مقدمة:
يُعَدّ نقد المرويّات الإسرائيلية وحضورها في كتب التفسير من الأمور القديمة والجديدة في ذات الآن، فهذا النقد ممتدّ منذ قديم؛ إذ ترجع جذوره إلى عصر ما بعد السلف، كما أنه كذلك معاصر. إلا أن وتيرة النقد زادت بشدّة في الدرس المعاصر للقرآن الكريم والتفسير، حيث لاقى هذا الحضور انتقادًا واسعًا من قِبَلِ معظم المشتغلين بالدراسات القرآنية والمهتمين بتفسير القرآن الكريم، مهما اختلفت توجّهات أو منطلقات هؤلاء الدارسين؛ مما يدلّ على وجود شبه اتفاق على طريقة طرح المشكلة وطريقة تناولها، بل وتحوّل هذا النقد لمشروعات علميّة ممتدة بهدف تتبّع هذه المرويات ونقدها وما تسرّب منها للتفسير.
وَيُعَدّ الدكتور مساعد الطيار -أحد أبرز المشتغلين المعاصرين بالدراسات القرآنية- ممن تمايزوا بطرحٍ مغايرٍ لذلكم الخطّ الناقد للمرويات الإسرائيلية؛ حيث اهتم بتسليط الضوء على هذه المرويات في كتب التفسير، والتنبيه على أهمية دراسة مقاصد العلماء من وراء إيرادها بصورة تطبيقيّة لا تجريدية نظريّة.
وفي هذا الحوار العلمي يحاور موقعُ تفسير الدكتورَ مساعد ليتعرف على وجهة نظره في هذا الموضوع الشائك. وقد جاء الحواء معه على ثلاثة محاور بعد مدخل تمهيدي تناول سبب اشتغاله بهذا الإشكال وخارطة إنتاجه فيه:
في المحور الأول: (الإسرائيليات؛ المفهوم ومحددات التمييز)، دار حديثه حول مفهوم الإسرائيليات وحول التقسيمات الشائعة لها ومصدرها، وفي المحور الثاني: (الإسرائيليات وواقعها في مدونة التفسير)، تناول الإسرائيليات في مدونات التفسير، حيث حاول تسليط الضوء على حضور الإسرائيليات، وعلاقتها بمستويات تبيين المعنى كمهمّة أساسية للمفسِّر، وفي المحور الثالث والأخير: (الإسرائيليات؛ الواقع والآفاق)، تناول واقع دراسة الإسرائيليات في الكتابات وفي البرامج الدراسية المعاصرة، محاولًا كذلك طرح بعض الأفكار لفتح آفاق لدراستها بصورة عمليّة تبغي التحرير الدقيق لها.
وفيما يلي نصّ الحوار:
نصّ الحوار
مدخل تمهيدي حول الموضوع:
س1: لكم عناية ظاهرة بتناول موضوع الإسرائيليات في التفسير والكتابة فيه بصورة تُباين المألوف من النظر الناقد لهذه المرويات، فلو تُطلعوننا على أهم أسباب ذلك؟ ومتى بدأ توجُّهكم لبحث هذه القضية تحديدًا؟
أ.د/ مساعد الطيار:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
كانت بداية اشتغالي بموضوع المرويات الإسرائيلية في كتب التفسير عندما كنت طالبًا في الجامعة، حيث تَلقَّيْتُ -كغيري، كما هو سائد في الأوساط الأكاديمية- أنَّ هذه المرويات من أحد عيوب التفسير البارزة، وأنّ الرجوع إليها من قِبَل المفسِّرين وروايتهم لها كان خطأً، ولمَّا قدَّر اللهُ لي العناية بالتفاسير -خاصّة تفسير السلف والنظر فيه- لاحظتُ حضورًا كثيفًا جدًّا لهذه المرويات في تفاسير السلف، وأنهم أخذوها عن بني إسرائيل، وأفادوا منها في التفسير بصورة واسعة لا يمكن نفيها؛ ومن هاهنا تخلَّق الإشكال عندي وحضر السؤال، وهو: كيف يكون حضور هذه المرويات في تفاسير السلف على هذا النحو وتكون روايتها مشكلة وخاطئة؟! ولمَّا كانت لي عناية -بحمد الله- متقدّمة بتفسير الطبري كذلك وجدته -وهو إمام المفسرين- لا يستشكل هذه المرويات أبدًا، وإنما يتعامل معها والبيان التي وُظِّفَتْ فيه كغيره من المقولات التي وُظِّفتْ فيها اللغة وغيرها، ومن هاهنا ظهر لي أنّ الأمرَ مشكلٌ، خاصةً كذلك مع حضور بعض التأصيلات لديَّ من مثل ما كتبه ابن تيمية في مقدمته الشهيرة، والذي لم أجد فيه تعاملًا مع المسألة كما هو مطروح حولها في الدراسات المعاصرة.
وعندما أنعمتُ النظر في الدراسات المعاصرة التي عالجَتْ هذه المسألة وجدتها لا تُعنى كثيرًا بتَتبُّع مناهج مَن أوردوا هذه المرويات ومسالك توظيفهم لها، وإنما تنتقد الأمر بصورة مجملة، وهو ما حَدَا بي للرجوع لتفاسير السلف وأئمة التفسير ممَّن تعاملوا مع هذه المسألة لا سيما الطبري؛ لِأَسْتَكْنِهَ شيئًا من المنهج الذي حكمهم في هذه المسألة، وهو ما أفضَى بي لمخالفة الطرح السائد والناقد لهذه المرويات في التفسير والمستشكِل لحضورها؛ إِذْ لم أجد الواقع التطبيقي لهذه المرويات منسجمًا مع الدرس المعاصر لها.
وقد انشغلتُ بهذه المسألة واهتممتُ بالكتابة فيها؛ كون الدراسات المعاصرة تُقَرِّر من خلالها أحكامًا صعبة على المفسِّرين من السلف وأئمة التفسير مِمَّن تلاهم، وتتهمهم باتهامات لا تليق، وبأنهم أوردوا هذه المرويات على حين غفلة، وأنهم ذهلوا عمّا فيها...إلخ، مما قد تستشكل نسبة بعضه لآحاد الدارسين المعاصرين، فكيف بجيل السلف وأئمة التفسير؟!
س2: كتبتم حول هذه القضية بعض البحوث، فلو تطلعوننا على خارطة النتاج العلمي الذي طرحتموه فيها؟
أ.د/ مساعد الطيار:
قد اعتنيتُ بالكتابة في هذه القضية منذ فترة باكرة ترجع تحديدًا لبدايات اتصالي بملتقى أهل التفسير، حيث طرحتُ بعض المقالات حول موضوع الإسرائيليات، منها: (رأي آخر في الإسرائيليات في كتب التفسير)[1]، وكذلك كتبتُ مقالًا عن بعض الضوابط المنهجية التي حَكمَتْ صنيع الطبري وتعامله مع المرويات الإسرائيلية من خلال تحليل قصّة الحيَّة[2].
ولمَّا شرحتُ مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير تعرضتُ لهذه المسألة وفصَّلتُ فيها كذلك؛ فابن تيمية تعرّض للمرويات الإسرائيلية ببعض التأصيل كما هو معلوم، وبالتالي شرحتُ كلامه وعلَّقْتُ عليه وبيَّنْتُ بعض الأمور المتعلّقة بهذه المسألة في كتب التفسير، والتي قد لا يَلْتَفِت إليها في الدّرس المعاصر الناقدُ لهذه المرويات وإيرادها.
وكذلك عالجتُ المسألة في مؤلفاتي في أصول التفسير، لا سيما عند الحديث عن مصادر التفسير؛ حيث اجتهدتُ في بيان بعض المسالك المنهجية المتعلّقة بالإسرائيليات، والتي لم يَتِمَّ النظر إليها -لمَّا كان مسار بحث المسألة لدى المعاصرين- بهذه الصورة.
المحور الأول: الإسرائيليات؛ المفهوم ومحدّدات التمييز.
س3: عُرِّفَت الإسرائيليات من قِبَل العديد من الكَتَبَة والمصنِّفين بتعريفات كثيرة، والبعض ينحو لقَصْرها على الخرافات والأساطير، فما تقييمكم لهذه التعريفات؟ وما المفهوم الذي ترونه أكثر تعبيرًا عنها من وجهة نظركم؟
أ.د/ مساعد الطيار:
تعريف الإسرائيليات من المسائل التي تحتاج إلى نظر وبحث؛ فالإسرائيليات تشمل قصصًا وأخبارًا عديدة منها ما هو وارد عن بني إسرائيل وما يتعلق بأنبيائهم وأحوالهم مع الأنبياء، ومنها ما لا يتعلق بأنبيائهم؛ كأخبار قوم صالح وهود وشعيب، وهذا القصص يدخل في الإسرائيليات من باب التغليب كما أشار إلى ذلك الشيخ الذهبي، وهذا يدلّ على كون مفهوم مصطلح الإسرائيليات لم يزل غير محدّد بصورةٍ بَيِّنةٍ، وبغضِّ النظر عن ذلك إلَّا أن قَصْر مفهوم الإسرائيليات على أنه خرافة وأساطير مشكِل، بل إنّ فيه طعنًا خفيًّا في المفسِّرين بأنهم نقَلوا أمورًا خرافيةً بلا وعي، وضبط الاصطلاح يحتاج لاستقراء موسَّع لهذا القصص في كتب التفسير، ثم النظر في المفهوم وتحديده.
س4: البعض يرى أنّ الإسرائيليات لا سيما الموافق منها لِمَا ورَدَ في شَرْعِنا، يجب العدول عن تسميتها بالإسرائيليات؛ كونها مما جرى أَسْلَمَتُه، فما تقييمكم لهذه المقولة؟
أ.د/ مساعد الطيار:
في الحقيقة، هذه محاولات للتفلُّت من فكرة رواية المرويات الإسرائيلية، فلما ارتبط في الأذهان أنّ مصطلح الإسرائيليات مجرّد خرافة وأساطير حاولنا أن نهرب من ذلك بدعوَى أن الموافق منها لا نسمِّيه بالإسرائيليات.
لقد قسَّم ابن تيمية المرويات الإسرائيلية إلى ثلاثة أقسام: ما هو موافق لشريعتنا، وما هو مخالف لها، وما هو غير موافق ولا مخالف. وَبِغَضِّ النّظر عن أن هذا التقسيم في ضوء الواقع التطبيقي قد يُفرِز لنا بعض المناطق الرمادية التي يتعذَّر فيها تقسيم المرويات تبعًا لقِسْمة ابن تيمية، إلا أنّ اعتبار ما وافَقَنا مما يندرج في إطار شريعتنا ليس من الإسرائيليات مشكلٌ؛ لأن الموافقة لا تنفي أصل الخبر والقصة بأنها من الإسرائيليات.
س5: يرفض بعض الباحثين اعتبار وصف الإسرائيليات لكلّ ما هو خارج عن المصادر العبرية، فما هو رأيكم إزاء ذلك؟
أ.د/ مساعد الطيار:
اعتبار بعض الباحثين لكون ما هو خارج عن المصادر العبرية ليس من الإسرائيليات هو أمرٌ يرجع في أصله لقضية الاصطلاح وما اختاره الباحث فيه من دلالة، والواقع التطبيقي للمرويات الإسرائيلية في كتب التفسير يَشِي بأن هناك العديد من الأخبار مما يتعلق بالنصارى كذلك على أنه من الإسرائيليات. وهناك قصصٌ لا يتصل بالإسرائيليات كالقصص الوارد عن العرب القدماء كما قلنا، وعدم اعتباره ضمن الإسرائيليات لا إشكال فيه.
س6: تمثِّل قضية تمييز الخبر الإسرائيلي إشكالًا لدى الدارسين، خاصّة حين تحمل مضمونًا غيبيًّا؛ لِمَا يحتمل ذلك أن يكون الخبر غيبًا سمعه الصحابي من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه لم يرفعه، فكيف ترَون محدّدات التمييز للخبر الإسرائيلي؟ وكيف نحكم عليه في هذه الحالة؟
أ.د/ مساعد الطيار:
مسألة تمييز الخبر الإسرائيلي من المسائل الصعبة والعسيرة، فهناك احتمالٌ أن يكون الصحابي سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- فعليًّا، وهناك احتمالٌ بألَّا يكون قد سمع، وأنه رَوَى عن بني إسرائيل وأخذ عنهم، وهو لا إشكال فيه، خاصّة وأن الصحابة لديهم إذنٌ نبويٌّ برواية هذه الإسرائيليات كما هو معلوم، وهناك احتمال بأنْ يكون قد سمع أصل القصة من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأضاف إليها مما أخذه عن بني إسرائيل.
ومسألة استِكْنَاه المحدّدات الخاصّة بالتمييز لا سيما إذا كان الخبر في مسألة غيبية مما لا تدركه العقول، تُحِيلُنا على أهمية النظر في الأحوال الخاصّة بالصحابة ومسالك تعاملهم في هذا الباب، وهو الأمر الذي متى حرّرناه من استقراء التطبيقات أَمْكَنَنا بناء المحدّدات والمعايير، وإلَّا فإنّنا بدون ذلك لا يمكننا الحكم في هذا الشأن.
فالسلف مُجمِعون -مثلًا- على أنّ فتنة داوود التي ذكرها القرآن كانت في المرأة، بغضِّ النظر عن تفاصيل القصّة الخاصّة بهذا الصّدد، وهاهنا يحتمل أن يكونوا سمعوا ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأضافوا له من المرويات الإسرائيلية، ويحتمل ألَّا يكون كذلك، والأمر بحاجة لاستقراء موسَّع لمسالك الصحابة ومعاييرهم التي اعتمدوها في التعامل مع هذه القضايا؛ حتى يمكننا أن نميّز ما هو إسرائيلي مما قد يحتمل الرفع.
س7: من الإسرائيليات -تبعًا للتقسيم المشهور لها- ما لا نعلم صِدْقه ولا كَذِبه، وهذا القسم يقترح البعض أن يكون العقل هو المعيار للحُكم فيه، فما موقفكم من هذه المسألة؟ وضابط الحكم في هذا القِسم؟ وكيفية التعامل معه؟
أ.د/ مساعد الطيار:
قَسَّمَ ابن تيمية المرويات الإسرائيلية إلى ثلاثة أقسام: ما يوافق شَرْعَنا، وما يخالفه، وما لا يوافق ولا يخالف. ولا شك أنّ العمل من خلال هذه القِسمة يتعذّر في بعض المناحي كما قلنا، وقد بيَّنتُ في كتابي «التحرير في أصول التفسير» أنّ محلّ النزاع هو في القِسْمَين: الثاني والثالث؛ لأنه قد يدَّعِي أحد الباحثين أنّ المروية من القسم الثاني فيردّها، أو الثالث فيجوِّز روايتها؛ كونها مما لا يُصدَّق ولا يُكذَّب، ولكن اعتماد العقل في هذا المسلك لا يحلّ الإشكال ولا يرفعه كما هو بَيِّن، ولا بد من بناء محددات علميّة يمكن الاعتماد عليها، وإلَّا فتفاوت العقول في الحكم واسع.
المحور الثاني: الإسرائيليات وواقعها في مدوَّنة التفسير.
س8: لكم عناية في بحوثكم بتتبُّع المرويات الإسرائيلية في كتب التفسير بصورة تطبيقية، فما أبرز فوائد إيراد الإسرائيليات في كتب التفسير من خلال بحثكم وتتبعكم لها؟
أ.د/ مساعد الطيار:
تبيَّن لي من خلال تتبُّع المرويات الإسرائيلية في كتب التفسير أنّ هناك فوائد أربعة، وهي:
أولًا: توجيه الآية لمعنى محتمَل لها: فالمتحرَّر عندي أنّ بعض الآيات مما لا يمكن فهمه بصورة دقيقة إلا من خلال المرويّات الإسرائيلية؛ فتفسير فتنة داوود وسليمان وغير ذلك لا يمكن أن يُعرف معناها إلَّا من خلال ما أورده السلف وذكروا فيه روايات إسرائيلية وجَّهَت الآية لمعنى محتمل تتفسَّر عليه، لو أننا أتينا فيها بتفسير فإنه سيكون مخالفًا للطبقات السابقة، وسيكون هناك إشكالات عديدة في قبوله، وبالتالي فإنّ قبول ما ذكره السّلف هو الأصل.
ثانيًا: تعيين المبهَمات: وهذا مسلك واسع جدًّا في تفسير السلف وإن استشكل البعضُ جدواه وأهميته، حيث اعتنوا ببيان المبهَمات، وكتاب السهيلي في المبهَمات غالبه على مقولات السلف إلَّا قليلًا، وتعيين المبهَم أصله في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث بيَّن لنا المبهَم في قصة موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف وسمَّاه بأنه الخَضِر، وكذلك اعتنى بعض الصحابة بتعيين المبهَمات، وقد سأل ابنُ عباس -كما قد ثبت في الصحيحين وغيرهما- عمرَ بن الخطاب عن المرأتَين اللتَين تظاهرتا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في الآية، فأخبره أنهما عائشة وحفصة.
ثالثًا: معرفة سبب القصة: فالقرآن يُورِد أمورًا لا يُعرَف سببها، كما حكى لنا في قصة داوود وفتنته وما كان معه مِن أمرِ الخصمَين اللذَين تسوَّرَا عليه المحراب، وإيراد الإسرائيليات يبيِّن لنا الأسباب التي أفضَتْ لوقوع الحدَث.
رابعًا: تفصيل المجمَل: وهذا هو الغالب والمشتهر، حيث يوردون القصص من باب تبيين بعض المجمَلات في القصص القرآني وما جاء ذكره موجزًا، ومن ذلك ذكرهم للقصص في الضرّ الذي أصاب سيدنا أيوب وغير ذلك.
هذه بعض الفوائد التي ظهرَتْ لي في مسألة إيراد المرويات الإسرائيلية، ولا شك أننا لو استقرَأْنا ووسَّعْنا النظر فقد نخرج بغير ذلك.
س9: للطبري وتفسيره خصوصية لديكم في بحث المرويات الإسرائيلية، فلو توضِّحون لنا مسوِّغات ذلك وأسباب خصوصية هذا التفسير وأهميته في بحث هذه المسألة وتحليلها؟
أ.د/ مساعد الطيار:
للطبري مقامٌ جليلٌ في التفسير كما هو معلوم، وقد اتَّسم تفسيره بالنّظر المنهجي والتحليل الدقيق والعميق، وبالتالي فإنّ الولوج لدراسة المسألة من خلاله يفتح لك أبوابًا أخرى من النظر مختلفة تمامًا عن الدّرس المعاصر، حيث إنّ الطبري يَعتني بوضع المعايير التي يتعامل معها في ترجيح الأقوال ونقدها والموازنة بينها، ومن هاهنا أقول: لو أننا نظرنا في تحليلات الطبري ومعاييره التي يذكرها أثناء تعليقه على أقوال السلف مما ورد فيه مرويات إسرائيلية، لأمكَنَنا أن نُخْرِج علمًا غزيرًا ونافعًا في بحث المسألة وضبطها.
ومن الغريب أنك تجد بعض المناقِشين يجعل الطبري بإزاء غيره من المفسِّرين في بحث مسألة المرويات الإسرائيلية، بل إنهم ينقدونه ويحاكمونه لغيره من المفسِّرين بعده، وهذا مشكِلٌ عندي؛ كون الطبري إمام التفسير بجدارة، وقوله ليس كقول غيره من المفسِّرين، ولا يَعني هذا قداسة الطبري طبعًا وأنه لا يخطئ، وإنما هو وَضْعٌ له في موضعه الصحيح والذي ناله بجدارة، فما دام الطبري لم يستشكل مسألة المرويات الإسرائيلية، فإنّ علينا أن ننظر في طريقته في التعامل ونحاول الفهم، لا أن نعتبره مخطئًا؛ كونه خالف أحد المفسِّرين قديمًا أو حديثًا ممن جاؤوا بعده.
س10: اعتبار المرويات الإسرائيلية مصدرًا من مصادر التفسير يمثِّل نقطةَ خلافٍ بين بعض الدارسين، فما نظرتكم لهذا الأمر؟
أ.د/ مساعد الطيار:
في الحقيقة، إنّ الذي ينظر في التفسير يجد أنّ المرويات الإسرائيلية لها حضورٌ بارزٌ فيه وبشكلٍ كبيرٍ لا سيما عند السلف، وبالتالي فكيف يمكننا اعتبار الرجوع لهذه المرويات ليس دليلًا أو مصدرًا للتفسير، ولستُ أدري لِمَ يرفض البعض مثل ذلك؟! فأحيانًا نشعر أنّ البعض لديه تخوُّفات من القول بذلك ولوازمه والطعن الذي قد يَرِد من ورائه، والتخوُّف ليس سبيلًا لحلّ الإشكالات وَرَدِّ الشبهات كما هو معلوم، لكن الأصل أن ندرس المسألة ونبيِّن المنهج إزاءها، وأنه ليس كما قد يُفهم من قِبَل البعض ويُثير من خلاله بعض الإشكالات.
س11: لطالما درَج المفسِّرون الأوائل على رواية المرويات الإسرائيليات في تصانيفهم ثم بدأ نقد هذا الإيراد من قِبَل بعض المفسرين، فلو تطلعوننا على مسار ذلكم النقد، متى بدأ؟ وما أسبابه؟
أ.د/ مساعد الطيار:
في الحقيقة، هذا من الأمور المهمّة الحَرِيَّة بالدراسة، وليس لديَّ فيها استقراءٌ شاملٌ، وإنما بعض الملاحظات التي وقفتُ عليها من خلال التتبع لهذه الحركة التاريخية في أحد البحوث التي قمتُ بها، وقد وَجَدْتُ لنَقْد المرويّات الإسرائيلية بدايات في القرن الرابع عند النحّاس، حيث نَقَد بعض المرويات واعترَض على بعض تفاصيلها؛ كالوارد في القصص المتعلّق بسيدنا داوود، وكذلك وَجَدْتُه عند الجصّاص، وقد لاحظتُ أنّ الجصاص عزَف عن المرويات الإسرائيلية في قصة داوود وأتى بقصة جديدة لا أعرف مصدرها، والغرض أنَّ فعله يدلّ على عدم قناعته بالقصص الإسرائيلي في شأن داوود -عليه السلام-، ولدينا الرازي وهو من أشدّ نُقَّاد الإسرائيليات، ويناقش المرويّات نقاشًا عقليًّا محضًا لا سيما ما يتعلّق بالأنبياء، وأنّ المرويات أتت بما يخالف عصمة الأنبياء، ولدينا ابن كثير الذي نقَد المرويّات وقَبِل بعضها؛ ولهذا لم يَسْلَم من النقد، وعندنا أبو حيان الذي سلك مسلك الرازي في نقد المرويات ونقاشها نقاشًا عقليًّا، وقد امتدَّ نَقْد المرويات إلى المعاصرين من المفسّرين، ومِن المعاصرين نسبيًّا المتوسطين في المسألة هو القاسمي صاحب (محاسن التأويل)، والذي يدافع عمَّن أورَد المرويات بصورة عامّة، وينبِّه على بعض الضوابط الخاصة بها.
إنّ المتأمل لحركة النقد للإسرائيليات يجدها قد اشتدت كثيرًا جدًّا لدى المعاصرين في الوقت الحاضر، ولهذا الاشتداد سببان:
الأول: ظهور مدرسة (المنار)، والتي أثَّرت فيمَن تلاها كما هو معلوم، فمَن يقرأ مقدمة (تفسير المنار) يجد فيها نقدًا شديدًا للمرويّ عن بني إسرائيل وتضعيفًا للمرويّ بصورة عامّة، وقد تأثَّر بكِتاب (المنار) مَن جاء بعده بصورةٍ كبيرةٍ.
الثاني: العَدَاء بيننا وبين اليهود في العصر الحديث، حيث صار لدَيْنا موقفٌ عدائيّ تامّ معهم، ومِن ثَمّ صار هذا دافعًا كبيرًا لدى المعاصرين لردِّ هذه المرويات.
ولا شك أنّ مناقشة المسائل العلمية تحتاج للتجرّد من العاطفة والبُعد عن مثل ذلك؛ حتى يمكن معالجتها بصورة سليمة ومنهجية.
س12: مثَّلَت المرويات الإسرائيلية حضورًا عند بعض المفسرين ممَّن انتقدوا إيرادها، فما تفسيركم لذلك؟
أ.د/ مساعد الطيار:
هناك العديد فعليًّا ممن رجعوا للمرويات الإسرائيلية حتى وإن كانوا مِن نَقَدَتِها؛ وذلك كرشيد رضا وابن عاشور، وهذا يبيِّن لنا أنّ هذه المرويات مهمّة في التفسير ومؤثّرة في القيام به.
المحور الثالث: الإسرائيليات؛ الواقع والآفاق.
س13: كثيرٌ من البحث المعاصر يتعرّض لمقاربة موضوع الإسرائيليات بشكلٍ نظريّ تجريدي، دون النظر في تطبيقات المفسرين، فكيف ترَون هذا المسلك البحثيّ في التعامل مع هذه القضية؟ وجدوَى نتائجه؟
أ.د/ مساعد الطيار:
البحث المعاصر للإسرائيليات مشكلته -كما ورَدَ بالسؤال- أنه بحث تجريديّ، وليس تطبيقيًّا، فهو تصوّرات نظرية وليس من خلال النظر في التطبيقات واستقرائها، وبالتالي فإنّ النتائج التي يوردها تبقى مطعونًا عليها، ولا تفيد كثيرًا في حلِّ الإشكال.
وأذكُر أني كنتُ أناقش بعض مَنْ يتبنَّون نظرةً نقديّة عن الإسرائيليات، وحين كنتُ أُخبرهم ببعض الإحصائيات عن حضور المرويات عند السلف التي أثبتَتْها بعض الدراسات الاستقرائية، فإنهم لا يصدقون.
وفي مناقشة علمية لأحد الباحثين قام بحصرٍ للمرويات الإسرائيلية عند بعض الصحابة، أذكُر أن أحد المناقشين اقترح حذف ذلك؛ كونه كثيرًا جدًّا وقد يمثل طعنًا على الصحابة.
إنّ البحث لكي يكون مفيدًا فإنه يجب أن يتخلّص من المقرّرات السابقة حول المسألة، ويتأمّلها في واقعها التطبيقي، ثم يبني أحكامَه، لا العكس، وهو ما لا تلحظه في البحث المعاصر لمسألة المرويات الاسرائيلية.
س14: هناك مسارٌ كبيرٌ لدراسة موضوع الإسرائيليات في الجامعات تحت مسمَّى «الدخيل في التفسير»، وهو يَشِي بأنّ هناك موقفًا مُسبَقًا من الإسرائيليات، كما هو بيِّن من تسميته، وكذلك هناك مشاريع تتنادَى بضرورة تنقية كتُب التراث -خاصّة التفاسير- من هذه المرويات، فما تقييمكم لهذه المسارات والمشروعات والنتاج البحثيّ فيها؟
أ.د/ مساعد الطيار:
في الحقيقة، أرى أنّ هذه المسألة من المصائب العلميّة للبحث المعاصر، وحين أقول: (مصيبة) فأنا أعنيها هاهنا؛ لأمور عديدة، أهمها أمران:
الأول: أنك حين تقول: «الدخيل في التفسير»، فإنك قد حكمْتَ قبل أن تبدأ البحث، وهذا مشكلٌ.
الثاني: أن مفهوم (الدخيل) يحمل في طيّاته شيئًا من سوء الأدب مع العلماء؛ فَلِأنَّ الإسرائيليات صارت دخيلًا، ولدينا مَن رواها؛ فإننا لكي نبرّر ذلك نقول بأنه رواها بدون وعي، وهذه مصيبة أكبر. وهذا مشكلٌ؛ لأن العلماء متى أوردوا أمرًا كالمرويات وتتابعوا عليه وهم أهل نظر وتحرير، فكيف يقال بأنهم رووه بدون وعي وفهم؟! كما تجده لدى الكثير من الدراسات المعاصرة، وليست المشكلة على الحقيقة ما أدخلوه ولكن أننا لم نفهم منهجهم في ذلك.
وعلى سبيل المثال، فإنّ ابن كثير -وهو محدِّث- يروِي أحاديثَ ضعيفةً تحت تفسير بعض الآيات، كما فعل في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}[الأنفال: 1][3]، وهذه الأحاديث يوردها بعد ظهور المعنى وتقرُّره، وتجد البعض يستشكِل صنيع ابن كثير ويعتبره دخيلًا؛ كونه أوردَ ضعيفًا، وهذا غريب؛ لأن ابن كثير محدِّث وحتمًا لِمَا أورده مقاصدُ، علينا أن نتبيَّنها قبل أن نهجم عليه بمثل هذا النقد، وقُل مثل ذلك في موضوع الإسرائيليات؛ حيث نتبنَّى نحن قولًا أو نظرًا معيَّنًا ثم نحاكم مَن سبَقَنا إليه، وهذا غلطٌ ظاهرٌ؛ إذ الأصل أن نتعرَّف مناهجَ مَن أوردوا هذه المرويات ونفهمها، لا أن نحاكمهم لنظراتنا التي كوَّنَّاها بعيدًا عن واقعهم التطبيقي.
س15: من خلال عنايتكم بدراسة هذا الموضوع، ما أبرز الآفاق التي ترَون ضرورة توجيه دَفَّة البحوث إليها؟
أ.د/ مساعد الطيار:
في الحقيقة، هناك مجالات عديدة للبحث في موضوع الإسرائيليات، منها إجمالًا ما يلي:
- تتبّع حركة نقد الإسرائيليات في التاريخ وكيفياتها وتطوّرها والدوافع التي أوجدتها.
- إحصاء الروايات الإسرائيلية في التفسير؛ لأن الإحصاءات الرقمية هذه تضعنا أمام الواقع، بدلًا من دعوَى أنّ فلانًا روَى قليلًا وغيره روَى كثيًرا مما قد لا يكون له واقع في كتب التفسير.
- أنواع الإفادة من المرويات الإسرائيلية في التفسير، وكيف استعملها المفسِّرون وبيَّنُوا من خلالها المعاني.
- دراسة حركة نقد الإسرائيليات من المستشرقين، وأثرها على البحث المعاصر.
- دراسة البحث المعاصر الناقد للإسرائيليات، وبيان أُسسه المنهجية وما به من إشكالات.
- دراسة بحث الإسرائيليات لدى بعض كُتّاب الحداثة وما يوردونه من نتائج إزاءها، وما يترتّب على نظرتهم للأمر من إنكار الأحاديث وبعض معطيات القصص القرآني، وغير ذلك. والحمد لله رب العالمين.
[1] هذا البحث نُشر على ملتقى أهل التفسير بتاريخ 21/2/1424ه، وقد نُشر مطبوعًا ضمن كتاب «مراجعات في الإسرائيليات»، الصادر عن مركز تفسير، ط: 1، 1436هـ- 2015م، ص: 33- 59.
[2] وقد نُشر ذلك المقال مطبوعًا مع بعض التعديلات في كتاب «التحرير في أصول التفسير».
[3] ونصّ الحديث عند ابن كثير كالتالي: عن سعيد بن أنس، عن أنس -رضي الله عنه- قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، إذ رأيناه ضحك حتى بدَت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: «رجلان جَثَيَا من أمَّتي بين يدي ربّ العزة تبارك وتعالى، فقال أحدهما: يا رب، خُذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى: أَعطِ أخاك مظلمته. قال: يا رب، لم يبقَ من حسناتي شيء. قال: ربّ، فَلْيحمِل عني مِن أوزاري، قال: وفاضت عينَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء، ثم قال: إنّ ذلك لَيوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى مَن يتحمل عنهم مِن أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يا رب، أرى مدائن من فضة وقصورًا من ذهب مكلّلة باللؤلؤ، لأيّ نبيّ هذا؟ لأيّ صِدِّيق هذا؟ لأيّ شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أَعْطَى الثمن. قال: يا رب، ومَن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه. قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك. قال: يا رب، فإني قد عفوتُ عنه. قال الله تعالى: خُذ بيد أخيك فأَدْخِله الجنة. ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم؛ فإن الله تعالى يُصلح بين المؤمنين يوم القيامة». تفسير ابن كثير، ت: سلامة (4/ 11).
مواد تهمك
- قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير (1-3)
- قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير (3-3)
- قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير (2-3)
- منطلقات دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف؛ تحرير وتأصيل (1-3)
- القول بانحصار توظيف المرويّات الإسرائيلية في القصص وعدم دخولها في العقائد والأحكام؛ قراءة نقديّة
- هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟