الفلسفة والقرآن (2-2)

ضيف الحوار : عبد الحميد مدكور
نستكمل حوارنا حول الفلسفة والقرآن مع أ.د/ عبد الحميد مدكور، وفي هذا الجزء الثاني والأخير يتركّز الحديث في التراث التفسيري؛ تحقيقه ومناهج دراسته، واستكشاف أبنيته المعرفية، كما يتناول التصوف والمنهج الذوقي، ويُخْتَتَم الحوار بنصائح علمية للباحثين في ضوء رؤية القرآن للعلم.

مقدمة[1]:

  يتواصل حوارنا مع الأستاذ الدكتور/ عبد الحميد مدكور -أستاذ الفلسفة الإسلامية بدار العلوم بجامعة القاهرة-، وبعد أن دار جزء الحوار الأول حول الفلسفة الإسلامية؛ فألقَى الضوءَ على إشكالات هذا المصطلح، وعلى علاقة الفلسفة بالدّين عمومًا، وبالأخصّ علاقة الفلسفة التي أنتجها الفلاسفة المسلمون بالقرآن، بالإضافة لتناول أزمة المنهج التي يعيشها الفكر العربي المعاصر، وموقع القرآن من هذه الأزمة، سواء ما يتعلق بقضية تعدّد مناهج قراءة القرآن على ساحة الفكر المعاصر ومدى نجاعة المناهج الغربية في دراسته، أو قضية احتواء القرآن على منهجٍ خاصٍّ للمعرفة وكيفية الوصول لهذا المنهج[2]، فإنّ هذا الجزء الثاني والأخير من الحوار يتناول محورين: المحور الأول: التراث؛ منهجياته ومناهج دراسته وتحقيقه، يدور فيه الحديث عن واقع التراث التفسيري ومدوناته الكبرى من حيث الاهتمام به تحقيقًا ودراسةً لقواعده وبناه المنهجية الحاكمة. ثم في المحور الثاني: التصوّف والقرآن، يدور الحديث عن التصوّف والمناهج المعرفية وعلاقة هذا بالقرآن، انطلاقًا من الاهتمام المعروف لفضيلة الأستاذ الدكتور مدكور بالتصوّف التراثي والمعاصر، واهتمامه الخاصّ بمحمد إقبال الفيلسوف والمتصوّف الهندي، كما نختم حوارنا مع فضيلته بأسئلة ختامية حول رؤيته لواقع البحث العلمي وبعض النصائح التي يقدمها للباحثين.

وفيما يلي نصّ الحوار:

نصّ الحوار

المحور الأول: التراث؛ منهجياته ومناهج دراسته وتحقيقه:

س1: يخضع التراث -خاصةً التراث التفسيري- دومًا لانتقادات عدّة، فنجد الأحكام بأن المناهج التراثية غير كافية وغير مفيدة، وأنه لا بد من تجاوزها بمناهج حديثة أكثر نجاعة، في حين أننا نستشعر أنّ التراث لم يُدرس بعد الدراسة الكافية التي تستطيع استخراج مناهجه، واستخراج معارفه، فهل تتفقون معنا في هذه الرؤية؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

أكثر الذين يتحدّثون عن التراث على هذا النحو لم يحققوا مخطوطًا، ولم يقرؤوا كتابًا كاملًا في تفسير، أو في حديث، أو في تاريخ، أو في فقه، وإذا نظروا إلى مثل هذه فينظرون إليها بعين غريبة؛ ونحن نقول في المناهج: إنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره، فأيّ واحد من هؤلاء أغرق نفسه في هذا التراث، ثم نقده بمثل ما ينقد به، وهو عندما يقرأ التراث اليوناني في أساطيره الأولى، الأساطير الأصلية الأولى يمجّدها تمجيدًا، ويرفع شأنها، ويُعلِي مقامها، ويبيّن ما فيها من الخيال، وما فيها من الإبداع، لكن عندما تأتي إلى الإسلام الأمر يكون على خلاف ذلك.

فبنَى التراث ومناهجه تحتاج أولًا للدرس المعمّق، فهذا ما يؤهلنا للوقوف على فائدتها، وغريب أننا نجد من بعض المستشرقين مَنْ كان عنده من الإنصاف والجَلَد ما استطاع به أن يستكشف الكثير من كنوز هذا التراث المخبوءة، في حين نحن أصحاب هذا التراث والمسؤولون عن إحيائه وتجديده لا نقوم بهذا على أكمل وجه، بل يوجد بيننا من يكرّر هذا الكلام العامّ عن عدم فائدة المعارف والمناهج التراثية.

فالطريق القويم هو العودة لهذا التراث بالتحقيق والدّرس المعمّق، ثم بناء الأحكام لاحقًا على معرفة دقيقة بتفاصيل وتشابكات هذا التراث شديد الغنى والثراء.

س2: بمناسبة تحقيق التراث وكتب التراث كنتم قد أشرفتم على تحقيق تفسير الطبري، فنودّ لو تطلعوننا على السبب الذي دفعكم للاهتمام بتفسير الطبري؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

طبعًا الطبري نفسه عالم ضخم جدًّا من أبرز وأعظم وأكبر القامات التي ظهرت في بيئتنا العلمية الإسلامية، ومعارفه متوسعة ومتعمّقة في الفقه والأصول والتاريخ والحديث، وفي التفسير؛ ومجمل العلوم تقريبًا.

وهو يقف في موقع تاريخي وسط بين مَنْ سبقوه وبين من جاؤوا بعده، فجمع في كتابه علمَ السابقين على نحوٍ غير مسبوق؛ ففيه ما يتعلّق بأحاديث مفسّرة للقرآن الكريم، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين، استوعب هذا كلّه، ونسَّقه، ونظَّمه، وله فيه منهج عندما يستعرض؛ فنجده يأتي بالآية يدرسها لغويًّا، ويدرسها من ناحية القراءات، ويدرسها من ناحية الأحاديث التي جاءت في تفسيرها إن كانت عندنا أحاديث، ويذكر أقوال الصحابة، ويذكر أقوال التابعين على نحوٍ مدهش، وهو يدرس هذا بأسانيده، وبمضمونه، وبأفكاره الأساسية، ثم ينتقل إلى الثاني، ثم إلى الثالث، ثم إلى الرابع، إلخ...، ثم يقارن بينها، ثم يبيّن الذي يرتضيه من القول في هذه الأقوال كلّها، ويستدلّ لرأيه بكلّ ما يؤدي إلى قوَّته، فهو شخصية جبارة في الحقيقة، فكأنه عشرات من الرجال في عقلِ رجلٍ واحد.

ومن ثمَّ فإنّ تراث هذا الرجل يستحقّ العناية، وقد تصدى لتحقيق تفسيره آل شاكر، وهم أفضل من قدَّم تحقيقًا، ولكن للأسف التحقيق وصل حتى سورة إبراهيم، أي بعد الاثني عشر جزءًا بقليل، أو بكثير، أي لم يصل إلى الثالث عشر.

دعا هذا إلى إصدار طبعة نقديّة فيها جهدٌ تحقيقيٌّ؛ أرجو أن يكون وافيًا إلى حدٍّ كبيرٍ.

وربما من أسباب هذا أيضًا أني اطَّلعتُ على بعض الكتب المحقّقة ووجدت بعض المحققين الكبار عندما أرادوا أن ينشروا الطبري قالوا في مقدمة تحقيقهم: «إنّ بعض البحوث التي عُنِيَ بها الطبري كانت تتعلّق ببيئتها وبعصرها، ولم يُتَوَصَّل فيها إلى رأيٍ يطمئن إليه القلب»، وكانوا يشيرون في هذا الصدد إلى مسائل مثل مسألة نزول القرآن على سبعة أحرف.

واعتبروا أن هذا الكلام لا يؤدي إلى تقديم شيء؛ وبالتالي قاموا بحذفه! معنى ذلك أنهم يتصرفون في النصوص على غير ما يقوم عليه علم التحقيق؛ وقد كان الأَوْلى والأقرب لما قُرِّر عند المحققين أن تبقى هذه المساحات في النصّ كما هي وأن يُعَلَّق عليها في الحواشي متى رأى المحقّق حاجة، إنما أن نتدخل في بنية النصّ نفسه، فنحذف منه ما نشاء، فهذا ما لا يستقيم مع منهجية التحقيق، ويؤدي حين يتم تكراره واتخاذه قاعدة إلى تقطيع أوصال الكتب التراثية المحقَّقة، وعدم تعبيرها عن عصرها الذي ظهرت فيه.

ومن ثمَّ فإن الأمر كان يحتاج إلى إصدار نشرة يكون فيها شيءٌ من تحقيق مطالب التحقيق؛ أي: القيام بعناصر التحقيق بقدر الإمكان من حيث ضبط النصّ، من حيث توثيقه بالرجوع إلى مصادره القديمة أو الحديثة، أو الأحاديث التي رواها، أو الآثار التي جُمِعَت في آثار الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، أو تلك التي أخذها عنه الذين جاؤوا مِن بعده ووثّقوها؛ واحد مثل ابن كثير على سبيل المثال، أو غيره، أو السيوطي في (الدر المنثور)...إلى آخره، أو غيرهم من المفسّرين، وقد روعي هذا قدر الطاقة وقدر الاستطاعة.

ثم أعانني الله على كتابة مقدمة اجتهدتُ فيها قدر الطاقة -وإن لم أكن متخصصًا في التفسير- أن أقدِّم فكرة لقارئ هذا الكتاب عن منهج الطبري، وعن طريقته في التفسير، وعن مزايا عمله الذي قدَّمه، وعن القواعد التي وضعها، ولكنها قواعد جزئية مستخلصة -كما قلت- من الأجزاء الأُولى من القرآن، وإن كانت تعود في بعض عناصرها إلى عناصر مستخلصة من أجزاءٍ أخرى غير الأجزاء الأولى، ووقفت منه موقفًا نقديًّا فيما يتعلق بالإسرائيليات أيضًا؛ لأنه وهو الحريص على عدم الوقوع في مهاوي الإسرائيليات، والمدرك لعدم اعتمادها على مصادر وثيقة، لكنه أوردها في بعض المساحات، أشرت إلى نماذج منها حتى يكون القارئ أيضًا على بيِّنة، وتأتي بعض التعليقات فيما يتعلق ببعض الآيات والتفاسير، أو ما يظهر من بعض الأخطاء أحيانًا؛ مثلًا الخلط بين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية، ونسبة ما إلى هذه لتلك، وما إلى تلك لهذه...إلى آخره، فكان التدخل يأتي أحيانًا لتصويب بعض الأفكار التي لم تكن واضحةً تمامًا في عقله وفي ذهنه في مثل هذا الأمر.

فهذا هو الذي دعا إلى التحقيق، وأرجو أن يكون هذا الكتاب قد أخذ نصيبه في الاطلاع العامّ عليه، والاستفادة منه والوقوف على أهمية العمل الذي تصدى لتحقيقه.

س3: تفسير الطبري مثل ما تفضلتم بذِكره من أبرز وأهم مؤلفات التفسير، ولعلّه من أكثر المدونات التفسيرية التي حظيت بتحقيقات، إلا أن الناظر في الدراسات المعقودة حول هذا التفسير يلحظ أنه على كثرتها فإن هذا التفسير لا يزال بحاجة لدراسات معمّقة تُعنى باستخلاص البنية المنهجية التي حكمَتْ فِكْر الطبري لدى تصنيفه.

فلو توجِّهون إلى أبرز الآفاق، أو المشروعات البحثية التي يمكن العمل عليها على تفسير الطبري تحديدًا.

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

طبعًا هذه الدراسة العميقة لبنية النصوص أمرٌ مهم، وأرجو لكم أن تنجزوا فيه في «مركز تفسير» شيئًا كبيرًا، ووجود النقص يستدعي طلب الكمال؛ يعني إذا حكَّمنا قواعد المنهج على الطبري نفسه، ثم قارنَّا تحكيمه، أولًا استخلصناها بصورةٍ شاملة، وقعَّدناها بطريقةٍ منهجية، ثم تتبعنا مسيرتها فيما تلا ذلك من التفاسير، فإن ذلك سيؤدي إلى نَقْلةٍ مهمةٍ جدًّا فيما يخرج من الدراسات حول التفسير.

فبعض الناس قالوا: مبنيٌّ على الطبري، آخِذٌ من الطبري، لكن بأيّ مستوى أخذ من الطبري؟ وبأي كيفيةٍ؟ هنا تستطيع أن تقوم بدراسات مقارنة لظواهر تفسيرية موجودة عند الطبري، ثم تتبعها عند الذين جاؤوا من بعده؛ لكي نرى إلى أيّ مدًى تأثروا، وإلى أيّ مدًى أضافوا، فكلّ يستفيد مما سبقه، والمعارف الإنسانية تنمو وتزداد، وتتغير أفكار الناس من وقتٍ إلى وقتٍ، ويتحوّل الأمر فيما يتعلق بهذا التطوّر إلى أفكار.

فعندئذٍ ينبغي أن تدرس المسألة دراسة تاريخية مقارنة، ثم نقديّة، وعندئذٍ سيضاف إلى الأمر جديد، الأمر قائم على الاستقراء والتتبع، والدراسة تكاد تكون إحصائية أحيانًا، ثم تقدَّم فيها ظواهر مقارنة، ثم نقيس هذه الظواهر إلى أيّ مدى أضافت أو تأثرت، وهذا يعطينا فكرة عن تسلسل العمل في حقل التفسير، وعن التأثير الذي فعله هذا الكتاب الذي يُعَدُّ من أكبر الكتب تأثيرًا في مسار علم التفسير.

س4: عطفًا في ذات المقام (مقام الطبري والتحقيق)، لا يزال هناك شكاوى كثيرة -حتى من الباحثين في التفسير- من ضَعف التحقيق في جانب التفسير والتأليف فيه بشكلٍ عامٍّ؛ فكثير من التحقيقات تصدر في كثيرٍ من فروع المعرفة، وربما هناك تحقيقات قد يرى البعض أنْ لا حاجة إلى الإكثار منها، أو أنّ عليها بعض الملاحظات، ولكن في مجال التفسير تُعاني مدوّنات التفسير من ضعف في عملية التحقيق، فكيف ترون هذا الإشكال وما هي توجيهاتكم فيه؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

لا يتصدى لتفسير القرآن إلا عالمٌ فحل؛ لأنك تتعامل مع ثلاثين جزءًا، يعني لا تتعامل مع ظاهرة صغيرة عن فكرة، عن مذهب فلسفي، عن رأي، حتى عن حقبة تاريخية، وإنما تتعامل مع كتاب متنه يقع في ثلاثين جزءًا، فهذا مشروع ضخم؛ ولذلك يحتاج إلى همّةٍ عالية جدًّا في أن يُقْدِم إنسانٌ على هذا الأمر، طبعًا لا بد أن نعرف الجهد الكبير الذي يجب على القائم بالتفسير أن يحصِّله في نفسه أولًا من حيث الإدراك لعلوم القرآن، من حيث القراءة لكتب التفسير القديمة المتعدّدة، والمتوالية على مدار القرون.

ونحن في العصر الحديث لا نجد مثل هذا الكثير، بل نجد قراءات غير مكتملة، إما تفاسير غير مكتملة، أو تفاسير تقدّم للجمهور العامّ، أو كتبًا تختار موضوعات من القرآن الكريم؛ (خمسة موضوعات من القرآن الكريم)، أو (الموضوعات الكبرى في القرآن الكريم)؛ لأن الجهود غير جهود هؤلاء، من الذي يفعل مثل الطبري أو الرازي؟!

طبعًا هذه مسائل ضخمة وتحتاج الآن إلى فِرَق تقوم بمثل هذا الأمر مع وحدة النّفَس الذي يكون في تفسير القرآن، لكن هذا أمرٌ ليس باليسير في عصر التفتت العلمي الذي تقوم عليه الرسائل، الآن تؤخذ رسائل دكتوراه في تفسير سورة (الفرقان)، في تفسير سورة (ص)! 

وبالإضافة لهذا المجهود الضخم المراد، نجد كذلك صعوبة أخرى هي ضَعْف التكوين العلمي عند المعاصرين، وهذا الأمر ينعكس على تحقيق التفسير بالطبع، حيث يحتاج لمجهودات مضاعفة لتحقيق متن بهذه الضخامة والكثافة.

فالأمر يحتاج إلى فِرَق، ويحتاج إلى مؤسسات تدعم النهوض بتحقيق متن تفسيري طويل بهذه الصورة، ثم نقده على أسس وقواعد منهجية، وتوفير مراجعات علمية يقوم بها المختصّون بالتحقيق الذين لا يستطيعون أن يخصصوا وقتهم كلّه لمثلِ هذا الأمر، لكن يكون لديهم من الخبرة والرؤية ما يساعد على ضبط المنهج، وعلى حسن تطبيق مثل هذا المنهج.

المحور الثاني: التصوّف والقرآن:

س5: لفضيلتكم أيضًا اهتمامٌ كبيرٌ بالتصوّف، وبالمنهج الذّوقي في المعرفة، وهناك بعض المفكّرين مثل طه عبد الرحمن يرى أنّ الفكر العربي المعاصر هو فكر تجريدي، تسيطر عليه آفة التجريد، وأنه يهمل بصورة كبيرة الجانب الروحي.

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

هذا أثرٌ من آثار تحكيم المنهج العقلي في كلّ شيء، وكما قلت: القرآن موجود فيه بِنًى متكاملة، وأنت تستطيع أن تستخلص من القرآن أخلاقيات عُليا لا تهتم بها الفلسفة، وتستطيع أن تستخلص ما يزكِّي صفاء النفس، ونقاء الروح، والإلهام والوجدان، والارتقاء بالمستوى الإنساني في هذه المسائل كلها، ولا بد من أن يؤخذ القرآن في جملته بكلّ ما يمكن أن يؤدي إليه، القرآن يحدثنا على سبيل المثال، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}[الحديد: 28] هذا النور كيف تصل إليه؟

تصل إليه بتقوى لله -عزّ وجل-، بحب الله -عزّ وجل-، بالثقة في الله -عزّ وجل-، بالاعتماد على الله -عزّ وجل-، بالرضا بأمر الله -عزّ وجل-، فتتفتّح في نفسك آفاقٌ تستطيع أن تتلقى منها هذا النور الإلهي، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}[البقرة: 282].

فإذن عندي تعليم من الله -عزّ وجل- يرتقي بالعقل الإنساني، والعقل الإنساني ليس نهاية المطاف؛ لأن العقل الإنساني يختلف لدى الناس أجمعين، بل يختلف لدى الإنسان نفسه من وقتٍ إلى آخر.

انظروا إلى تطوّر الإنسان في نظرته إلى الأمور عندما يكون شابًّا، عندما يكون كهلًا، عندما يكون شيخًا، سيجد أنّ حكمه يتغيّر وهو الشخص نفسه، وتتغير رُؤاهُ لبعض المشكلات التي واجهها، فالعقل الإنساني يختلف، ومصالح الناس تختلف، ولا يحتكر العقل المعرفة وحده، بل يمثل عاملًا مهمًّا جدًّا في تحصيل المعرفة، ولكنه ليس هو الطريق الأوحد لمثل هذه المعرفة.

وقد حُدِّثنا في القرآن الكريم عن العلم اللَّدُنّي: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[الكهف: 65]، والرحمة من لدن الله -عزّ وجل-، والفضل من الله -عزّ وجل-، وهكذا، فهذا جانب لا يصح إغفاله.

ونظرية المعرفة عند المسلمين المتأثّرين بالقرآن فيها الحسّ بوصفه مقدمة للمعارف الإنسانية، وفيها العقل بوصفه مستوى أعلى يقوم بالتجريد وبالتجميع، وبوضع المناهج والنظرات الكلية، والوصول إلى حقائق كبرى لا يستطيع الحسّ أن يتوصل إليها، ولكن ينبغي أن يضاف إلى ذلك العرفان والذوق أيضًا، لا يغلق بابه، وإنما ينبغي أن نفتحه، والطريق إليه طاعةٌ، وعبادةٌ، وعبوديةٌ لله -عزّ وجل-، والتزامٌ بأخلاقيات هذا الدّين، وسعيٌ حثيثٌ إلى الوصول إلى مرضاة الله -سبحانه وتعالى-، ونحن نجد بعض الآيات القرآنية: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة: 54]، تخبرنا أن الله تعالى يحب عباده، وعلى عباده أن يحبوه، ويقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}[البقرة: 152]، هذا كلامٌ لا صلة للعقل به، لكن هذا عطاءٌ من عطاء الله تعالى لأهل طاعته وأهل محبته، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث القدسي: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّب إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَه الذِي يَسْمَع بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِر بِهِ، وَيَدَهُ التِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَه التِي يَمْشِي بِهَا»، فليُفْتَح هذا الباب، وليتحول إلى منهجٍ في المعرفة يعرضه أصحابه، ويعرضون الطريق إلى الوصول إليه من غير أن يتخذوا لأنفسهم صفة القداسة، أو أن يفرضوه على الناس فرضًا، أو أن يكون له دخلٌ بتشريعٍ لم يأتِ به نصٌّ محكمٌ في القرآن أو في سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

فلهذا الطريق قيودٌ بالطبع، وهو أمرٌ واضح عند الأثبات من الصوفية، هم لا يعطون أنفسهم الفرصة لأن يقولوا ما يشاؤون كيف يشاؤون، ولكنهم يضعون قواعد لمثل هذا الطريق حتى يُضاف إلى المعارف الإنسانية بابٌ جديدٌ أزيد من الحسّ والعقل، ونحن نجد اختلافات في مصادر المعرفة عند المذاهب الفلسفية المختلفة، فثمة مذاهب حسيّة تنكر العقل، وثمة في المقابل مذاهب عقلية تنكر الحسّ، نحن لا ننكر هذا ولا ننكر ذاك، لكن نقول: كلّ مصدر منها له مجال، ومجموع ما يخرج من هذه المصادر جميعها هو ما ينبغي أن تتوجه إليه المعرفة الإنسانية، لا أغلق بابًا لم أمشِ فيه؛ لأنه كما قلنا: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره، وقد وجدنا بعض المفكّرين الحسّيين، مثل: (برتراند راسل) يتحدّث عن التصوّف ويقول: هذا باب لا نستطيع أن نغلقه، وينبغي أن ننظر إلى أصحابه باعتبار أن لديهم تجربةً شعوريةً هي أقوى مما يتوصل العقل إليه، تكون مقرونةً بالسكينة وبالطمأنينة وبالرضا، ولا يمكن أن يتحقّق هذا في المذاهب العقلية المختلفة، والشكوك التي تنال كلّ مذهبٍ منها، والردود والمجادلات، والأخذ والرد...إلى آخره، فهو لا يتحقق إلا بنوع من هذا العلم العرفاني الذوقي الإلهامي المؤسّس على طاعةٍ وعبوديةٍ.

فما الذي يحرمني من مثل هذا العطاء الذي تحدّث عنه القرآن، والذي تتمتع به النفس الإنسانية في إشراقاتها، وفي إبداعها في بعض الأمور، وفي مشاعرها التي ترتقي أحيانًا، فتشفّ وترقّ، وتقتحم آفاقًا ليس لها عهد بها، والإنسان منا في ظروفه الطبيعية يحدث له مثل هذا الأمر، أنت تقرأ أحيانًا آية فكأنك تقرؤها لأول مرّة، وأنت قرأتها مائة مرة وألف مرة قبل ذلك، ولكنك تجد فيها معنًى خطر ببالك للحظة وأن تقرأ هذه الآية.

فلا بد أن تفتح الآفاق، ولتتفتح الزهور كلّها، وليبدع كلّ إنسانٍ في مجاله، وعليَّ في النهاية أن آخذ الحصيلة، وأن أتمتع بالمعرفة التي يمكن أن أصل إليها.

س6: ربما من أهم المعاصرين الذين حاولوا الجمع بين العرفان وبين العقل هو الفيلسوف الهندي محمد إقبال، ولفضيلتكم اهتمام بمحمد إقبال، ورؤيته إلى الآن يُكتب عنها غربًا وشرقًا، فكيف ترون موقعه في الفلسفة الإسلامية المعاصرة، ما الذي يستطيع أن يفيدنا به في الوقت الحالي؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

أولًا: كان لمحمد إقبال موقفٌ نقديٌّ من الفلسفة اليونانية، وقال: إنّ الطابع التجريدي للفلسفة اليونانية صرَف المسلمين عن النظر في العالم، وهو الأمر الذي تتكرّر الدعوة إليه في القرآن الكريم؛ فقد ربطوا أنفسهم بمنهج قادم من بيئةٍ أخرى، فصرفهم هذا عن النظر في العالم، والله تعالى يقول: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}[الطارق: 5]، {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس: 24]، {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}[الذاريات: 21]، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}[الغاشية: 17- 20].

فعندئذٍ المنهج القرآني منهج ليس للنظر في المجردات، أو للنظر في الإلهيات، نحن للأسف الشديد شغلنا أنفسنا بالعالم الإلهي عن النظر في العالم الواقعي الذي نعيش فيه، فاختلفنا؛ لأن الأمر في الإلهيات ليس تحت أيدينا، وليس مرئيًّا ولا محسوسًا بالنسبة لنا؛ ولذلك اختلفنا اختلافًا كبيرًا وصل الأمر فيه إلى حدّ تكفير بعضنا بعضًا فيما يتعلق بالمسائل الإلهية.

لكن العمل الحقيقي الذي يجب أن يقوم عليه الفكر الإسلامي كلّه هو أن يدرس العالم، فنحن مكلفون بالنظر في العالم، ولسنا مكلفين بالنظر في العالم الإلهي، العالم الإلهي يؤخذ تسليمًا من الوحي، الله تعالى وصف نفسه بكذا، يوصف بكذا، الله تعالى نفَى عن نفسه كذا، نسلِّم بهذا، الجنة والنار تؤخذ تسليمًا من الوحي الصادق المعصوم الذي قامت الدلائل على إعجازه، وأنه ليس من كلام بشر، ولا من كلام محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولا من كلام غيره من السابقين عليه، ولا من كلام أيّ حضارةٍ في الدنيا؛ لأن فيه من الأمور ما يتجلى للناس فهمه بعد نزوله بما أشار إليه من الإشارات الواردة في القرآن الكريم.

فكان من بين أهم مواقف (إقبال) العلمية أنه رأى أن المسلمين أُعجبوا بالفلسفة اليونانية إلى حدّ أنها شغلتهم عن دراسة العالم، لكن لمّا تنبه العلماء بالطبيعة في العالم الإسلامي أبدعوا إبداعًا وأثبتوا مكانتهم في تاريخ العلم كلّه؛ فالذين درسوا الطبّ والفلك والرياضيات من المسلمين أثّروا في العالم كلّه، ومعروفو القَدْر، وبعد أن تُرجِم تراثهم إلى اللغة اللاتينية أصبح لهم تأثير في الحضارة الأوروبية كلّها يعترف به المنصفون من مؤرخي العلم من تاريخ الحضارة الإنسانية.

لكن الانخراط المعمّق في كلام أرسطو وكلام أفلاطون شغل كثيرًا من المسلمين عن هذا الأمر، وكلام (إقبال) طبعًا يزكّي كلام الغزالي الذي تصدى لهذه الفلسفة، ولكنه لم يتنبّه أيضًا إلى هذا الجانب الواقعي في دراسة العالم، وقد قرأت من الآيات ما يدل على ضرورة النظر في الكون: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}[العنكبوت: 20]، {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} فهذا كلّه بالإضافة إلى الآيات التي ذكرت دراسة الإبل، ودراسة الصحراء، ودراسة الفلك، ودراسة السماوات، كلّ هذا: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس: 101]...إلى آخره.

فهذا المنهج القرآني الذي تنبّه إليه محمد إقبال فعلًا فيه موقف نقدي مهم، وهذا الموقف النقدي المهم دفعه إلى الإعلاء من شأن المناهج العلمية العملية التي ظهرت في البيئة الإسلامية، واستحضر من الشواهد التي تحدّث بها آخرون عن هذا العطاء الإسلامي بما يؤدي إلى تقدير قيمته وإلى إعطائه مكانته في تاريخ العلم وفي تاريخ الحضارة الإنسانية.

طبعًا لا أستطيع أن أقول: إنّ كلّ ما قاله محمد إقبال في كتابه (تجديد الفكر الديني) أتفق معه. فبالطبع هناك بعض النظريات التي أُعجب بها في الفلسفة الغربية الحديثة، والتي جعلها أساسًا لبعض الأفكار، مع أنها ينطبق عليها ما ينطبق على كلّ الفلسفات النظرية فضلًا عن كونها متعلقة ببيئة ثقافية وبواقع اجتماعي محدود.

ومن هنا فإنّ الكلام المتعلق بمحمد إقبال أيضًا يحتاج إلى فرز، ودائمًا يجب أن يكون عندنا النظر العقلي النقدي في تناول مناهج الخلق أيًّا كان؛ كما تقول العبارة المشهورة التي تُنسَب إلى الإمام مالك بن أنس، ولكنها تنسب قبله -أنا حققتُ هذا- إلى ابن عباس -رَضِيَ الله عنهما- قال: «كلّ إنسان يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب القبر الشريف -صلى الله عليه وسلم-».

س7: أيضًا (إقبال) له رؤية مهمّة في القرآن، حيث يتحدث عن الوصية التي أعطاها له والده حينما قال له: «اقرأ القرآن كأنه تنزَّل عليك الآن»، هذه الوصية نشعر أحيانًا أنها غائبة عن كلّ من يتحدث عن تجديد النظر للقرآن، نجده لا يهتم بهذا الجانب الفردي والروحي المهم؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

طبعًا الكلمة قيّمة جدًّا وشديدة التأثير، وقد صَاحَبَتْ محمد إقبال حتى أواخر حياته وقال قبل الرحيل: إنه يريد أن يخصّص جزءًا من وقته لمثل هذا الأمر؛ لأنه بالطبع انشغل طوال حياته، فدرس الفلسفة في أوروبا وزار ألمانيا وإنجلترا، ثم عاد واشتغل بالسياسة، إلى جانب إسهاماته في بعض ما يتعلّق بجانب الفكر الإسلامي، ورؤاه النقدية العديدة التي ذكرنا بعضها، لكن في الحقيقة هذه الوصية شامخة جدًّا، وينبغي أن يهتم بها الدعاة إلى الله تعالى في تعريف الناس بكيفية قراءة القرآن، قراءة القرآن ليست قراءة حروف، ولا قراءة جُمل، ولكنها موقف نفسي يجب أن يحتشد له المسلم عندما يتصور أنه في حضرة الله تعالى، يجب أن يكون شعوره كلّه حاضرًا، عقله كلّه حاضرًا، مشاعره كلّها مستعدة للفهم وللتلقي.

وقد وجدنا بعض الصوفية يحدثنا عن هذا الترقي في مثل هذا الأمر يقول: أنه جاءت عليه فترة كان يحسّ بعدم حلاوة القرآن عند قراءته له، وهذا ليس عيبًا في القرآن، ولكن عيب فيه هو، ثم أخذ نفسه بالتدرج، فقال: بدأتُ أقرأ القرآن كأني أسمعه من واحدٍ من الصحابة؛ كأنه يقرأه عليه عمر، يقرأه عليه أبو بكر، يقرأه عليه عبد الله بن مسعود، يقرأه عليه واحد من الكبار الذين من حول النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول: ثم أخذتُ أترقّى حتى ظننتُ أني أسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم لم يقف عند هذا الحد، يقول: ظللتُ أترقى حتى عَلَّمْتُ نفسي أني أسمعه من جبريل -عليه السلام-، ثم جاد الله عليَّ بأني أخذتُ أقرأ القرآن كأني أسمعه من الله تعالى.

فهذا مقامٌ عالٍ جدًّا، وهذه الوصية أو هذه النصيحة التي قالها يجب تفعليها في حياة المسلمين؛ لأنها شديدة التأثير، شديدة الانتقال بالإنسان من واقعٍ ربما يكون مليئًا بالشواغل عن اللهِ -عزّ وجل- إلى أن يكون الإنسان مع الله -عزّ وجل-، هكذا يكون الشأن، وهذا من الأمور القيّمة جدًّا التي قالها محمد إقبال -يرحمه الله تعالى- عن القرآن.

أسئلة ختامية حول البحث العلمي العربي:

س8: شاركتم مؤخرًا في حلقة نقاشية كان قد عقَدها مركز تفسير في القاهرة حول دراسة «أصول التفسير في المؤلفات» التي أصدرها المركز، وكنتم من المقيِّمين، ومن المشاركين لهذا العمل، وأثنيتم عليهم ثناءً كبيرًا حتى إنكم دعوتم في الحلقة إلى أن يكون الكتاب منهجًا في أصول التفسير، فلو تحدثوننا عن جانب من هذا التقييم ورؤيتكم لهذا العمل[3].

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

طبعًا أنا أشكر الذين وجهوا إليَّ الدعوة لحضور مثل هذا اللقاء العلمي، هذا أوّل شيء.

ثانيًا: إنني عندما أذهب إلى مثل هذه اللقاءات أذهب لأتعلم؛ لأن هذا خارج نطاق التخصّص، وأنا شادٍ فيه ولست من المبدِعين، فكوني اتصلتُ بتحقيق كتاب ليس معناه أنني أصبحت من أهل التفسير. ثم بعد ذلك أنظر في الأمر نظرًا علميًّا على حسب ما يترتب لدى الإنسان من المناهج المعروفة، فوجدتُ في الأمر جِدًّا واجتهادًا، وإحصاءً واستقراءً، وتتبعًا، ونظرًا نقديًّا، ومقارنات للأقوال بعضها ببعض، وليس في الأمر استسهال، وإنما التعمّق والتغلغل في حقائق العلوم، وفي حقائق التفسير حتى نتمكن من ضبط المصطلحات، وهذه مسألة تهمّني جدًّا؛ لأن ما دمنا في الفلسفة، إذن نحن نتكلم عن مناهج، فهذه مسألة شديدة الأهمية، وقد قرأتُ وانتفعتُ، وقدمتُ بعض الملاحظات في المداخلة التي قدمتها، وأنا أشكر للذين تقبلوا مني هذا الكلام، لكنني أشكر قبلهم هؤلاء الذين اجتهدوا وقدّموا هذا الأمر، واستقام لهم المنهج، ووضعوا أقدامهم على أرضٍ ثابتةٍ، وهم يسعون الآن إلى توسيع نطاق اهتماماتهم بدراسة مسائل أخرى تتعلّق بضبط علم التفسير الذي يتعلّق بأعظم نصٍّ عندنا وهو القرآن الكريم، أصل الحضارة الإسلامية، أساس التقدم العلمي الذي ظهر عند المسلمين.

فأنا أُزكِّي هذا الأمر، وأُثني على الذين يرعونه، وأسأل اللهَ لمن يتولون أمره وينفقون عليه، ويجتمعون من أجل تطبيق قواعد المنهج على التفسير القرآني، أسأل الله أن يزيدهم توفيقًا وسدادًا، وأن يتوصلوا إلى ضبط المصطلحات، وتحديد المنهج اللائق، أو المناهج اللائقة بدراسة القرآن الكريم، لكن يكون الأمر على بيِّنة وليس بمجرد جهود فردية مختلفة التوجهات، مختلفة النتائج، ولكن ينبغي أن يكون الأمر فيه هذا التوصيف المنهجي لكلّ خطوة تتعلّق بالتفسير القرآني فأنا أزكّي وأُثني وأدعو، وأدعو للذين ينفقون، وأدعو للذين يعملون، وأدعو للراغبين في تحقيق هذا الضبط المنهجي لدراسات التفسير ولدراسات تفسير القرآن الكريم.

س9: باعتبار انشغالكم بقضية المنهج بشكلٍ عامّ وتحريره وضبطه كيف ترون -من موقعكم كأستاذ أكاديمي أيضًا فضلًا عن الأمانة للمجمع- مستقبلَ البحث العلمي في عالمنا العربي والإسلامي في ضوء التحديات المعاصرة، وكيف ترون التكوين المنهجي للطلاب في هذا الوقت الحاضر؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

هذا سؤال ضخم جدًّا جدًّا.

لكن في الحقيقة نحن نعاني مشكلاتٍ كثيرة:

- من أول هذه المشكلات وهي تؤثر في كلّ الذي ذكرته: أننا لسنا مبدعين للعلم؛ نعيش تخلفًا حضاريًّا؛ نحن نعتمد على العالم كلّه في كلّ شيء، فعندنا تراجع، وما دمنا متراجعين هكذا فنحن لا نستطيع أن نضع مصطلحاتنا، ولا أن نحدّد مناهجنا، ولا أن يكون لنا موطِئُ قَدَمٍ بين المتقدمين، خصوصًا أنّ الذين هم على الساحة الآن يتصلون اتصالًا وثيقًا بالثقافة الغربية، ويرون التقدم أنه ينبغي أن نكون على طريقها، وهذا سيؤدي إلى التخلي عن أمورٍ كثيرةٍ توجد في البيئات الإسلامية، وفي الثقافة الإسلامية، فهذه عقدةٌ أخرى.

فالمشكلة الأولى: أننا لسنا في موضعٍ علمي يسمح لنا بوضع نظريات، أو اكتشاف المجهولات، أو وضع المصطلحات، أو شيء من هذا.

والمشكلة الثانية: أنّ الذين هم على الساحة ليسوا ذوي اهتمام ووعي بالتراث الإسلامي وأهميته.

والمشكلة الثالثة: ضَعف التكوين العلمي لدى المعاصرين؛ فاعتماد شبابنا الآن على المعارف الجاهزة يقلّل من النشاط العقلي ومن الكفاءة العلمية بصورة كبيرة.

كذلك هناك مشكلة مهمّة وخطيرة هي أننا مشتتون، نحن ليس لدينا إبداع علمي تراكمي، ليس لدينا تجميع، فلا تحاول مؤسّسات البحث العلمي التعاون فيما بينها والاستفادة من تكثيف الموارد والجهود في إحداث فروقات علمية لها أهمية قائمة على التضافر والتعاون والتراكم.

واعلم أنّ البحث العلمي يحتاج إلى قدرٍ من الحرية، يقوم على حرية الفكر، وحرية الإبداع، وحرية الاختيار، وحرية النشاط...إلخ، فهذه كلّها أمورٌ كاملة، وليس التقدّم شيئًا سهلًا ولا ميسورًا خصوصًا في عالم يسبقنا بمئات السنين ونزداد بُعدًا عنه في كلّ يوم؛ لأن وسائلنا في اختراق هذه الفجوة التي بيننا وبينه لا تمكننا من تقصير المسافة، بل تؤدي إلى إطالة المسافة.

س10: في ختام هذا الحوار الثري والماتع مع فضيلتكم لو توجِّهون أخيرًا جملة نصائح إلى الدارس العربي، فماذا تقولون في هذا الصدد؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

أولًا: العناية بالتكوين العلمي الجيد؛ لأنه لن يكون له شأنٌ في ظلّ هذه الكثرة، وفي ظلّ هذا التقدّم العلمي إلا إذا قدَّم شيئًا جديدًا؛ لا بد أن يكوَّن الباحثُ تكوينًا علميًّا هو الحريص عليه، فربما لا تقدمه له أغلب الجامعات في حالتها الحالية.

ثانيًا: الحرص على الإتقان في العمل، ليس مجرد شكل ومظهر، وتجويد، وإنما يجب أن يكون لديّ إتقان، وهذا خُلُقٌ يصل إلى أن يكون صفةً من صفات الله -عزّ وجل-، والله تعالى يقول: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل: 88]، {أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، وانظر في عجيب صنع الله ستجد الإتقان أمرًا واضحًا.

ثالثًا: عدم الانحصار في فرعيات العلوم، لا بد من الوصول إلى مناهجها، وإلى كلياتها، كالذي يذهب إلى طريقٍ طويل، فيكون معه الخريطة، ليس الأمر متوقفًا على المصادفات، فعلينا عدم الانحصار في الفروع، نحن نعرف الفروع، لكن لا بد أن نتخطّاها، وأن نترقى منها إلى كلياتها؛ لأن هذا هو الذي يعرفنا بطبيعة العلم، ويجعل الباحث دائمًا يحس بحاجته إلى أن يتزود بالعلم.

رابعًا: لا بد من التزوّد الدائم بالعلم وعدم السماح بالوصول لمرحلة من التَّكَلُّس يتوقف فيها الباحث عن أن يصير باحثًا بما لهذه الكلمة من معنى.

فهذه كلّها نصائح أنصح بها نفسي، وأنصح بها من يستمع لهذا الكلام، وأسأل الله أن يجعل فيها طريقًا رشيدًا لمن يطلب العلم أو يسعى إلى أن يكون من أهله إن شاء الله تعالى.

س11: رحم اللهُ الدكتور فريد في كتابه «أبجديات البحث» كان يشير إلى أن من أبرز أو من أهم الضوابط اللازمة لتكوين الباحث أن يستحضر مقصد التعبّد، باعتبارنا حضارة إسلامية نتعبد بحركة البحث كما نتعبّد بالطاعات والعبادات، فكان يرى أن هذا -أيضًا- سبيل يصب في عملية الإتقان والتجويد، ولا تجعل الباحث يتجه إلى تلفيقات، أو سرقة جهود، وإنما يصبر على تكوينه، ويصبر على تحصيله، ويصبر على الممارسة البحثية نفسها حتى تكون لَبِنَة كما أشرتم، فما تعليقكم على مقولة د. فريد الأنصاري؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

إذا بحثنا في مثل هذا الأمر فإنني يمكنني أن أقول كلامًا مماثلًا لهذا الكلام الذي قاله الدكتور الأنصاري، العلم في الإسلام -أصلًا- عبادة، فأنت تتعبّد لله -عزّ وجلّ- بأنك تمحو جهلك، وتضيف إلى علمك ما يؤدي إلى استقامة طريقك، وإلى تقدّم نفسك، وتقدّم مجتمعك، وكما جاء في الحديث المشهور الذي يطلب علمًا يكون في عون الله -عز وجل- منذ أن يخرج من بيته إلى أن يعود، وجاء في الحديث أيضًا: «وَإِنَّ المَلَائِكَة لتضَع أَجْنِحَتها لطالب العلم رِضًى بما يصنع»، فانظر إلينا هل نستحضر هذا المعنى ونحن ندرس؟!

لا يخطر على بال أحد أنه يعبد الله -عزّ وجلّ- بهذا العلم الذي أتاحه الله تعالى له، فهذا أمر شديد الأهمية أن يُغْرس في نفوس طالبي العلم صغارًا وكبارًا أنهم في طاعة الله -عزّ وجل-، وأنّ هذه الطاعة ليست مقصورةً على ما يسمَّى العلوم الشرعية، ولكنها تمتد إلى كلّ علمٍ يقصد به وجه الله -عزّ وجلّ- ونفع الناس؛ يعني: الطب، الكيمياء، الجيولوجيا، الرياضة، أيّ علم يقصد به وجه الله -عزّ وجلّ-، ويقصد به نفع الناس، فهذا الذي يعمل في هذا الحقل يكون له من فضل الله، ومن عون الله تعالى له مثل الذي يدرس الفقه، ويدرس التفسير، ويدرس الحديث، ويدرس القراءات.

هذا الفصل ما بين علوم أُسَمّيها شرعية وعلوم لا نسميها شرعية هذا فصلٌ لا يتفق مع طبيعة العلم القرآني؛ فالعلم عندنا عبادة، بل فريضة، و«إِنَّ العُلَماء لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، ولَكِن وَرَّثُوا العِلْم، فَمَن أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر».

عبادة معناها أنني أصبر على طلب العبادة، عبادة معناها أنني أكون في طلب العلم، عبادة أنني أتقن هذا العلم، فإذن المدخل للعلم -صبرًا وطلبًا وإتقانًا- هو أن يكون عبادةً لله -عزّ وجلّ-.

فطبيعة المنهج الإسلامي في النظر إلى العلم يعطي هذا العلم قوةً دافعة، وانظروا إلى واحدٍ مثل الطبري، الطبري هذا الذي كان يعمل للمسلمين، وليس يعمل لنفسه؛ يعني شغل حياته كلّها، ليس في حياته لا فسحة، ولا راحة، ولا شيء، بل شاغله هو المسلمون وحضارة المسلمين، ولو أن علم الطبري هذا ضاع، انظر كم كان من العلم سيضيع، وهكذا، لما ترى كلّ علمائنا الكبار كانوا ينظرون إلى العلم على أنه عبادة.

فهذه كلّها أمور يمكن أن تكون مرعية وملحوظة، ونحن نتحدّث عن مثل هذه المسائل المهمّة في البناء العلمي، وفي التكوين الحضاري، وفي التقدم والازدهار، وفيما يجب أن يكون عليه المسلمون حتى يُرضُوا الله -عزّ وجلّ-، وحتى ينفعوا أنفسهم بقوةٍ تجعلهم غير أسرى في أيدي المتقدمين في أنحاء العالم كلّه؛ لأن العلم لا يقدَّم لك مجانًا، ولكن يقدَّم بشروط، فإذن حتى نحفظ على أنفسنا الكرامة، ونحفظ على أمة الإسلام كرامتها، وعلى الإسلام موقعه الذي كان له عندما كان الناس يطبقون قواعده، ويقدمون تربويّاته وأخلاقه العلمية، وهذا هو الذي ينبغي أن نسعى إليه إن شاء الله تعالى.

 

[1] أُجري هذا الحوار شفهيًّا مع فضيلة أ.د. عبد الحميد مدكور، ثم تم تفريغه وتحريره من قبل فريق الموقع.

[2] يمكن مطالعة الجزء الأول من الحوار على هذا الرابط: tafsir.net/interview/16.

[3] كتاب أصول التفسير الذي عُقدت حوله الورشة هو دراسة وصفية موازنة حول النتاج المعاصر في أصول التفسير، وقد عَقد المركز حولها عدّة لقاءات ونقاشات مع العديد من المتخصّصين والدارسين في عدد من البلدان العربية كالمملكة العربية السعودية ومصر والأردن، وذلك لخطورة النتائج التي حفلت بها والأحكام التي خلصت إليها بشأن التأليف المعاصر في أصول التفسير والإشكالات العلمية والمنهجية التي تحتف بهذا النتاج.

ضيف الحوار :

الأستاذ عبد الحميد مدكور

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وأمين عام مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))