تحديد المُفَسِّرين من الصحابة رضي الله عنهم وإحصاء مروياتهم في التفسير
بين (موسوعة التفسير المأثور) وكتاب (المفسِّرون من الصحابة)

تهدف هذه المقالة إلى الموازنة بين (موسوعة التفسير المأثور) وكتاب (المفسرون من الصحابة) في اعتبارات تحديدِ كلّ منهما للمفسّرين من الصحابة وإحصاء مروياتهم في التفسير، فتعرِّف بالعَمَلَيْن قَيْد المقارنة، ثم تبيِّن مناهجهما في تحديد معنى المفسِّر وطريقة الإحصاء، ثم تسلِّط الضوء على أسباب التفاوت والاختلاف بينهما في ذلك.

مدخل:

  الحمد لله حمدًا يبلِّغنا رضاه، وإن كان جَهْد الحمد لا يَفِي بشكر نعمةٍ واحدةٍ من نِعمه، بَعَثَ إلينا خاتَم رسله، وأنزل عليه أفضل كُتبه، ونَظَرَ في قلوب العباد بعد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوَجَدَ قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وُزَراء نبيِّه، فاللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد كلَّما تَعاقَب الليل والنهار، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين، الذين قَضَوا بالحقّ وبه كانوا يعدلون، وعن الصحابة، والتابعين، وتابعيهم إلى يوم الدين، أمّا بعد:

فإن الأسلوب الإحصائي من الأساليب القديمة في دراسة العلوم، وقد استخدمه العلماء في شتَّى المجالات، ولا يخفى ما لهذا الأسلوب من أهمية كبيرة في تصوير ووصف المسائل؛ فهو الوسيلة الضامِنة، والآلة الآمِنة، والطريقة العادِلة لوصف أيّ ظاهرة، ومن خلاله يمكن الوصول إلى معلومات وبيانات دقيقة، وبه يمكن الوقوف على الواقع الحقيقي للظاهرة، وتأتي بعد ذلك مراحل أخرى لمعالجة المشكلة، تُبْنَى على هذه الإحصاءات؛ كتحليلها، ودراستها لتحديد نوع المشكلة المراد معالجتها، واقتراح الحلول، وتنفيذها.

ولكن هذا الأسلوب الإحصائي لا يُؤتي ثمرته إلّا إذا كان وَفق منهجية علمية سليمة، وخطة واضحة المعالم، فإن افتقد المنهجية السليمة والتخطيط السليم؛ خرجت نتائجه مُغايِرةً للواقع، ومُشَوِّهةً للحقيقة، فسلامة النتائج متوقِّفة على قُرب المنهج أو بُعده من الصحة والدِّقَّة.

وكنتُ قد استخدمتُ هذا الأسلوب في كتابي: (المفسِّرون من الصحابة؛ جمعًا ودراسة وصفية)؛ لبيان مقدار مرويات الصحابة في التفسير، وبيان مصادرهم في التفسير، ومقدار استنادهم على كلّ مصدر منها بشكلٍ دقيقٍ لكلّ واحد من الصحابة على حِدَة، وأتبعتُ ذلك بإحصاءات شاملة لجميعهم، وبيَّنتُ منهجي بيانًا شافيًا ومفصَّلًا في مقدِّمة بلغَتْ سبعين صفحة من الكتاب وَفق طريقة هي الأُولى من نوعها وطريقتها في دراسة تفسير الصحابة.

وبعد طباعة كتابي ونشره بثلاث سنوات تقريبًا، نُشرت موسوعة كبيرة بعنوان: (موسوعة التفسير المأثور) تُعنى في الأساس بجمع التفسير الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الطبقات الثلاث للسَّلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وتضمَّنت الموسوعة إحصاءات لمفسِّري السَّلف ومروياتهم التفسيرية الواردة فيها.

وقد ظهر تفاوتٌ بين نتائج الإحصاءات في كتابي وبين نتائج الإحصاءات في الموسوعة فيما يخصّ طبقة الصحابة؛ إذ هي الطبقة التي قمتُ بدراستها واستخدمت أسلوب الإحصاء مع مروياتها في كتابي، ولا شك أن تفاوت الإحصاءات ينتج عنه تصوُّرات متبايِنة، بناءً على منهج الإحصاء، ومَدَى قُرب نتائجه أو بُعدها من الواقع الحقيقي للمرويات.

وقد تواصل معي عددٌ من الباحثين يسألونني عن سبب التفاوت بين كتابي وبين الموسوعة في إحصاء مرويات الصحابة، فرغبتُ في الإجابة على هذا التساؤل في هذا المقال، لأكشف عن أسباب هذا التفاوت، وأرصد إشكالاته وأبيِّن أسبابه؛ تلبيةً لطلب مَن يسعدني امتثال سؤالهم، ورغبةً في استفادتي من كافَّة الجهود المبذولة حول تفسير الصحابة، ولأهمية هذه القضية في تشكيلِ مسألة مركزيَّة في علم التفسير، ألَا وهي مفهوم التفسير، وانعكاسات تحديده في البحوث والدراسات، وأثره في جمع تفسير السَّلف -كما سيتضح في هذا المقال-[1].

وسينتظم حديثي في هذا المقال من خلال قسمين رئيسين، يسبقهما مدخل، وتليهما خاتمة؛ أمّا القسم الأول فسأعرِّف فيه بالعَمَلَيْن قَيْد المقارنة، وأبيِّن مناهجهما في الإحصاء، والفروق بينهما، وأمّا القسم الثاني فسأوضِّح فيه أسباب الاختلاف والتفاوت بين العَمَلَيْن.

وقبل أن أَدْلِف إلى بيان المقصود، أنبِّه على أمرين في طريقة كتابتي للمقال، وهما:

الأول: سأقدِّم الحديث عن كتاب (المفسِّرون من الصحابة) أثناء تناول عناصر المقال؛ لتقدُّمه التاريخي، إلّا إذا دَعَت الحاجة إلى تأخيره.

الثاني: تُطْلِق الموسوعة على مَن وَرَد عنه من الصحابة أكثر من مائة (100) رواية على شرطها مصطلح (المفسِّر)، وتطلق على من وَرَد عنه أقل من ذلك مصطلح (المشارك في التفسير)، ولكني سأستخدم الأول دائمًا، فليتنبَّه لذلك، فلن أقول مثلًا إذا أوردْتُ شيئًا يخص الموسوعة: (المفسرون من الصحابة والمشاركون في التفسير من الصحابة)؛ لئلا تطول العبارات.

وليس لي من وراء هذا المقال هدفٌ أنتصر به لكتابي، أو غايةٌ أنشدها سوى المباحثة، واقتناص الفائدة، وتثوير المعلومات، ورغبتي في أن أربِط نفسي في قِطَار أهل العلم، وأسأله -سبحانه وتعالى- أن يلهمنا الصواب، وأن يجنِّبنا الزَّلل، وأن يتقبل منّا، إنه هو السميع العليم.

القسم الأول: التعريف بالعَمَلَيْن ومنهجهما في الإحصاء والفروق بينهما:

أولًا: التعريف الإجمالي بالعَمَلَيْن:

التعريف بكتاب: (المفسِّرون من الصحابة رضي الله عنهم؛ جمعًا ودراسة وصفية):

أعدَّه الدكتور: عبد الرحمن بن عادل عبد العال المشدّ، وأصل الكتاب رسالة ماجستير بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، نوقشت عام 1436هـ، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، وحازت على جائزة التميّز البحثي في الدراسات القرآنية لعام 1436/ 1437هـ لمرحلة الماجستير، من الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه «تبيان»، ونشرها مركز تفسير للدراسات القرآنية بالرياض عام 1437هـ، في مجلدين.

هَدَفَ الكتابُ إلى تتبُّع أعلام المفسِّرين من الصحابة من خلال كتُب التفسير المسندة وكتب التراجم وطبقات المفسِّرين، وجَمَعَ أقوالهم التفسيرية، من خلال استقرائها وتتبُّعها من مظانِّها المختلفة ومصادرها المتعدِّدة، وهذا لمن لم تُجْمَع مروياتهم من قبل، أو جُمعت وظهر في الجمع إشكالات، وعدد الذين جُمعت أقوالهم في الكتاب خمسة وتسعون (95) صحابيًّا.

وأمّا الصحابة الذين جُمعت مروياتهم في دراسات سابقة فاكتفى الكتاب بكتابة تقرير مفصَّل عن أهم الدراسات المتعلِّقة بها، مع تقسيم مروياتهم بناء على المصادر، بعد تحديد ما يدخل منها من مرويات في مفهوم الكتاب للتفسير، وقدَّمَ الكتابُ إحصاءات رقمية لمصادر التفسير عند الصحابة، ثم عرض للمزايا والخصائص التي اتَّسم بها تفسيرهم، وبيَّن أبرز معالم تأثيرهم فيمن بعدهم من المفسرين.

وذُيِّل الكتاب بأربعة ملاحق؛ أولها: التفسير النبوي الوارد عن الصحابة الذين جُمعت مروياتهم في الكتاب. وثانيها: المرويات التي استُبعدت من الكتاب. وثالثها: المرويات الموضوعة والضعيفة جدًّا. ورابعها: الجداول والإحصاءات لمصادر الصحابة في التفسير.

التعريف بــ: (موسوعة التفسير المأثور؛ أكبر جامعٍ لتفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين وتابعيهم معزوًّا إلى مصادره الأصلية، مقرونًا بتعليقات خمسة من أبرز المحققين في التفسير):

أعدَّها مركز الدراسات والمعلومات القرآنية، بمعهد الإمام الشاطبي بجَدَّة، واستغرق العمل فيها عشر سنوات، وعمل فيها مستشارون ومحكِّمون وباحثون بلغ عددهم أربعة وأربعين (44) عضوًا، من خلال سبع لجان متخصّصة، ونشرتها دار ابن حزم بلبنان عام 1439هـ، في أربعة وعشرين (24) مجلدًا.

هَدَفَت الموسوعة إلى جمع التفسير المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والصحابة، والتابعين، وأتباعهم، وصنَّفتها موضوعيًّا، ورتَّبتها ترتيبًا زمنيًّا حسب طبقات السَّلف، وعَزَتْها إلى مصادرها، وضمَّنتها تعليقاتٍ وترجيحاتٍ واستدراكاتٍ ومستنداتٍ لخمسة من أبرز الأئمة المحققين، وهم: الطبري، وابن عطية، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير؛ وذلك لبيان فقه السَّلف في التفسير.

وأصل هذه الموسوعة كتاب (الدر المنثور) للسيوطي، مع إضافة ما زاد عليه من أكثر من ألف (1000) مجلد مطبوع في شتَّى الفنون، وقد بلغ عدد آثار التفسير المباشر -حسب اصطلاح الموسوعة- فيها (64384) أثرًا؛ منها (2475) أثرًا مرفوعًا، و(11739) أثرًا عن الصحابة، و(30789) أثرًا عن التابعين، و(19976) أثرًا عن أتباع التابعين، مما جعلها بذلك أكبر وأشمل مصدر مطبوع لأحاديث وآثار التفسير.

وقد خُصِّص المجلد الأول في الموسوعة كمدخل لها، اشتمل على بيان أعمال الموسوعة ومنهجها بالتفصيل، وضُمِّن خمسة أبحاث تأصيلية للتفسير المأثور.

ثانيًا: مناهج العَمَلَيْن في الإحصاء:

1. مفهوم التفسير بين العَمَلَيْن:

ذهبَت الموسوعة في اختيارها لمفهوم التفسير إلى أنه: (بيان معاني القرآن الكريم)[2]، وقد جاء هذا التحديد لمفهوم التفسير في الموسوعة بشكلٍ عامّ، وليس تحديدًا لمفهوم التفسير عند طبقة السَّلف لوحدها، وهي الطبقة التي عُنيت الموسوعة بجمع تفسيرها.

وجاء مفهوم التفسير في جانبه التنظيري في كتاب (المفسِّرون من الصحابة) موافقًا أيضًا للجانب التنظيري لمفهوم التفسير في الموسوعة[3]، ولكن الكتاب صرَّح في جانبه التنظيري إلى عدم إمكانية تطبيق هذا المفهوم، وبيَّن أسباب ذلك بالتفصيل في عِدَّة صفحات، أنقل هنا أوَّلها، وليُرْجَع إلى بقيتها في الكتاب، وذلك في مبحثٍ خاصّ بعنوان: (منهج الباحث في جمع الأقوال بناءً على مفهوم التفسير) جاء في أوّله: «سبقت الإشارة إلى اختلاف العلماء في تحديد مفهوم التفسير، وبيَّنت أن التعريف الأقرب لموضوعه هو ما كان فيه بيان لمعنى الآية، وعلى هذا فإنّ كلّ أثر ليس فيه بيان للمعنى لا يعدُّ داخلًا في قيد الدراسة وَفق حدّ التعريف. وكان ينبغي في التعامل مع جمع آثار تفسير السَّلف تقييدها بما اخترته في تعريف التفسير فلا آخذ منها سوى ما له صلة ببيان المعاني وكشف الدلالات وفكّ مرامي الألفاظ، واستبعاد كافة ما لا يظهر له صلة ببيان المعاني وتأسيسها كأنْ يكون استنباطًا أو استشهادًا وغير ذلك مما لا يظهر فيه بيان لمعنى الآية. إلّا أن الجزم بتصنيف أثر من آثار الصحابة لتحديد كونه تفسيرًا فيدرج في البحث، أو غير ذلك فيستبعد = أمرٌ فيه من الصعوبة ما فيه، وذلك لعدّة أمور...إلخ»[4].

2. مفهوم المفسِّر بين العَمَلَيْن:

أشار كتاب (المفسِّرون من الصحابة) إلى وجود إشكال في تعيين المفسِّر من الصحابة، ثم بيَّن المعتمد لديه، فجاء فيه: «أدرجت في بحثي: كلّ صحابيٍّ رُوي عنه قول في التفسير باجتهاده غالبًا. فقَولي: (باجتهاده) قيدٌ أَخْرَج مَن روى من الصحابة -رضي الله عنهم- قولًا نقله عن غيره، سواء رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كأبي ثعلبة الخشني، وأبي هند الداري، وصهيب، وعمرو بن عبسة، أو رواه عن صحابي آخر؛ كأبي الطفيل بن عمرو، وسهل بن أبي حثمة الأوسي الأنصاري، ومحمد بن حاطب الجُمْحي -رضي الله عنهم-. وقولي: (غالبًا) لأنه قد يرِد عن الصحابي قولٌ أتردَّد بين كونه من المرفوع حُكمًا، وبين كون الصحابي قد قاله بالقياس مثلًا، فإذا غلب على ظنّي بالقرائن أنه يمكن للصحابي الاجتهاد فيه؛ أدرجته في بحثي، وقد يظهر لغيري أنه مرفوع حكمًا؛ فلذلك قيدته»[5].

ويظهر من هذا التنظير أنّ لاعتبار المفسِّر من الصحابة في الكتاب شرطَيْن، هما:

- الأول: أن يَرِد عن الصحابي تفسيرٌ للقرآن، ولو كان قولًا واحدًا في التفسير -على اصطلاح الكتاب-.

- الثاني: أن يكون هذا القول التفسيري الوارد عن الصحابي من اجتهاده -ولو احتمالًا-، وليس من نقلِهِ عن غيره.

وبناءً على هذا فإن مفهوم المفسِّر في كتاب (المفسِّرون من الصحابة) يعتبر واسعًا، بَيْدَ أن الكتاب قد احتاط لذلك، فأبان عن تصنيف مرويات كلّ صحابي على حِدَة أثناء الدراسة الوصفية المفردة لكلّ صحابي، وعَرَضَ ذلك في جداول إحصائية شاملة، وبذلك يمكن للباحثين الوقوف بسهولة على سبب إدراج كلّ صحابي في الكتاب ضمن المفسِّرين، مع إتاحة تأييد ذلك، أو الاستدراك عليه، أو إثرائه، بسهولةٍ ويُسْرٍ ووضوح.

وأمّا الموسوعة فلم يوضَّح فيها مفهوم المفسِّر بشكلٍ تنظيري مرتَّب رغم الحاجة الماسَّة إلى ذلك فيها، ولكن أُشيرَ في بعض المواضع إلى تقييدات وعبارات يستفاد منها في تحديد مفهوم المفسِّر، إضافة إلى الجانب التطبيقي الذي يمكن من خلاله معرفة المراد بالمفسِّر بدقة في الموسوعة، وبيان ذلك من خلال أمرين[6]:

- الأول: صُنِّفت الآثار في الموسوعة تصنيفًا موضوعيًّا، وقد فُصِّل ذلك في مقدِّمة المدخل إلى الموسوعة، فجاء فيه: «قُسِّمت الآثار في الآية حسب موضوعاتها على شكلِ فقرات مُعَنْوَنَة، وَفق الترتيب الآتي: 1- القراءات في الآية. 2- نزول الآية (يشمل كلّ ما يتعلّق بأحوال النزول، ومن ذلك المكي والمدني). 3- تفسير الآية (التفسير المباشر: وهو ما يظهر أنه كلام مسوق لتفسير الآية قصدًا بأن ينصّ عليها، أو يذكر لفظًا يختص بها ونحو ذلك). 4- النسخ (كل ما يتعلق بالنسخ سواء كان نسخًا كليًّا أو جزئيًّا، وسواء كانت الآية ناسخة أو منسوخة). 5- أحكام الآية. 6- آثار متعلقة بالآية (ما سوى التفسير المباشر)»[7].

- الثاني: قُسِّم السَّلف في الموسوعة بالنسبة لِما ورَد عنهم من آثار في الموسوعة إلى ثلاث طبقات، وهي:

الطبقة الأولى: المكثرون من مفسِّري السَّلف: وهم مَن تجاوز تفسيرهم الاجتهادي (500) أثر.

الطبقة الثانية: المقِلُّون من مفسِّري السَّلف: وهم مَن تجاوز تفسيرهم الاجتهادي (100) أثر في التفسير دون أن تبلغ (500).

الطبقة الثالثة: المشاركون في التفسير من السَّلف: وهم من لم يبلغ تفسيرهم الاجتهادي (100) أثر.

وقد صرَّحت الموسوعة بأن هذا التقسيم الثُلاثيّ للسَّلف هنا إنما هو باعتبار إحصاء الآثار الواردة عنهم في الموسوعة، والتي توفَّر فيها شرطان، هما:

الأول: أن يكون الأثر مصنَّفًا تحت تصنيف (تفسير الآية) في الموسوعة، دون بقية التصنيفات: (النسخ - الأحكام - النزول... إلخ)، وقد صرَّحت الموسوعة في توصيات أحد البحوث التأصيلية فيها بأنّ: «إطلاق مصطلح المفسِّر على مَن اقتصرت آثاره على تفسير آيات السيرة، أو القصص، أو الأحكام = غير دقيق وفيه تجوُّزٌ؛ لأنه ربما ذكر ما يتعلّق بهذه الآيات في فنِّه وتخصصه، ولم يتطرَّق إلى ما لا يتعلَّق بتخصّصه من المعاني، وقد مرَّ معنا أمثلة صريحة في ذلك مِن مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، ومحمد بن إسحاق. وكذلك بعض الفقهاء الذين اعتنوا بتفسير بعض آيات الأحكام خاصة، ومن هنا أرى أن المفسِّر بالمعنى الدقيق هو: مَن تناوَل تفسير جميع آيات القرآن بمختلف موضوعاتها؛ الأحكام، والقصص، والعقيدة، والسلوك، والوعظ، والتربية، وغيرها من الموضوعات»[8].

الثاني: أن يكون التفسير في الأثر اجتهاديًّا وليس منقولًا في الظاهر كما ورَد في المصادر الأصلية.

وبناءً على ما سبق يمكن أن يُحَدَّد مفهوم المفسِّر من السَّلف في الموسوعة بأنه: (كلّ ما وَرَدَ عن السَّلف من آثار تحت تصنيف «تفسير الآية» في الموسوعة، وكان بالاجتهاد).

3. طريقة العَمَلَيْن في الإحصاء:

اعتمد كتاب (المفسِّرون من الصحابة) في إحصاء المرويات على اعتبار الرواية بكاملها، حتى وإن كان فيها بيان لأكثر من جزئية في الآية.

وإذا تعدَّدت الطرق للرواية الواحدة عن الصحابي؛ اختار الكتابُ الروايةَ الأشملَ والأوضحَ، فلا تُكَرَّر فيه رواية من طريق آخر إلّا إذا كان في الطريق الآخر زيادة تستدعي تكرارها في بعض المواضع، وسار الكتاب في ترتيب الروايات على اعتبار مصادر الصحابة في تفسيرهم للآية[9].

وأمّا الموسوعة فاعتمدت في الإحصاء على تجزئة المرويات باعتبار المفردة الواحدة، بمعنى أن الآية إن كان فيها بيان لأكثر من جزئية فإنها تُحسب عِدَّة روايات حسب تعدُّد الجزئيات المبيَّنة في الآية، وسارت الموسوعة في ترتيب الروايات حسب ترتيب الآيات في المصحف[10].

ثالثًا: الفروق بين العَمَلَيْن:

لا شك أن اختلاف منهج الإحصاء بين العَمَلَيْن قد نَتَجَ عنه فروقات بينهما في العمل، وتتركَّز هذه الفروقات في جانبين، هما:

الأول: تحديد المفسِّرين من الصحابة: فقد بلغ عدد المفسِّرين من الصحابة في كتاب (المفسِّرون من الصحابة) مائة (100) صحابي[11]، بينما بلغ عددهم في الموسوعة مائة وستة (106) صحابي[12].

الثاني: إحصاء مرويات المفسِّرين من الصحابة: فقد بلغ عدد مرويات الصحابة في التفسير في كتاب (المفسِّرون من الصحابة) (9020) رواية، بينما بلغ عددها في الموسوعة (11739) رواية.

وعند تأمّل هذه الفروق بين العَمَلَين تتضح أربعة أمور، وهي:

الأول: عدد الصحابة الذين اتفق العَمَلان في عَدِّهم من المفسِّرين، وفي إحصاء مروياتهم في التفسير = أربعة عشر (14) صحابيًّا.

الثاني: عدد الصحابة الذين اتفق العَمَلان في عَدِّهم من المفسِّرين ولكن اختلفا في إحصاء مروياتهم في التفسير = واحد وستون (61) صحابيًّا.

الثالث: عدد الصحابة الذين انفرد كتاب (المفسِّرون من الصحابة) بعَدِّهم من المفسِّرين = خمسة وعشرون (25) صحابيًّا.

الرابع: عدد الصحابة الذين انفردت الموسوعة بعَدِّهم من المفسِّرين = واحد وثلاثون (31) صحابيًّا.

وفيما يأتي بيان لأسماء هؤلاء الصحابة مع إحصاء مروياتهم في التفسير في كِلا العَمَلَيْن من خلال جداول توضيحيَّة، حسب ترتيب الأمور الأربعة السابقة، وحسب الأكثرية في عدد المرويات داخل الجداول.

الجدول الأول:

(الصحابة الذين اتفق العَمَلان في عَدِّهم من المفسِّرين، وفي إحصاء مروياتهم في التفسير):

م

الاسم

المفسِّرون من الصحابة

موسوعة التفسير المأثور

1

عبد الله بن الزبير

40

40

2

أبو موسى الأشعري

26

26

3

أبو أيوب الأنصاري

9

9

4

عمران بن حصين

8

8

5

خبَّاب بن الأَرَتّ

3

3

6

سهل بن حنيف

3

3

7

أبو أسيد الساعدي

2

2

8

حفصة بنت عمر

2

2

9

أسامة بن زيد

2

2

10

أبو جحيفة السوائي

1

1

11

واثلة بن الأسقع

1

1

12

عمرو بن حريث

1

1

13

رفاعة القرظي

1

1

14

نبيط بن شريط

1

1

الجدول الثاني:

(الصحابة الذين اتفق العَمَلان في عَدِّهم من المفسِّرين، ولكن اختلفا في إحصاء مروياتهم في التفسير):

م

الاسم

المفسِّرون من الصحابة

موسوعة التفسير المأثور

1

عبد الله بن عباس

6552

8922

2

عبد الله بن مسعود

742

761

3

عليّ بن أبي طالب

253

448

4

عمر بن الخطاب

201

106

5

عائشة بنت أبي بكر

163

124

6

عبد الله بن عمر

144

289

7

أبو هريرة

93

172

8

أنس بن مالك

77

78

9

أُبَيّ بن كعب

73

105

10

جابر بن عبد الله

54

60

11

عبد الله بن عمرو

45

95

12

البراء بن عازب

39

30

13

أبو أُمامة الباهلي

36

33

14

حذيفة بن اليمان

35

37

15

أبو بكر الصدّيق[13]

33

14

16

أبو الدرداء

28

22

17

عثمان بن عفان[14]

25

11

18

سعد بن أبي وقاص

25

11

19

زيد بن ثابت

23

30

20

عبد الرحمن بن عوف

17

10

21

سلمان الفارسي

17

21

22

عبد الله بن سلام

17

13

23

أبو ذر الغفاري

16

9

24

معاذ بن جبل

14

11

25

الحسن بن عليّ

14

12

26

بريدة بن الحصيب

14

9

27

أُمّ سَلَمة

12

4

28

معاوية بن أبي سفيان

9

2

29

زيد بن أرقم

9

3

30

العباس بن عبد المطلب

7

3

31

عبادة بن الصامت

7

4

32

الزبير بن العوام

7

6

33

عبد الله بن أبي أوفى

7

4

34

المسور بن مخرمة

6

2

35

كعب بن مالك

5

1

36

المغيرة بن شعبة

5

4

38

النعمان بن بشير

5

2

39

سهل بن سعد

5

4

40

كعب بن عجرة

4

2

41

فضالة بن عبيد

4

3

42

سَلَمة بن الأكوع

4

2

43

عبد الله بن رواحة

3

2

44

طلحة بن عبيد الله

3

1

45

عمار بن ياسر

3

5

46

أبو بكرة

3

2

47

عقبة بن عامر الجهني

3

4

48

عبد الله بن مغفّل

3

3

49

أبو بَرْزَة الأسْلَمِيّ

3

7

50

جندب البجلي

3

3

51

أسماء بنت أبي بكر

3

1

52

أبو طلحة الأنصاري

2

3

53

المقداد ابن الأسود

2

1

54

مُجَمَّع بن جارية

2

1

55

عبد الرحمن بن سمرة

2

1

56

سمرة بن جندب

2

4

57

أُمّ عطيَّة الأنصارية

2

3

58

عوف بن مالك

2

1

59

قتادة بن النعمان

1

5

60

فاطمة بنت قيس

1

2

61

حكيم بن حزام

1

2

62

الحسين بن عليّ

1

2

الجدول الثالث:

(الصحابة الذين انفرد كتاب «المفسِّرون من الصحابة» بعَدِّهم من المفسِّرين، وبيان عدد مروياتهم في التفسير):

م

الاسم

العدد

1

الأشعث بن قيس

2

2

عديّ بن حاتم

2

3

أبو جبيرة

2

4

أُمّ هانئ

2

5

أبو عَقيل

1

6

أبو جندل

1

7

أبو عبيدة بن الجرّاح

1

8

زينب بنت جحش

1

9

تميم الداري

1

10

أبو عياش الزرقي

1

11

عاصم بن عديّ

1

12

أبو اليسر بن عمرو

1

13

أسماء الأشهلية

1

14

عبد الله بن أبي حدرد

1

15

طارق بن شهاب

1

16

عمر بن أبي سلمة

1

17

الأسلع بن شريك

1

18

بشير بن الخصاصية

1

19

بكر بن حارثة

1

20

الحارث بن أبي ضرار

1

21

خولة الأنصارية

1

22

فاطمة بنت الخطاب

1

23

الفلتان بن عاصم

1

24

أبو رهم الغفاري

1

25

أُمّ سعد بنت الربيع

1

وبالنظر إلى الموسوعة يمكن تقسيم هذه الأسماء الخمسة والعشرين (25) التي زادها كتابُ (المفسِّرون من الصحابة) عليها إلى ثلاثة أنواع:

- النوع الأول: صحابة وردَت لهم مرويات في الموسوعة ولكن لم تعتبرهم مفسِّرين؛ لأن المرويات الواردة عنهم ليست على شرط الموسوعة، وعددهم واحد وعشرون (21)، وهم:
1- الأشعث بن قيس.
2- أبو جبيرة.
3- أمّ هانئ.
4- أبو عَقيل.
5- زينب بنت جحش.
6- تميم الداري.
7- أبو عياش الزرقي.
8- عاصم بن عديّ.
9- أبو اليسر بن عمرو.
10- أسماء الأشهلية.
11- عبد الله بن أبي حدرد.
12- طارق بن شهاب.
13- عمر بن أبي سلمة.
14- الأسلع بن شريك.
15- بشير بن الخصاصية.
16- بكر بن حارثة.
17- الحارث بن أبي ضرار.
18- خولة الأنصارية.
19- الفلتان بن عاصم.
20- أبو رهم الغفاري.
21- أمّ سعد بنت الربيع.

- النوع الثاني: صحابة وردت لهم مرويات في الموسوعة ولكن لم تعتبرهم مفسِّرين مع أن المرويات الواردة عنهم لا تخالف شرط الموسوعة، وهو صحابي واحد، وهو: عديّ بن حاتم.

- النوع الثالث: صحابة لم ترِد لهم مرويات في الموسوعة، وعددهم ثلاثة، وهم:
1- أبو جندل.
2- أبو عبيدة بن الجرّاح.
3- فاطمة بنت الخطاب.

الجدول الرابع:

(الصحابة الذين انفردت الموسوعة بعَدِّهم من المفسِّرين، وبيان عدد مروياتهم في التفسير):

م

الاسم

العدد

1

أبو سعيد الخدري

45

2

عبد الله بن الحارث بن نوفل

13

3

أبو الطفيل عامر بن واثلة

3

4

أبو رافع

3

5

جبير بن مطعم

3

6

جرير بن عبد الله

3

7

رافع بن خديج

3

8

عبد الرحمن بن أبزى

3

9

عمرو بن العاص

3

10

ثعلبة بن أبي مالك القرظي

2

11

سعد بن مسعود الثقفي

2

12

سليمان بن صرد

2

13

الضحاك بن قيس

2

14

عبد الله بن مطيع

2

15

عمرو البكالي

2

16

يزيد بن شجرة

2

17

أبو جهم بن حذيفة القرشي

1

18

أبو قتادة الأنصاري

1

19

أمّ كرز الخزاعية

1

20

أمّ كلثوم بنت عقبة

1

21

ثوبان بن بجدد

1

22

الحجَّاج بن عمرو

1

23

خَوَّات بن جبير

1

24

سويد بن النعمان

1

25

صفوان بن عسَّال

1

26

صهيب بن سنان

1

27

عبد الله بن سويد

1

28

عبد الله بن يزيد الخطمي

1

29

عمرو بن عبسة

1

30

قيس بن السائب المخزومي

1

31

نوفل بن معاوية الديلي

1

وبالنظر إلى كتاب (المفسِّرون من الصحابة) يتضح أنّ هذه الأسماء الواحد والثلاثين (31) التي زادتها الموسوعة لم يرِد لهم فيه مرويات، مع أنهم جميعًا يندرجون تحت شرطه في اعتبار المفسِّر من الصحابة.

القسم الثاني: أسباب الاختلاف بين كتاب (المفسِّرون من الصحابة) وبين (موسوعة التفسير المأثور):

يتبيَّن من خلال العرض السابق في القسم التنظيري من المقال أنّ ثمة اختلافًا وتفاوتًا بين منهج العَمَلَيْن، وفي هذا القسم بيان لأسباب هذا الاختلاف والتفاوت وأثره من حيث التطبيق.

وقد وقع التفاوت بين العَمَلَيْن لخمسة أسباب مُركَّبة، ومتداخلة، ومتشابكة، لا يمكن تفكيكها أو الفصل بينها، فلا يقال مثلًا بأن هذا السبب بعينه هو سبب التفاوت في إحصاء هذه المسألة خاصّة، بل إن الأسباب الخمسة مجتمعةً نَتَجَ عنها هذا التفاوت بين العَمَلَيْن.

وفيما يلي بيان للأسباب الخمسة مجملةً، ثم تفصيلها بعد ذلك، وهي:

السبب الأول: الاختلاف في تطبيق مفهوم التفسير.

السبب الثاني: الاختلاف في مفهوم المفسِّر.

السبب الثالث: الاختلاف في طريقة الإحصاء.

السبب الرابع: الاختلاف في اختيار الروايات.

السبب الخامس: الاختلاف في المصادر.

وإليك التفصيل:

السبب الأول: الاختلاف في تطبيق مفهوم التفسير:

بالنظر إلى مفهوم التفسير ومحدِّداته في كِلا العَمَلَيْن تتبيَّن ثلاثة أمور مهمّة، وهي:

- الأول: اتَّفَقَ التنظير والتطبيق لمفهوم التفسير في كتاب (المفسِّرون من الصحابة).

- الثاني: اختلف التنظير والتطبيق لمفهوم التفسير في الموسوعة.

- الثالث: اختلف العَمَلان مع بعضهما في التطبيقات لمفهوم التفسير.

وبيان هذه الأمور الثلاثة فيما يأتي:

أشرتُ في القسم التنظيري إلى أن الموسوعة قد حدَّدت مفهوم التفسير بأنه: (بيان معاني القرآن الكريم)، ويُلحظ في تحديد عِلم التفسير بهذا المفهوم أنه لم ينطلق من الواقع العَمَلي والتطبيقي لتفسير السَّلف وَفق رؤية شاملة وتصوُّر كامل لجميع مفرداته عندهم، ففي تحديد التفسير بهذا المفهوم قَصْرٌ له على جانب معيَّن، وليس تعبيرًا دقيقًا عن كافة جوانبه ومُسْتَتْبَعاته.

والسديد في ذلك أن يكون المنطلق الأساس لتحديد المفهوم من خلال الواقع التطبيقي لتفسير السَّلف، والذي لو تُدُبِّر لاتَّضح أنه يشتمل على العديد من أنواع المعلومات حول الآيات، وليس مقصورًا على جانب المعنى فقط، وإن كان جانب المعنى هو الغالب عليه، إلّا أنه ليس الجانب الوحيد فيه.

فليس من الدِّقَّة أن يُحْصَر علم التفسير كلّه عند السَّلف في جانب واحد منه ثم يُحَاكَم تفسير السَّلف على هذا التصوُّر المجتزأ، بل ينبغي أن يُنظر إلى الواقع التطبيقي في مرويات السَّلف وَفق نظرة شاملة ورؤية كاملة، غير مجتزأة ولا ناقصة.

وقد أشرتُ إلى أن كتاب (المفسِّرون من الصحابة) قد اختار نفس هذا المفهوم الذي اختارته الموسوعة، والذي يعتريه ما نبَّهت عليه من إشكال، ولكن الكتاب بعد اختياره لهذا المفهوم استشكل تطبيقه، وصرَّح بعدم إمكان تطبيقه عند جمع مرويات السَّلف، وفصَّل أسباب ذلك، وأضاف تقييدات أخرى، والتزم بهذه التقييدات في جمع المرويات، وبذلك يكون الكتاب قد اتَّفَقَت تنظيراته لمفهوم التفسير مع تطبيقاته في الجمع.

وأمّا الموسوعة فقد خالفَتْ تطبيقاتُها للمفهوم التنظيريّ الذي اختارته لعلم التفسير، وبيان ذلك أن الموسوعة صرَّحت بأن: «التفسير في الاصطلاح: بيان معاني القرآن الكريم. وخرج بقولنا: (بيان معاني) ما كان بيانًا لغير المعاني؛ كبيان كيفية الأداء الذي هو من عِلم القراءات، أو بيان عدد آي السورة الذي هو من عِلم عَدّ الآي، أو بيان الفوائد المستنبطة، الذي يدخل في باب الاستنباط»[15]، ولكي يكون العمل منهجيًّا وسليمًا، كان ينبغي على الموسوعة أن تلتزم بتطبيق هذا المفهوم في الجمع، فتجمع ما يندرج تحته دون غيره، وهذا ما لم تنفِّذه الموسوعة.

فيُلحظ أن الموسوعة في تطبيقاتها قد جعلت الآثار على قسمين كبيرين؛ الأول: التفسير المباشر. والثاني: التفسير غير المباشر. وحدَّدت التفسير المباشر بأنه: المرويات التي يظهر أنها كلام مسوق لتفسير الآية قصدًا، بأن ينصَّ عليها، أو يَذكر لفظًا يختصّ بها ونحو ذلك، وأمّا التفسير غير المباشر فهو: كلّ ما لم يندرج تحت التفسير المباشر؛ كمرويات القراءات، وأحوال نزول الآية وملابساته، وأحكام الآية، والنسخ في الآية، والاستنباطات، والاستشهاد بالآية، والمواعظ واللطائف، وتعليقات السَّلف على الآية[16].

وقد وقعت مخالفة التنظيرات للتطبيقات في الموسوعة من جانبين، هما:

الجانب الأول: إدخال آثار لا تندرج تحت مفهوم التفسير التنظيري للموسوعة: ومن ذلك مثلًا أن مفهوم التفسير التنظيري المختار في الموسوعة قد نصَّ على أن الاستنباط خارج عن التفسير، ولكن بالنظر إلى الموسوعة يُلحظ أن الاستنباطات قد جُمعت فيها واعتُبرت تفسيرًا غير مباشر، والمنهج السليم يقتضي حذف الاستنباطات تمامًا؛ لأن تنظيرهم لمفهوم التفسير قد نصَّ على أن الاستنباطات ليست من التفسير أصلًا، ومثل هذا يقال في أمور عديدة أدخلتها الموسوعة في الجمع مع أنها ليست من المعاني التي نصَّ عليها المفهوم المختار للتفسير فيها؛ كاللطائف، والقراءات، والآثار المتعلقة بالآية، وغيرها مما كان المنهج السليم يقتضي حذفها جميعًا موافقةً للمفهوم المختار.

الجانب الثاني: إخراج آثار من تصنيف التفسير مع أنها تندرج تحت مفهوم التفسير التنظيري للموسوعة: ومن ذلك مثلًا أن الموسوعة تصنِّف مرويات النزول كلّها تحت التفسير غير المباشر، مع أن كثيرًا منها يعتبر تفسيرًا مباشرًا للآية وينطبق عليه ضابط التفسير المباشر المحدَّد في الموسوعة، والمنهج السليم يقتضي دراسة وتحليل هذه الآثار لتحديد تصنيفها تحت التفسير المباشر أو غير المباشر -على اصطلاح الموسوعة-، ومثل هذا يقال في العديد من التصنيفات التي اعتبرتها الموسوعة ضمن التفسير غير المباشر؛ كأحكام الآية، والنسخ، فإنها تتضمن آثارًا في بيان المعنى المباشر -على اصطلاح الموسوعة-.

وأمّا عن اختلاف العَمَلَيْن مع بعضهما في التطبيقات لمفهوم التفسير فإنّ كتاب (المفسِّرون من الصحابة) قد نَحَا إلى توسيع مفهوم التفسير موافقًا في ذلك لتنظيراته، ونَحَتِ الموسوعةُ إلى تضييق هذا المفهوم مخالفة في ذلك لتنظيراتها.

وبيان ذلك أن كتاب (المفسِّرون من الصحابة) قد استبعد المرويات التي تبعُد عن المعنى بوضوح وجلاء؛ كمرويات عدِّ الآي، وفضائل السور، وبيان سجدات القرآن، وغير ذلك مما بيَّنته الدراسة، وخصَّصت لهذه الروايات ملحقًا خاصًّا فجمعتها فيه، وأمّا ما لم يكن بعيدًا عن المعنى بهذا الوضوح وكان له تعلُّق بشيء من المعنى فلم تستبعده الدراسة، بل أدرجته ضمن المرويات تحت مصدر (التفسير بالرأي والاجتهاد)، ومن هنا جاء توسيع مفهوم التفسير في تطبيقات الكتاب؛ حيث شمل هذا المصدر ما كان من قبيل الاستشهاد، والمواعظ، واللطائف، وغير ذلك.

وأمّا الموسوعة فقد استبعدت المرويات واضحة البُعد عن المعنى أيضًا، ولكنها حذفتها تمامًا ولم تُشِر إليها، ثم صنَّفت المرويات المثبَتة تصنيفًا موضوعيًّا، كما سبقت الإشارة إليه.

وهذا التقسيم الذي اعتمدته الموسوعة في تصنيف الآثار يعتبر جيدًا من حيثية التقسيم إلى موضوعات، إلّا أنه بهذه الصورة فيه تضييق كبير لمفهوم التفسير؛ وذلك أن أغلب التصنيفات الموضوعية التي اعتبرتها الموسوعة تفسيرًا غير مباشر = لا يمكن في الحقيقة أن يُقطع بتصنيف الرواية فيها تحت التفسير المباشر أو غير المباشر إلّا بعد تأمُّل الرواية ودراستها جيدًا، ومع أن الموسوعة لم تهدف إلى دراسة المرويات، إلّا أن تصنيفها مطلقًا هكذا خارج التفسير، أو خارج التفسير (المباشر) الذي اصطلحت عليه الموسوعة = فيه تضييق كبير لمفهوم التفسير (المباشر)؛ لأن هذه المرويات المصنَّفة خارجه فيها ما يعتبر تفسيرًا (مباشرًا) على شرط الموسوعة فيه، وهذا لا يظهر إلّا بعد دراسة الرواية وتحليلها جيدًا، وهو ما لم تقم به الموسوعة.

وقد كان هذه الاختلاف في تطبيق مفهوم التفسير بين العَمَلَيْن أحد أهم أسباب التفاوت بينهما في إحصاء الروايات؛ وذلك أن الروايات التي صنَّفتها الموسوعة تحت قسم النزول أو أحكام الآية أو النسخ وغيره من التصنيفات التي اعتبرتها تفسيرًا غير مباشر = لم تعدّها عند إحصاء المرويات للصحابي، وإنما اقتصرت في العَدِّ على ما جاء في الموسوعة تحت تصنيف (تفسير الآية) فقط دون غيره من التصنيفات الأخرى، وهذا بخلاف منهج كتاب (المفسِّرون من الصحابة) فإنه يَعُدّ مرويات النزول والنسخ والأحكام ضمن تفسير الصحابي.

وأخيرًا فإن تصنيفات الموسوعة -كما أشرت سابقًا- تعتبر جيدة من حيثية الجمع، بَيْدَ أن الأدق والأحرى أن يكون في الموسوعة إحصاءات أيضًا لبقية التصنيفات الأخرى غير تصنيف التفسير الذي اقتصرت عليه الموسوعة وحدَّدت المفسِّر من غيره بناء عليها؛ لأن هذه التصنيفات الأخرى فيها مجال للنقاش والرأي والمخالفة، وبناء على الاختلاف مع الموسوعة فيها يمكن أن يُعَدّ صحابة آخرون من المفسِّرين لم تعدّهم الموسوعة.

وهذا منهج حدَّدته الموسوعة وسارت عليه فلا تُحَاكَم إلى غيره، وإنما الإشكالية مع منطلقات هذا المنهج؛ فإن الأَولى أن تُعمل إحصاءات أخرى -كما بيَّنتُ-، حتى لا يعطِي ذلك انطباعًا بالقَطْع في مسألة يسوغ فيها الأخذ والرَّدّ، ويمكن حَلّ هذا الإشكال بعمل إحصاءات دقيقة أخرى لبقية التصنيفات، وإحصاءات كذلك أخرى للصحابة يضاف لها كلّ ما ورَد عنهم في الموسوعة حسب التصنيفات المختلفة.

فالتفصيل في مثل هذه القضايا هو الأَوْلى، خاصة مع الاختلاف الواسع في تحديد مفهوم التفسير بين العلماء قديمًا وحديثًا، ويزداد الأمر صعوبة وحاجة إلى المزيد من الدِّقَّة والاحتياط إذا كان المراد تحديد مفهوم التفسير عند طبقة السَّلف مع ما فيه من خلاف واسع في التنظير والتطبيق عند الأئمة وحاجته إلى تحرير وتدقيق، وهذا التحرير سيُبنى عليه تحديد المفسِّر فيهم من غيره، فالأفضل في كلّ هذا التفصيل، وليس الجزم.

وثمة إشكالية أخرى تتعلّق بهذا الأمر أيضًا في الموسوعة، وهو أنني وقفتُ على صحابي لم تعدّه الموسوعة ضمن المفسِّرين مع أنه قد وردَت له في الموسوعة رواية على شرط الموسوعة في اعتبار المفسِّر، وهو عدي بن حاتم[17]، وهذا وإن كان قليلًا إلّا أنه يؤكد الحاجة الماسَّة إلى إعادة النظر في الإحصاءات وتفصيلها بشكلٍ أدقّ لضمان تجاوز مثل هذه الهفوات.

وأمّا في كتاب (المفسِّرون من الصحابة) فقد تمَّ الاحتياط بشكلٍ كبيرٍ في هذه المسألة؛ فقد صُنِّفت المرويات بناءً على مصادر الصحابة في التفسير، وهي: (القرآن، والسُّنة، واللغة، والنزول، والتاريخ، والإسرائيليات، والرأي والاجتهاد)، وخُصِّص مصدر الرأي والاجتهاد للمرويات التي لا يظهر فيها بيان معنًى مباشرٍ معتمِدٍ على أحد المصادر المذكورة قبله، وتمَّ عمل إحصاءات دقيقة بعد ذلك لجميع الصحابة حسب مصادرهم، وبذلك لم تُلْزِم الدراسةُ القارئَ بما تراه في تحديد المفسِّر من غيره في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد، بل وضَّحت الدراسة ما ذهبت إليه في ذلك، ثم تركت المجال للمزيد من التدقيق والتحرير لمن خالف رأي الدراسة في مسألة يصعب القَطْع والجزم فيها إلّا بعد الدراسة والتحليل.

وفي كتاب (المفسِّرون من الصحابة) أيضًا عُمل ملحق للآثار التي استُبعدت، وذلك للسبب السابق نفسه، ولو عُمل مثل هذا الملحق في الموسوعة، أو تمّت الإشارة بالإحالة إلى رقم الرواية وصفحتها في المصادر التي استُبعدت منها؛ لكان العمل أكثر دقة، وأكثر اطمئنانًا للباحثين.

ويُلحظ أمرٌ أخير فيما يتعلق بهذا السبب في كِلا العَمَلَين، وهو الاختلاف في تصنيف المرويات، فبعض الروايات يعدُّها كتاب (المفسِّرون من الصحابة) تفسيرًا، ولا تعدُّها الموسوعة كذلك، والاختلاف في التصنيف فيه مجالٌ واسعٌ للرأي والاجتهاد عمومًا.

السبب الثاني: الاختلاف في مفهوم المفسِّر:

أشرتُ في القسم التنظيري إلى اختلاف مفهوم المفسِّر بين العَمَلَيْن، وأنه كان واسعًا في كتاب (المفسرون من الصحابة)، وضيِّقًا في الموسوعة.

وقد كان هذا الاختلاف في مفهوم المفسِّر أحد أهم أسباب التفاوت بين العَمَلَيْن في تحديد المفسِّرين من الصحابة، وقد أشرتُ في السبب الأول إلى أن الموسوعة قد صنَّفت الآثار تصنيفًا موضوعيًّا، وبَنَت اعتبار المفسِّر من السَّلف على هذا التصنيف؛ فمثلًا الصحابي الذي وردت له مرويات في النزول أو أحكام الآية أو النسخ = لم تعتبره الموسوعة مفسِّرًا ولو رُوي عنه عشرات أو مئات الآثار في النزول والأحكام والنسخ والقصص مجتمعة، بخلاف كتاب (المفسِّرون من الصحابة) فإنه يعتبر مثل هذا الصحابي مفسِّرًا، ما دام رُوي عنه تفسير اجتهاديّ أيًّا كان تصنيف هذا القول؛ سواء كان في النزول، أو الأحكام، أو النسخ، وغير ذلك، مع تفصيل العرض في ذلك في الدراسة.

ولا يزال هذا المفهوم بحاجة إلى المزيد من التدقيق والتحرير، ولكن الأحرى لمن أراد تحريره أن يعرض ذلك بشكلٍ مفصَّل مع بيان أوجهه وتعليلاته.

السبب الثالث: الاختلاف في طريقة الإحصاء:

اعتمدت الموسوعة في الإحصاء على طريقة التجزئة للمرويات معتمدةً على تفسير المفردة الواحدة، دون الاعتماد على الرواية بكاملها، بمعنى أن الرواية إن كان فيها بيانٌ لعِدَّة أجزاء في الآية؛ فإنها تُحسب في الموسوعة عِدَّة روايات بقدر عدد أجزاء المفردات المبيَّنة فيها.

وهذا بخلاف طريقة كتاب (المفسِّرون من الصحابة) فإنه اعتمد في ذلك على تصنيف الرواية بكاملها عند العَدِّ والعرض تحت أحد المصادر، وإن كان في الرواية بيان بأكثر من مصدر؛ اقتصر على أحدها.

وطريقة الموسوعة في ذلك أكثر دقّة من حيث الوقوف على عدد الأقوال بجزئياتها في بيان الآية، ولكنها ليست دقيقة من حيث عَدّ المرويات التفسيرية كما وردَت في المصادر الأصلية.

وطريقة كتاب (المفسِّرون من الصحابة) دقيقة من حيث عَدّ المرويات كما وردَت في مصادرها الأصلية، ولكن فيها تفويت لعَدِّ الأقوال الجزئية الواردة في بيان الآية.

والذي يظهر أن الأدقّ في الإحصاء أن يُجْمَع بين الطريقتين، فيبيَّن عدد الأقوال الجزئية الواردة عن الصحابي، وتبيَّن عدد المرويات الكاملة الواردة عنه.

السبب الرابع: الاختلاف في اختيار الروايات:

يعتمد كتاب (المفسِّرون من الصحابة) في إثبات الروايات على اختيار الرواية الأجمع والأشمل في المعنى وإن جاءت من طرق متعدِّدة عن رواة مختلفين، ويشير في نهاية الرواية التي جاءت من طرق أخرى إلى هذه الطرق في نفس الرواية، ويعدّها بذلك رواية واحدة، ويتم تخريج جميع الطرق في الحاشية.

وأمّا الموسوعة فقد اعتمدت في ذلك على تعدُّد ألفاظ الرواية، وتعدُّد طرقها، فتَعُدّ كلّ وجهٍ منها رواية مستقلة؛ فمثلًا عند تفسير الصلاة الوسطى في الموسوعة يُلحظ ورود روايتين عن أبي سعيد الخدري في أنها (الظُّهر) من طريقين مختلفين، فعدَّتهما الموسوعة روايتين[18]، بخلاف طريقة كتاب (المفسِّرون من الصحابة) فإنه يَعُدّ مثل هذا المثال قولًا واحدًا وليس قولين.

وهذا الاختلاف بين العَمَلَيْن راجع إلى اختلاف الهدف منهما؛ فكتاب (المفسِّرون من الصحابة) يهدف إلى جمع روايات طبقة الصحابة فقط، فيكتفي بالإشارة إلى تعدُّد الطرق للرواية دون عَدِّ كلّ رواية لوحدها، وأمّا الموسوعة فتهدف إلى جمع روايات الطبقات الثلاث للسَّلف، فتحتاج إلى إثبات كلّ الطرق.

وبناءً على هذا فطريقة كتاب (المفسِّرون من الصحابة) تعتبر أكثر دِقَّة وأصدق واقعية في جانب الإحصاء لما ورَد عن الصحابة من معانٍ حول الآية، وطريقة الموسوعة أكثر دِقَّة وأصدق واقعية في جانب التعبير عن واقع الروايات الواردة عن الصحابة كما جاءت في المصادر الأصلية.

والطريقة الأدقّ من الطريقتين في ذلك: أن يُجمع بين الطريقتين، فتُفرز الروايات عن الصحابي بدون تكرار فيُعْرَف عددها، وتُفرز أيضًا بالتكرار فيُعْرَف عددها، وشبيه من ذلك طريقة المحدِّثين مع كتب الحديث، فمثلًا نجدهم قد أحصَوا أحاديث صحيح البخاري مرّة بالمكرّر، ومرة بغير المكرّر، وهكذا تكون الدِّقَّة في العَدِّ والإحصاء أصدق وأقرب للواقع.

السبب الخامس: الاختلاف في المصادر:

اعتمد العَمَلان في جمع روايات الصحابة التفسيرية على مصادر مسندة في شتى العلوم، وجاء عدد هذه المصادر في كتاب (المفسِّرون من الصحابة) (229) مصدرًا[19]، وجاء عددها في الموسوعة (271) مصدرًا[20].

واتفق العَمَلان من هذه المصادر على (212) مصدرًا، وزادت مصادر كتاب (المفسِّرون من الصحابة) (17) مصدرًا[21]، وزادت مصادر الموسوعة (49) مصدرًا[22].

ويتبيّن من هذا أن مصادر الموسوعة تزيد -في العموم- على مصادر كتاب (المفسِّرون من الصحابة) باثنين وثلاثين (32) مصدرًا، وأن هناك مصادر أخرى اعتمدها كتاب (المفسِّرون من الصحابة) ولم تعتمدها الموسوعة، ولا شك أنّ لهذه الزيادات أثرًا في جمع المرويات إلّا أنه أثر ليس كبيرًا، فجُلّ المصادر الرئيسة من كتب التفسير وغيرها قد اعتمدها كِلا العَمَلَين، وأغلب مرويات التفسير موجودة في هذه المصادر المتفق عليها.

وثمة نقطة أخرى تتعلّق بكتاب (المفسِّرون من الصحابة)، وقد أشرتُ سابقًا إليها، وهي أنه اعتمد في إحصائه لمرويات خمسة من الصحابة المكثرين على رسائل علمية ودراسات سابقة جمَعت هذه المرويات، فعَمَد الباحث إلى هذه الرسائل وصنَّف رواياتها بناءً على مصادر الصحابة في التفسير، مع إحصاء روايات كلّ مصدر، وإحصاء الروايات المستبعدة من الإحصاء وغير ذلك، مع بيان ما على هذه الرسائل من ملاحظات.

وهذه الرسائل التي اعتمدها كتاب (المفسِّرون من الصحابة) مع خمسة من الصحابة، لا شك أن طريقة مؤلفيها متفاوتة وليست واحدة، ولكنهم متفقون في الجمع من المصادر الرئيسة، ومتفاوتون فيما بعد المصادر الرئيسة، ورغم أن الدراسة حاولت توحيد طريقة الاستفادة منها بتصنيف الروايات فيها تصنيفًا دقيقًا واستبعاد ما لا صلة له بالتفسير وغير ذلك، إلّا أن طريقة الموسوعة التي اعتمدت في الإحصاء لهؤلاء الخمسة من الصحابة ولغيرهم من السَّلف على الروايات المجموعة في الموسوعة = أكثر دقّة وأصدق واقعية لهؤلاء الخمسة من الصحابة من هذه الحيثية.

الخاتمة:

بعد هذا التَّطواف أحسبُني قد رفعتُ الإشكال الحاصل بسبب الاختلاف بين كتابي: (المفسِّرون من الصحابة) وبين (موسوعة التفسير المأثور) في تحديد المفسِّرين من الصحابة وإحصاء مروياتهم في التفسير، وقد أرجعتُ هذا التفاوت والاختلاف إلى خمسة أسباب؛ الأول: الاختلاف في تطبيق مفهوم التفسير. الثاني: الاختلاف في مفهوم المفسِّر. الثالث: الاختلاف في طريقة الإحصاء. الرابع: الاختلاف في اختيار الروايات. الخامس: الاختلاف في المصادر.

وسبق ذلك جزء تنظيريّ في القسم الأول من المقال تناولتُ فيه عِدَّة قضايا منهجيَّة بين العَمَلَين؛ اتَّضح من خلالها أن كتاب (المفسِّرون من الصحابة) اختار مفهومًا للتفسير وتوافقَت تنظيراته مع تطبيقاته، وأمّا الموسوعة فاختارت مفهومًا خالفَت في تطبيقاته. وتبيَّن أيضًا أن كتاب (المفسِّرون من الصحابة) وسَّعَ مفهوم التفسير، بخلاف الموسوعة فقد ضيَّقته. وأشرتُ إلى اختلاف الطريقة بين العَمَلَين في الإحصاء؛ فقد اعتمد كتاب (المفسِّرون من الصحابة) على اعتبار الرواية بكاملها في العَدّ، وأمّا الموسوعة فاعتبرت المفردة الواحدة في الرواية، ونَتَج عن الاختلاف في هذه المسائل فروق عديدة.

وقد تجلَّت لنا في هذا المقال أهمية قضية مفهوم التفسير، والحاجة إلى تحريرها، وضرورة توجيه الباحثين إلى العناية بها، والكتابة فيها، وطرح الأفكار الجادَّة حولها؛ فعلى الرغم من تعدُّد البحوث والدراسات المعنيَّة بجمع تفسير السَّلف في المؤلَّفات والرسائل الأكاديمية إلّا أن أغلبها لم يهتمّ بهذه القضية، ولم يُولِها أيّ عناية، ولم يحرِّرها قبل الخوض في عملية الجمع والدراسة، فانعكس إهمالها على هذه الدراسات والبحوث فظهرت فيها إشكالات يكاد بعضها أن يقضي على هذه الجهود تمامًا؛ لعدم انطلاقها من أساس سليم ووقوفها على أرضيَّة صُلبة، وقد رأينا على سبيل المثال كيفية انعكاس مفهوم التفسير وأثره في منهج الجمع على العَمَلَيْن قَيْد المقارنة في هذا المقال على الرغم من وضوح منهج كليهما، وكبير الجهد المبذول فيهما.

وجديرٌ بالذِّكر أن إهمال قضية تحرير مفهوم التفسير لا تقتصر عواقبها على تفسير السَّلف وجمعه ودراسته فحسب، بل إن إهمالها يتعدَّى إلى كلّ قضية تتعلَّق بالدراسات القرآنية بجميع فروعها واختصاصاتها، فحَرِيٌّ بالمتخصِّصين والدارسين لهذا العلم أن يُولوا اهتمامهم بهذه القضية، وأن يجعلوا تحريرها نصب أعينهم قبل الخوض في دراسة أيّ قضية تتعلَّق به، فإنّ الباحث في مسائل هذا العلم دون تحرير هذه المسألة كمَنْ يبني على الماء، وقديمًا قالوا: ثَبِّتِ العَرْشَ ثم انقُش!

وأخيرًا فإنني أُجْمِل أبرز الوصايا والاقتراحات لمن رَامَ العناية بتفسير السَّلف وجَمْعه ودراسة مسائله وَفق منهجية سليمة، في النقاط الآتية:

1. التزام المنهجيَّة وتحديد منطلقات العمل لئلا تكون التطبيقات مخالفة للتنظيرات؛ فإن المنهج وإن كان فيه نظرٌ، إلّا أن التزام الباحث به ينبئ عن جِدِّيَّته في الطرح، ووضوح رؤيته تجاه المشكلة، وحَرِيٌّ بصاحب المنهج أن يصل، وأمّا إهمال المنهجيَّة فدليل على فَوضَويَّة الباحث، وعَشوائيَّته، وبُعده عن طريق البحث والعلم أصلًا.

2. تحرير مفهوم (التفسير) انطلاقًا من واقع مرويات السَّلف التفسيرية، وتطبيقه داخل الدراسة، وتحرير مفهوم (المفسِّر) بناءً على دراسة تفسير السَّلف، وتحليله، وتدقيقه.

3. التأنِّي، والتريُّث، وطول التدبُّر والتأمُّل، قبل تخطئة أئمة التفسير في توظيفهم لمرويات السَّلف، وجمع كلامهم حوله، ومحاولة الوقوف على توجيهه وفهمه فهمًا صحيحًا قبل نقده أو تخطئته؛ ففي مرويات السَّلف كُنوزٌ لا تُدرك بالعَجَلة وقِصَر النظر.

4. الحرص على عدم القَطْع والجزم في المسائل التي يسوغ فيها الأخذ والرَّدّ؛ لئلا يُضطَرّ إلى تكرار الجهود، خاصّة وأن الجهود المبذولة حول تفسير السَّلف نادرة وقليلة.

5. العناية بمعرفة المسائل المتعلِّقة بتفسير السَّلف وَفق تصوُّر سليم قبل مرحلة الجمع؛ لئلا يفوت من مروياتهم شيء بناءً على تصوُّر سابق فيه نظر.

6. العناية بجمع المصادر الأصلية لاعتمادها في عملية الجمع.

7. الدِّقَّة والتحرِّي في تحديد أسماء السَّلف وعدم الخلط بينها.

8. التنبُّه للتفسير الاجتهادي والتفسير النقلي للشخص الواحد، والتفريق بينهما عند الدراسة.

وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم، والحمد لله رب العالمين.

 

[1] بيّنت أبرز الإشكالات المتعلقة بهذه القضية في البحوث والدراسات المعنيّة بجمع تفسير السَّلف، وذلك في حوارٍ لي منشور على موقع مركز تفسير، بعنوان: (تفسير السَّلف؛ مفهومه وأهميته وبعض القضايا المتعلقة به) على هذا الرابط:
الجزء الأول: tafsir.net/interview/28.
الجزء الثاني: tafsir.net/interview/29.

[2] ينظر: المدخل إلى الموسوعة (1/ 104-105).

[3] ينظر: كتاب المفسِّرون من الصحابة (1/ 37-44).

[4] ينظر: كتاب المفسِّرون من الصحابة (1/ 55-63).

[5] كتاب المفسِّرون من الصحابة (1/ 50-51).

[6] ينظر: المدخل إلى الموسوعة (1/ 282-283)، و(1/ 422-424).

[7] ينظر: المدخل إلى الموسوعة (1/ 34-35).

[8] المدخل إلى الموسوعة (1/ 430-431).

[9] ينظر: كتاب المفسِّرون من الصحابة (1/ 16).

[10] ينظر: المدخل إلى الموسوعة (1/ 282).

[11] ينظر: الجدول الإحصائي الشامل بالكتاب (2/ 1163-1170).

[12] ينظر: الجدول الإحصائي لأقوال السَّلف في المدخل إلى الموسوعة (1/ 396-420).

[13] هذا الإحصاء لأقوال أبي بكر -رضي الله عنه- في كتاب (المفسِّرون من الصحابة) من أول القرآن حتى سورة طه فقط.

[14] هذا الإحصاء لأقوال عثمان -رضي الله عنه- في كتاب (المفسِّرون من الصحابة) من أول القرآن حتى سورة طه فقط.

[15] المدخل إلى الموسوعة (1/ 105-106).

[16] ينظر: المدخل إلى الموسوعة (1/ 34).

[17] وردَت له رواية في الموسوعة (11/ 786).

[18] ينظر: موسوعة التفسير المأثور (4/ 339).

[19] ينظر: كتاب المفسِّرون من الصحابة (1/ 20-31).

[20] ينظر: المدخل إلى الموسوعة (1/ 52-96).

[21] وهي: إثبات صفة العلوّ لابن قدامة المقدسي، وآداب النفوس للحارث المحاسبي، والأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع، والترغيب والترهيب لقوام السُّنة، والتوهُّم في وصف أحوال الآخرة للحارث المحاسبي، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، وذكر ابن أبي الدنيا وما وقع عاليًا من حديثه لمحمد بن عمر الأصبهاني، ورسالة المسترشدين للحارث المحاسبي، وسنن ابن ماجه، وشرح أصول اعتقاد أهل السُّنة والجماعة للالكائي، وغريب الحديث لإبراهيم بن إسحاق الحربي، وفضائل فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن شاهين، ومختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر للمروزي، والمستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما لضياء الدين المقدسي، ومعانى القرآن للأخفش الأوسط، والمنتخب من كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغدادي.

[22] وهي: معاني القرآن للفرّاء، وأحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق المالكي، ومعاني القرآن للزجّاج، وأحكام القرآن للطحاوي، ومعاني القرآن للنحّاس، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، وجامع التفاسير في كتب الحديث لخالد آل عقدة، المصفى بأكُفّ أهل الرسوخ لابن الجوزي، وناسخ القرآن لهبة الله، والناسخ والمنسوخ لابن شهاب الزهري، وإيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري، والقطع والائتناف للنحّاس، وقوارع القرآن للنيسابوري، والمكتفى في الوقف والابتدا للداني، وأسباب النزول للواحدي، والسُّنة للمروزي، والإيمان لابن منده، وشرح أصول اعتقاد أهل السُّنة لهبة الله بن الحسن الطبري، والجامع لشعب الإيمان للبيهقي، والقضاء والقدر للبيهقي، والحُجة في بيان المحَجة لإسماعيل التميمي الأصبهاني، وفتح الباري لابن حجر، ومسند ابن المبارك، ومسند أحمد، ومسند عبد بن حميد، ومسند الشاشي، ومعجم ابن الأعرابي، ومعجم الصحابة لابن قانع، والموضوعات من الأحاديث المرفوعات لابن الجوزي، والآثار لمحمد بن الحسن الشيباني، والأمّ للشافعي، وإبطال الحِيَل للعكبري، والسيرة النبوية لابن هشام، وشمائل النبي للترمذي، والكامل في الضعفاء للجرجاني، وطبقات المحدِّثين لأبي الشيخ، وذِكر أخبار أصبهان للأصبهاني، والتدوين في أخبار قزوين، والمنتخب من السياق لأخبار نيسابور للفارسي، والزهد لأبي داود، والزهد لابن المنذر الرازي، والزهد لابن أبي عاصم، واعتلال القلوب للسامرائي، وفضيلة الشكر للخرائطي، أخلاق أهل القرآن للآجري، والزهد لأحمد بن علي بن ثابت البغدادي، والكامل للمبرد، ومجالس ثعلب للمبرد، وأمالي الزجّاجي.

الكاتب

الدكتور عبد الرحمن المشدّ

حاصل على دكتوراه التفسير وعلوم القرآن من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))