الدراسات القرآنية المعاصرة
في العالم العربي والدراسات الغربية
شهدت الدِّراساتُ القرآنية المعاصرة في العالم العربي والدراساتُ الغربية تطورًا كبيرًا في مناهجها واتِّجاهاتها ومنطلقاتها المنهجية الموظَّفة لدراسة النص القرآني، وهذا التطوُّر الواضح يُحتِّم على الباحثين متابعته، ومعرفة واقعه وطبيعة اشتغاله، وأهم قضاياه المعاصرة المطروحة في ساحة الدراسات القرآنية.
وفي هذا الحوار مع الدكتور/ عبد الرحمن حللي نُلقي الضوء على اشتغال الدِّراسات القرآنية المعاصرة على القرآن من حيث المناهج والمنطلقات والاتِّجاهات وأهم القضايا المطروحة على السَّاحة لكلٍّ من الدَّرس القرآني العربيّ والغربيّ.
وقد جاء هذا الحوار على أربعة محاور: المحور الأول: القرآن والمناهج المعاصرة في الدرس العربي المعاصر. المحور الثاني: القرآن في الدرس الاستشراقي المعاصر. المحور الثالث: المفردة القرآنية. المحور الرابع: متفرقات.
ففي المحور الأول: القرآن والمناهج المعاصرة في الدرس العربي المعاصر؛ نتناول أبرز اتجاهات الدرس العربي المعاصر وأهمها في قراءاته للقرآن، والملامح التي يختلف بها التلقِّي العربي المعاصر للقرآن عن التلقي الكلاسيكي السابق وكيفية تجلي هذه الملامح في هذه القراءات على اختلافها وتنوُّعِها، وقدرتها على عقد الصلة بالتراث التفسيري الطويل، والإفادة منه وتثوير مشكلاته.
ثم نخصّص حديثنا في المحور الثاني بتناول القرآن في الدرس الاستشراقي المعاصر، فنتناول خريطة مبدئية لأهم اتجاهات البحث الغربي حول القرآن ومشاغله ومناهجه، وإلقاء الضوء على بعض الإسهامات البحثية الغربية المتعلِّقة بقضية البنية القرآنية، ومدى إمكان الاستفادة منها عربيًّا، وحالة الترجمة والتثاقف مع الدراسات الغربية بين الباحثين العرب، وأهم الدراسات والكتب الغربية المعاصرة التي تفيد في الاطلاع العربي.
وفي المحور الثالث؛ نتناول قضية من أبرز القضايا التي اهتمّ بها الدكتور/ عبد الرحمن حللي، فنلقي الضوء على قضية المفردة القرآنية من حيث جذورها التراثية، ومدى الاهتمام العربي المعاصر بها، وكيف تسهم هذه القضية في تطوير فهمنا للقرآن، وأهم الأسباب التي دعت الدكتور عبد الرحمن للاهتمام بهذه القضية، مع عرض لأهم الدراسات الغربية في تلكم القضية.
ثم نختم بالمحور الرابع، ويتناول أسئلة متفرّقة حول التركيز على البيئة البحثية الغربية وتقويمها وأهم مشاريعها، وبعض النصائح للباحثين في حقل الدِّراسات القرآنية، وغير ذلك من القضايا.
نص الحوار
المحور الأول: القرآن والمناهج المعاصرة في الدرس العربيّ المعاصر:
س1: كما تعلمون فإن واقع الدرس المعاصر يشهد بروزَ عددٍ كبيرٍ من القراءات للقرآن، والتي تتنوّع تنوُّعًا شديدًا في منطلقاتها وفي مناهجها الموظَّفة لدراسة النص القرآني. في تصوُّركم؛ ما أبرز وأهم هذه الاتجاهات على ساحة الدرس العربي للقرآن؟
د/ عبد الرحمن حللي:
يصعب تعداد اتجاهات الدراسات القرآنية لتنوعها الشديد كما أشرتَ في السؤال، لكن يمكن تقسيمها بحسب اتجاهات المهتمين بالنص القرآني ضمن ثلاثة حقول رئيسة، الأول: حقل العلوم الإسلامية، ويُعنى به المتخصصون بالقرآن وعلومه في الجامعات الإسلامية، وهذا الحقل قد شهد تطورات مهمة على مستوى الكمّ، وعلى مستوى الشكل أيضًا، وذلك بفضل توسُّع الدراسات العليا التي انتشرت خلال العقود الأخيرة، لكنه لم يشهد تحولات نوعية إلا في فروع جزئية، ولا تزال الدراسات القرآنية بحاجة إلى الكثير من الجهود والتحقيقات، والدراسات المعمقة، لكن معظم الجهود ضائعة لصالح التكرار والأعمال الهامشية، ورغم وجود وعي بأهمية درس كثير من القضايا ذات الأولوية، إلا أن مشكلات منهجية تَحُول دون اقتحام عقبتها وتحقيقها.
الحقل الثاني: هو الدراسات الغربية عن القرآن وعلومه ومن يسلك منهجها عربيًّا وإسلاميًّا، وهو حقل متطور بدأه المستشرقون ولا يزال يتطور ويتغير، ولا يكاد يستقر على مبدأ جامع، ويتميز هذا الحقل بتنوع اهتماماته وتعدُّد مدارسه، وبنزعة نقدية مستمرة تمكن من تطوره الدائم، حتى أصبح تخصصًا عالميًّا، ولم يَعُد استشراقًا فقط وإنما أصبح منهجًا يشتغل عليه مسلمون أيضًا سواء في الشرق أو الغرب، والجامعُ بين هذه الدراسات استبعادُها فرضية الوحي في التعامل مع القرآن.
الحقل الثالث من اتجاهات المهتمين بالدراسات القرآنية مَن يحاول تجاوز هذه الثنائية، والإفادة المنهجية من كل الاتجاهات مما من شأنه أن يوفر إمكانات أوسع لتعميق الدرس القرآني، وكذلك نقد الدراسات الأخرى عن معرفة، وهو اتجاه ضئيل ويمكن القول إنه بدأ يتسع حديثًا.
س2: بالطبع فهذه القراءات التي ذكرنا هي جزء من التلقِّي العربي والإسلامي المعاصر للنص القرآني، في تصوركم؛ ما الملامح التي يختلف بها التلقي العربي المعاصر للقرآن عن التلقي الكلاسيكي السابق على الصدام بالحداثة الغربية؟ وكيف تتجلى هذه الملامح في هذه القراءات على اختلافها وتنوعها؟
د/ عبد الرحمن حللي:
جميع العلوم كانت في سياقها التقليدي مختلفة عنها في سياقها الحديث، أهم معالم هذا الاختلاف هو المنهج من حيث الشكل، والهموم من حيث المحتوى، وإذا تحدثنا عن التلقي العربي الحديث للقرآن وعلومه، فيمكن أن نلاحظ بدء التحول منذ مدرسة المنار والانشغال بالأسئلة الفكرية والاجتماعية التي كانت تلحّ على العلماء، وتبع ذلك فروع علوم القرآن المختلفة، فأخذت التفاسير وكتب علوم القرآن أسلوبًا جديدًا في التصنيف شكلًا، وأضيفت لها أسئلة جديدة، لكنها لم تغادر في أغلبها سقف التراث الذي لخصت أبوابه وانتخبت منه، وكان أرفع مقصد وصلت إليه التحرير والتنوير، كما عبّر ابن عاشور، لكن هذا الاتجاه المدرسيّ لم يكن مقنعًا دائمًا في الاستجابة لأسئلة فكرية وأدبية، فظهرت اهتمامات جديدة انزاحت عن المدرسة التقليدية، وكان لها نزوع مباشر في معالجة بعض القضايا، من أهمها المدرسة الأمينية (نسبة لأمين الخولي) والتي ينتسب إليها محمد أحمد خلف الله ونصر حامد أبو زيد، وقد ترافق عهد هذا الأخير انتشار نزعة القراءات المعاصرة، والتي خاض فيها هواة التجديد المتمردون على مؤسسات العلم، وكذلك القرآنيون، ولكلٍّ سلفٌ ممتدٌّ على طول القرن العشرين. تفككت كل هذه الأطروحات وتعثّرت، وتحولت مع الزمن إلى أسئلة معرفية تواجه المختصين الذين تجاهلوها في بادئ الأمر أو تعاملوا معها بازدراء، قبل أن يصبح نقدها موضوعًا لرسائل علمية في مؤسسات العلوم الشرعية، وقد أدَّى هذا الاشتغال بما يمكن أن أسميه الشغب على المختصين بالعلوم الشرعية إلى تطور نسبي في الهموم والأسئلة العلمية، ويمكن أن أشير إلى عدة حقول من الدراسات القرآنية شهدت قفزات من الاهتمام بعد شيوع ظاهرة القراءات المعاصرة رغم أن جذورها سابقة وممتدة، منها: دراسة المفهومات القرآنية، الدراسات في أصول التفسير وقواعده، قضايا التأويل، مناهج المفسرين، والتفسير الموضوعي. وأَفَلَت تدريجيًّا الدعاوَى العريضة في الدراسات القرآنية وغيرها، لا سيّما مع تكسُّر كثير من الحواجز بين الدراسات العربية وغير العربية حول القرآن، وبفضل انتشار ترجمات لأعمال مهمة حول القرآن، وقد يسّرت تلك الترجمات الاطلاع على منهجيات مهمة في الدراسات القرآنية، وأحسب أنه لم تَعُد هناك في العالم العربي أطروحات كبرى تحمل قولًا جديدًا في الدراسات القرآنية، بغضّ النظر عن الرأي فيها، لا في المؤسسات التقليدية للعلوم الشرعية ولا خارجها.
س3: بأيّ قدرٍ ترَون أن هذه القراءات قادرة على عقد صلة بالتراث التفسيري الطويل، والإفادة منه وتثوير مشكلاته في ذات الوقت؟ وبأيّ قدرٍ كذلك تمثِّل تماسًّا مع الإشكالات المركزية لحقل التفسير؟
د/ عبد الرحمن حللي:
كما أشرتُ في الجواب عن السؤال السابق لا أرَى أن هناك قراءات جديدة، إنما هناك مقاربات على الحطام المتكسِّر لدعاوَى التجديد، لكني متفائل على المدى البعيد بانفتاح كثير من كليات الشريعة على فهم تلك القراءات عن قربٍ من غير توجس أو عقدة تآمر، والتعامل معها بنقد علمي لا بمنطق الدفاع وردّ الفعل والاتهام، ذلك أني أعتقدُ أنّ أيّ دراسة حول القرآن لا تستوعب التراكم العلمي التاريخي حول تفسير القرآن وكذلك الأطروحات الحديثة حوله وتبني عليه نقدًا وإضافة =لن تقدم جديدًا وستبقى هامشية؛ وعليه، فإنّ تطور النقد العلمي سيمكِّن من فهمٍ أفضل للتراث التفسيري والتعامل معه من منظور مختلف لا يقف عند نهاياته وما استقر فيه، إنما يفهم الباحث المتقن كل مرحلة من تاريخ علم التفسير في ضوء سياقها ومعطيات علمائها، وما توفر لديهم مِن معارف مَن سبقهم، فالقراءة السياقية لجهود المفسرين كفيلة بفهمهم بشكل أفضل، وبإنصافهم، والإفادة من آثارهم.
س4: هل ترون أنّ تنوع هذه القراءات الواسع هو دليل ثراء وإغناء، أم ربما على العكس قد يكون دليلًا على فوضى منهجية واصطلاحية يشهدها الاشتغال المعاصر على القرآن؟
د/ عبد الرحمن حللي:
التنوع مهما كان الاختلاف واسعًا فيه يبقى مصدر ثراء وإغناء، لكن بشرطين: أن تكون مكونات هذا التنوع ذات صفة علمية ونزعة جادة، وأن يكون نقدها من منطلق علميّ أيضًا، فإن افتُقد أحد هذين الشرطين فإننا أمام وقت ضائع قد يستغرق سنين من السِّجال العقيم، لا سيّما مع ابتذال الخوض في العلوم، وأخذ الدعاة والوعاظ دور العلماء، وتحول النقاش العلمي الدقيق والمتخصص إلى نقاش إعلامي سطحي ومشوّه. أمّا سؤالك عن الفوضى المحتملة في المنهجيات والمصطلحات فغير مَخوفة ما دامت في حقل النقاش العلمي حتى لو كانت بين مختلفين في الاتجاهات إلى أبعد الحدود، ونحن نعلم أن مناهج العلوم الإسلامية ومصطلحاتها قد تطورت تاريخيًّا بفضل تلاقح العلوم وتداخلها، ومن يرجع إلى المصادر الإسلامية المبكرة سيجد قضايا واصطلاحات لم تَعُد مستعملة بعد القرن الثامن الهجري، وحلّت مكانها اصطلاحات جديدة، وكذلك الأمر خلال القرن الأخير؛ إذ دخلت اصطلاحات لم تكن من قبلُ واستقرّت وأصبحت عرفًا علميًّا.
المحور الثاني: القرآن في الدرس الاستشراقي المعاصر:
س5: تعملون في إحدى الجامعات الغربية ذات الشهرة الكبيرة في الدراسات الإسلامية، من هذا المنطلق ومن خلال متابعتكم؛ لو أردنا أن نرسم خريطة مبدئية لأهم اتجاهات البحث الغربي حول القرآن ومشاغله ومناهجه، كيف ستكون هذه الخريطة؟
د/ عبد الرحمن حللي:
حقل الدراسات القرآنية في الغرب دائم التطور والتغير لا سيّما في العقود الأخيرة، ويحظى يومًا بعد آخر بمزيد من الاهتمام؛ حيث أحدثت له مؤسسات ومشاريع بحثية ومؤتمرات ومجلات، وأنجزت حوله موسوعات وسلاسل كتب متخصصة، وتخضع دراساته لمراجعات مستمرة، ومن ذلك الشروع بإعادة تحرير (الموسوعة القرآنية) الشهيرة والتي كانت تعكس مزيجًا من اتجاهات الدراسات القرآنية الغربية، وهي نفسها خضعت من قبلُ لنقدٍ غربي، أمّا من حيث المنهج فلا تزال تتنازع الدراسات القرآنية الغربية اتجاهات مختلفة حتى وُصفت بالفوضى، لكنها مع ذلك يجمعها العمل الأكاديمي الذي يُنتظم في جامعات ومؤسسات عريقة على امتداد أوروبا وأمريكا، بل أصبحت (الدراسات القرآنية) موضوعًا عالميًّا له رابطة دولية تجمع المختصين من جميع أنحاء العالم متجاوزة المنهجيات والأديان.
تاريخيًّا كان سؤال تحديد الأصول والتقاليد التي اعتمد عليها القرآن هو السؤال المركزي الذي اهتم به آباء الدراسات الاستشراقية، وقد اختلفت إجاباتهم عليه، ولا يزال نفسه حاضرًا بشكل مباشر أو غير مباشر في معظم الدراسات الحديثة، وقد تنوعت المنهجيات في مقاربته، كما اختلفت الأساليب والفرضيات والموضوعات التي تناولها المهتمون بالدراسات القرآنية حديثًا، والتي أصبح لها تخصصات فرعية كثيرة.
ثمة اتجاه آخر ظهر في السبعينيّات مع وانسبرو يرى أنّ القرآن متأخر عن عصر النبوة، وأنه مركّب من تقاليد مختلفة ومتعددة، لا سيما التراث اليهودي والمسيحي، وقد اتسع هذا الاتجاه مع المدرسة التنقيحية التي ترى أنّ القرآن نصٌّ متطور وخضع إلى التنقيح قبل أن يستقر، ورائد هذه الأطروحة كتاب (الهاجرية) لمايكل كوك وباتريشيا كرون، ورغم أن بعض الغربيين قد عدّها أطروحة جذرية وفاصلة في الدراسات الغربية عن الإسلام، رأى آخرون أن المخطوطات القرآنية المكتشفة تنسف هذه الأطروحة.
وهناك اتجاه ثالث في الدراسات القرآنية حاول مَوْضَعَة القرآن في العصور الكلاسيكية المتأخرة، والتي تسبق الإسلام، وتشير هذه الأطروحة إلى أنّ القرآن يعتمد على اليهودية والنصرانية، وعلى التقاليد الوثنية، أو غيرها، دون التأكيد على تأثير أيٍّ منها واستبعاد الأخرى، كما لا يلحّ على النقل المباشر، ويركز على الاستيحاء من ثقافات الشرق التي كانت سائدة، ويضع القرآن على قدم المساواة مع الكتب الأخرى، ورائدة هذا الاتجاه أنجيليكا نويفرت.
في عام 2000 صدر كتاب كريستوف لوكسنبرغ عن الأصول السريانية والآرامية للقرآن، مدّعيًا أنها تفكّ رموزه، فكان عمله تطويرًا لاتجاه في الدراسات القرآنية يحاول إعادة اكتشاف القرآن وصياغته من جديد، وهذا الاتجاه ظل هاجسًا غير مباشر حتى عند نقاد لوكسمبورغ الذين إن اختلفوا معه في التطبيقات إلّا أنهم لا يختلفون في الفرضية التي قد تجد إجابة من نوع آخر.
تأريخ القرآن هو الآخر اتجاه قائم بذاته، ويرجع إلى الجهود المبكرة لإنجاز ترتيب تاريخي للسور القرآنية، والذي كان رائده تيودور نولدكه بالاعتماد على النقد التاريخي والنصي أو ما يسمى الفيلولوجيا، ولئن كانت أعمال نويفرت عن السور المكية ذات طبيعة أدبية إلا أنها تتنزل أيضًا في سياق إعادة النظر في الترتيب التاريخي للسور استنادًا إلى الأسلوب، إضافة إلى أعمال آخرين في تأريخ السور، يمكن عدّها جميعًا في خط نقد وتطوير التسلسل الزمني الذي وضعه نولدكه، لكنها لم تقدِّم بديلًا عنه.
من الاتجاهات الأكثر تطورًا في الدراسات القرآنية العنايةُ بالمخطوطات القرآنية المبكرة، ويمكن القول إنه الأهمّ لما تم إحرازه من تقدُّمٍ فيه، ومِن أبرزِ المهتمين به الفرنسي ديروش، وتُعَدّ دراسة المخطوطات جزءًا أساسيًّا من المشروع الألماني كوربوس كورآنيكم (Corpus Coranicum)، والذي يُعَدّ إحياءً لمشروع قديم بدأه بيرجستر، ويهدف إلى إنجاز نسخة نقدية من القرآن، استنادًا إلى المخطوطات والمصادر القديمة والقراءات، ومثَّل اكتشاف مصحف صنعاء ومصاحف أخرى وتطبيق تقنيات تأريخ المخطوط عليها =بابًا لآفاقٍ جديدة من العمل على المخطوطات ولا يزال مستمرًّا، على أن المشروع يجمع بين فرضيات مختلفة في الدراسات القرآنية؛ منها البحث عن المطابقة النصية بين القرآن وغيره (Intertexts)، ومقارنة لغة القرآن وموضوعاته مع كل الاحتمالات الممكنة مما كان في محيط النص من أديان وثقافات ولغات، وتفسير النص على أساسها، وصولًا إلى إنجاز نص محقق للقرآن، وإنجاز تفسير وترجمة للقرآن تأخذ بالاعتبار المعطيات التي تم جمعها.
ثمة أيضًا الاتجاه اللغوي، يمكن التمثيل له بآرثر جفري الذي اعتنى بمفردات القرآن وأصولها الأجنبية، والاتجاه الأدبي وأبرز من يمثله أعمال نويفرت على السور القرآنية، وأعمال البلجيكي ميشيل كويبرس على البلاغة الساميّة في السور القرآنية، وآخرون. كما هناك اتجاهات أخرى جزئية، منها التيبولوجي (Typology) وهي العناية بالمطابقة المحتملة بين القرآن ونصوص أخرى سابقة على سبيل الاستعادة والتوظيف في موضوعات شبيهة، وهو اتجاه قديم في الدراسات القرآنية الغربية تم تطبيقه في دراسة القصص القرآني عن الأنبياء، وهناك استعادة لهذا الاتجاه مؤخرًا. وهناك أيضًا اتجاه العناية بالخطاب ذي الطبيعة الشفوية في القرآن.
هذه أبرز الاتجاهات حول الدراسات المتعلقة بالنص القرآني نفسه، لكن هناك دراسات أخرى تتعلق بالعناية بتلقِّي القرآن تاريخيًّا وحديثًا، كان أبرزها قديمًا عمل غولدزيهر عن مذاهب التفسير الإسلامي، وكتب أخرى صدرت عن التفسير في مناطق معينة من العالم الإسلامي، واتجاه دراسة التفاسير يتسع حديثًا سواء التفاسير القديمة أو التفاسير الحديثة، فصدرت مقالات وكتب كثيرة عن مفسرين بعينهم.
بالعموم يمكن القول إنّ الاستشراق المتعلق بالدراسات القرآنية لم يَعُد مستمرًّا كما كان عليه من قبلُ من حيث تمركزه على شخصيات بارزة من المستشرقين، إنما تحوّل الدرس الاستشراقي للقرآن إلى مشروعات بحثية تضم مجموعة من الباحثين الموظفين، ممن لا يجمعهم بالضرورة رؤية مشتركة سوى عموميات تتصل بالمشروع الذي يعملون فيه، وهم ليسوا بالضرورة من الغربيين أو غير المسلمين. ومن ناحية أخرى أُضيفت أسئلة جديدة للاشتغال الغربي بالقرآن؛ كالعمل على دراسة الحضور التاريخي للقرآن في الغرب والاهتمام به في التاريخ الفكري الأوروبي، أو دراسة ترجماته وتأريخها قديمًا وحديثًا، أو زوايا أخرى تحمل همًّا غربيًّا أوروبيًّا مباشرًا.
ما ينبغي الانتباه إليه في هذا المجال، أن الدراسات القرآنية في الغرب لها تاريخ طويل وراسخ، يكفي أن أُشير إلى عدد ما أحصاه الباحث الإيراني مرتضى كريمي نيا في كتابه: (ببليوغرافيا الدراسات القرآنية في اللغات الأوروبية) والتي تمتدّ في الفترة الزمنية (1500- 2012م)، والتي تشمل الكتب والمقالات المنشورة باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والهولندية واللاتينية، ووصلت القائمة إلى 8812 إدخالًا. فهناك تركة وتراث من الدراسات القرآنية الغربية أصبحت بمجملها مرجعيةً معترفًا بها، ولا يكاد يحظى عمل علمي عن القرآن بالاعتراف (في الغرب) ما لم يستند إلى هذا التراث الغربي ويستشهد به، كما أن هذا التراث الغربي عن الدراسات القرآنية أصبح موضوعَ تأريخٍ ونقدٍ أيضًا، من أحدثِ تلك المراجعات دراسة ديفين ستيوارت Devin Stewart تأملات في وضع الدراسات القرآنية الغربية (2017).
س6: الاهتمام بدراسة النص القرآني في كليته، والتي نجدها في أعمال باحثين مثل ميشيل كويبرس وأنجيليكا نويفرت وروبنسون وفارين وغيرهم، تتقاطع مع اهتمامكم بقضية البنية القرآنية، كيف ترون هذه الإسهامات البحثية ومدى إمكان الاستفادة منها عربيًّا؟
د/ عبد الرحمن حللي:
عنايتي بالبنية القرآنية بدأت في سياق مختلف، ويرجع الأمر إلى شيوع الاهتمام باللسانيات في التسعينيات، والوعود التي بشّرت بها الدراسات اللسانية حينها، وكان من آثارها أن لفتت النظر إلى تراث لغوي عربي يمكن الربط بينه وبين الدراسات اللسانية الحديثة، كما اكتشفنا حينها أعمال اللساني الياباني إيزوتسو حول القرآن، أمّا بالنسبة للأعمال التي أشرتَ إليها فهي تتنزل في سياق البحث عن فهم النص بمرجعية بلاغية من محيطه الحضاري، فإن كانت دراسات الأصول تبحث عن أصول القرآن أو لغة القرآن في أديان أخرى أو لغات مجاورة، فهذه تبحث عن تفسير نظم القرآن ببلاغة لغات أخرى، والإشكال هنا بإخضاع التحليل النصي لنظرية خارجية، ومن شرط إمكانها علميًّا أن تَثـبُتَ في آداب العرب قبل الإسلام أوّلًا فتكون من معهودهم وبالتالي يمكن فهمها على هذا الأساس، حتى على فرضية من يرى أن القرآن ليس وحيًا فينبغي أن يَـثبت أنّ من يُدَّعى أنه مؤلِّفه أنه عالم بآداب اللغات الساميّة، لكن في كل الأحوال يبقى بحث فرضية انسجام نظم القرآن مع نظريات بلاغية أمرًا مشروعًا من حيث المبدأ ولا يحمل تعسف الفرضيات الأخرى، على أن التراث الإسلامي مليء بنظريات وتطبيقات حول نظم القرآن، وبنية السور وبنية القرآن ككل، وأثر الوعي بكل ذلك في فهم القرآن، فهناك نظرية النظم وعلم المناسبات وتنظير الشاطبي عن العلاقة بين المكي والمدني، وصولًا إلى أعمال المتأخرين كالفراهي.
نعم يمكن عدُّ هذه الدراسات من جملة الدراسات التي تحمل روحًا إيجابية في التعامل مع القرآن، لكن ما كان يشغل اهتمامي في دراسة بنية القرآن يحمل همومًا أخرى تتعلق بالدلالة أوّلًا، والجانب الجمالي يأتي تبعًا، وهذه الدراسات مهمة للمشتغلين في بنية السورة القرآنية والجوانب الأدبية بشكل أساسي.
س7: كيف ترون حالة الترجمة والتثاقف مع هذه الدراسات بين الباحثين العرب؟ وكذلك بأيّ قدرٍ ترون الانفتاح من الدارسين الغربيين على المنجزات البحثية العربية في التقليد أو في النتاج المعاصر ومقدار الاستفادة منها؟
د/ عبد الرحمن حللي:
باستثناء بعض الدراسات (الاستشراقية العربية) التي ينجزها باحثون عرب عن القرآن والتي تقتبس أو تتقمص الرؤى الاستشراقية الغربية، ودون إحالة إليها أحيانًا =لا تزال الدراسات الغربية حول القرآن بالنسبة لأغلب المشتغلين بالدراسات القرآنية في العالم العربي في إطار الاستكشاف، رغم مضيّ زمن على صدورها، وأصبح كثير منها من حيّز الماضي؛ لذا من المبكِّر الحديث عن التثاقف والتفاعل معها بشكل واسع، على أنّ الشروع في التعرف عليها أمرٌ إيجابي رغم تأخره، والحملة المكثفة عربيًّا لترجمة الدراسات الغربية -رغم الفوضى التي فيها- سيكون لها إيجابياتها، من حيث جسر الهوة، أمّا أثرها الإيجابي فيمكن توقعه فقط في حال التعامل العلمي معها بندّيةٍ نقدًا وبعلميّةٍ إنصافًا، ولو تم ذلك فيمكن حينها الفأل بهذا النمط من التفكير العلمي الجديد الذي نفتقده في كثير من الدراسات في العالم العربي.
أمّا الاعتماد الغربي على الدراسات العربية، فهو محصور بالتراث الذي يكون موضوعًا للدراسة، أو ببعض تحقيقاته، أمّا المنجز العلمي العربي الحديث حول القرآن فثمة نظرة سلبية نحوه تستند إلى تصوره كتابات دينية (لاهوتية) لا تعنيهم، بمعنى أنه محكوم برؤية مسبقة ولا يعالج أسئلة علمية، وحتى الدراسات النقدية العربية لأعمال المستشرقين لا يُعار لها الاهتمام؛ لأنّ ما يرِد فيها متوقَّعٌ لديهم ومفهوم بوصفه ردًّا دينيًّا وليس علميًّا حسب معاييرهم، وأنه مسكون بـ«فوبيا الاستشراق»، يضاف إلى ما سبق شيوع نزعة المركزية الغربية في المعرفة والتي لا تعترف إلا بما ينتج في سياقها أو بشروطها، على أنّ ما يُنشر من قِبل كُتّاب مسلمين أو عرب في مجلات غربية وبلغات غربية يمكن أن يجد طريقه إلى الاعتراف، وقد نَشر باحثون مسلمون وعربٌ دراسات مهمة بلغات أجنبية وأصبحت مرجعًا في موضوعاتها، على أن مجلات غربية مختصة بالدراسات القرآنية خصصت مساحة للدراسات باللغة العربية بغرض التواصل مع المنجز العربي حول القرآن والتعرف عليه؛ كمجلة الدراسات القرآنية في لندن، ومجلة الجمعية الدولية للدراسات القرآنية. هذا، ومما يشكو منه الباحثون الغربيون هو عدم وجود مراكز بحثية في العالم الإسلامي جادّة ومنفتحة على الثقافة الغربية يمكن التواصل معها وتبادل وجهات النظر أو التعاون، وقد كُسِر بعض الجمود في السنوات الأخيرة حيث كان لبعض المؤتمرات المتخصصة دورٌ في الاستضافة المتبادلة للباحثين والتحاور معهم ونشرِ أبحاثهم.
س8: بحكم متابعتكم؛ ما أهم الدراسات والكتب الغربية المعاصرة التي ترون فائدة كبيرة في الاطلاع العربي عليها؟
د/ عبد الرحمن حللي:
من المهمّ في العالم العربي التعرف على الاتجاهات والمدارس الغربية في التفكير في الدراسات الإسلامية، والمهم هنا ترجمة الدراسات التي تعرض هذه الاتجاهات وتؤرخها وتلخصها وتعرض نقدها، ولكل حقل من الدراسات الإسلامية الغربية هناك دراسات تُعَرِّف بها، وهي بمثابة مقدمات للعلوم، والموسوعات المتخصصة تُعنى بهذا الجانب أيضًا، لكن كليات الشريعة والدراسات الإسلامية في العالم العربي لا تزال تعاني فجوة مع الدراسات الغربية، سواء من الناحية اللغوية أو من ناحية التواصل والتعرف على هذه الدراسات؛ لذا أرى أنه من المهم في هذا المجال إضافةً إلى الترجمة المدروسة والتي ينبغي أن تسير وفق خطة علمية تضعها لجنة محيطة بالدراسات الغربية ولا تكتفي بترشيحات فردية، أقترحُ إدخال مقررات جامعية للدراسات العليا تُدَرِّس تاريخ الدراسات الغربية للإسلام وتطورها وحاضرها واتجاهاتها كما هي في سياقاتها، ولا يغني عن ذلك مقررات الاستشراق التي تحمل ضمنًا خط القطيعة ومنطق معالجة الشبهات.
المحور الثالث: المفردة القرآنية:
س9: لكم اهتمام كبير بقضية المفردة القرآنية، وكتبتم الكثير في هذا السياق، بدايةً لو تُلقون لنا بعض الضوء على الجذور التراثية للاشتغال على المفردة القرآنية، وما مدى الاهتمام العربي المعاصر بقضية المفردة؟ وما الذي يَعِد به -في تصوركم- من تطوير لفهمنا للقرآن؟ وما الأسباب التي دعتكم خاصّة إلى توجيه العناية بهذه القضية؟
د/ عبد الرحمن حللي:
العناية بالمفردة القرآنية قديمة قِدم علم التفسير؛ فمقاتل بن سليمان (ت 150هـ) صاحب أقدم تفسير وصَلَنا، وصلنا له أيضًا كتابُه في الوجوه والنظائر، هذا فضلًا عما لم يصلنا، وقد أُحصِيَتْ من كتبِ مفردات القرآن وغريبه حتى عصر الراغب الأصفهاني في مطلع القرن الخامس الهجري نحو ستين كتابًا، ولم ينقطع التصنيف فيها إلى اليوم، لكن أوجه وخلفيات الاهتمام بالمفردة القرآنية تنوعت، وعناوين الكتب تعكس ذلك، لكن ما يجمعها تأكيدُها غير المباشر أن المفردة القرآنية ينبغي أن تُفهَم من زاويتين: المعنى المشترك لها في كامل النص القرآني واللغة تحدد هذا المعنى بشكل أساسي، والمعنى الاستعمالي لكل نظير في كل آية يرِد فيها والسياق يحدده، وقد نبَّه إلى ذلك مبكرًا الحكيمُ الترمذي الذي عنون كتابه: (تحصيل نظائر القرآن)، وكان يقصد إلى استخراج المعنى المركزي للمفردة والذي يتكرر مع كل نظير، وإن كان له معنى إضافي في سياقه الخاص، فكان يرى أنه ينبغي تحصيل المعنى الجامع لاشتقاقات المفردة كي يُفهم كل نظير لها، لكن كتابه كان صغيرًا ولم تحقق معالجتُه لعدد قليل من المفردات الغرضَ، هذه الرؤية حول النظائر القرآنية تدعمها معاجم اللغة المبكرة والأساسية التي اعتنت بمعاني الجذور، لا سيما (العين)، و(مقاييس اللغة)، ويمكن تلمّس ذلك في (مفردات الراغب) أيضًا، هذا التراكم في المصنفات حول المفردات القرآنية كان يُنظر إليه في الغالب على أنه مجرد درس لغوي لألفاظ القرآن، فيتم التعامل معها بطريقة شكلية، لكن الدرس اللساني، والبنيوي منه بشكل خاص، أكّد على أهمية مفردات أيّ نص في الكشف عن دلالته وإبراز جوانب من معانيه، ومن هذا المدخل بدأ اهتمامي بدراسة المفردة القرآنية بوصفها مفتاحًا مركزيًّا لفهم الموضوع الذي تتصل به، وكذلك فهم تصورات كبرى تتصل بالمفهوم، وقد عزز لديَّ هذا الاهتمام اطلاعي على دراسات إيزوتسو، كما اطلعتُ على كثير من الدراسات الحديثة التي اعتنت بمفردات القرآن وحملَت عناوين كثيرة؛ كالمصطلح القرآني أو المفاهيم القرآنية، أو غير ذلك، لكنها كانت في الغالب دراسات شكلية لم تقدِّم إضافة دلالية زيادة عما ورَد في كتب المفردات والتفاسير، فتحوّلت المفردة القرآنية إلى ما يشبه التفسير الموضوعي جمعًا لمتفرقات، لا سيما عندما تمت دراستها مع السُّنة في آنٍ واحد. فشعرتُ أن هناك مشكلات منهجية في دراسة المفردة القرآنية، لا سيما في الخلط بين المفهوم والمصطلح، وهذه مشكلة لا تخص الدراسات القرآنية، فحاولتُ التمييز بينهما، وشرعت في دراسة بعض المفردات مفترضًا -ابتداءً- ما أشار إليه الحكيم الترمذي من وجود معنى مركزيّ يدور مع المفردة حيث وردت في القرآن ويتسع لمعانٍ أخرى حسب كل سياق، فوجدت أن بعض المفردات هي موضوع قائم بذاته، وأن ملاحظة هذا الخيط الناظم للمفردة حيث وردت يقود إلى المعنى تلقائيًّا ويساعد على فهم خصوصية استعمال المفردة في كل سياق، وكانت بداية التطبيقات التي أنجزتُها في هذا المجال حول الأسماء والكلمات والكتاب، ولاحقًا طوّرتُ منهجية دراسة المفردات لجهة العناية بالتطور التاريخي للمفردة قبل الوحي وما أصبحَتْ تعنيه في النص القرآني وما أضافه النص إلى المفردة من دلالة، وكذلك بتتبع تطور استعمال المفردة داخل النص القرآني نفسه؛ إذ تكشف صيغة الاستعمال المبكر للمفردة في القرآن المكي عن طبيعة دلاتها، فمثلًا أقدم استعمالٍ للمشتقات المتصلة بمفردة (التقوى) جاء معرَّفًا بأل التعريف ما يدلّ على استقرار معناها عند المخاطبين الأوائل، بخلاف مفردة (البِرّ) التي تأخّرت صيغتها معرَّفةً بأل إلى العهد المدني، وبعدَ تصحيح تصوراتٍ عنها جرى الجدل حولها مع أهل الكتاب. وهكذا من شأنِ تتبُّع ما أسميه «السيرة الذاتية للمفردة» بدءًا من أقدم عهد لنا بها لغويًّا وعربيًّا (معهود عصر النزول) إلى آخر استعمال لها في آخر ما نزل في القرآن =أن يكشف دلالات لا تلاحَظ بمجرد شرحها كلفظ غريب، أو بجمع معانيها الواردة في التفاسير وكتب المفردات، وهذه الإضافة لا تتأتى من دون الدراسة اللغوية والدراسة النصية للمفردة، ببُعدَيهما التاريخي والسياقي، والتي تستوعب بهذه الأبعاد ما يمكن الوصول إليه من معلومات تتصل بالمفردة في أيٍّ من المصادر، حتى في اللغات السامية التي تشترك معها في الجذر، كما يشير إلى أهمية ذلك الفراهي.
س10: كما يظهر من كتاباتكم، فهناك استفادة كبيرة من عمل الألسني الياباني إيزوتسو؛ في تصوركم ما الذي يميز اشتغال إيزوتسو من بين المناهج اللسانية ويجعله مفيدًا في تناول النص القرآني؟
د/ عبد الرحمن حللي:
تتميز أعمال إيزوتسو عن الدراسات الغربية حول القرآن أنه كان مشغولًا بأسئلة مختلفة، فلم يكن معنيًّا بسؤال أصول القرآن ومصادره، وإنما تعامَل مع القرآن كنصٍّ منجَزٍ ينبغي فهمُ ما يودُّ قوله، واكتشاف رؤيته للعالم، ورأى أن المدخل لفهم ذلك هو الدرس الدلالي، ومقارنة ما أضافه القرآن إلى معارف العرب ومفاهيمهم في الشأن الديني والأخلاقي، فجاءت دراساته محايدة، والفضل في ذلك يرجع إلى خاصية الدرس الألسني الذي يُعنى بالكشف عن دلالة النص والابتعاد ما أمكن عن تأويله من خارجه، وبالمناسبة هذا كان همّ المفسرين اللغويين، وقد جعل إيزوتسو المدخل لتحقيق هدفه هو دراسة بعض المفهومات القرآنية والمقارنة بين دلالتها في الشعر الجاهلي والنص القرآني، وإبراز التطوير القرآني في دلالتها، لكنه اعتنى بها كحقول دلالية؛ لذلك لم يتوقف عند كل مفردة بعينها، إلا في مواطن قليلة، وهذا ما يمكن أن يُبنى على عمله، باستثمار منهجيته والاشتغال على كل مفردة بذاتها، ومن ثم تتكامل المفردات لاحقًا في توضيح دلالة كل حقل دلالي، لكن ذلك بحاجة إلى مشاريع علمية تتقن أولًا هذه المنهجية وتطبقها ثانيًا، واشتغالي على المفردات القرآنية محاولة متواضعة في تطوير هذه المنهجية وتطبيقها. لكن الأهم الذي ينبغي الانتباه إليه أن الدرس اللساني في أعمال إيزوتسو كان وسيلة لهدف أسمى ولم يكن مجرد منهج أو تطبيقات شكلية، فقد توسله لاكتشاف الرؤية العالمية التي يطرحها القرآن والتي لا تخص المسلمين، فرغم اشتغاله على جوانب تاريخية ولغوية، إلا أنه كان معنيًّا بما هو أبعد من ذلك، وهو التصور الإسلامي للوجود كما يمكن أن يُفهم من القرآن.
س11: هناك بعض المفكرين الذين استلهموا إيزوتسو واستخدموا أدواته وأدخلوا بعض تعديلات عليها، مثل فضل الرحمن مالك في كتابه (المسائل الكبرى). من وجهة نظركم؛ ما وجوه الاتفاق والافتراق بين إيزوتسو وفضل الرحمن؟
د/ عبد الرحمن حللي:
ما يشترك فيه فضل الرحمن في كتابه (المسائل الكبرى في القرآن) مع أعمال إيزوتسو عن القرآن هو انشغال كل منهما بسؤال: ما الذي يريد القرآن أن يقوله للعالم؟ وما التصورات التي يمكن أن نفهمها من هذا النص؟ فتوسَّل إيزوتسو لفهمِ ذلك دراسة المفهومات القرآنية، بينما اشتغل فضل الرحمن على الموضوعات أو القضايا القرآنية، وقد أبدع كل منهما على مستوى المنهج بشكل أخَصّ، ولم يكن عملهما أسيرًا للرؤية التاريخية التي تتعامل مع القرآن بوصفه نصًّا ينتمي إلى مرحلة تاريخية وانتهى دوره، بل قدّم كل منهما القرآن كما يمكن أن يُفهم اليوم ويُستفاد منه في معالجة مشكلات الإنسان المعاصر، لكن ذلك لم يكن بأسلوب مباشر إنما بدراسة علمية تحليلة معمقة. والأمر الآخر الذي يشتركان فيه أنهما اشتغلا على النص القرآني نفسه وليس على تفاسيره، بمعنى أنهما تجاوزا عقبة التراث التفسيري كمدخل لفهم القرآن، وإن لم يتجاهلا ما ورد فيه أو يصادراه، وهذا ربما ما مكنهما من التعامل مع الموضوع بأفق أرحب، دون الوقوع في أسرِ التراث أو نقده. فما يغلب على الدراسات القرآنية في عالمنا العربي الاهتمامُ بتاريخ التفسير ومناهجه، وتجاهل هذا السؤال المركزي: كيف يقدم القرآن نفسه للعالم؟ وكيف يمكن أن نجلي هذه الرؤية ونحللها؟ هذه الثغرة في الدراسات العربية يمكن ترميمها من خلال تطوير أعمال إيزوتسو وفضل الرحمن، فأعمالهما مسكونة بالأسئلة الوجودية والأخلاقية التي تواجه الإنسان.
س12: إذن في ضوء ما تفضّلتم به؛ فكيف ترون التلقي العربي والإسلامي لإيزوتسو؟ وهل حقق استفادة ثرية من مناهجه وأدواته؟ وكيف يمكن الدفع في اتجاه استفادة أكبر، سواء من إيزوتسو أو من المناهج اللسانية في العموم؟
د/ عبد الرحمن حللي:
للأسف فإن أعمال إيزوتسو قد تأخرت في الترجمة إلى العربية عقودًا بينما كانت قد تُرجمت إلى لغات كثيرة مبكرًا، ورغم مضيّ أكثر من عقد على ترجمة أعماله لم تحظَ بالاهتمام العلمي المناسب؛ إذ اقتصرَت على الاحتفاء بها مدحًا دون البناء عليها، أو دمجها في مناهج التدريس الجامعي كمصادر للمقررات، وقد أُنجز حول بعضها رسائل جامعية في المغرب، كما صدر عدد خاص من (مجلة الدراسات القرآنية) اللندنية عن تلقي أعمال إيزوتسو، وفيه مقالات عن تلقيه عربيًّا، على أن المقالات العربية في نقد أعماله قليلة. وأرى أن تدريس أعماله كمقررات جامعية في أقسام علوم القرآن والعقيدة من شأنها أن تفتح آفاق الطلبة لمجالات رحبة في الرسائل الجامعية، ليس في علوم القرآن فقط وإنما في تاريخ الأفكار في العلوم الإسلامية، فكتابه (مفهوم الإيمان في علم الكلام) قد طبّق فيه نفس المنهجية ولكن على التراث الإسلامي. لكن تحقيق الإفادة من أعماله مشروط بالانفتاح على الدراسات اللغوية واللسانية، وأنوّه هنا إلى أنه من المهم أن تصبح الدراسات الإسلامية عابرة للتخصصات، فتستكمل في التكوين معارف منهجية من علوم أخرى، وأهمها المباحث اللسانية لا سيما تلك التي تربط بين المعرفة اللسانية الحديثة والعلوم اللغوية العربية وتراثها.
المحور الرابع: متفرقات:
س13: نلحظ في الواقع الغربي العديد من المشاريع الجماعية، والتي تنتج عنها الكثير من المشروعات الموسوعية المهمة، في حين أننا نعاني ندرة هذه الأعمال في الواقع العربي. ما تقييمكم لذلك؟ وأيضًا في ضوء احتكاككم بالبيئة البحثية الغربية؛ ما سبب خلوّ واقعنا من أمثال هذه الجهود؟ وكيف يمكننا حفز العمل البحثي الجماعي والذي هو ضرورة لظهور أعمال علمية ذات ثقل نوعي في التخصص وتنهض بمسارات لا يستطيع إنجازها آحاد الباحثين؟
د/ عبد الرحمن حللي:
ثقافة العمل المؤسسي والجماعي في العالم العربي ما تزال بعيدة المنال عمومًا، حتى إن وجدت المؤسسات فإن التراتبية والمصالح الشخصية تنخرها وتفقد روح التعاون فيها غالبًا، إضافة إلى ذلك فإن رأس المال العربي لا يهتم بتمويل البحث العلمي، وحيث اعتنى به كان قصير الأجل ولا يملك رؤية بعيدة، ويستعجل النتائج، فينشغل القائمون على المؤسسات بتعجل الإنجاز وإن كان على حساب المحتوى، في حين أنّ المشاريع العلمية الحضارية تحتاج تمويلًا مستقرًّا بعيد المدى يضمن قيام مؤسسة مستدامة لإنجاز المشاريع، فعلى سبيل المثال يُصنَّف مشروع الموسوعة القرآنية الألمانية (كوربوس كورآنيكم) من المشاريع المتوسطة المدة، ويمتد 25 سنة منذ انطلاقه، وثمة مشاريع أخرى كثيرة تزيد على هذه المدة، وبالمناسبة هذه مشاريع تتعلق بالعلوم الإنسانية وبموضوعات يمكن أن تُعَد ثانوية بالنسبة للأكاديميات الألمانية أو الأوروبية، أمّا ما يخص المشاريع التي تخص الفكر الألماني والثقافة الأوروبية فلها نفَس أطول وأبعد، فعلى سبيل المثال تأسس المعجم التاريخي للغة اللاتينية في ميونيخ عام 1894 وكان مخططًا له نحو 20 عامًا، لكنه لم يُنجز إلى اليوم، وما يزال العمل فيه مستمرًّا ويتفاءل القائمون عليه أن يُنجز عام 2050، ولا يزال تمويله مستمرًّا ويتوارث العمل فيه أجيال من الباحثين، وهذه المشاريع لا يسمع بها الناس في الإعلام إلا نادرًا حين تقوم بنشاط عامٍّ كمؤتمرٍ أو غيره. لكن عقبات التمويل والعمل المؤسسي تبقى شكلية أمام عقبات أهمّ، أعني عدم وضوح الرؤية والأسئلة العلمية التي من شأنها أن تسدد عمل أيّ مؤسسة، فإنشاء أيّ مشروع علمي في الأكاديميات الغربية، يخضع لمدة طويلة من الإعداد ومِن ثم التقويم والتحكيم والمراجعة قبل اعتماده، ومناط كل ذلك التأكد من وجود أسئلة علمية ومنهجية مناسبة، وتوافر كفاءات تمكن من الإنجاز على نحوٍ أمثل، فلا يكفي قيام المؤسسة أو المشروع البحثي شكلًا، بل لا بد من رؤية علمية واضحة وأسئلة يتم معالجتها في ضوء خطة مناسبة. لذا نحن بحاجة في العالم العربي إلى تدريب الباحثين على العمل التعاوني والعمل ضمن فريق، وهي مسألة تربوية، كما لا بد من وضع الأسئلة التي يمكن من خلالها بناء رؤية علمية يمكن تحقيقها، ونجاح ما سبق مشروط بوجود إدارة رشيدة للمشاريع تنفذ ما هو مخطط فيها.
س14: من خلال رحلتكم البحثية الطويلة وتدريسكم في جامعات غربية؛ ما الأسئلة التي ترون أنّ على الباحثين في القرآن وعلومه إيلاءها الأهمية الأكبر؟ وما المساحات التي ترونها الأجدر بالبحث وتوجيه أنظار الباحثين لها للاشتغال عليها، خاصة في سياق مثاقفة الطرح الاستشراقي والحداثي حول القرآن الكريم؟
د/ عبد الرحمن حللي:
أهمّ ما أنصح به من يودُّ التخصص في الدراسات القرآنية -بعد إخلاص النية- أن يمحص هدفه بناءً على ما يجده في نفسه من كفاءة، فيحدد من حقلِ الدراسات القرآنية ما سيهتم به، فيستكمل ما لم تقدمه له الدراسة الجامعية، وذلك باستيعاب خريطة الاهتمامات العالمية في مجال الدراسات القرآنية، ثم يختار منها حقلًا يتخصص فيه، فيتعمق في دراسة كل ما يتصل به، وينبغي أن يلاحِظ في هذه المرحلة عدة أمور؛ أهمها التكوين المنهجي الذي يقتضيه الحقل الذي اختاره، بتعلُّم علوم أخرى أو لغات أو مهارات أو غيرها، وأن لا يُقدِم على بحث قبل تقييم الإضافة المتوقَّعة في مجاله، ولا يتأتى ذلك إلّا بقراءة نقدية لكل ما يطّلع عليه، فيفرز ما يمكن البناء عليه وما ينبغي تجاوزه.
وإن كنتَ تسأل عن الأهم في الموضوعات المتعلقة بالدراسات القرآنية، فيمكن أن أشير إلى عناوين عامة لكن الأهم منها يحتاج إلى مؤسسات، فمما يؤسَف له أن التراث المتعلق بالقرآن وعلومه ما يزال بحاجة إلى عناية متخصصة وعلمية، بدءًا من مخطوطات القرآن التي يجمعها ويشتغل عليها المستشرقون، وتُعتبر لدى كثيرين في العالم العربي غير ذات أهمية، ولم يعتنِ بها إلا قلة من العلماء العرب، وصولًا إلى أهم مصادر التفسير التي لم تحقَّق تحقيقًا علميًّا يليق بها، وحيث حُقِّقت كانت في معظمها تحقيقات تجارية تم حشو صفحاتها بتخريج زائد للنصوص التي يسهل الوصول إليها مع إهمال توثيق اقتباسات المؤلِّفين عمن سبقهم، فغالبًا ما تتولى مهمة التحقيق دور النشر التي يفتقد أغلبها المسؤولية العلمية والكوادر المتخصصة. يضاف إلى ما سبق غياب موسوعات علمية مرجعية لكل ما يتصل بالقرآن، نَعم ثمة كثرة في الإصدارات التي تحمل عناوين الموسوعات أو المعاجم المختصة، لكن محتوياتها في الغالب لا ترقى إلى شروط العمل الأكاديمي المرجعي الذي ينبغي أن تلتزم به الموسوعات العلمية.
فيما يخص الأعمال الفردية، أنصحُ الباحثين في الدراسات القرآنية بتتبُّعِ الثغرات المهمَلة في الدراسات القرآنية والتخصصِ فيها، وهي كثيرة جدًّا؛ فمن ذلك مثلًا التخصص في المخطوطات القرآنية والدراسات حولها، ودراسة تلقي القرآن في العالم الإسلامي، فاتجاهات دراسة القرآن وتفسيره باللغات غير العربية وغير الغربية ما تزال مجهولة لنا، فما يكتب بالتركية أو الفارسية أو الأردية أو غيرها لا نعرف الكفاية عنه في العالم العربي، فمن غير المفهوم مثلًا أن تجد أستاذة جامعية ألمانية تتقن اللغة الإندونيسية وهي مختصة في تفسير القرآن في إندونيسيا، بينما نحن في العالم العربي لا يوجد في جامعاتنا مختصون في الدرس القرآني في هذه البلدان، بل إننا رغم توفر الوسائل الحديثة لم نتابع ما اشتغل عليه مؤرخو العلوم في التراث، ومنه التفسير، حيث أرّخوا ووثّقوا حتى الكراسات في تفسير آية واحدة، بينما نجهل اليوم مصنفات بلدان إسلامية يعدل سكانها أضعاف المسلمين في العالم العربي، وفيها جامعات ومدارس واتجاهات مختلفة.
ومما يُنصح به مَن يرغب بالتخصص بالدراسات القرآنية أن يَستكمل تخصصه -ولو بصفة مستمع- بدراسة تخصصٍ آخر رديف من شأنهِ أن يعزِّز ما سيعمل به، فمثلًا مَن يرغب التخصص في المخطوطات يمكن أن يرفد مهاراته بدورات عن المخطوطات وأصول التحقيق ومناهجه، ومن سيتخصص في الدراسة النصية يمكن أن يتعمق بالتخصص في اللسانيات، ومن سيُعنى بتفاسير المتكلمين أو المتصوفة يمكن أن يُعنى بدراسة تاريخ الفلسفة والتصوف، ومما يمكن أن يكون مهمًّا ولم يحظَ بالعناية رغم فائدته مقارنةُ القضايا القرآنية بنظائرها في كتب الأديان الأخرى الكتابية وغير الكتابية، لا من منظور القصص التي اشتُغل عليها كثيرًا، وإنما من زوايا أخرى تتعلق بما يطرحه القرآن من رؤى تتعلق بالله والإنسان والآخرة، فمن شأن هذه المقارنة بين النصوص وبين تفسيرات أَتْباع كل دين لها أن تمكن من الكشف عن المساحة التي يشترك فيها أَتْباع الأديان الأخرى مع القرآن وتصورات المسلمين والمساحة التي هي محل خلاف، فتكون بذلك حوارًا بين الأديان علميًّا معمقًا ونقديًّا مثمرًا.
س15: من خلال اشتغالكم البحثي المطوَّل في الدراسات القرآنية، ما أبرز النصائح التي توجهونها للباحثين عمومًا، والباحثين في الدراسات القرآنية خصوصًا؟
د/ عبد الرحمن حللي:
الدراسات الإسلامية عمومًا، والدراسات القرآنية تحديدًا تحتاج اليوم تكوينًا علميًّا مضاعفًا، فهي من جهةٍ غايةُ العلوم الشرعية، ومن جهةٍ أخرى محوَجةٌ إلى علوم أخرى تكملها، وتتنوع هذه الحاجات بحسب كل فرع منها، فنصيحتي للباحثين أن تعلو همتهم فيما يرغبون التخصص فيه، وأن يحددوا مسارًا لا يتضمن تكرارًا لما هو موجود، وإنما أن يسدّ ثغرة من العلم مما يمكن عدُّه من فروض الكفاية، فبذلُ جهدٍ خاص لجانب لم ينل حقه من البحث سيكون أثره الإيجابي مضاعفًا على الباحث وفي مجال التخصص، وإذا كنا نتحدث عن التخصص في كتاب لا تنقضي عجائبه، فلا ينبغي أن تَضعُف في نيلِ بعضِها الهممُ.
مواد تهمك
- بين كتابي؛ نظم القرآن لميشيل كويبرس، والأحاديث حول تثبيت مصحف عثمان لفيفيان كوميرو
- الدراسات القرآنية والمنعطف الأدبي؛ قراءة في أهم الدراسات الأدبية الغربية للقرآن
- القراءات الحداثية للقرآن (7): فضل الرحمن مالك؛ القرآن والحداثة والتأويلية الناجزة
- واقع الترجمة في حقل الدراسات القرآنية العربية المعاصرة
- التفسير في الدراسات الغربية المعاصرة؛ الجزء الثالث: دراسة المعنى التفسيري
- الاستشراق والاستشراق الإسرائيلي (2-2)