الفلسفة والقرآن (1-2)

ضيف الحوار : عبد الحميد مدكور
يدور هذا الحوار مع أ.د/ عبد الحميد مدكور حول العلاقة بين الفلسفة والقرآن، في هذا الجزء الأول يتركّز الحديث عن الفلسفة الإسلامية؛ ماهيتها وعلاقتها نظريًّا وتاريخيًّا بالقرآن وتأويله، كما يتناول أزمة المنهج في الفكر المعاصر وموقع تجديد النظر في القرآن منها.

مقدمة:[1]

  يُعدّ موضوع الصِّلَة بين القرآن والفلسفة من الموضوعات ذات الأهمية لباحث الدراسات القرآنية، وهذا من حيث إنّ التعامل العربي والإسلامي مع النصّ القرآني في بعض مناحيه وتياراته كان ينحو دومًا للاستفادة من النتاج الفلسفي، سواء كان هذا في التراث الإسلامي مع فلاسفة مثل الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد الذين استلهموا -بمقادير مختلفة- الموروث اليوناني فلسفةً ومنطقًا في تناولهم للقرآن، أو في الفكر المعاصر حيث تستلهم المنهجيات الفلسفية الهرمنيوطيقية والتفكيكية وغيرها لتناول النصّ. هذا الحضور المتكرّر قديمًا وحديثًا للفلسفة في الصلة بالنصّ القرآني يجعل بحث هذه العلاقة واستكشاف أبعادها أمرًا مهمًّا، حيث تفترض التساؤل عن طبيعة النصّ القرآني وطبيعة النصّ الفلسفي، ومدى إمكان الاستفادة من الفلسفة ومناهجها في تناول النصّ، والتساؤل كذلك عن منهج النصّ ذاته في تقديم حقائقه والمنغرس في تصوره الخاصّ للإنسان وللحقيقة.

ونحن في هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور/ عبد الحميد مدكور -أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وأمين عام المجمع اللغوي بالقاهرة- نحاول طرح هذه الأسئلة وغيرها بُغْيَة إلقاء الضوء على المفاصل الأساسية لهذه العلاقة.

وقد جاء حوارنا مع فضيلة الأستاذ الدكتور على أربعة محاور؛ المحور الأول: الفلسفة الإسلامية والقرآن، والمحور الثاني: القرآن وأزمة المنهج في الفكر المعاصر، والمحور الثالث: التراث ومناهج دراسته وتحقيقه، والمحور الرابع: التصوّف والقرآن، وختمنا الحوار مع فضيلته ببعض أسئلة ختامية حول البحث العلمي عامّةً، وفي دراسات القرآن خاصةً.

وقد جاء الحوار مع فضيلة الأستاذ الدكتور على جزأين؛ يشمل الجزء الأول المحورين: الأول والثاني. في المحور الأول: الفلسفة الإسلامية والقرآن، نتساءل عن المصطلح ذاته (الفلسفة الإسلامية) ودقته ودلالته وعلاقة الدّين بالفلسفة بشكلٍ عامّ، وكذا علاقة الفلسفة التي أنتجها المسلمون بالنصّ القرآني، كيف تناولَتْه وكيف نظرَتْ لطبيعته ولمنهجيّة تأويله؟ وفي المحور الثاني: القرآن وأزمة المنهج في الفكر المعاصر، نتناول بالحديث قضية المنهج، والأزمة المنهجية التي يعيشها الفكر العربي المعاصر، وعلاقة هذا بالقرآن، وهل ينطوي القرآن على منهجيّة خاصّة للمعرفة تحتاج للاستكشاف؟ وما جدوى استحداث منهجيات غربية معاصرة في دراسة القرآن؟

وفيما يلي نَصّ الحوار:

نَصّ الحوار

المحور الأول: الفلسفة الإسلامية والقرآن:

س1: نودّ البدء من التخصص الرئيس لفضيلتكم، وهو الفلسفة الإسلامية، تعلمون بالطبع أن هذا المصطلح يراه البعض مصطلحًا إشكاليًّا، سواء المستشرقون، أو الكُتَّاب العرب، بسبب شِقَّين في الحقيقة:
- الشقّ الأول: يتعلّق بسؤال، هل يمكن أن توصف فلسفةٌ ما أصلًا بأنها فلسفة إسلامية أو مسيحية، أو أن تحصر في دينٍ ما، أو في قوميةٍ ما؟
- والشقّ الآخر: يتعلق بما أنتجه العرب والمسلمون بالفعل في عصر ازدهار الكلام والفلسفة، هل يصح وصفه بفلسفة إسلامية، أم الأفضل وصفه بالفلسفة العربية؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

مشكلة التسمية هذه مشكلة حديثة، لم تنشأ إلا مع نشأة فكرة القومية ونشأة القوميات، أمّا سابقًا فلم يكن أحدٌ يتصور هذا التساؤل، فقد كان كلّ ما ينتج تحت الفضاء الحضاري للحضارة الإسلامية يسمى إسلاميًّا، سواء كان شعرًا أو فلسفةً أو فنًّا، لكن مع ظهور القوميات، سواء في الغرب أو لاحقًا في العالم الإسلامي بعد تفتّت الخلافة العثمانية، أصبح غير متصوّر وجود نظم فكرية أو فنيّة أو قيمية لها القدرة على تأطير مساحات واسعة متباينة الشعوب، وبالتالي الأذواق والطبائع والتصوّرات، فأصبح الحديث عن فلسفات قومية محدودة بحدود معيّنة، سواء في الغرب؛ فلسفة فرنسية وألمانية وإنجليزية، أو إسلاميًّا، فظهر الحديث عن فلسفة عربية.

وهي مسألة -كما ذكرتُ- فيها شيءٌ من الإشكال؛ لأن لغة هذه الفلسفة في معظمها كانت لغةً عربية؛ ولذلك قيل: إنها عربية، ولكن القول بأنها عربية ليس مستقيمًا تمامًا؛ لوجود بعض الفلاسفة غير العرب، مثل: الفارابي والشيرازي.

لكن أيضًا لدينا مسيحيون كانوا ينسبون إلى الفلسفة الإسلامية، وعندئذٍ تكون مسألة الإسلامية فيها أيضًا بعض الإشكال.

ولذلك لجأ بعض الناس الذين يعملون في هذا الحقل إلى طريقتين تخلصًا من هذه الأزمة:
- فبعضهم قال: الفلسفة عربية إسلامية.
- وبعضهم قال: «فكر إسلامي»؛ تهربًا من مشكلة هذا المصطلح.
ولكن كما أقول: المسألة حديثة جدًّا، وليست قديمة.
لكن للمسألة بُعدٌ آخر يتعلق بتقييم ما أَنتج الفلاسفة المسلمون، حيث يتم النظر لهذا النتاج وكأنه لم يقدِّم أيّ إضافة للتراث الفلسفي اليوناني السابق عليه، وأنه اكتفى بنقل هذا التراث والحفاظ عليه حتى استردته أوروبا مرة أخرى في عصر النهضة؛ فلهذا يرفضون وصف الفلسفة بالإسلامية أو العربية.

وهذه مجرد دعوى أطلقها المستشرقون، ولكنها دعوى قائمة على عدم العلم الحقيقي بكثيرٍ من تراث هؤلاء الفلاسفة، وقد ظهرت هذه القضية على أيدي رينان وأمثاله من هؤلاء المستشرقين القدامى، وقد كان علم بعضهم بهذه الفلسفة محصورًا في جزئيات يسيرة، وليست متسعةً تمامًا؛ لأن كثيرًا من تراث الفلسفة كان مخطوطًا، ولم يتيسّر الاطلاع عليه إلا بعد ذلك.

وقد بيَّن لنا رينان نفسه عندما كتَب أنه أصدر بعض الأحكام، ولكنه بعد قراءة عشر سنوات يعود فيقول: إنّ المسلمين كان لديهم فكر، وكان لديهم أصالة، وكان لديهم تميّز، ومن ثمَّ فإنه يعود إلى تأكيد قيمة علم الكلام الذي يمثِّل العقلية الإسلامية أكثر مما تمثله الفلسفة.

لكن على كلّ حال، الأحكام ينبغي أن تؤخذ بحذرٍ شديدٍ، وبتخصيصٍ دقيقٍ ولا تطلق هكذا على وجه العموم؛ لأنه لا يمكن لواحد أن يُصدر حكمًا عامًّا على حضارةٍ بأكملها، أو على توجهٍ كبيرٍ ظهر في التاريخ على أيدي أناسٍ متعددين في شرقٍ وفي غربٍ، وفي مناهج تقوم كلّها على الفكر الفلسفي، وإن كانت تقترب من المنهج العقلي اليوناني أو تختلف.

فما ينبغي التنبه له بالأساس، هو أن الفلسفة اليونانية ليست الأصل الحاكم على الفكر، ونحن حين ننطلق من هذا التحكم، نهدر الكثير من إنتاجات الفكر البشري العظيمة التي سبقت وزامنت وتلت الحضارة اليونانية، مثل: (الحكمة المشرقية)، ومثل العلوم وأنماط الأفكار التي شهدتها حضارات مثل: الحضارة الهندية، والحضارة الصينية، والحضارة المصرية.

س2: هل يعني هذا أن فضيلتكم ممن يتبنَّى الفكرة التي اشتهرت عن الشيخ/ مصطفى عبد الرازق، وهي أن البحث عن (الفلسفة الإسلامية) ينبغي أن يتوسّع عن الانحصار في البحث في امتدادات الفلسفة اليونانية؛ وأنه لا بد أن يتوسّع ويشمل علم الكلام وأصول الفقه؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

أنا أتبنَّى هذه الفكرة، ولكني فقط أريد أن أوضح أن الشيخ/ مصطفى عبد الرازق لم يكن هو أول من قال بذلك، بل إنّ هذه الفكرة ظهرت عند بعض المنصفين من المستشرقين، ومنهم على سبيل المثال: مستشرقون فرنسيون؛ فقد كتب (ديوجه) كتابًا عن الفِرَق والمذاهب الإسلامية، ودعا فيه إلى توسيع هذا النطاق، وعدم حصره في التيار الفلسفي المشَّائِي الذي يعود إلى اليونان، بل رأى أنه ينبغي أن نضيف إلى هذا أفكار المسلمين في علم الكلام، وفي التصوّف الإسلامي، بحيث تكون الرؤية أقرب بالفعل للواقع المعرفي الإسلامي وقتها.

الشيخ/ مصطفى عبد الرازق، أضاف إلى ما ذكره ديوجه (أصول الفقه)، وتابعه على ذلك بعض الفلاسفة المعاصرين، مثل الدكتور/ إبراهيم مدكور، على سبيل المثال، ومدرسة الشيخ مصطفى عبد الرازق كلّها تبنّت هذا التوجه، وأصبحت المسألة مجالًا للتفكير العميق في مضمون هذه الفلسفة التي ينبغي أن يكون الحديث عنها إذا أردنا أن نتحدّث عن هذه الفلسفة الإسلامية.

من هنا أصبح الحديث عن الفلسفة الإسلامية هو حديث عن أصول الفقه، وعلم الكلام، والتصوف، ومناهج البحث، بل وكذلك الفكر الإسلامي الذي ظهر في الواقع الإسلامي بعد الاستعمار الغربي للدول العربية الإسلامية، فتفكير مفكرين مثل: محمد إقبال ومالك بن نبي وعبد الحميد بن باديس في واقع الأمة الإسلامية وكيفية النهضة، هذا أيضًا من التفلسف الإسلامي.

كذلك ينبغي الالتفات لكون علاقة المسلمين بالفلسفة اليونانية ذاتها، لم تكن علاقة ترديد لهذه الأفكار، بل أضاف الفلاسفة المسلمون لما قبلوه منها الكثير الذي يمثل أصل الحضارة الإسلامية، ومن هنا، ظهرت نظريات عند الكندي، وعند ابن رشد، وعند ابن سينا، وعند الفارابي، وعند ابن طفيل، بل نجد أن بعض هؤلاء الذين وُصِفُوا بأنهم إشراقيون قد أضافوا في فلسفاتهم إلى الرافد اليوناني تلوينات فكرية إسلامية تجعل فكرهم متصلًا بواقع بيئتهم التي عاشوا فيها، وليس امتدادًا فقط لما كان عند اليونان.

هذا بالإضافة لتلك المسائل التي رفضها الفلاسفة المسلمون وخالفوا فيها الفلاسفة اليونان أو تلك المسائل التي استحدثها الفلاسفة المسلمون تمامًا في حقل التفكير الفلسفي.

على سبيل المثال: مفهوم (خلق الله للعالم)، هذا ليس مفهومًا موجودًا في الفلسفة اليونانية أبدًا، لا يوجد منهم من قال: إن العالم حادث، أو مخلوق، وإن الذي خلقه هو الله.

فكرة (العناية الإلهية)، كذلك لم توجد في فلسفة السابقين، لكن وجدنا الفلاسفة المسلمين منذ الكندي وهم يرفضون مفهوم قِدَم العالم، ويتحدثون عن عناية الله بالعالم، وهذا يختلف عن الكلام الموجود عند أرسطو، الإله عند أرسطو موجود، ولكن العالم يصاحبه في الوجود، وعلاقة الله بالعالم أنه كما قال: «دفعه الدفعة الأولى، ثم انصرف إلى التفكير في ذاته؛ لأنه لا يفكر في العالم المتغير الناقص...».

فكلّ فروع الفكر عند المسلمين ممزوجةٌ بفكرٍ إسلامي، بواقع إسلامي، برغبة في تطويع الفكر الذي قَدِم إلينا؛ لكي يتوافق مع طبيعة البيئة الإسلامية التي تأتي تحت ظلال هذا الدّين، تحت ظلال هذا القرآن، وهذا محدّد مهمّ لفهم ما قدّمه المسلمون في مجالات الحضارة المختلفة، ولفهم نمط تعاطيهم وتلاقحهم مع الحضارات المختلفة.

فالفلاسفة المسلمون في علاقتهم بالفلسفة اليونانية السابقة عليهم، استفادوا وطورا وانتقدوا وأضافوا.

س3: نستطيع القول إذن من خلال ما تفضلتم به أنّ هذا الخلاف بين الفلسفة والدين غير مرتبط إلا بحصر الفلسفة في المعنى اليوناني، لكن إنْ وسّعنا النظر في الفلسفة واعتبرناها فكرًا ليس مقتصرًا على المنطق اليوناني وطرائقه، سنجد أنه لا خلاف بين الدّين والفلسفة، بالعكس فالعيش في حضارة دينية مزدهرة قادر على أن ينتج أنماطًا مغايرة من التفلسف.

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

أولًا: نحن من حقنا ألَّا نحصر أنفسنا في إهاب الفلسفة اليونانية، هذا ينطلق فحسب من المركزية الأوروبية التي تنظر إلى أصولها على أنها أصول العالم كلّه، وتنظر إلى فكرها على أنه أسمى ما أبدعه العالم كلّه، وهذا أمرٌ لا يتفق أبدًا مع معطيات الحضارة البشرية وتنوعها.

فالفلسفة اليونانية فكرٌ خاصّ بسياق حضاري خاصّ، لا يمكن لأحد الادعاء بصلاحيته حكمًا على كلّ منتجات الحضارة شرقًا وغربًا، ولعلّ الناظر في الفلسفة اليونانية ذاتها وآراء فلاسفتها يقف جيّدًا على تلك الصلة بين هذه الفلسفات والآراء وبين الواقع اليوناني الحضاري الخاصّ، فثمة آراء عن الديموقراطية مثلًا والمرأة والحرية لا يمكن لأحد قبولها اليوم، وهذا دليل كاشف عن مدى ظرفية هذه الفلسفات.

ومن هنا، فأنا شخصيًّا لا أتقبل مثل هذا الأمر، وأسعى في كلّ مناسبة إلى بيان الخطأ الموجود فيه خصوصًا أن أعلام هذه الفلسفة جاؤوا إلى الشرق وتعلموا من الشرق، وبعضهم جاء إلى مصر، أفلاطون وطاليس وفيثاغورث جاءوا إلى مصر، فيثاغورث ذهب إلى الهند وتأثّر ببعض الموجود هناك، وأدخلوا ذلك في نمطٍ فكريٍّ فلسفي يتوافق معهم.

لكن حصر العالم كلّه في مدينة تسمى أثينا، وفي فلسفة تسمى الفلسفة اليونانية، هذا أمرٌ في الحقيقة ينبغي أن نعدل عنه إذا أردنا أن نكون موضوعيين منصفين للعالم كلّه إزاء مثل هذا الأمر.

المشكلة أن من بيننا من يزكّي هذا الأمر، ومن يؤصّله في نفوس الطلاب والتلاميذ والباحثين، لكن هذا أمرٌ لا يتّفق مع الواقع، ولا مع الحقيقة.

هذا رغم أن الحضارة الغربية الحديثة تدين بجزءٍ كبيرٍ من منتجاتها العلمية لما أبدعه العقل الإسلامي، وقدَّموا إليهم أفكارًا في الرياضيات، وفي الطب، وفي الفلك، وفي سائر الفروع العلمية، قدمها لهم مسلمون لم يكونوا يونانيين، ولم يكونوا رومانيين، ولكنهم قدموا للعالم كلّه علمًا، فابن الهيثم ليس يونانيًّا ولا رومانيًّا، ولا أوروبيًّا ولا ينتسب إلى أيّ دولة من هناك، وهكذا هذا الذي قدَّم في الفكر الطبيعي نظرياتٍ تعدُّ الآن عند المنصفين المؤرخين في تاريخ العلوم من أهم ما قدمه إنسان واحد إلى العالم، هذا ليس يونانيًّا.

فعلينا أن نعدّد الرؤى، وعلينا أن نوسّع الآفاق، وعلينا أن نتوافق مع الواقع، ومع الطبيعة، ومع ما أنتجه الفكر الإنساني دون استعلاء، ودون حصر للعالم في طريقٍ واحدٍ ليس هنالك طريقٌ غيره، هذا كلام في الحقيقة أنا لست معه، ليس بصفةٍ عاطفيةٍ، ولكن بصفةٍ واقعيةٍ طبيعيةٍ برهانية تقوم على كلّ هذا الذي قدمته شعوب العالم.

ومِن ثَمّ فإنّ علينا أن نكون أكثر إنصافًا، وأوسع أُفُقًا، وأكثر انطباقًا مع الواقع والحقيقة حتى نقول: إننا نفكر بطريقةٍ فكريةٍ فلسفيةٍ.

س4: بخصوص القرآن تحديدًا، بالطبع الفلاسفة كانوا يعيشون في مجتمعات إسلامية، النصّ المركزي فيها هو القرآن، وبالطبع حصل تداخل بين هؤلاء الفلاسفة والقرآن، وحاولوا حتى تقديم بعض التأويلات له، ليس الحديث عن تأويل الآيات، وإنما عمّا يشبه نظرية تأويلية للقرآن، الحديث -مثلًا- عن وجود نصوص تخييلية في القرآن، الحديث عن وجود مساحات داخل القرآن خاصّة بالخطابة وبالجدل تناسب صنفًا من الناس، ومساحات خاصّة بالنظر العقلي تناسب صنفًا آخر، كيف ترون ما قدّمه الفلاسفة المسلمون في هذا الإطار؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

نحن طبعًا لا نقول: إنّ ما أبدعه فيلسوفٌ ما يكون مطابقًا للحقيقة كلّها، فأحد المبادئ المهمّة في الفكر الإسلامي أنه لا يقبل قول أحدٍ في الإسلام إلا بحجة؛ فمهما كان القائل فمن حقنا أن ننظر في قوله نظر نقديًّا، ومن حقنا أن نقبل منه، وأن نرفض؛ لأنه ليس له قداسة، وليس له عصمة بما أنه فكرٌ بشريّ.

وقبل أن أجيب عن هذا السؤال أشير معك إلى بعض ما كان مستقرًّا في حقائق العلم، واستمر قرونًا عديدة من مسائل تتعلق بأن الأرض -مثلًا- مسطّحة، أو أن الأرض ثابتة، هذه كانت مسائل راسخة، مثلًا مقولة أن الأرض مركز الكون، هذه المقولة تحولت إلى عقيدة علمية، بل إلى عقيدة دينية في الفلسفة المسيحية، ولكننا بعد ذلك اكتشفنا عن طريق الطبيعيين والفلكيين الكبار مثل جاليليو وكوبرنيكوس، وأمثالهم أن هذه المسألة ليست حقيقة، فعلينا أن ننظر هذا النظر النقدي، وألَّا تعطى فكرةٌ قداسةً لأن قائلها فلان، وإنما ينبغي أن يوضع كلّ شيءٍ على محكّ النظر حتى نستطيع أن نقول بمثل هذا الأمر.

وعندئذٍ ننظر بهذه النظرة الطبيعية المنهجية إلى ما قدمه لنا الفلاسفة الإسلاميون، ليس كلّ ما قاله الفلاسفة الإسلاميون متوافقًا، ولا آتيًا على نفس المنهج الذي جاء به القرآن، القرآن عنده تصوّر للوجود، وعنده منهج للمعرفة، وعنده تحديد للغايات؛ فهو نصّ يختلف في منطلقاته، وفي غاياته، وفي مناهجه التي يسلكها من أجل تحقيق هذه الغايات عن غيره من النصوص والنظم الفكرية.

ولذلك إذا قال الفلاسفة: إنّ في القرآن تخييلًا، وهذا طبعًا ظهر عند بعض الفلاسفة كالفارابي وابن سينا، فعلينا أن نُسائِل هذا في ضوء تلك النظرة للنصّ القرآني ككتاب له تصوّر للوجود وللمعرفة.

ولو حاولنا بداية توضيح ما هو التخييل، فنقول: إنَّ معناه ألّا يكون للأمر المذكور في الخطاب المباشر حقيقةٌ في ذاته، ولكنه مجرد تعبير عن حقائق أخرى أكثر تجريدًا لا تظهر في الخطاب المباشر، بطريقة تدفع الناس على أخذ هذه الحقائق في الاعتبار؛ فمثلًا: يؤمن أهل القرآن بأن البعث فيه بعثٌ للنفس أو الروح، وفيه بعثٌ للجسد، وأن فيه ثوابًا ينال النفس وينال الجسد، وأن فيه عقابًا ينال النفس وينال الجسد، هذه حقائق قرآنية، والقرآن تحدّث عن نعيم أهل الجنة، وتحدّث عن عذاب أهل النار، وتحدث عن أنّ الله يعيد كلّ شيءٍ حتى وإن كان ذلك غريبًا في منطق العقل، أو بعيدًا عند بعض الناس أن يتصوروا مثل هذا الأمر، ولكنه قدّم البراهين على أن ذلك واقعٌ، ووقعت في حياة الأنبياء السابقين، وفي حياة بعض الأنبياء مشاهد تبيِّن أن هذا البعث والخروج من الموت واقعٌ حتى في حياتنا الدنيا؛ مثل ما ظهر لإبراهيم مثلًا، قال الله -تعالى-:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة: 260].

ونؤمن بأن الله -تعالى- أعاد الحياة لبعض الناس على يدي عيسى -عليه السلام-، ونؤمن بأنه في عهد موسى قال لهم ما قاله الله -تعالى- عندما وقع حادث القتيل في بني إسرائيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}[البقرة: 67] وفي نهاية الأمر وبعد الجدال والحوار، قال: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْييِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[البقرة: 73].

الفلاسفة في مثل هذا انقسموا قسمين:

واحد مثل الكندي، وواحد مثل ابن رشد قالا بأن ذلك سيتم كما قال القرآن الكريم، بل أثبتوا أن ما قاله القرآن قد قيل بطريقةٍ لا تستطيع العقول البشرية أن تعبّر عنها بمثل هذا الوضوح وهذا البرهان وهذا الإيجاز الذي جاء في القرآن؛ نجد هذا الكلام عند الكندي بطريقة واضحة، وعند ابن رشد على نحوٍ ما.

لكن في الجهة الأخرى نجد الفارابي وابن سينا وكأنهم استكثروا مسألة إعادة الأجساد مرةً أخرى، فقالوا: إنّ البعث بعث روحيٌّ معنويٌّ يكون فيه بهجة، وفيه سعادة، وفيه كذا من غير أن ندخل في طعامٍ، وشرابٍ، ونكاحٍ، وجناتٍ، وثمراتٍ، وزروعٍ... إلى آخر هذا الكلام.

أما هذه الأوصاف التي جاءت في القرآن فقد جيء بها -وفقًا لهما- لكي يتم تقريب حقيقة البعث المعنوي الروحي للناس، لكنه لا حقيقة لها في ذاتها؛ فهذا هو التخييل.

هذا الكلام الذي قاله ابن سينا في رسالة تسمى: (رسالة أضحوية في أمر المعاد) وهي رسالة لم تكن ظاهرة ولا واضحة، ولكن يبدو أن الغزالي قد اطَّلع عليها؛ لأنه أشار إلى آراء ابن سينا هذه في كتابه: (تهافت الفلاسفة)، يعني معناه: هذا الكلام فيه ترهيب بالنسبة لذكر النار، وعذابها، وما يجري فيها: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}[إبراهيم: 49، 50] إلى آخر هذا الكلام. {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج: 21]، كلّ هذا الكلام للتخويف حتى يؤمن الناس بأن هنالك بعثًا عند الله -عزّ وجل-، وحتى يقوموا بالفرائض والعبادات التي أمرهم الله تعالى بها، وهكذا.

يعني إذن المسألة فيها نوع من التخييل، هذا هو التخييل، أو التأويل المبالغ فيه جدًّا، وهذا موجود بصفةٍ واضحة جدًّا عند ابن سينا، وموجود على نحوٍ ما عند الفارابي.

س5: أَلَا ترون أن الإشكال في هذه المسألة هو أنّ القرآن لا ينظر إليه بحسب كينونته الخاصة باعتبار أنه له أساليبه الخاصة وتراكيبه المختلفة عن النصّ اليوناني، وعن العقل اليوناني، هذا هو الذي أنتج الإشكال الذي تعرض له بعض الفلاسفة واضطروا لإقصاء بعض النصوص باعتبار أنها نصوص تخييلية، أو باعتبارها ليست حقائق؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

طبعًا لا شك أن للفلاسفة اليونانيين مقامًا عظيمًا جدًّا عند الفلاسفة الذين ظهروا في البيئة الإسلامية، فلقد ترددوا بين مصدرين كان عندهم إشكال في أيّهما يكون له العلوّ؟! والسؤال المطروح على كلّ فيلسوف كان: إلى أيّ مدًى أُقدِّم النصّ اليوناني، وإلى أيّ مدى أُقدِّم النصّ القرآني؟

وفي مواجهة حقيقة أن النصّ القرآني له تصوّر، وله منهج، وله نتائج لهذا المنهج تختلف عن هذا الذي تُرجم من الفكر اليوناني، نجد أن بعضهم استطاع أن يحفظ التوازن، وفي بعض الأحيان أن يرفع النصّ القرآني على النصّ الفلسفي، وهذا ظاهر عند بعض الفلاسفة وخصوصًا الكندي، والكندي بالذات لا بد أن نعنى به كثيرًا؛ لأنه كان واضحًا في موقفه الأصيل من الفكر اليوناني المترجَم، وقد بحث على سبيل المثال البراهين التي قدمها القرآن الكريم لإثبات عقيدة البعث، وبيَّن أن الحاضر هذا ليس هو نهاية المطاف، وأنه يوجد عالمٌ آخر، عالم الآخرة، الذي سيؤول الناس إليه فيما بعدُ، وقدَّم الأدلة القرآنية العقلية البرهانية التي جاءت في آخر سورة (يس): {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس: 78].

- {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}[يس: 79] الذي أنشأ أولًا قادر على أن ينشئ ثانيًا، بل إن هذا أهون عليه كما قال الله في سورة الروم.

- {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا}[يس: 80] يعني الانتقال من الشيء إلى ضده؛ يعني الانتقال من الخضرة إلى الحرارة الملتهبة من النار، من الخضرة التي فيها نداوةٌ وفيها رطوبة، وفيها ماء، إلى الحرارة التي فيها جفاف وفيها حمرة والتهاب، وكذلك إذا طبّقت هذا، نحن كنا قبل وجودنا عدمًا، ثم انتقلنا من العدم إلى الوجود، ثم ننتقل من الوجود إلى عدم نسبي، ثم ننتقل بعد ذلك من العدم النسبي إلى وجودٍ تامٍّ كامل هو الذي يتحقق في الآخرة.

{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس: 81، 82].

وقال بعد أن استعرض هذه الأدلة القرآنية: «إنّ هذا كلام لا يمكن أن يُقَدَّم بهذه الطريقة في أيّ كلامٍ إنساني بمثل هذا الوضوح، وبمثل هذا الإيجاز، وبمثل هذا الإقناع».

فهذا الإشكال لم يكن ظاهرًا عند الكندي، لكن نشأ عند بعض الفلاسفة بعده، وأصبح التساؤل حول ما الذي يمثل المرجعية ويحتاج للتقديم، القرآن أم النصّ الفلسفي؟!

وهذا خطأٌ في المنهج؛ لأن الفلسفة لها منهجها، ولها طريقتها في المعرفة، ولها نتائجها التي تترتب على هذا المنهج، لكن القرآن له منهجٌ آخر، القرآن يخاطب العقل، ويبني براهينه، ويبني عقائده على أساسٍ من هذه البراهين التي يتقبلها العقل في كلّ شيء يتعلق بالوجود، وفي كلّ شيء يتعلق بالمعرفة، وفي كلّ شيء يتعلق بالآخرة والسمعيات، عنده منهجه الذي يقدمه في هذا الأمر.

كذلك فالقرآن ينظر للإنسان نظرةً شموليةً، فلا يعتبره مجرد عقل، ولا مجرد عاطفة، ولا مجرد شعور، ولا مجرد حسّ، وإنما ينظر إليه باعتباره كلّ هذا في تناسقٍ وانسجام؛ فالإنسان الفرد، والإنسان في الجماعة كلّ هذا يأتي في تناغم وفي تناسقٍ في القرآن الكريم، وهذا ينعكس على منهج القرآن في مخاطبة الإنسان.

ولذلك وجدنا أدلة قرآنية برهانية، ووجدنا استثارة للمشاعر، فكلّ نمط يخاطب جزءًا من الوعي الإنساني؛ فردًا وجماعة.

فعلى سبيل المثال:

عندما يقول الله -تعالى-: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}[النساء: 9]،هنا يخاطب الوجدان الإنساني حتى لا يُظْلَم يتيم؛ لأن أباه قد فارق الحياة؛ لأن أولادك يمكن أن يكونوا يتامى أيضًا من بعدك، فإذا كنت ترضى لأبنائك أن يُظْلَموا فاقبَل أن تَظلِم أبناء الآخرين، هذه إثارة لمسألة عاطفية وجدانية، ولكنها تؤثر في اتخاذ الموقف اللائق بمثل هذه المسائل.

ولننظر في كلمة الإنسان من أول الآيات التي نزلت في القرآن الكريم، هذا كلام يدلّ على هذا الوحي الإلهي الذي هو فوق البيئة، وفوق الواقع، وليس انبثاقًا من الواقع، ولا عودةً إلى الواقع، عندما يقول القرآن في أول كلمةٍ: {اقْرَأْ} في بيئة أمّية، وعندما يقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ}[العلق: 1، 2]؛ يعني: أول خطاب لله -عزّ وجل-، من الله -عزّ وجل- إلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- خطاب إلى الإنسان، هو هذا الإنسان الذي خلق: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ}[العلق: 2- 5].

{عَلَّمَ الإِنسَانَ} هذا إعلاءٌ من شأن هذا الإنسان، وخطابٌ له في جوانبه المتعددة.

وهكذا ينبغي أن يكون لنا في نظرنا إلى القرآن محاولةٌ للوصول إلى منهج القرآن في التعبير عن حقائقه، وفي تربيته العلمية، في تربيته الأخلاقية، وفيما يريد للمسلم فردًا وجماعةً وأمّةً أن يصل إلى مثل هذا الكلام.

فالقرآن يمتاز في مصدره، ويمتاز في مقامه الذي يعلو كلّ النصوص البشرية، ويتصف بعصمةٍ ليست موجودة بأيّ نصّ من النصوص البشرية، فلا أستطيع أن أُخضِع هذا لما تقوله الفلسفة أو أن أُحَكِّم عليه نُظُمًا فكرية خارجة عنه، فالقرآن ليس كتابَ فلسفةٍ، بل هو كتاب شامل في العلم، والمعرفة، والأخلاق، والحاضر، والمستقبل، والواقع، والآتي، وفي كلّ شيء.

وينبغي لمن يريد أن يحترم العطاء الذي يكون للإنسان أن يجعل هذا منهجًا لا يحكِّمه في منهجٍ آخر، فأنا لا أستطيع أن أحكّم المنهج الطبيعي على سبيل المثال في المنهج الرياضي، هذا شيء، وهذا شيء، ولا أستطيع أن أُحَكِّم المنهج الطبيعي في المنهج الاجتماعي؛ فكلّ واحد من هذا يهتم بظواهر خاصّة فلا أستطيع أن أعمم منهجًا واحدًا على الجميع، فلماذا أعمم منهج الفلسفة على كلّ شيءٍ في العالم؟!

فالقرآن له منهج، وعلينا أن نتعامل معه بحسب طبيعته، وأن نبحث عن براهينه وعن مسلَّماته، وعن الأهداف التي يسعى القرآن إليها، وبالتالي لا بد أن أُعطي نفسي الفرصة أن أتعمق هذا القرآن، وأن أعايش هذا القرآن، وأن أستخلص من هذا القرآن كلّ ما يتضمنه القرآن الذي لا يَخْلَق عن كثرة الردّ، وأنا مستطيعٌ في كلّ مرةٍ أقرأ فيها القرآن أن أجد فيه جديدًا يلهمني الله -تعالى- إياه على حسب تركيزي في قراءته، وعلى حسب حضور قلبي، وحضور عقلي، وعلى حسب خشوعي، وعلى حسب استقبال القرآن بما ينبغي له من التوقير والتعظيم.

المحور الثاني: القرآن وأزمة المنهج في الفكر العربي المعاصر:

س6: ذكرتم كثيرًا في حديثكم مسألة المنهج، وكما يرى بعض المفكرين وبعض مؤرخي الأفكار أن الفكر العربي حاليًا ينتقل من التعامل مع المضامين، أو مع الأفكار إلى التعامل مع المناهج، ويدرك أن المشكلة الفكرية هي أزمة منهج في الحقيقة، وليست أزمة مضامين أفكار، هل ترى أن القرآن بالفعل له منهج؟
فكما تعلمون هذه الفكرة تبنّاها كثيرٌ من المفكرين الذين حاولوا -في مواجهة أزمة المنهج- أن يبحثوا عن منهج خاصّ داخل القرآن، منهج للمعرفة، والجمع بين قراءة الكون، وقراءة القرآن؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

أنا أتبنَّى أننا نأخذ كلّ مجالٍ بحسب منهجه اللائق به من غير أن أقحم منهجًا على منهج، أو أغلب منهجًا على منهج، الشرط أن يكون هذا المنهج مستوعبًا للظاهرة، وأن يكون متوافقًا مع طبيعة هذه الظاهرة، وأن يستخلص نتائجه من الدراسة، وألَّا يضع ذلك قبل الدراسة، ثم يُلْزِم الدراسة بأن تخضع لمثل هذه المسلَّمات الأولية التي يقوم عليها المنهج، فالقرآن واضحٌ للذين يقرؤونه ويفكرون فيه؛ واضحٌ لهم أنهم يستطيعون أن يتوصلوا إلى مناهجَ مستخلصةٍ من هذا القرآن، ويستطيع الذي يقرأ القرآن -حتى في أيّ علم من العلوم- أن يجد مقوماتٍ يمكن أن تُبْنَى منها مناهج تتعلق بعلمه.

يعني إذا أردنا أن نتوصل إلى مناهج تتعلق بالاجتماع الإنساني أو بعلم النفس البشرية نستطيع أن نستخلص هذا من غير غلوٍّ، ولا إكراهٍ للنصوص القرآنية؛ يعني لسنا مع المبالغة في أيّ شأن، ولكن أَسْلِمْ عقلك للقرآن، واستخلِصْ منه، ستجد.

ولذلك كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه: (ولا يخلق على كثرةِ الرّد)، وانظروا إلى ما تبدعه عقول المفسِّرين في العصر الحديث مما لم يكن موجودًا حتى بالنسبة لقدمائنا الذين قدّموا لنا كتبًا عظيمة جدًّا في التفسير بالمأثور، وفي التفسير حتى بالرأي، وفي كذا، وفي كذا، لكنهم كانوا يقومون على منهجٍ تحليلي للآيات، لكننا بعد ذلك انتقلنا إلى منهج موضوعي، وانتقلنا إلى محاولة استخلاص نظريات تتعلق بالعمل، بالدولة، بالعدالة...إلخ، نستطيع أن نستخلص من القرآن هذا بشرط ألَّا نحرم أنفسنا من التمتع بما يمكن للعقل أن يستخلصه من هذا القرآن.

ونحن ينبغي أن نقترب من المناهج الكلية التي تتوافق مع الظواهر التي ندرسها، ومِن ثَمّ فإننا لا ينبغي أن نحصر المناهج في عدد، ولكن تكون المناهجُ خاضعةً لطبيعة الظواهر التي ندرسها دون إسرافٍ في تحكيم مناهج آتية من بيئاتٍ وروافد مختلفة عامّة، أو أن نُكْرِه الآيات القرآنية على أن تنطق بما تقوله هذه المناهج، فلنجعل لأنفسنا قدرًا من الأصالة ونحن نقرأ القرآن الكريم حتى نستطيع أن نستخلص ما فيه من علمٍ يتجلى بطول النظر، وبترديد الفكر في القرآن الكريم حتى نتمكن من استخلاص الجديد دائمًا من القرآن الكريم.

س7: تعلمون فضيلتكم -طبعًا- أنّ الساحة الآن مليئة بالمناهج التي تُفَعَّل في قراءة القرآن؛ مناهج غربية وشرقية وتراثية ومعاصرة، هل ترون أن هذا التنوّع هو تنوّع مفيد، أم أنه يُفضِي إلى فوضى أحيانًا؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

تحكيم المناهج القادمة من هناك من الساحل الآخر من البحر الأبيض المتوسط في القرآن لا يؤدي إلى إنصاف هذا القرآن؛ لأنه يتعامل مع القرآن على أنه مجرد نصّ، ونحن نرى في المناهج الغربية الكلام عن موت المؤلف، فكيف أتحدث عن موت المؤلف بالنسبة للقرآن الكريم؟!

أو أقول: إنّ الذي يبدع هو القارئ، إذن أين المبدِع الأصلي؟ كيف أتجاهل مثل ذا المبدع الأصلي الذي تدور مِن حوله الرؤى، وتدور من حوله الاجتهادات؟!

هذه المناهج نشأت في سياق حيث لا نصّ مقدّس، فالنصوص الدينية التي يعتمد عليها الفكر الغربي هي نصوص كتبها البشر كما قال القرآن الكريم صادقًا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}[البقرة: 79]، هذا كلام أثبتته الدراسات التي تتعلق بتاريخ الأديان من أكثر من قرنين من الزمان في ألمانيا، ثم في غيرها من البلاد الأوروبية التي نظرت إلى هذه النصوص نظرتها إلى نصوص بشرية ومن حقها أن تفعل هذا؛ لِما في هذه النصوص من دلالات على كونها مكتوبة بيد البشر.

لكن الأمر يختلف عندنا، الإله عندنا لا يموت، الإله خالق الموت، وخالق الحياة، وهو الحيّ الذي لا يموت، وعندنا نصٌّ لو ظهر الصحابة الآن من القبور لاستمعوا إليه وعَلِموا أنه هو القرآن الذي علمهم إياه الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

فالأمر مختلف، فأنا لا أستطيع أن آخذ تحليلًا لقصيدة شعرية؛ لكي أطبقه على القرآن الكريم، وأقول: التركيب كذا، والخيال كذا، والشعور كذا، والبنية كذا، والنص كذا، والجملة كذا،... إلى آخر هذا الكلام.

كلّ ظاهرةٍ تدرس بمنهجها مع ضرورة (هذه عقيدتنا) فلنا أن نقول ما نشاء فيما يتعلق بعقيدتنا، وليس من حقّ أحدٍ أن يُلزِمنا، أو أن يستورد لنا دواءً لا يتعامل مع طبيعة الأشياء الموجودة عندنا؛ الأفكار والفلسفات، وانظروا إلى (راسِل) وهو كبير من كبار مؤرخي الفلسفة الغربية يقول: «الفلسفة بنت بيئتها، وبنت ثقافتها، وبنت حضارتها»، فعندئذٍ لا أستطيع أن أعمم هذه الأحكام التي تظهر في أوروبا على العالم، ومن حقّ كلّ قومٍ من الناس أن ينظروا إلى مقدّساتهم على أنها مقدّسة، وأنها يجب أن تعامَل بمنهجها الذي يتلاءم معها.

س8: في رأي فضيلتكم ما سبب هذه الكثرة في المناهج، يعني البعض يفترض أحيانًا أن هذه الكثرة في تطبيقات المناهج الغربية على النصّ القرآني نابعة من ضعف النسق التأصيلي لفكرة أصول التفسير، وعدم وجود مناهج فعليّة مُعَدَّة، حيث لم يجرِ بناء أصول التفسير على وِزَان أصول الفقه أو غيرها من العلوم، فبالتالي افتقاد هذا السياق التقنيني، وافتقاد المناهج الناضجة للتعامل مع تفسير القرآن الكريم هو الذي سمح بهذه الكثرة الكاثرة من تطبيق المناهج الغربية على القرآن، فكأنه لو كانت هناك مناهج ضابطة، لها بنية قوية جدًّا كالتي للعلوم الأخرى، لم نكن ربما نشهد مثل هذه الكثرة في استحداث المناهج؟

أ.د/ عبد الحميد مدكور:

هذه الكثرة لها أسبابٌ عديدةٌ:

منها عدم العلم بهذا القرآن الذي يدرسونه؛ فلو أتيتَ بواحد من الذين يدرسون ويضعون المناهج وقلتَ له: اقرأ ثلاثَ أو أربعَ آياتٍ، لا يستطيع، فلا بد أن يكون على دراية بهذا القرآن، لكنه تثقَّفَ ثقافةً غربيةً بعيدةً عن هذه البيئة الإسلامية كلها، واقتنع بما هو موجود هناك.

نحن الآن في موقع من التخلّف الحضاري الذي يجعلنا مستقبِلين للأفكار، ولسنا مبدعين للأفكار، لو أننا مبدعون للأفكار لظهر من بيننا واحدٌ مثل الشاطبي على سبيل المثال الذي قدَّم تصورًا ونظرًا فيما يتعلق بالمقاصد المتعلقة بالشريعة الإسلامية، لو كان عندنا هؤلاء المجددون الذين يعرفون طبيعة الواقع الإسلامي، والفكر الإسلامي لكانت مناهجنا قريبةً من أفكارنا، لكننا بالضبط كالتاجر الذي يستورد كلّ بضاعته من الخارج، ويريد أن يطوع الذوق الموجود هنا لكي يتوافق مع هذا الذّوق القادم من الخارج.

ونحن نقول: إنّ الظواهر الإنسانية -طبعًا- يمكن أن يكون فيها اشتراك.

لكن لا بد أن تكون الاستفادة واعية وقائمة على أساس ما يوافق طبيعة تراثنا الخاصّ، وطبيعة الظواهر التي نبحث لها عن مناهج لفهمها.

أمّا ما نراه فهو نقل بلا وعي، مختلف إمّا على أساس اختلاف الرؤى الخاصّة للناقلين؛ مما يؤدي إلى ارتباك وإلى فوضى، ويؤدي إلى أخطاءٍ في التطبيق، وأخطاء في النتائج التي تترتب على هذا التطبيق.

أو على أساس اختلاف المناهج الغربية ذاتها، فالقادم من هناك متغيّر ومتعدّد ومتجاوز بعضه بعضًا، كان يُراد تفسير القرآن تفسيرًا ماركسيًّا، وكان يراد تفسير القرآن تفسيرًا وجوديًّا، ذهبَتْ عند أصحابها وتحولَتْ إلى الرفوف، أصبحَتْ تاريخًا من تاريخ الفكر، أو تاريخ الفلسفة.

فعندئذٍ ينبغي ألَّا نغتر بهذا البريق الزائف الذي يأتي وقد يكون موافقًا لطبيعة بيئته، ولكنه ليس هو الذي يلائم طبيعة هذا المكان الذي نحن فيه، وهذا التاريخ وهذا التراث الذي ننتسب إليه، وهذا القرآن الذي هو فوق التراث، وهو الذي أسّس هذه الحضارة كلّها، فيجب أن يكون هذا معلومًا في الذّهن، وموجودًا في الاعتبار.

 


[1] أُجري هذا الحوار شفهيًّا مع فضيلة أ.د. عبد الحميد مدكور، ثم تم تفريغه وتحريره من قبل فريق الموقع.

ضيف الحوار :

الأستاذ عبد الحميد مدكور

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وأمين عام مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))