قراءة القرآن في الفضاء المعرفي للعصور القديمة المتأخرة
نظرات في الاشتغال الغربي بقراءة القرآن في سياق العصور السابقة على القرآن
تمهيد[1]:
لماذا نحتاج قراءة أكاديمية للقرآن؟ بالتأكيد ليس لتحصيل فهم إسلامي روحاني أعمق. لكن ربما من أجل استدعاء الدلالة العالمية للقرآن؛ لتذكيرنا بأن رسالته {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، إذ وجّهت رسالته أساسًا للبشرية قاطبة. وربما -وهو السبب الأهم- للحفاظ على سلامته ولتصحيح الالتباسات الحالية. كما أن قراءة أكاديمية للقرآن الآن تعتبر مهمة ذات طابع سياسي. وأرجو أن أسلّط الضوء على ما هو على المحكّ في الدراسات القرآنية حاليًا: ما هي الشِّراك التي يجب أن نحذرها، وكيف يمكننا أن نستحدث طريقًا بين الآراء البحثية المتعارضة فيما بينها من أجل استعادة صورة عن القرآن بصفته نصًّا يهمّ الأفراد الملتزمين اجتماعيًّا ودينيًّا بشكل عامّ.
اسمحوا لي أن أبدأ بإلقاء نظرة سريعة على الماضي، حتى عقود قليلة كانت الدراسات القرآنية في الغرب تُعَدّ تخصصًا (غريبًا) من ضمن الدراسات الشرقية الوسيعة التي كانت تهيمن (الفيلولوجيا) عليها في هذا الوقت، أي التحقيقات النصية في الأدبيات والأعمال التاريخية العربية الممتدة منذ القرن الخامس حتى الآن. إلّا أن السبعينيات مثّلت مفترق طرق حين انفصلت فيها (الفيلولوجيا) عن (دراسات المناطق). هذا المجال الجديد من دراسات المناطق -ولا سيما بفضل قيمته الكبيرة كمزود للمعرفة الجيوسياسية المعنية بالشرق الأوسط- انتشر ووَضَع الدراسات النصية (الفيلولوجيا) جانبًا؛ إذ بدت قديمة وأثرية وغير سياسية. ولم يرجع ذلك إلى أسباب براغماتية فحسب، ولكن لأسباب أيديولوجية أيضًا. وقد أطلق كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد موقفًا من ازدراء الفيلولوجيا الشرقية وحتى تشكيكًا مباشرًا فيها، وهو جدل استمر بقوة لدى آخرين تحت مسمى «دراسات ما بعد الكولونيالية». ولم ينقذ الدرسَ النصي إلا تطورٌ سياسيّ غير متوقع، أي الحاجة الملحّة لإعادة التفكير في الشرق الأوسط بعد كارثة 11 سبتمبر. وقد أُسِّست مراكز كثيرة حول العالم من أجل تناول العوامل الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية التي يُفترض أنها أشعلت نيران النشاط الإسلامي المفاجئ. ومن المعتقد أن القرآن نفسه كان مهمًّا هنا؛ إذ ظهر فجأة عدد كبير من المراكز المعنيّة بدراسة ذات طابع جديد للقرآن لا تمارس عملها على الطريقة (العتيقة) كما في السابق، بل عُنيت بأهداف جديدة ذات هوية سياسية، وإن لم تَخْلُ من نزعة التحيُّز بالطبع. والغموض الجوهري الموجود في الدراسات القرآنية يتطلبُ منّا شَحْذَ وَعْيِنَا بالبُعد السياسي لعملنا. وبقولي: «عملنا»، فإنني أنطلق من قناعتي بوحدة عالم المعرفة، بغضّ النظر عن الخلفيات الثقافية للباحثين. فالاهتمام بالدراسات القرآنية الدقيقة منهجيًّا يجب أن يكون اهتمامًا مشتركًا بين أصحاب العقليات البحثية عمومًا.
1. هل البحث النقدي التاريخي مُضِرّ أم نافع؟
دعونا نُـمعِن النظر في الغموض الذي يعتري العمل الفيلولوجي على القرآن. ومما يثير الدهشة في عصر العولمة، كون القرآن لم يُعترف به حتى الآن جزءًا من لائحة النصوص المعتمدة الأوروبية أو الغربية كمصدر للمعرفة الثيولوجية المهمة، على الرغم من كونه نصًّا لا يقلّ إطلاقًا عن الوثائق التأسيسية اليهودية والمسيحية، ويقف برسوخ في التقليد الكتابي. في الواقع، يبدو أن هذه العلاقة الوثيقة (بين القرآن والتقليد الكتابي) هي التي أضرمت نار الجدل الحالي حول وضعية القرآن حيث تواجه هذه العلاقة في التعامل معها وجهتي نظرٍ تناقِض إحداهما الأخرى: تتمثل الأولى في فهم القرآن على أنه تصديق على الإيمان الكتابي، أو بعبارة أخرى امتداد للتوحيد الكتابي. بينما تتمثل الثانية في النظر إليه كمجرد محاكاة، ونشر لمعالجةٍ للتقليد الكتابي. ويتضح أن العلاقة الغريبة التي تربط القرآن بالكتاب المقدس والتقليد الكتابي تمثل قضية محورية هنا. وهذه الملاحظة حول أهمية السياق القرآني تدعو إلى منعطف تاريخي قصير.
لنلقِ نظرة خاطفة على جدلنا السابق، الواقعة التي حدثت منذ 140 عامًا ولكنها ما زالت مؤثرة بقدر كافٍ ليقوم زميل لنا في برلين، إسلام دية، باستدعائها كنقطة أفضلية شاملة لمشروع متعدد الثقافات يُدعى «الفيلولوجيا المستقبلية»، والتي أصبحت الآن مؤسسة راسخة في جامعة برلين الحرة [2].
وقد اشتُقت تسمية «الفيلولوجيا المستقبلية» من نقاش دار سنة 1872م بين اثنين من أكبر علماء اللغة الأوروبيين في هذا الوقت هما: أولريش فون فيلاموفيتس مولندروف:Ulrich von Wilamowitz-Moellendorff ـ(1848-1931) ـ[3]، وفريدريش نيتشه: Friedrich Nietzsche ـ(1844-1900) ـ[4]، وكلاهما معنِيٌّ بالكلاسيكيات.
وقد كتب فيلاموفيتس كراسة جدلية ضد نيتشه بعنوان: «الفيلولوجيا المستقبلية»، زاعمًا بأنه لا يمكن تحقيق معرفة الماضي إلا بفحص كل سمة من سياقه التاريخي، وأنّ انفصال الباحثين التامّ عن شؤون الحاضر كان أمرًا ضروريًّا. بينما جادل نيتشه بأن نهج الفيلولوجيا المتمحور حول ذاته بصرامة قد شوّه المغزى من دراستها وتسبب في مقتل العصور القديمة. وقام عالم الهنديات الأمريكي شيلدون بولوك Sheldon Pollock، بالنظر إلى الصورة من منظور أشمل[5]، بتعريف هذا النزاع على أنه «صراع بين التاريخيين والإنسانيين»، أي بعبارة أخرى: صراع بين البحث الأكاديمي والتعقّلية/ الفكرانية.
إنّ أساس الجدل النيتشوي حول الفيلولوجيا الحية والميتة، يتعلق في المقام الأول بمسألة تأويلية: هل يعدّ تطبيق المناهج النقدية التاريخية على النصوص التراثية أمرًا ملائمًا وكافيًا؟ هل نحن مطالبون بالتركيز على تلك النصوص بمنحى عن متلقّيها، بل وحتى بمنحى عن مشاغل الحاضر؟ وبعد نيتشه بعقود قليلة، عاد العمل على هذه المسألة ونوقش بحدة في نفس الوسط الأكاديمي في برلين، إلا أنه كان في مجال الدراسات اليهودية هذه المرة. هنا وللمرة الأولى، قام بعض الباحثين اليهود المثقفين بالتحقيق في النهج التاريخي النقدي -الذي طُبّق على الدرس الكتابي من قبل- على نصوصهم التراثية اليهودية، وبناء عليه قاموا باقتلاعها عن التضمين الديني التقليدي في اللاهوت ووضعها في المسلك التاريخي العلماني الجديد، مما ترتب عليه حرمان المتلقين من تراثهم. وقد تسبب نهجهم النصي الجريء في أن أصبحوا مكروهين لدى المثقفين الذين أطلقوا عليهم اسم «نـبّاشي قبور اليهودية»[6].
إن الدراسة التاريخية النقدية يمكنها حقًّا أن تكون ذات تأثيرٍ مميت بالفعل؛ إذ تفصل النصوص جذريًّا عن التقليد الحي لقرائها وممارسيها -وهذه ليست وجهة نظر نيتشه وحده-. وبتعبير إدوارد سعيد، يمكننا أن نتكلم عن (السلب) و(انتزاع الملكية)، عن حرمان أصحاب النصوص الأصليين العاجزين، الذين لا يُعتبرون بعد الآن جديرين بتولي مهمة التفسير السليم لتقاليدهم، وبالتالي عزلهم عن التناول المباشر لتراثهم.
لقد اضطررت لأن آخذكم في هذه الرحلة القصيرة إلى التاريخ؛ لأنّ المؤرخين اليهود الذين تمّ ازدراؤهم بكل أسفٍ، (نـبّاشي القبور)، ليسوا على أيٍّ من الأحوال من شخصيات الماضي القديم، بل ها هُمُ اليوم يُعترَف بهم من جديد بوصفهم آباء مؤسسين للدراسات القرآنية الغربية. وأسماء مثل: إبراهام جيجر Abraham Geiger ـ(1810-1874)ـ[7] ، ويوسف هوروفيتس Josef Horovitz ـ(1874-1931)ـ[8] تستحق الذكر هنا. ويتمتع نهجهم النصي الدقيق بفرض نفسه في الحاضر؛ فنجده مطبّقًا -على الرغم من ممارسته لأسباب مختلفة تمامًا- في معظم الدراسات القرآنية الأمريكية والأوروبية الحالية. رغم ذلك فإن السؤال الأساسي الذي طرحه نيتشه لا يزال يستحق الطرح: هل الدراسة التاريخية النقدية تسفر عن تأثير مفيد عند تطبيقها على النصوص المعتمدة، على الكتاب المقدس على نحو الخصوص، أم أنها تضر بالتراث؟ هذا هو السؤال الذي سنركز عليه فيما يأتي.
دعونا نتناول مطالبة نيتشه بإعادة ربط الفيلولوجيا (الدراسات النصية) بالتعليم والحياة، أي بالخطابات الفكرية المفعمة بالحيوية والخبيثة أيضًا في المجتمع المعاصر، وهو مطلب كرره شيلدون بولوك مؤخرًا، الذي يدعم (النهج الحالي) والمتسائل: «كيف سينجح الدرس الغربي في استدعاء القرآن باعتباره ذا أهمية ثقافية وجمالية في وقتنا الحاضر متجاوزًا بهذا الحدود الطائفية؟». ولنبدأ أولًا بمناقشة بعض الحجج التي تعرقل طريق ذلك الهدف البحثي، وبعدها نطرح موضعًا مناسبًا لإعادة التفكير في القرآن بمصطلحات متجاوزة للطائفية.
سوف نعرض الدعوى بأنّ بزوغ التقاليد المسيحية واليهودية والإسلامية حدثت في الفضاء المعرفي نفسه، وهو فضاءٌ عادةً ما يكون مُحتكرًا على أنه الحقبة التكوينية لأوروبا، =الجدل الثقافي للعصور القديمة المتأخرة. ربما أحتاج لأن أتكلم قليلًا عن العصور القديمة المتأخرة هنا. عادة ما يشير هذا المصطلح في هذه الأيام للدلالة على حقبة معيّنة: المرحلة التي تَبِعَت العصور القديمة، عندما ظهرت اليهودية والمسيحية كلتاهما، مما أسفر عن توزيعات جديدة للسلطة. وعلى كل حال، فإنني أفضّل النظر إلى العصور القديمة المتأخرة باعتبارها مفهومًا معرفيًّا صرفًا، ومساحة تكفّلت فيها مجموعات متنوعة بإعادة تفسير النصوص الأكثر تنوعًا والموروثة من العصور القديمة، سواء كانت الكتاب المقدس العبري، أو كانت شعرًا وثنيًّا، أو كانت فلسفة ذات اتجاه توحيدي جديد. إنّ موضعة القرآن في سياق مع العصور القديمة المتأخرة يحتاج بالتأكيد إلى أن نكون متحفِّظين، ليس لمجرد مواصلة نقاشات القرن التاسع عشر التي -كما سنعرض- تنزع للنظر إلى القرآن باعتباره مجردَ مستفيدٍ سلبيّ من ثقافة العصور القديمة المتأخرة، بل للحاجة إلى التركيز على القرآن بصفته مؤثرًا حيويًّا وخلّاقًا في مناقشات العصور القديمة المتأخرة.
2. تناوُل القرآن في الدرس الغربي المعاصر:
عند إلقاء نظرة أولى على الدرس الغربي المعاصر قد تتبدى أسباب كثيرة لعرض الحالة الحالية للدراسات القرآنية ببعض التفاؤل، فالعدد الهائل من الباحثين والمراكز المعنيين بالقرآن حول العالم أصبح غير مسبوق. إلا أن ما يبدو للوهلة الأولى طفرة محمودة، يتبين عن كثب أنه انتكاسة تاريخانية وضعانية مضجرة. ومن الصعب أن نتجاهل أن هناك نوعًا من التشاؤم يحوم حول الدراسات القرآنية، (تشاؤم معرفي) على وجه التحديد. ولا يقتصر الأمر على وجود قدر كبير من المدونات الإسلامية التي يرفضها أغلب الباحثين لكونها -بالنسبة إليهم- غير مفيدة للدراسات القرآنية، مثل السيرة النبوية، وغالبًا ما يرفضون السُّنة (المدونة الحديثية) الإسلامية بأكملها. لكن يبدو أن هناك قليلًا من الاهتمام بالخلفية العربية الوثنية (الجاهلية) في الحدث القرآني أيضًا. وتستبعد عادة كل تلك النصوص والتقاليد من مجال الدرس القرآني من أجل القيام بإعادة توطين رئيسة للقرآن خارج جزيرة العرب إلى فضاء مسيحي غير مقرر، وإعادة تفسيره من صورة الرسالة النبوية إلى تجميع مجهول منفصل -بشكل أو بآخر- عن الحدث التاريخي لبعثة محمد، ومعزول عن مجتمعه.
انتقلت العلاقة بين التقليدَين الإسلامي والمسيحي لتكون مركز الاهتمام. والدرس الغربي الذي ركّز أوّل أعماله على القرآن باعتباره (نصًّا أدبيًّا)[9]، نقَل تركيزه مؤخرًا إلى ما تسمى (النصوص الضمنية) المسيحية المزعومة، التي تعتبر بحكم الواقع (مصادر) للقرآن. وقد كان هذا تحولًا هيرمنيوطيقيًّا عظيم الشأن.
ما الذي يعنيه هذا التحول؟ حقيقة أن هناك علاقات وثيقة بين القرآن والتقليد الكتابي؛ لذلك يواجه الباحثون المعاصرون زوجًا من التقاليد النصية المتكافئة من ناحية الموضوع إلى حد بعيد؛ هما التقليد الكتابي -ذو صبغة مسيحية غالبًا-، والتقليد القرآني. لذلك عليهم أن يقرروا إذا ما كانوا سيبحثون القرآن كوثيقة هوية جديدة لمجتمع تاريخي، أم سيبحثونه كمصدر مادي للتلقي العربي المبكر للتقليد المسيحي؟ ومقابل هذا التخيير، فإنّ مجموعة معتبرة من باحثي القرآن الغربيين فضّلوا تراثهم المسيحي مقابل النص القرآني. ينسجم ذلك مع وجهة نظر شبه بديهية عادة ما يواجهها الجمهور الغربي؛ إذ يَمنح الكتابُ المقدس مخاطَبية الامتيازَ بحيازة الحقيقة التي لا تقبل الجدال، هؤلاء المخاطبون الذين كانوا يُعرفون على أنهم مسيحيون حصرًا حتى وقت قريب، ومؤخرًا على أنهم يهود أيضًا[10].
وهكذا، فإنّ (الكتابية)، أو الانتماء إلى أهل الكتاب، تقترب من النسب الثقافي -والحضاري- الذي يرفض المسلمين -غير الكتابيين-. لذلك فإن الخيار المطروح لدى التقليد المسيحي ليس أمرًا أكاديميًّا بسيطًا. فإنّ (التفضيل) أو (الخيار) على رأس قائمة مبادئ التأويل. لقد كان الأمر على نقيض ذلك في الدراسات المبكرة، حيث فضّل الباحثون الشكل النهائي للقرآن على طبقاته التاريخية المفترضة. وأكد الباحث الأمريكي بيتر هيث Peter Heath على أنّ «منح الحصانة للنصوص يُعَدّ قرارًا اجتماعيًّا. المجتمع هو من يحدد التراتبية النصية، والتغيرات الجذرية في التمييز تثير إعادة هيكلة تراتبية شاملة»[11]. بسبب التغير الأخير الطارئ على (التمييز)، ونظرًا للتركيز الجديد على النصوص السابقة المسيحية؛ يُقرأ القرآن الآن على أنه نصّ مسيحيّ ما بعد معتمد Post Canonical Christian Text. ولم يَعُد الباحثون مهتمّين بشكله الأدبي الذي سيحتاج في فقه اللغة السليم إلى التحليل وفقًا لمناهج النقد الأدبي. وبدلًا من ذلك، يتم (تشريح) النص فورًا إلى أجزاء نصية عرضية لا تحتاج إلّا إلى الفحص للتوصل إلى جوهرها المسيحي. لقد تم تجاهل الخطوات الأساسية للفيلولوجيا، مما يمهد الطريق إلى التخمينات المبنية على افتراض الظهور المتأخر والتدريجي للقرآن بعد عملية تنقيح مجهولة. ويبدو أنّ شكلًا مختزلًا من الدرس التاريخي -الجاهل بالخطوات الأساسية المنهجية للعمل النصي- قد أحرز نجاحًا[12]. ونظرًا لضيق الوقت، لا يمكننا أن نكشف عن جميع التداعيات الخطرة لهذا النهج، والتي سنتعرض لها باختصار فيما يأتي. ويكفي هنا تلخيص النهج المناهض للفيلولوجيا تحت عنوان: «الاتجاه التنقيحي»[13].
عند هذه المرحلة قد يكون التأمل في ماهية الفيلولوجيا هذه أمرًا ذا فائدة. ويذكرنا شيلدون بولوك في الدراسة التي أجراها على الوضع الحالي للفيلولوجيا[14] بالتصنيفات المفيدة التي طورها مفكر النهضة جيامباتيستا فيكو Giambattista Vico ـ(1744-1668)ـ[15]، والذي كان واعيًا تمامًا بالصورة المزدوجة للنصوص، مما يتطلب التمييز بين جانبين: (المعنى الحقيقي) المستنتج من النص بمعزل عن تفاسيره الموجودة، أي (الڤيروم -Verum) الخاص به، وتفسير النص من خلال التقليد، (مأخوذًا على نحو معيّن) من متلقّيه، أو (سيرتوم-Certum) بعبارة فيكو. وفي المسائل القرآنية، يظهر السيرتوم أو نظرة المتلقّي بأسهل طريقة ممكنة في الأدبيات التأويلية الموسعة للتفسير، والحقيقة أن الدرس الغربي للقرآن اعتاد أن يدرس القرآن عبر التفسير لردح طويل من الزمن[16]، وهي الطريقة التي لا تزال مستخدمة في موسوعة القرآن Encyclopaedia of the Qur'anـ[17].
وبرغم كونه نهجًا مسوغًا، فإن هذا الفهم يعيد إنتاج قراءة مجتمع متأخر جدًّا، ويعكس بالتالي ملابسات أيديولوجية واجتماعية تختلف تمامًا عن ملابسات تَشكُّل القرآن. وعلى المرء أن يرجع إلى النص نفسه إذا ما أراد مقاربة القرآن. يتجاهل الدرس الغربي حاليًا القراءة المستنيرة بالتقليد (عن طريق التفسير) للقرآن، وهذا للأسف ليس من أجل دراسة نصية سليمة ولكن لمقاربة ملتبسة بنفس الدرجة: فقد أسّس البحث التنقيحي تركيزًا مناقضًا تمامًا، وهو البحث الحصري عن المعنى (الحقيقي) للنص[18]، الذي يفترض أنه كامن في (النصوص الضمنية) المسيحية والسريانية المزعومة للقرآن.
رغم ذلك، فإن الأمور في حالة القرآن معقدة للغاية لدرجة تمنعنا عن مثل ذلك الخيار المُبسّط لصالح الطبقات النصية المسيحية المزعومة. واسمحوا لي في هذه المرحلة أن أقول بضع كلمات عن مشروعنا في برلين: كوربوس كورانيكوم. هذا المشروع الذي تأسس سنة 2007 يتبع المبادئ التاريخية النقدية، أيْ إنّ باحثينا يقرؤون القرآن وكأنه إحدى وثائق زمانه، لا ليتزامن مع الإسلام المتأخر، بل ليتزامن مع العصور القديمة المتأخرة. وهكذا وُضِع القرآن في سياق نصي مع الشعر العربي القديم، وأيضًا مع التقاليد الشعرية والفلسفية المسيحية واليهودية والوثنية التي نفترض أنها خَلقت المعرفة العامة للأفراد المتعلمين في هذا الزمن. لكن، وعلى نحو مخالف للباحثين التنقيحيين، فإننا غير مكتفين بمجرد تعريف هذه التقاليد، بدلًا من ذلك فإننا نفحص فاعليتها كتحديات معرفية للمجتمع الذي يبدو أنه تداولها وأعاد العمل بها في سياق الإعلان القرآني. يوجد أيضًا اختلاف منهجي قاطع، فالنظر إلى الإعلان عن القرآن كعملية لا نهتم بها من منظور تاريخي للنص فحسب، بل أيضًا من منظور معنيّ بالنشأة التدريجية لنظرة جديدة للعالم، وأخيرًا لهوية جماعية جديدة هي المجتمع الإسلامي.
لذلك لا توجد طريقة للالتفاف حول النظر المتزامن إلى كلتا جهتي النص، المعنى التاريخي النصي (الڤيروم)، ومعناه المحدد لدى متلقّيه (السيرتوم). ومع ذلك فالاستقبال في حالة القرآن لا يحدث فقط مع التفسير المتأخر، بل هو جزء أصيل من نشأة النص نفسها. فيتجلى في التفاعل الحيوي بين المبشِّر: النبي، والمتلقين المتنوعين لرسالته، وهو تبادل ذو آثار واضحة في النص القرآني. والنظر في القرآن على أنه وثيقةٌ لعملية، وإعلانٌ متتالٍ للرسائل الإلهية التي يتلقاها المستمعون ويستجيبون إليها، كلها أمور تجعل القرآن يقدّم نفسه إلينا باعتباره حالة فريدة من الخطاب النبوي الذي تتخلله التفسيرات، أي: تعليقات مرتبطة بالمجتمع. ونصٌّ متعدد الأصوات كهذا يجعل من النظر إلى القرآن بوصفه (ذروة) نقاش الثقافة القديمة المتأخرة أمرًا ممكنًا.
3. ماذا عن الهرمنيوطيقا الشرقية؟
وفقًا للفهم الإسلامي التقليدي، فإنّ القرآن -الموثق في التفسير بالطبع- لا يشكل قمة العصور القديمة المتأخرة، ولكنه مفتتح لحقبة جديدة، هي عصر الإسلام. وقد تحقق التاريخ مع مجيء الإسلام الذي يفترض أن القرآن تنبأ به. لذلك يخضع النص لقراءة غائية، بمعنى أنه يُفهم على أنه وثيقة لتطور إلهي متصور سابقًا. صحيحٌ أن التقاليد الإسلامية أقرّت أيضًا بوجود بُعدٍ تاريخي للنص، واعترفت بأنه ينطوي على مجموعة من الخلافات التي نشبت حول تقاليد دينية بعينها بين المجتمع الوليد وجيرانه المباشرين، سواء كانوا مشركين أو يهود أو مسيحيين. وبرغم ذلك، فإن الاختراق اللاحق للإسلام أدى إلى تحويل هذه التقاليد القديمة إلى نماذج معنى بائدة وغير صالحة للتطبيق. «بالنسبة للمسلمين الأُوَل، [فالقرآن] نسخ… أيّة نصوص دينية عربية ترجع إلى ما قبل الإسلام… وأحال التوراة والإنجيل إلى موقع ذي أهمية هامشية». وتلك التقاليد القديمة التي تضمنت «الشعر والنثر ما قبل الإسلاميين، أصبحت -بدلًا من ذلك- مصادر ومواد ثانوية يعتمد عليها من أجل فهم السياق المعجمي أو النحوي أو التاريخي للنص المهم الوحيد» وهو القرآن[19]. وإحدى أهم نواتج تفضيل القرآن على التقاليد القديمة تتعلق بتقييم الشكل، ففي التفسير الإسلامي يكتسب كلٌّ من الشكل والدالّ قيمةً مساوية للمدلول والمضمون الدلالي. وعودة إلى بيتر هيث مجددًا: «فإن كل كلمة تثير عمليات تفسيرية»، مستفيدًا بــ«قدرة هائلة على استنباط استجابات تأويلية»[20]. وحيث ينظر إلى النص على أنه واحديّ المعنى ولكِنْ ذو دلالات متعددة؛ فلكل كلمة القدرة على جذب أكبر عدد من القراءات التي يمكن للمفسرين تعيينها، وأصبح القرآن بحرًا من المعاني وهي نظرة مستحضرة من الآية القرآنية: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف: 109][21].
كذلك يوجد في التفسير التقليدي اهتمام شبه حصري بالـ(سيرتيوم)، أو (الدلالات) الواردة التي يضمنها الرواة الموثوقون. وربما الامتناع عن أيّ إلزام دوغمائي لدلالة معيّنة يرجع إلى الانفتاح الغريب في مقابل الغموض الذي ادّعى توماس بوير Thomas Bauer بأنه من سمات الثقافة الإسلامية ما قبل الحداثية في حد ذاته[22]. لكن ذلك قد تغيّر في التفسير الإسلامي الحديث؛ إذ يميل المفسرون الحديثون إلى تفضيل تفسير بعينه، وإن كان ذلك مدفوعًا بنية لاستيعاب القرآن في التفكير الحديث. ومع ذلك، فإنّ تحليلًا علميًّا للتبشير القرآني من قبل النبي يظل مبتغًى ضروريًّا.
4. بيئة القرآن المختلف عليها:
كما رأينا، يرفض الباحثون التنقيحيون الغربيون تاريخانية تبشير النبي، متجاهلين بذلك (الخلاف الكائن) بينه ومجتمعه وبين خصومهما المنعكس في القرآن، بدلًا من ذلك ينظرون إلى النص على أنه طِرس لمجموعة من التقاليد الغُفل. وحتى الآن، يقلل التفسير الإسلامي -بنفس القدر- من شأن فرضية (التفاعل المتبادل الكائن). فيعرض القرآن في بيئة أُخرِسَت فيها الأصوات الدينية للمجتمعات المختلفة المتضمنة في الجدل القرآني، حيث ساد بالفعل النموذج الجديد (للإسلام) على أنه هوية المجتمع، وحيث تَمثّل القرآن في المصحف.
في النهاية ورغم ذلك، لم يكن هذا هو الوضع أثناء بعثة النبي. ومن أجلِ شرح كلٍّ من النجاح العفوي المذهل للعقيدة الجديدة، وكذلك تأسيس نموذج معنى جديد وشديد التطور من وجهة نظر العالم الإسلامي -لشرح (الثورة المعرفية) للقرآن-، يتحتم على المرء الرجوع إلى تاريخية الإعلان، أيْ إلى النص الذي لم يُثبَّت في المصحف بعد، والكائن في حالة التبليغ الشفهي. لذلك السبب؛ فالنص القرآني في مشروعنا لا يرتكز على كونه (أرشيفًا) ولكن على أساس كونه (عملية)، عملية قيام النبي ومجتمعه ببناء هوية دينية خاصة بهم من خلال التفاوض على مجموعة تقاليد قديمة، والتي تعدّ -إن صح التعبير عن تنوعها- (تراثًا). ولتحصيل فهم جيد للإنجاز القرآني من المنظور الديني وكذلك من منظور تاريخ العالم الفكري وتاريخ المعرفة، علينا ألّا نتغافل عن «عملية الترجمة الثقافية» الهائلة التي غيّرت التقاليد الكتابية إلى رسالة القرآن.
إنّ البلاغة هي أداة هذه الترجمة الثقافية. وفي القرآن بُعدٌ جدلي وحُكمي جلي، فتتكون الوحدات الفردية للنص بشكل كبير من جدال تتخلله أسئلة وأجوبة وتحذيرات ومراجعات وإقرارات -وجميعها تشير إلى مفاوضات قوية حول الآراء المتداولة. وبالحكم على المظهر الأدبي للقرآن، فإنه يقدّم نفسه على أنه نص معنيّ بجدال مستمر حول المسائل الدينية المتداولة في العصور القديمة المتأخرة.
يستفيد هذا الجدل القرآني من المصادر الفلسفية مثل المصادر الأرسطية. واسمحوا لي أن أذكر مثالًا: حيث يستخدم القرآن فئتين تعودان للفلسفة الأرسطية لتصنيف درجات الشفافية أو الغموض في آيات النص: فآيات القرآن إمّا واضحة وإمّا ملتبسة، محكم Pithanos (باليونانية)، أو متشابه Amphiboles (باليونانية)[23]. ومن المدهش قليلًا بالنسبة إلى نص ذي توجّه معرفي مثل القرآن، أن تكون علاقته بالمنطق أعمق من ذلك أيضًا؛ أقله في نظر مناصر لاحق للقراءة الفلسفية للقرآن، هو أبو حامد محمد الغزالي (المتوفى: 505/ 1111)، حيث النقاشات القرآنية مفعمة بالتراكيب القياسية التي ناقشها بنفسه في أطروحته: القسطاس المستقيم[24].
إنّ بلاغة القرآن ستكون كافية لدحض ما يزعمه بيتر براون Peter Brown -مؤرخ العصور القديمة المتأخرة الشهير في برنستون- عن الثقافة الإسلامية المبكرة على أساس أنها[25]: تطورت (تحت مظلة) الثقافة المسيحية القديمة المتأخرة، وأن المسلمين تقمصوا النماذج المسيحية. سوف أعارض هذا الرأي بشدة، كما أؤكد على أن القرآن لم يكن أبدًا طرفًا سلبيًّا معاصرًا، بل كان أحد أشد المؤثرين الحقيقيين في العصور القديمة المتأخرة. وكما علّق فرانز روزنتال Franz Rosenthal ذات مرة: يجب النظر إلى إنسانية حركتي الترجمة والفلسفة العباسية المبكرة على أنها نتاج للإنسانوية ذات النزعة العلمية للعلوم الدينية المستوحاة من وضعية المعرفة Statues of Knowledge المشهودة في القرآن[26]. ويثير القرآن في موطنه العربي حركة جديدة للتأمل النظري، وأهم من ذلك، يقود إلى تبني الممارسة الثقافية للكتابة على نطاق واسع غير مسبوق[27]. وبالنسبة إلى المركزية الجديدة لكلمة الله التي يقودها القرآن؛ فتضمنها صورة للكتابة الإلهية أتى بها النبي-القرآن.
إنّ اكتشاف الكتابة هو المتسبب في ذلك التحول الثقافي في القرآن، إذ حوَّل العربَ من مجتمع ملتزم بالطقوس الدينية إلى مجتمع يعتمد على الاتساق النصي بتعبير الفيلسوف يان أسمن Jan Assmanـ[28]. ويكمن اكتشاف الكتابة كإشارة إلهية على القدرة في أسس الثقافة الكتابية الإسلامية غير المسبوقة التي ظهرت فور ظهور القرآن.
يبرز القرآن رغم ذلك، أولًا وقبل كل شيء، طرفًا مؤثرًا وخلّاقًا في ثقافة جدال العصور القديمة المتأخرة. أمّا الكتابة -وهي اللغة في الوقت نفسه- وفقًا للقرآن، فقد كانت موجودة في الوجود السابق، أيْ قبل الخلق، ويخضع الخلق بدوره إلى القواعد اللغوية، راجع [سورة الرحمن: 1- 5]. يُعدّ هذا تقدّمًا لاهوتيًّا من شأنه أن يتجاوز الحدود العربية المعنية به. بل يأتي بمثابة تحدٍّ للوغوس المسيحي، حيث يقابل القرآن عقيدة تجسّد الإله في المسيح بأقنوم جديد: بـ (تجسيد) جديد لكلمة الله، تجسد (اللغة) وبناء عليه، المعرفة. يتجلى هذا الفهم في النصوص القرآنية التي تؤسس تشابهًا أساسيًّا: إذ تسمح اللغةُ بالتعبير عن التشابه، بالتخلص من أدواتٍ مورفولوجية مثل صيغة الـمُثنى من أجل التعبير عن تناظرٍ، فيكون الخلقُ هكذا فائقَ الأهمية، وحتى متماثلًا -فاللغة ليست صورة كربونية للخلق، وإنما تمثّل قالبًا ونموذجًا له. وإعطاء هذه الأولوية للمعرفة بدلًا من المادة مجددًا يحمل دلالات أخلاقية؛ إذ يمكن للنظير أن يمتد لأبعد من ذلك، فتماثُل العالم الأصغر لجسد الإنسان يكشف عن حاجة العالم الأكبر للمدينة -ذات الجسد السياسي: البلد- لأن يتوازن هو أيضًا، كما يتبدّى في سورة البلد. فيتوجّب تشكيله ليكون عالمًا متناغمًا ومستنيرًا أخلاقيًّا، حيث تستبدل المثل العليا البطولية الجاهلية المتمحورة حول الإنسان بمبدأ الرحمة. تتم مناقشة هذه الأسس الدينية الجديدة بالإشارة إلى اللغة ومنطقها الداخلي الذي يمكن إثباته في الخلق. ويوجد في القرآن تصور نابض بالحياة عن المدينة المثالية -مدينة الربّ- وهو تخيُّل سابق بكثير على إعادة الصياغة التي أجراها الفارابي على جمهورية أفلاطون.
يرجع الفضل في إتمام هذه الإنجازات المعرفية إلى إعادة قراءة القرآن وإعادة صياغة (الموروثات) المتنوعة، ويُسلَّط الضوء على المعظم -الكتابي- منها بصورة كبيرة في التفسير الإسلامي التقليدي. ويجب إعادة اكتشاف تلك (الموروثات) على أنها التضمين الأصلي للإعلان القرآني، باعتبارها جزءًا من الڤيروم القرآني. وفي رأيي، من الضروري أن يكون الدرس الإسلامي أكثر جرأة. فمن المهم أن تتسع الآفاق التاريخية للهويات الإسلامية بحيث تشمل المشهد الفكري المنبثقة منه الثقافات الثلاث سواسية[29]. كما يتوجّب على الدراسات الغربية في المقابل أن تكون أشد حذرًا؛ فيجب ألّا تُستدرج إلى المغالطة التاريخية القائلة باختزال القرآن إلى مجرد إعادة هيكلة ما بعد معتمدة للكتاب المقدس -وذلك الافتراض يتجاهل الحدث القرآني الفريد المتمثّل في نزوله وحيًا والإعلان عنه، أو في حالة إقراره بالمهمة النبوية فإنه سيختزلها إلى مجرد نشاط إصلاحي. إنّ هذا الاستبعاد المتزمّت لسيرتوم التقليد الإسلامي، والذي يمثل أهم الشهود على بعد القرآن كلمة حيّة، إنما هو تحريف خطير علينا التيقظ لمواجهته. فالنص القرآني يجب تعريفه على أنه خطاب دينيّ مبتكر، وإجابة جديدة وثورية على أسئلة الإيمان التوحيدي التي أُثيرت في العصور القديمة المتأخرة. والتراث المشترك بين اليهودية والمسيحية والإسلام -وإن تم تعديله أو تصحيحه أو حتى نَسْخه في القرآن- يشهد على وجود الأرض المشتركة التي نقف عليها؛ والحقيقة أنّ التقاليد الثلاثة لفهم الكتاب المقدس -والتي لكل منها قيمة ثمينة في حد ذاتها- تنبثق جميعًا عن فضاء معرفي واحد. لماذا إذن نتسامح مع الاستقطاب؟ لماذا لا نتفاخر بتراث مشترك عظيم؟
5. مثال: سورة البلد:
تبدأ سورة البلد (90)، بمجموعة من الأقسام؛ أوّلها: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}، وتستحضر المكانة المرموقة لمكّة بصفتها مستوطنة حضرية -وضمنيًّا بصفتها مكانًا مقدسًا- كما أن مكّة وهي مسقط رأس المخاطَب، قُدّمت له كملجأ قبل ذلك. والقسَم الثاني: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} باعتباره ركيزة الحياة الاجتماعية [الآيات: 1- 3]. وهاهنا نتعرض على الأقل إلى بيانَين دلاليّين: البلد المقدسة والطبوغرافية من ناحية، والوالد- الولد الفسيولوجي والاجتماعي من الناحية الأخرى.
بالتالي، فإنّ مجموعة الأقسام التي تنظر إلى التناسل والقداسة في سياق واحد، تقترح مقدمة تشدد خصيصًا على البيان الناتج والمدهش كونه سلبيًّا؛ إذ يزعم بأنّ الإنسان، برغم جدارته في بناء مستوطنة منظمة هي البلد: Polis، فإنه خُلق على أساس أنه كائن ناقص، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]. ويُشرح تعبير (خُلِق في كَبَد) غير المحدد، في الآيات التالية: حيث لم يزل الإنسان ملتزمًا بالنظام الأخلاقي الوثني، الذي يظهر في موقفه تجاه ممتلكاته المادية التي يضيعها بالإسراف المتباهي: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد: 6] -وهذه الآية شبه اقتباس لبيت من الشعر الجاهلي لعنترة في قوله: «فإذا شربتُ فإنني مستهلِكٌ مالي...». ويعدّ الإسراف والجود بالنسبة إلى النموذج العربي الوثني فضيلة تجلب الشهرة والسمعة البطولية، ولكنها مذكورة في السورة على أنها من الرذائل. والتوبيخ القرآني: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 7]، يكشف عن الدونية المعرفية للشخص المتباهي، إذ لم يدرك أنه خاضع لقانون الحساب الأخروي.
مقابل هذه الصورة الوثنية المكتفية ذاتيًّا -بيد أنها جاهلية في آخر الأمر- تخرج صورة جديدة للإنسان: الإنسان المنعّم بملكات معيّنة، فيرى بمعنى أن يتبين، ويتكلم بمعنى أن يفهم: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}؟ [البلد: 8، 9]. هذه الأجهزة الفسيولوجية التي تشير إلى البيان الفسيولوجي للقسَم الثاني: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}، تحمّله مسؤولية تصرفاته. لكن أجهزته الفسيولوجية هذه تتطلب التزامًا أخلاقيًّا وتعكس أيضًا انسجام الخلق الإلهي؛ فقد خُلق الإنسان بصورة متوازنة، حيث له عينان وشفتان، حيث كل منهما في أزواج. وهذا الهيكل الإنساني الذي يمكن إثباته تجريبيًّا باعتبار الإنسان عالَمًا مصغّرًا، يجب تطبيقه إذن على البلد الذي يمثّل العالم الكبير، وبالتالي يجب أيضًا تطبيق الجهاز المورفولوجي الثنائي من أجل بناء البلد سائرة في طريقين: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
و(العقبة) [11، 12]: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} التي تعيد الاتصال مع البيان الطبوغرافي المفتتح في أول قسَم: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} -تطرح لغزًا عند النظرة الأولى. ورغم أنّ {النَّجْدَيْنِ} تبدو عند أول وهلة وكأنها تشير إلى طبوغرافيا مكة، مسقط رأس المخاطَب، إلا أن استحضار التوبوس (الرمز) الكتابي (للطريقين) كمقابل أخلاقي هو أمر يصعب إغفاله. وقد تم حل الالتباس الكائن حول العقبة وفقًا لهذه الآيات الحاسمة: فاختيار الطريق الصعب، عن طريق الفعل الثلاثي المتمثِّل في تحرير العبيد وإطعام الجوعى وتوفير الرعاية للفقراء، يعدّ مسعًى أخلاقيًّا: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 13- 16].
وعلى كل حال، فليست أفعالُ الإحسان الثلاثة هذه جديدةً، بل إنها تعكس نصًّا -بشكل ما- مقتبسًا عن الكتاب المقدس العبري: [إشعياء 58: 6- 7]: «أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُود الشَّرِّ. فَكّ عُقَد النِّيرِ، وإِطْلاق الْمَسْحُوقِين أَحْرَارًا، وَقَطْع كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ…».
لقد أعيدت صياغة الأفعال الثلاثة التي طالب بها إشعياء في العصور القديمة المتأخرة في إطار أخروي وكذلك في إطار كريستولوجي في إنجيل متّى (25: 34) وما يليه. ففي يوم الحساب، سيُبارك المسيح الناس (الذين عن يمينه) لتأديتهم أعمال الإحسان الثلاثة قائلًا: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي... لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ».
وسيحكم على (الذين عن اليسار) بنار الجحيم لفشلهم في تأدية أعمال الإحسان. ويبدو أن الإشارة القرآنية لــ{أَصْحَاب الْمَيْمَنَة} و{أَصْحَاب الْمَشْأَمَة} [الواقعة: 8، 9] تمثل صدًى لمشهد إنجيل متّى. ورغم ذلك لا يوجد أّي أثر لتبرير الإحسان بربطه بيسوع المسيح. وقد أخذت حجة السورة مسلكًا مختلفًا تمامًا، وبالفعل حلّ القانونُ الكتابي للقيم، والمنصوصُ عليه بصورة أخروية في الإنجيل مكانَ النظام السلوكي العربي الوثني في القرآن.
لقد تسببت سلطة التقليد الكتابي في إضعاف المُثُل الوثنية التي ورثتها تقاليد الأجداد. ولكن، الأهمّ من ذلك هو البُعد الديالكتيكي الذي ينطوي عليه الأمر، فمن الواضح أنّ النصَّ الكريستولوجي الماورائي الذي فُرِض على إشعياء، استُبدِل به نموذج جديد للمعنى: هو الانسجام الخلقي الذي يعكس الانسجام اللغوي. فقانون التناغم والتوازن الأصيل في اللغة، والإبداع في حد ذاته، يكفي لجعل الإحسان والمسؤولية الجماعية أمورًا إلزامية. والقرآن يَستبدل بالولاء الأسطوري الدليلَ المعرفي.
[1] هذه المادة هي ترجمة لـ:
Locating the Qur’an in the Epistemic Space of Late Antiquity
المنشورة في:
Ankara Üniversitesi İlahiyat Fakültesi Dergisi 54:2 (2013).
وهي نسخة مراجعة من محاضرة ألقتها الكاتبة في جامعة أنقرة في أكتوبر 2013، وقد تم تعديل العنوان ليكون أكثر قدرة على إيضاح مضمون المادة، (قسم الترجمات).
[3] انظر:
Ulrich von Wilamowitz-Moellendorff, Zukunftsphilologie!: Eine Erwidrung auf Friedrich Nietzsches “Geburt der Tragödie (Berlin: Borntraeger,1872).
[4] انظر:
Friedrich Nietzsche, Die Geburt der Tragödie aus dem Geiste der Musik (Leipzig: E. W. Fritzsch, 1972). For the controversy, see Karlfried Gründer, Der Streit um Nietzsches “Geburt der Tragödie”: Die Schriften von E. Rohde, R. Wagner, U. v. Wilamowitz-Möllendorff (Hildesheim: G. Olms, 1969); Joachim
Latacz, Fruchtbares Ärgernis: Nietzsches ‚Geburt der Tragödie’ und die gräzistische
Tragödienforschung (=Basler Universitätsreden; 94. Heft) (Basel: Helbing und Lichtenhahn, 1998).
[5] انظر:
Sheldon Pollock, “Future Philology? The Fate of a Soft Science in a Hard World,” Critical Inquiry 33 (2009), pp.931-961.
[6] انظر:
Gershom Scholem (1897-1982), “Überlegungen zur Wissenschaft des Judentums,” in Judaica 6: Die Wissenschaft vom Judentum (Frankfurt: Suhrkamp Verlag, 1997), pp.7-52.
فقد ناقش بيتر شيفر حُكم «نباشو قبور اليهودية» الذي يقصد منه ليوپولد زونز Leopold Zunz ـ(1794-1886) ومورتيز شتاينشنايدر Moritz Steinschneider (1816- 1907) (ص22) في خاتمته لكتاب Judaica لغرشوم شوليم Gershom Scholem ـ(6، ص96).
[7] إبراهام جيجر (1810- 1874) هو مستشرق ألماني وحبر يهودي، وصاحب أهمية كبيرة في تاريخ الإصلاح اليهودي، حيث يُعتبر رائد الإصلاحية اليهودية في العصر الحديث، وتمحورت دراساته حول فقه اللغات الكلاسيكية العبرية والسيريانية، وحول العهد القديم. طالما آمن جيجر بالمركزية اليهودية في الأديان الكتابية وبمدى تأثير الكتاب المقدس على المسيحية والإسلام، وربما أشهر كتبه في هذا: «ماذا أخذ محمد من اليهودية». (قسم الترجمات).
[8] يوسف هوروفيتس Josef Horovitz، ـ(1874- 1932) مستشرق ألماني، درس في جامعة برلين، وعيّن فيها أستاذًا عام 1902، ثم عين أستاذًا للغات السامية بجامعة فرانكفورت عام 1914، وهذا حتى وفاته.
اهتماماته الرئيسة تدور حول المغازي والتاريخ الإسلامي، حقّق بعض الكتب، أهمها «المغازي» للواقدي، وكانت رسالته للدكتوراه حولها، من كتبه الشهيرة:(Das koranische Paradies)، «الجنة في القرآن» وهو كتاب صغير فيه اشتغال فيلولوجي على معجم الجنة في القرآن، ترجمه للعربية: محسن الدمرداش، وصدر عن منشورات الجمل، بغداد، بيروت، 2016. (قسم الترجمات).
[9] راجع دراسات تيودور نولدكه (1836- 1930) ويوسف هوروفتس على وجه الخصوص.
[10] انظر:
Maurice Olender, Les langues du Paradis, Aryens et Sémites: un couple providential (Paris: Gallimard, 1989).
لقد لفَت أوليندر انتباهنا مجددًا إلى المفهوم القديم للكتاب المقدس كونه يعتمد حصرًا على القراءة المسيحية لفهمه فهمًا كاملًا. وبرغم أن هذا الحد بعينه قد تم تجاوزه في الآونة الأخيرة، إلا أنه قد تم الإبقاء على البُعد الحصري للحقيقة الكتابية وهو ما يجرم على المسلمين الآن.
[11] انظر:
Peter Heath, “Creative Hermeneutics: A Comparative Analysis of Three Islamic Approaches,” Arabica 36 (1989), pp.173-210, p.189
[12] انظر:
Angelika Neuwirth’s review “The Qur’ān and its Biblical Subtext by Gabriel S. Reynolds, New York, 2010,” Journal of Qur’anic Studies 14:1 (2012), pp.131-138
[13]كنا قد نشرنا ملفًّا حول الاتجاه التنقيحي، ضم عددًا من الدراسات والمقالات التي تقدم رؤية حول هذا الاتجاه ونشأته ومناهجه وأثره في حقل الاستشراق المعاصر، يمكن مطالعته على قسم الاستشراق بموقع تفسير. (قسم الترجمات).
[14] انظر: Sheldon Pollock, “Future Philology?” pp.931- 961.
[15] يرجع هذا التمييز إلى Scienza Nuova ـ(1725) لصاحبه جيامباتيستا فيكو.
[16] لا يزال هذا النهج منعكسًا على أغلب مقالات موسوعة القرآن، تحرير: جين د. ماكوليف Jane D.McAuliffe (ليدن: بريل، 2000- 2006).
[17] لقد كان الادّعاء القائل بوجود «هوس بالنص الأصلي Urtext» حكمًا مستخدمًا على نحو متكرر، مثال؛ راجع: أندرو ريبين:
Andrew Rippin, “Muḥammad in the Qur ān: Reading Scripture in the 21st Century,” in Harald Motzki (ed.), The Biography of Muḥammad: The Issue of the Sources (Leiden: Brill, 2000), pp.298-30.
[18] انظر:
Gabriel S. Reynolds’ introduction to his The Qur ān and its Biblical Subtext (New York: Routledge, 2010), pp.3-30.
[19] انظر: Heath, “Creative Hermeneutics,” pp.177-178.
[20] انظر: Heath, “Creative Hermeneutics,” pp.178-179.
[21] كلمات الله تعالى التي وردت الإشارةُ لكثرتها وعدم تناهيها في الآية، منها القرآن الكريم، ولكنها لا تنحصر في ذلك، بل تشمل القرآن وغيره؛ ككلام الله للملائكة، وبالتالي فرَبْط الكاتبة بين كثرة كلمات الله وكثرة معاني القرآن فيه لا يوافق مقصود الآية. (قسم الترجمات).
[22] انظر:
Thomas Bauer, Die Kultur der Ambiguität: Eine andere Geschichte des Islams (Berlin: Verlag der Weltreligionen, 2011).
[23] للاطلاع على التضمينات اللاهوتية لهذه الثنائية راجع:
Angelika Neuwirth, Der Koran als Text der Spätantike: Ein europäischer Zugang (Berlin: Verlag der Weltreligionen,2010), pp.528-532.
[24] انظر:
Angelika Kleinknecht, “Al-Qisṭās al-Mustaqīm: Eine Ableitung der Logik aus dem Koran”, in Samuel Miklos Stern et al., Islamic Philosophy and the Classical Tradition: Essays Presented by His Friends and Pupils to Richard Walzer on His Seventieth Birthday (Columbia: University of South Carolina Press, 1972), pp.159-187
[26] انظر:
Franz Rosenthal, Knowledge Triumphant: The Concept of Knowledge in Medieval Islam (Leiden: Brill, 1970).
[27] انظر:
Neuwirth, “The Discovery of Writing in the Qur’ān: Tracing an Epistemic Revolution in Late Antiquity,” in Nuha al-Shaar (ed.), Qur’ān and Adab (Oxford, forthcoming).
[28] انظر:
Jan Assmann, Das kulturelle Gedächtnis: Schrift, Erinnerung und politische Identität in frühen Hochkulturen (München: C. H. Beck, 1997).
[29] علينا هنا أن نذكر سمير قصير -رغم عدم اهتمامه بالقرآن- باعتباره مدافعًا عن قراءة جديدة للتاريخ ما قبل الإسلامي، راجع كتابه: تأملات في شقاء العرب: بيروت- دار النهار، 2005.