراسات القرآن النقدية، ودُرس التفسير مع جولدتسيهر ثم بيركلاند وغيرهم باعتباره جزءًا من التاريخ الفكري والعلمي الإسلامي، وليس باعتباره -سواء على مستوى النتاجات أو المناهج- أحد طرق دراسة وفهم القرآن نفسه، كذلك كان التفسير يُدرس ضمن تحقيبات وتصنيفات مذهبية عامة، ولم يكن ثمة اهتمام باقتراب أكبر من طبيعة العمل التفسيري نفسه والبناء الخاصّ لمدوناته!

وقد مثّل كتاب جولدتسيهر حول التفسير منذ وضعه المرجع الأساسي للفهم الغربي لهذا الفنّ الإسلامي، ووضع الكتاب ملامح دراسة التفسير، سواء على مستوى الرؤية العامة للتفسير وصِلته بالقرآن، أو على مستوى تاريخه وعملية تصنيفه وتحقيبه، أو حتى على مستوى بعض التفاصيل المركزية المتعلّقة بالكتب ذات المرجعية في التراث التفسيري التي تمثّل أساس دراسة الحقل، وظلّت دراسة جولدتسيهر هي عنوان الدراسة الغربية للتفسير إلى أن ظهرت كثير من التغيّرات التي بدأت تفرض نفسها على ساحة الدرس الغربي للقرآن في العموم، وحتمت مسائله الكثير من الأساسات النظرية والمنهجية لهذا الحقل، ومن ضمن هذه المساحات التي خضعت للتساؤل والاستشكال النظري والمنهجي = الدراسة الغربية للتفسير، مما عنى التساؤل عن مدى شمول ودقة كتاب جولدتسيهر ذي المرجعية الكبيرة، ومدى إمكان الاعتماد على الرؤية التي يقدّمها لفهم حقل التفسير جملة وتفصيلًا.

فنتيجة بعض التغيرات مثل؛ الاكتشاف لبعض كتب التفسير التي لم تكن مكتشَفة وقت دراسة جولدتسيهر، وكذلك الانفتاح على مناهج جديدة، ظهرت في الدراسات المعاصرة العديد من المحاولات لطرح تصنيفات وتحقيبات مختلفة لحقل التفسير قائمة على دراسة أكثر صِلة بالمدونات التفسيرية، كما كان لهذه التغيرات أثرها على تجاوز (الحنين إلى الأصول) الذي يعطي الأولوية للمرحلة المبكّرة من التفسير، كما أدّى هذا إلى التوسّع في دراسة المدونات نفسها وعدم الانحصار في المدونات المطبوعة والمتاحة لباحثي القرن التاسع عشر، وكذلك التوسّع في لغة وجغرافيا المدونات وعدم الانحصار في المدونات التراثية العربية وحدها، بل وعدم الاقتصار على (مدونات التفسير)، ومحاولة التوسع نحو العمل التفسيري الأعم كممارسة قد تكون نصّية خارج مدونات التفسير، أو تكون غير نصّية من الأساس، في تجاوز للانحصار في المنهجيات الفيلولوجية الضيّقة، واتجاه لتوسّل المنهجيات المعاصرة في علم الاجتماع وتحليل الخطاب والأنثروبولوجيا = نتج عن كلّ هذا شكلٌ أكثر تعقيدًا للعمل الغربي على التفسير.

وقد حاول قسم الترجمات ملاحقة هذا النتاج الغزير والمتنامي عبر نشر العديد من الترجمات، سواء المفردة أو التي تم نَظمها في بعض الملفات، وكان الغرض من هذا تقديم صورة عن الشكل المعاصر للدراسة الغربية للتفسير، والتطوّرات التي حدثت فيها، والقضايا النظرية والمنهجية التي باتتْ تمثّل موضعًا مركزيًّا للنقاشات حول التفسير، ومع كثافة هذه الترجمات وكثرتها، فقد ارتأى القسم إعادة نشرها في شكلٍ مجمع داخل كتابٍ أو ملف مجمع مؤطّر بموضوعات محدّدة؛ حتى تساعد الباحث بشكلٍ أكبر في سبيل التعرّف على النتاج الغربي المعاصر حول التفسير في انشغالاته النظرية والمنهجية المركزية. 

من هنا فإنّ هذا الكتاب المجمّع الذي بين أيدينا يضمّ مجموعة منتقاة ومرتّبة من الدراسات العلمية المترجمة لعددٍ متنوّع من أهم الباحثين المعاصرين في هذا الحقل، هذه المجموعة ترسم صورة عن هذا الاشتغال العلمي الغربي المعاصر في تناميه وتطوّره وفي علاقته بالدراسات الكلاسيكية حول التفسير، ومن أجل تحقيق الهدف بنقل الجدل الغربي المعاصر حول التفسير للقارئ العربي؛ فقد تم تقسيم هذا الكتاب إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول -هذا الجزء الذي بين أيدينا-: يتعلّق بالإشكالات النظرية حول الدراسة الغربية للتفسير. الجزء الثاني: يتعلّق بدراسة المدوّنات التفسيرية ذاتها ومناهجها. الجزء الثالث: يتعلّق بالتفسير في السياق الغربي المعاصر، وبعض المباحث ذات الصِّلة به.

يضم هذه الجزء الأول ستّ دراسات وثلاثة عروض كتب، وتدور هذه الأعمال حول إشكالات الدراسة الغربية للتفسير منذ بدايتها في القرن التاسع عشر، فتتناول نشأة هذه الدراسة وإشكالاتها (دراسة التفسير القرآني في الحقبة الإسلامية الوسيطة والاستشراق الحديث، فودج)، وتتناول قضايا التحقيب والتصنيف والدراسة الداخلية للتفسير (تفاسير القرآن، وليد صالح)، (من أين تبدأ الحداثة، محمد بن علي الشوكاني وتراث التفسير، يوهانا بينك)، (عرض كتاب أهداف كتب التفسير ومناهجها وسياقاتها، القرون: الثاني/الثامن -التاسع/الخامس عشر، تحرير: كارين باور، أولريكا مارتنسون)، (عرض كتاب التفسير وتاريخ الفكر الإسلامي؛ استكشاف حدود التفسير كنوع، تحرير أندرياس غوركي ويوهانا بينك، كوبينز)، وتتناول الحِقَب المهملة في تاريخ التفسير، وكذلك ما يتعلّق بسياسات الطبع والنشر وأثرها في رؤى الباحثين الغربيين الكلاسيكيين للقرآن (التفسير باعتباره خطابًا، المؤسّسات والمصطلحات والسلطة، يوهانا بينك)، (تمهيد خطير في قواعد التفسير للقاسمي)، (هل ثمة اتجاه للقطع مع المنهج الدراسي العثماني التقليدي في علم التفسير؟، بيتر كوبينز)، فنستطيع القول أنّ هذه الدراسات ترسم صورة للنقاش الغربي المعاصر حول الإشكالات النظرية والمنهجية للدراسة الغربية للتفسير، مما يجعلها شديدة الإفادة للباحث العربي.

وجدير بالذِّكْر أنّ هذه الترجمات سبق أن نشرناها بشكلٍ مستقلّ على موقع تفسير ضمن قسم الاستشراق، وفي إعادة نشرها هاهنا قُمْنَا فقط بحذف الحواشي المكرّرة في ضوء النشر المجمّع وتعديل وإضافة بعض الحواشي، كما أنه وفي سياق هذا النشر الإلكتروني السابق تم وضع مقدّمات لكلّ مادة على حِدَة تعمل على إبراز موضوع اشتغالها وتوضيحه، وقد آثرنا الإبقاء على هذه المقدّمات هاهنا ليبرز للقارئ قبل الولوج لكلّ مادة موضوعها وطبيعة المقاربة التي تعمل عليها.

المؤلف

إعداد/ قسم الترجمات بموقع تفسير

مسئولو قسم الترجمات بموقع مركز تفسير للدراسات القرآنية

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))