تفسير السلف
مفهومه وأهميته وبعض القضايا المتعلقة به
(2-2)
يستمر حوارنا مع الدكتور/ عبد الرحمن المشدّ حول تفسير السلف، وبعدَ أن تناول الجزءُ الأول معه المحورين الأول والثاني؛ حيث سلّط الضوء على تفسير السلف؛ المفهوم وأبرز أسباب الأهمية، وناقش عدّة مسائل جدلية حول تفسير السلف[1]، يأتي الجزء الثاني والأخير من الحوار متناولًا المحاور: الثالث والرابع والخامس؛ ويدور المحور الثالث حول: تفسير السلف وبناء أصول التفسير، حيث يتناول موقع تفسير السلف من بناء أصول التفسير، وأبرز أسباب ضعف الدراسات المشتغلة بتحرير أصوله والقواعد التي درجت عليها أصول التفسير، مع تقديم أبرز الاقتراحات في تفعيل البحث في التراث التفسيري للسلف فيما يتعلّق ببناء أصول التفسير.
وفي المحور الرابع: تفسير الصحابة، يأتي الحديث عن كتاب «المفسرون من الصحابة؛ جمعًا ودراسة وصفية»، وأبرز الدوافع التي أفضت لاختيار المؤلِّف -صاحب الحوار- لمثل هذا الموضوع، وتسليط الضوء على أبرز الإشكالات المنهجية في مسالك الدراسات والرسائل التي تصدَّت لجمع أقوال الصحابة، ومناقشة أبرز القضايا في المباينة بين تطبيقات التفسير والتنظيرات المنتشرة للتفسير، والحديث عن ملامح مشروع للدراسة التأصيلية لتفسير الصحابة، والآفاق التي يفتحها مشروع دراسة تفسير الصحابة.
وأمّا المحور الخامس والأخير: تفسير السلف، وأهم الآفاق البحثية، فيتناول أبرز الآفاق البحثية والأفكار والمشروعات المتعلّقة بتفسير السلف وخدمته، وتسليط الضوء على أبرز التفاسير التي اعتنت بتفاسير السلف وسبُل خدمتها.
نص الحوار
المحور الثالث: تفسير السلف وبناء أصول التفسير:
س1: يمثّل البحث في أصول التفسير غاية تتّجه لها العديد من الدراسات المعاصرة في علوم القرآن، فما هو موقع تفسير السلف من بناء أصول التفسير من وجهة نظركم؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
لا شك أنّ بناء أيّ علمٍ بناءً صحيحًا لا بد وأن ينطلق بشكلٍ أساس من التطبيقات العمليّة لهذا العلم؛ لأن الاقتصار على الجانب التنظيري بعيدًا عن الربط بالجانب التطبيقي يؤدي -حتمًا- إلى تصورات وتأسيسات مغلوطة ومغايرة للحقيقة بقدرِ بُعدها عن هذه التطبيقات.
ومن المعلوم أن تفسير السلف يمثّل قطب الرَّحَى لعلم التفسير، وهو نقطته المركزية، وعليه المدار الرئيس في هذا العلم، وبقدر ابتعاد الدارس عن هذه المادة المؤسِّسة في تفسير السلف؛ يكون خطؤه في فهم كتاب الله -سبحانه وتعالى-، وبقدر اهتمامه بهذه المادة وقُربه منها؛ يكون فهمه لكتاب الله أقوم وأقرب للصواب والصحة.
ونظرًا إلى أن أصول التفسير هي قواعد وضوابط منظّمة لعلم التفسير؛ فإن تفسير السلف لا بد وأن يمثّل ركيزة رئيسة في بناء أصول التفسير ونسجه، وضبط مسائله وموضوعاته، وبقدر بُعد مؤلفات أصول التفسير عن هذه المادة المؤسِّسة من تفسير السلف يكون ضعفها، ومجافاتها لعلم التفسير، وبقدر أثر تفسير السلف فيها تكون أصدق تعبيرًا وتأصيلًا لهذا العلم.
والواقع أن أغلب مؤلفات أصول التفسير لا يظهر فيها تفسير السلف كمادة فاعلة ومؤسِّسة، بل غاب تفسير السلف عنها غيابًا كبيرًا فأضعفها، وجعل منها مادةً غريبة عن هذا العلم، وهو الأمر الذي أثبتته إحدى الدراسات المتميزة التي تصدت لبيان حال التأليف المعاصر في أصول التفسير، وهي : أصول التفسير في المؤلفات؛ دراسة وصفية موازنة بين المؤلفات المسماة بأصول التفسير، من إصدارات مركز تفسير، ومن إعداد ثلاثة من الباحثين: خليل محمود اليماني، محمود حمد السيد، باسل عمر مصطفى.
ومن الطريف في هذا أن باحثًا سجَّل رسالته للدكتوراه في مثل هذا الموضوع، ورغب في استشارتي، فلما ناقشته في كيفية بنائه للمباحث؛ ذكر لي أنه عَمَدَ إلى كتابٍ في أصول التفسير فأخذ فهرس موضوعاته ونَسَجَ منها خطةً للبحث، وطَفِقَ يقرأ في تفسير السلف ويقسّمه ويوزّعه على المباحث التي أخذها من الكتاب، ففسَّر الماء بعد الجَهد بالماء، وحصل بذلك على درجة الدكتوراه بأعلى تقدير، وهذا حال كثير من البحوث الأكاديمية اليوم، وإلى الله المشتكى.
س2: بما أن تفسير السلف يمثّل ركيزة رئيسة في بناء أصول التفسير كما ذكرتم، فما هي أبرز أسباب ضعف الدراسات المشتغلة بتحرير أصولِه والقواعدِ التي درج عليها؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
لا أجدني مبالغًا إن قلتُ بأن الدراسات القرآنية في الآونة الأخيرة قد بلغت في الاشتغال بها والتأليف فيها مبلغًا لم تبلغه في عصر سابق، إلّا أن الغالب على معظم هذه الدراسات اتّسامها بالضعف الشديد، سواء في أصول التفسير أو غيره من فروع الدراسات القرآنية، وهذه حقيقة واقعية بحاجة إلى تصحيحٍ للمسار، وليس إلى الاعتراض والإنكار.
ومن أبرز أسباب ضعف الدراسات المشتغلة بتحرير أصول التفسير وقواعده المستمدّة من تفسير السلف ما يأتي:
الأول: تقليل بعض المعاصرين من أهمية تفسير السلف، كإثارة إشكالِ ضعف أسانيده دون تصوّر كامل لمنهج الأئمة في التعامل تجاهه، وكالتحذير مما احتوى عليه تفسير السلف من أخبار إسرائيلية دون تأمّل طريقة السلف أنفسهم في الاستفادة منها.
الثاني: واقع التأليف في أصول التفسير، فهو لا ينحو لاستقراء الأصول من التطبيقات التفسيرية، بل يدور في فلَك علوم القرآن وتقريراتها النظرية؛ ولذا كان من الطبيعي جدًّا أن ينصرف ليس عن تفسير السلف فحسب، وإنما عن التفسير وتطبيقاته بصورة عامة.
الثالث: التقليد والتبعية، والاعتماد على النقل دون تحرير، مع غياب المنهج الاستقرائي والتحليلي والنقدي في أكثر المؤلفات، ومن ذلك مثلًا أنني جمعت أغلب مؤلفات علوم القرآن المقرّرة في جامعة الأزهر -وهي الجامعة الأعرق والأقدم-، فوجدتها كلّها تدور في فلَك واحد، وتعتمد في أغلبها على مذكرة للشيخ محمود أبو دقيقة -رحمه الله- مع اختلاف يسير في طريقة العرض، وزيادة بعض الأمور غير المؤثرة.
س3: ما هي أبرز الاقتراحات التي ترونها في تفعيل البحث في التراث التفسيري للسلف فيما يتعلّق ببناء أصول التفسير؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
أولًا: تعظيم مكانة تفسير السلف لدى الدارسين، وتعريفهم بأهميته، باستخدام كلّ الوسائل المتاحة، كإقامة المؤتمرات، والندوات، وورش البحث.
ثانيًا: العناية بالدورات المهاريّة المعتنية بالجانب التطبيقي.
ثالثًا: إقامة المشاريع العلميّة الجادّة، والحلقات النقاشية؛ لمعالجة المشكلات المثارة حول تفسير السلف، والتي كانت سببًا رئيسًا في تقليل أهميته وانصراف كثير من الدارسين عن الاشتغال بالبحث فيه.
رابعًا: إقامة الدورات العلمية لتوجيه الباحثين في الدراسات القرآنية إلى المسارات البحثية المهمّة، وإرشادهم إلى طرق البحث العلمية الفاعِلة، وطرح الموضوعات الجادّة لدراستها.
خامسًا: العناية بتعديل مسار أصول التفسير وقواعده ذاته، وضرورة قراءة وتأمّل التوصيات التي خرجت بها بعض الدراسات في هذا الصدد كدراستَي الأصول والقواعد عن مركز تفسير[2]، وهذه العناية لن تؤتي ثمارها إلّا بجهود مؤسَّسية حقيقية تعتني بها.
سادسًا: تذليل طرق الاستفادة من تفسير السلف، وإقامة المشاريع المساعدة لذلك.
المحور الرابع: تفسير الصحابة:
س4: يعاني تفسير السلف من ضعف في الاشتغال البحثي به على صُعُدٍ مختلفة، إلّا أنكم تصدّيتم للاشتغال بتفسير الصحابة بوجهِ الخصوص، حيث قمتم بجمعه ودراسته في أطروحتكم «المفسرون من الصحابة؛ جمعًا ودراسة وصفية»، والتي حصدت جائزة التميّز البحثي في الدراسات القرآنية من جمعية تبيان[3]، فلو تطلعوننا على أبرز الدوافع التي أفضَتْ لاختياركم لمثل هذا الموضوع.
د/ عبد الرحمن المشدّ:
كتابي «المفسرون من الصحابة» كان رسالتي التي حصلت بها على درجة الماجستير عام 1436هـ، وكان هذا الموضوع إحدى حلقات مشروع علميّ في طبقات المفسّرين، تبنّته كلية القرآن الكريم بالمدينة المنورة، وكان المشروع قد تخطّى القرنين الأولين وابتدأ الباحثون بالتسجيل فيه بدءًا بدراسة القرن الثالث وانتهاءً بالقرن الخامس عشر، ووُضِعَت خطة للمشروع، وتناول كلّ باحث دراسة طبقات المفسرين في نصف قرن.
ورأيتُ في هذه المرحلة أن أسجِّل موضوعًا ضمن اهتمامات القسم؛ لئلا يطول الوقت في قبوله، فاستشرت وكيل الدراسات العليا بالكلية حينها فضيلة الأستاذ الدكتور: محمد بن عبد العزيز العواجي -والذي أشرف عليّ في هذه الرسالة-، فأخبرني بوجود لَبِنَةٍ لم تكتمل في مشروع الطبقات منذ سنوات ولم تسجّل بعدُ، إلّا أنه لا بد من إعداد خطة خاصّة لهذين القرنين لاختلاف طبيعتهما عن بقية القرون المدروسة في المشروع، وكان لا بد كذلك من إثبات حاجة هذين القرنين إلى الدراسة لكثرة المؤلفات والرسائل الجامعية التي خدمَتْ هذين القرنين، والتي يرى بعضهم أن الموضوع لم يَعُد بحاجة للكتابة فيه!
فجمعتُ ما أمكنني من مؤلفات ورسائل علمية ودراسات سابقة حول هذين القرنين، فوجدت أن الدراسات المتعلّقة بتفسير طبقة الصحابة -رضي الله عنهم- قد اقتصرت على دراسة تفسير عشرة (10) من الصحابة فقط، والدراسات المتعلّقة بتفسير التابعين اقتصرت على دراسة قرابة أربعة وعشرين (24) تابعيًّا فقط، وكذا الدراسات المتعلّقة بطبقة أتباع التابعين.
فعَمَدْتُ إلى كتب التفسير المسندة -وهي لكلٍّ من: ابن المنذر، والبُسْتي، والطبري، وابن أبي حاتم، والسيوطي- لأستكشف واقع تفسير السلف في هذين القرنين من خلال التطبيقات العملية في هذه الكتب التي هي الساحة الحقيقة لعلم التفسير وتطبيقاته، فوجدت هذه الكتب قد اشتملت على تفسير قرابة خمس مائة (500) من السلف بطبقاتهم الثلاث، ولكلّ واحد منهم مرويات وتفسير بحاجة إلى دراسة، وبعضهم مروياته تزيد عن مرويات المشهورين بالتفسير المذكورين في كتب علوم القرآن، هذا بالإضافة إلى جوانب القصور الكبيرة التي وقفتُ عليها في الدراسات التي تناولَتْ هذين القرنين، إضافة إلى الجوانب المهمّة التي لم تُطْرَق بعد في أيّ دراسة سابقة على الرغم من الأهمية البالغة لتفسير هذا الجيل.
وقد ذُهلتُ من هذه النتائج بعد محاولة استكشاف تفسير هذه الطبقة المباركة، فصحّ عزمي على المضي قُدُمًا في دراستها، واقتصرتُ على دراسة تفسير طبقة الصحابة -رضي الله عنهم- دراسة وصفية، وحاولت لمّ شعث الموضوع، والتعرُّف على أكثر الجوانب المتعلّقة به، والوقوف على قضاياه ومشكلاته.
وقد تبنّى (مركز تفسير للدراسات القرآنية) طباعة الكتاب ونشره في حُلّة قشيبة، وذلك قبل حوالي ثلاث أو أربع سنوات من نشر الموسوعة المباركة الكبيرة المعنونة بـ: (موسوعة التفسير بالمأثور) من إعداد معهد الشاطبي، والتي ظهر فيها بعض المفارقات بينها وبين كتابي في جانب الإحصاء لمرويات الصحابة -رضي الله عنهم- في التفسير، ولعلِّي أُفرِد في أسباب ذلك وبيانه مقالًا خاصًّا.
وفي النية -بحول الله وقوته- نشر مقالات حول كتابي فيها تطوير لبعض مسائله، واستدراك على بعضها مما أفدته من مراسلة إخواني بها، ومما استجدّ عندي بعد مزيد من البحث والقراءة، والله ولي التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.
س5: ذكرتم أنكم طالعتم العديد من الدراسات والرسائل التي تصدَّت لجمع أقوال الصحابة، فلو تلخّصون لنا أبرز الإشكالات المنهجية في مسالكها في الجمع؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
توجد إشكالات عديدة في عدّة جوانب بخصوص الدراسات التي تصدّت لجمع أقوال الصحابة -رضي الله عنهم-، ولكن من أبرز الإشكالات المنهجية فيما يخصّ مسلك الجمع ما يأتي:
الأول: عدم ضبط مفهوم التفسير وتحريره، وعدم السير المنهجي في اختيار أحد تعريفات علم التفسير ومفاهيمه، فنَتَجَ عن ذلك اختلالٌ كبيرٌ في التطبيق، وهذا موجود في أكثر هذه الدراسات، فتجدها تُدْرِج مرويات بعيدة الصلة جدًّا عن التفسير؛ كمرويات عدّ الآي مثلًا وغير ذلك، حتى بلغَت المرويات بعيدة الصلة جدًّا عن التفسير في إحدى الرسائل قرابة نصفها، وفي إحدى الرسائل تخطّت الثلثين مع المكرّر.
الثاني: إغفال بعض المصادر المهمّة في الجمع، فبعض الدراسات أغفلت (الدر المنثور) للسيوطي، وبعضها أغفلت تفسير ابن أبي حاتم والبستي، وغير ذلك.
الثالث: فوات العديد من المرويات بسبب إشكالات منهجية في تصوّر المسائل المتعلقة بتفسير السلف، فبعض الدراسات لم تُدْرِج مرويات النزول بحجة أن لها حكم الرفع، ومعلوم أن الأمر فيه تفصيل وليس على إطلاقه، وبعض الدراسات لم تدرج ما يعزوه السيوطي لمصدر مفقود كتفسير ابن مردويه، وغير ذلك من الإشكالات.
الرابع: تكرار بعض المرويات دون ضابط، فتجده يكرّر الرواية كلما جاءت آية شبيهة بها، أو يكرّرها في نفس الموضع بعدّة طرق، حتى بلغت المرويات المكررة في إحدى الرسائل العلمية أكثر من نصفها.
الخامس: الخلل المنهجي في جمع المرويات، فبعض الدراسات جمع فيها الباحث كلّ ما يتعلّق بالصحابي المراد جمع مروياته التفسيرية، فجمَع كلّ الآثار التي ورد فيها اسمُ هذا الصحابي حتى لو كان اسمه مذكورًا عرَضًا في قصة لا علاقة لها بالتفسير أصلًا.
السادس: عدم الدقّة في تحديد أفراد السلف المراد جمع أقوالهم، فبعض الدراسات مثلًا إذا كانت في جمع مرويات الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- تجدها تدرج كلّ مرويات من سُمّوا بالحسن، فتدرج مرويات الحسن البصري، والحسن الجُعفي، وهكذا دون تدقيق أو تحرير أو تمييز بينها.
السابع: إدراج بعض الدراسات للأحاديث المرفوعة التي يرويها الصحابي دون تنبيه أو وضع ضابط للتمييز بين تفسيره وبين ما ينقله عن غيره، فيضعونها [أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- التي رواها هذا الصحابي] ضمن مروياته في التفسير، والصحيح أنها ليست من تفسيره وإنما من تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم-.
س6: كثير من قضايا التفسير لم يجرِ التنظير لها في التآليف المعتنية بالتنظير للتفسير وفقًا لاستقراء التطبيقات في مدونة التفسير كما أثبتته بعض الدراسات؛ كدراسة «أصول التفسير في المؤلفات؛ دراسة وصفية موازنة»، ففي ضوء اشتغالكم بالجمع الاستقصائي لتفسير الصحابة ودراسة هذا التفسير، كيف تقيِّمون صحة هذه المقالة؟ وما هي أبرز القضايا التي وقفتم عليها مما بَدَا أنّ تطبيقات التفسير تباين فيها التنظيرات المنتشرة للتفسير؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
أتفقُ كثيرًا مع هذه المقالة؛ فالمتأمل لمؤلفات أصول التفسير يجد غيابًا كبيرًا لكتب التفسير كمصادر فاعلة ومؤثّرة في بنيتها؛ مما أفقدها روح أصول التفسير، وأضعف مصداقيتها في التنظير والتأصيل لهذا العلم، وأبعدها عن روح التجديد والتطوير.
ولا شك أن هذا الغياب للمصادر الأصلية في التأصيل قد طال تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- بصورة رئيسة، إذ إنّ تفسيرهم يعتبر المادة الأساسية لبنية علم التفسير.
ومن أبرز القضايا التي وقفتُ عليها من خلال دراسة تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- وبَدَا فيها أن تطبيقات التفسير تباين فيه التنظيرات المنتشرة للتفسير ما يأتي:
الأولى: مفهوم التفسير: فبينما تختلف الأنظار في تحديد مفهوم التفسير ما بين موسّع له وما بين مضيّق؛ نجد التطبيقات العملية في تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- تنحو في أغلبها إلى بيان المعنى، وقلّما تتطرّق إلى غير ذلك مما يتعلّق بغيره؛ كاللطائف والفوائد، وغيرها.
الثانية: قضايا الإسرائيليات: ويتعلّق بها أمور كثيرة؛ فمنها مثلًا أنه بينما تتجه بعض الدراسات المعاصرة إلى القول بأن أغلب الإسرائيليات حُكيت عن التابعين وأتباعهم ممن أخذوا واختلطوا كثيرًا بأهل الكتاب؛ نجد أن رواية الإسرائيليات كانت حاضرة بشكلٍ كبيرٍ عند الصحابة -رضي الله عنهم-، فنجد مجموع مرويات أخبار بني إسرائيل في تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- تسع مائة (900) رواية، أي ما تقارب نسبته (10%) من تفسير الصحابة -رضي الله عنهم-.
الثالثة: ومن القضايا المهمّة أيضًا والمتعلقة بقضايا الإسرائيليات: أنه بينما تزعم كثير من الدراسات أن رواية السلف للإسرائيليات لم تكن لتفسير القرآن وإنما كانت للاستئناس وغير ذلك؛ نجد أن الواقع يخالف هذا المذهب، وأن كثيرًا من الأخبار الإسرائيلية رواها الصحابة -رضي الله عنهم- لتفسير الآية، بل إنه في بعض الأحيان لا يرِد في الآية بيان لها إلّا عن طريق هذه الأخبار.
الرابعة: مدارس السلف في التفسير: بينما يشيع في كثير من الدراسات المعاصرة تقسيم السلف إلى مدارس في التفسير؛ يثبت البحث أن هذا التقسيم ليس واقعيًّا، وأن السلف جميعًا كان منهجهم واحدًا في التفسير ولا يسوغ تقسيمهم إلى مدارس.
الخامسة: وهي تابعة لما قبلها: وهي أن الدراسات المعاصرة التي قسّمت السلف إلى مدارس في التفسير حصروها في ثلاث، أو أربع لو فصلوها، وهي: (مكة، والمدينة، والعراق)، بينما يثبت البحث واقعيًّا أن الأماكن التي أقام فيها الصحابة -رضي الله عنهم- ونشروا فيها علمهم كانت أكثر من هذه الأماكن؛ كالشام، واليمن، ومصر. إضافة إلى أن بعض الصحابة سكنوا أكثر من مكان وأقاموا فيه، مما يجعل فكرة تقسيمهم إلى مدارس غير دقيقة.
السادسة: أوجه البيان وأنواعه في مصادر التفسير: تقرِّر أغلب مؤلفات أصول التفسير عند دراسة موضوع مصادر التفسير؛ فتذكر أن منها تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسُّنة. وتسرد تحتهما عدّة أنواع؛ كبيان المجمل، وإطلاق المقيد، وتخصيص العام، وغير ذلك من أنواع تُنقل عبر المؤلفات دون تحرير أو تدقيق، ولكن من خلال النظر في تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- وواقعه وتطبيقاته، يتبيّن أن هذه التقسيمات بُنيت في الأساس متأثرة بكتب أصول الفقه غالبًا، ولم يُنظر في بنائها إلى واقع الآثار، ولا إلى واقع كتب التفسير، وأن أنواع البيان وأوجهه الواقعية مخالفة تمامًا للمذكور في هذه المؤلفات.
السابعة: تعيين المفسرين من الصحابة -رضي الله عنهم-: تقرِّر كتب علوم القرآن أن المشهورين بالتفسير من الصحابة -رضي الله عنهم- ثمانية أو عشرة على أقصى تقدير مذكور، ولكننا نجد إشكالًا يدعو إلى التساؤل عند النظر إلى تطبيقات كتب التفسير، فنجد مثلًا أن الذي رُوي عنهم مرويات تفسيرية من الصحابة -رضي الله عنهم- عددهم مائة (100)، وأن بعض الموصوفين بالشهرة في التفسير لم يُرْوَ لهم إلّا مرويات قليلة جدًّا، ولم تطالعنا الأخبار بأنهم تصدّوا للتفسير؛ كعبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهما-، ومن جهة أخرى نجد أن المروي عن بعض الصحابة المذكورين خارج العشرة المشهورين تزيد مروياتهم عن بعض العشرة المشهورين؛ كأنس بن مالك، وأبي هريرة -رضي الله عنهما-، بل نجد آخرين من الصحابة لم تُشِر كتب علوم القرآن إلى علمهم بالتفسير مع أن المروي عنهم في التفسير يضاهي المروي عن العشرة المشهورين، بل يزيد عنهم أحيانًا؛ كعائشة، وأبي الدرداء، وحذيفة، والبراء بن عازب -رضي الله عنهم-، وهذه المسألة بحاجة إلى إعادة البحث والتحليل ومعرفة المراد بالشهرة عند مَن ذكرها من العلماء.
س7: ذكرتم أنكم بدأتم مشروعًا للدراسة التأصيلية لتفسير الصحابة، فلو تطلعوننا على أبرز ملامح هذا المشروع؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
يُعْنَى هذا المشروع بدراسة مصادر التفسير عند الصحابة -رضي الله عنهم- دراسة تحليلية لبيان أوجه البيان في تفسيرهم بهذه المصادر من جهة، ومن جهة أخرى يُعْنَى ببناء أصول للتفسير من خلال تفسيرهم، مع الاستعانة بفهم المفسّرين لهذه الآثار وكيفية توظيفهم لها، واستفادتهم منها.
وفي هذا الصدد قمتُ بجمع تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- وقسّمته بناء على مصادرهم في التفسير، وبدأتُ في دراسته، وأنجزت بعضه، إلّا أن مثل هذه الموضوعات المتعلّقة بتفسير السلف تحتاج وقتًا لنضجها وإتقانها؛ فالعمل في تحليل كلامهم تعتريه كثير من الصعوبات.
وقد نشرتُ بحثًا من هذا المشروع بمجلة الجامعة الإسلامية للعلوم الشرعية، العدد 191، وعنوانه: «تفسير القرآن بتاريخ العرب عند الصحابة رضي الله عنهم؛ جمعًا ودراسة وصفية»، وكما هو واضح من عنوانه فقد اقتصرتُ فيه على الدراسة الوصفية فقط لتتناسب مع الوعاء الأكاديمي المنشور فيه، ولم أنشره بدراسته التحليلية المقصودة، ولكن الدراسة الوصفية جزء من هذا المشروع كذلك، وأسأل الله التوفيق لإكماله.
س8: ما هي أهم الآفاق التي تفتحها دراستكم في درس تفسير الصحابة؟ وما هي أبرز المجالات البحثية التي ترون أهميتها لخدمة هذا التفسير والعناية به؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
يمكنني أن ألخّص أهم هذه الآفاق والمجالات البحثية في صورة النقاط الآتية:
أولًا: دراسة أثر تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- فيمن بعدهم.
ثانيًا: تتبُّع الأماكن التي سكنها المفسرون من الصحابة -رضي الله عنهم- ودراسة أثرهم فيها.
ثالثًا: دراسة تفسير كلّ صحابي وحده؛ دراسة تحليلية لبيان سماته الخاصّة وميزاته.
رابعًا: دراسة أساليب الصحابة -رضي الله عنهم- وطرائقهم في التفسير.
خامسًا: دراسة مصادر الصحابة -رضي الله عنهم- في التفسير دراسة تحليلية.
سادسًا: دراسة أثر الواقع في تفسير الصحابة -رضي الله عنهم-.
سابعًا: دراسة أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للقرآن، والسُّنّة، والأخبار، واللغة، في تفسير القرآن.
ثامنًا: دراسة علوم القرآن عند الصحابة -رضي الله عنهم-.
تاسعًا: دراسة الخلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم- في التفسير.
عاشرًا: دراسة المواضع المخالفة للغة العرب في تفسير الصحابة -رضي الله عنهم-.
المحور الخامس: تفسير السلف، وأهم الآفاق البحثية:
س9: من خلال اشتغالكم بتفسير السلف ومعايشتكم له، ما هي أبرز الآفاق البحثية التي ترغبون لَفْت أنظار الدارسين إليها؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
يمكنني أن ألخّص أهم هذه الآفاق في صورة النقاط الآتية:
أولًا: العناية بدراسة الخلاف بين السلف في التفسير دراسة تطبيقية.
ثانيًا: العناية بالدراسات المقارنة بين السلف في التفسير، وخاصّة بين المشايخ والتلاميذ، فينظر مثلًا ما زاده التابعون على تفسير الصحابة، وغير ذلك.
ثالثًا: دراسة موارد الطبري السماعيّة في تفسيره، والتي تساعد على إبراز بعض المناطق التي لم تبحث في تفسير السلف؛ كالوقوف على الصحف التفسيرية من خلاله، وغير ذلك.
رابعًا: جمع الصحف التفسيرية من خلال التفاسير المسندة، ودراستها.
خامسًا: دراسة مصطلحات السلف في التفسير وعلوم القرآن.
سادسًا: جمع التفاسير الاجتهادية لبعض من وُصفوا بالكذب؛ كالكلبي (ت: 146هـ)؛ لأهمية اجتهاداتهم التفسيرية، دون ما رووه عن غيرهم، وإعادة تحقيق بعض التفاسير التي حُقِّقَت قديمًا؛ كتفسير مقاتل بن سليمان (ت: 150هـ).
سابعًا: دراسة علوم القرآن عند السلف دراسة استقرائية تحليلية.
س10: لا شك أن تفسير السلف يحتاج إلى عناية كبيرة وخدمات علميّة تقرِّبُه وتذلّل مادته للدارسين، فما هي أبرز الأفكار والمشروعات التي ترونها في سبيل ذلك؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
من الأفكار والمشروعات التي تخدم تفسير السلف ما يأتي:
أولًا: بذل الجهود الإعلامية في تقريب تفسير السلف.
ثانيًا: إعداد موسوعة علمية لدراسة مناهج الأئمة في التعامل مع أسانيد التفسير.
ثالثًا: إعداد موسوعة علمية لدراسة الإسرائيليات وطريقة توظيف المفسرين لها في كتب التفسير.
رابعًا: إعداد موسوعة الآثار الواردة عن السلف في العلوم المتعلقة بالسور والآيات.
خامسًا: إعداد موسوعة استنباطات السلف في التفسير.
سادسًا: حصر المعاني التفسيرية الواردة عن السلف وترتيبها كمتنٍ علميّ في علم التفسير.
س11: هناك بعض التفاسير التي اعتنت بتفسير السلف، ولا شك أن خدمتها تمثّل خدمة كبيرة لتفسير السلف، فما هي أبرز التفاسير من وجهة نظركم؟ وما هي توصياتكم إزاء خدمتها؟
د/ عبد الرحمن المشدّ:
مِن أبرز التفاسير التي اعتنت بتفسير السلف ما يأتي:
1. جامع البيان للطبري (ت: 310هـ).
2. النكت والعيون للماوردي (ت: 450هـ).
3. المحرر الوجيز لابن عطية الغرناطي (ت: 542هـ).
4. مفاتيح الغيب للرازي (ت: 606هـ).
5. التفسير المجموع لابن تيمية (ت: 728هـ).
6. التفسير المجموع لابن القيم (ت: 751هـ).
7. تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ت: 774هـ).
أمّا عن أبرز التوصيات تجاه هذه التفاسير لخدمة ما يخصّ تفسير السلف فكما يأتي:
1. دراسة موارد هذه الكتب.
2. دراسة توجيه المفسرين لأقوال السلف.
3. العناية ببناء أصول التفسير من خلال تطبيقات كتب التفسير.
4. دراسة أوجه توظيف المفسرين لأقوال السلف وأنواعه.
وهذه التوصيات أيضًا يمكن تطبيقها على كتب معاني القرآن، فهي وإن لم تكن لها عناية كبيرة بتفسير السلف إلّا أنّ فيها كثيرًا من الفوائد المتعلقة به، والتي يمكن خدمة تفسير السلف من خلالها لو جُمعت منها هذه الفوائد ودُرست.
[1] يمكن الاطلاع على الجزء الأول من الحوار، على هذا الرابط: tafsir.net/interview/28.
[2] دراسة "أصول التفسير في المؤلفات؛ دراسة وصفية موازنة": tafsir.net/publication/7981
ودراسة "التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ دراسة نقدية لمنهجية الحكم بالقاعدية": tafsir.net/publication/8018
وكلاهما صادر عن مركز تفسير للدراسات القرآنية.
[3] طُبع هذا الكتاب في مركز تفسير للدراسات القرآنية، وأصله أطروحة للباحث نال بها درجة الماجستير، وقد حصدت جائزة التميز البحثي في الدراسات القرآنية لعام 1436/ 1437هـ لمرحلة الماجستير من الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه «تبيان».