الاستشراق والدراسات القرآنية (2-2)

تناول الجزءُ الأول من هذا الحوار نشأةَ حقل الاستشراق ودوافعه، وأهم المناهج ضمن بنائه النظري، كما ألقى الضوء على التقليد الألماني كتقليد خاصّ ضمن هذا الحقل خصوصًا في دراسة القرآن، وفي هذا الجزء الثاني والأخير من هذا الحوار تلقي الدكتورة/ رغداء زيدان الضوءَ على أحد أهم الكتب حول القرآن ضمن التقليد الألماني وضمن حقل الاستشراق بعامة، وهو كتاب (تاريخ القرآن) لنولدكه، كما تتناول قضية التلقي العربي للنتاج الغربي حول القرآن، وإمكان الاستفادة والمثاقفة معه، وسبل اصطناع علاقة قويمة مع هذا النتاج.

مقدمة:

  بعد أن تناولنا في الجزء الأول من هذا الحوار حقل الاستشراق، والتحديد العلمي الدقيق له، ومناهج مقاربته، والبناء المنهجي له خصوصًا في دراسة القرآن، وكذلك التقليد الألماني كأحد أهم التقاليد ضمن الدراسات الغربيّة للقرآن[1]، ينتقل الحديث في هذا الجزء الثاني والأخير إلى تناول أحد أهم النتاجات الغربيّة حول القرآن، وهو كتاب «تاريخ القرآن» للمستشرق الألماني نولدكه، حيث يدور الحديث مع الدكتورة/ رغداء زيدان في هذا المحور حول أهمية هذا الكتاب ضمن الدرس الاستشراقي، ومدى تأثيره ومرجعيته ضمن هذه الدراسات الغربية للقرآن منذ صدوره وإلى الآن، ثم يدور الحديث في المحور الأخير من هذا الحوار؛ الاستشراق والدرس العربي المعاصر، حول طبيعة التلقي العربي للنتاج الغربي حول القرآن، وإشكالات هذا التلقي وإمكانات المثاقفة والاستفادة، والعلاقة القويمة المفترض اصطناعها مع هذا النتاج.

نصّ الحوار

المحور الثالث: كتاب تاريخ القرآن لنولدكه:

س1: لكم اهتمام خاصّ بكتاب نولدكه «تاريخ القرآن»، فقد كانت رسالتكم للدكتوراه حوله؛ فنريد أولًا أن نسألكم عن سبب توجهكم لهذا الكتاب تحديدًا بالدراسة على صعوبته المعروفة لدى الباحثين؟

د/ رغداء زيدان:

لم أهتم بالردّ على ما جاء في كتاب نولدكه، بل انصبّ اهتمامي على دراسة منهجه الذي اتّبعه في ذلك الكتاب؛ وذلك لأنّ كثيرًا من الباحثين يعدّون تيودور نولدكه شيخ المستشرقين الألمان، وقد أسّس في كتابه: «تاريخ القرآن» مدرسة استشراقية أصبحت عمدةً ومنطلقًا للدراسات القرآنية في أوروبا، وعلى هذا فهو يؤسّس -بما قدّمه من آراء وتقريرات فيها كثير من التجاوزات والأخطاء- عمدةً لكثير من الدراسات الأخرى التالية عن القرآن الكريم.

كما أنّ كثيرًا من الباحثين العرب عدُّوا منهج نولدكه مثالًا يُحتذى، وراحوا «يبشِّرون» بمنهج وافٍ لدراسة النصّ القرآني، يعتمد على أدوات نولدكه البحثية، وراحوا يعملون وفقها ليلبسوا بحوثهم لباسًا علميًّا برّاقًا يعتمد على سمعة نولدكه وشهرته التي نالها، هذه الشهرة التي جعلت كثيرًا من أصحاب «النوايا الحسنة» يعدّونه مُنْصِفًا وصديقًا للإسلام ومعجَبًا بنبيّه ولغته العربية.

وحقيقة ليس الاهتمام بدراسة منهج نولدكه في «تاريخ القرآن» نابعًا فقط من كونه عمدة في الدراسات القرآنية الاستشراقية، بل هو أيضًا مثال نموذجي لمناهج المستشرقين في دراساتهم الإسلامية والقرآنية، وكذلك للمنهج الغربي في البحث العلمي الذي يعدّه الباحثون قدوةً ومثالًا للدراسة، ولهذا فإنّ بيان قصور منهج نولدكه البحثي سيؤسّس لتطوير منهج بحثي خاصّ بالدراسات القرآنية، يقوم على أسس صحيحة بعيدة عن التقريرات المسبقة، التي تتناول القرآن على أنه نصّ بشري يمكن البحث عن أصوله التاريخية.

كما أن لنقد منهج نولدكه ضرورة علمية وأخلاقية كذلك، فإذا كانت ضرورته العلمية تتمثّل في كونه أساسًا لمناهج الدراسات القرآنية رغم كلّ أخطائه وقصوره، فإنّ ضرورته الأخلاقية تتمثّل في عدم سكوتنا كباحثين منصفين -قبل أن نكون مسلمين مؤمنين- على الأخطاء المنهجية التي ارتكبها نولدكه، التي عميتْ عنها أو تعامتْ عنها أبصارُ وأفهامُ الباحثين، الذين راحوا يمجّدون ذلك المنهج، ويدبجون له المدائح دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء النظر في مطابقته لأبسط قواعد المنهج العلمي الموضوعي؛ لذلك كان من المهم بيان فساد هذا المنهج وعدم نزاهته، وبالتالي بُعده عن العلمية والموضوعية.

س2: كتاب نولدكه تأخرت ترجمته لفترة طويلة، بالإضافة لما ذكرنا من صعوبة اللغة وصعوبة المنهج الفيلولوجي؛ فهل هناك أسباب أخرى أدّت إلى تأخّر ترجمة هذا الكتاب؟ وما تقييمكم لما صدر من ترجمات عربية له؟

د/ رغداء زيدان:

ربما يكون من أسباب تأخّر ترجمة الكتاب -بالإضافة لِما ذُكر- عدم وجود جهة تتبنى إخراج تلك الترجمة وتحمُّل تكلفتها، وذُكر أن الشيخ أمين الخولي كان قد عزم على ترجمة الكتاب إلى العربية منذ الستينيات من القرن العشرين، وبعضهم قال إن ترجمة جزئه الأول كانت مكتملة إلّا أن الشيخ الخولي تردّد في نشر الكتاب خوفًا من الاعتراضات عليه، ولم يكمل العمل على ترجمة باقي الكتاب. أو كما تعلمون فإنّ الطبعة الأولى من الكتاب ظهرت سنة 2004م، والثانية سنة 2007م، بترجمة جورج تامر بالتعاون مع عبلة معلوف وخير الدين عبد الهادي ونقولا أبو مراد، ودعمت نشره مؤسسة كونراد أدناور الألمانية كنوع من أنواع دعم الحوار بين الثقافات، ووصف رئيسها الكتاب بأنه «مثَل بارز من أمثلة التعاون العلمي الألماني»، وعندما نُشر الكتاب في لبنان أولًا تم منعه بطلب من المراجع الدينية لاحتوائه على مغالطات بحقّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والقرآن، ثم انتشر منعه في باقي البلدان العربية، والجدير بالذِّكر أن الدكتور محمد رضا الدقيقي الذي قدّم دراسة مهمّة عن الكتاب[2] اضطر للترجمة لعدم وجود ترجمة منشورة للكتاب أثناء إعداد بحثه، لكنه ترجم قسمًا منه، وذكر عند نشر بحثه سنة 2008 أنه لم يتمكن من الاطلاع على ترجمة تامر بسبب المنع.

وعمومًا فالترجمة الموجودة لتامر اليوم ترجمة جيدة، وفيها جهد واضح، وكذلك فإن عمل الدكتور الدقيقي يستحقّ التقدير والاهتمام أيضًا.

س3: كثير من الباحثين في الاستشراق يعطون لهذا الكتاب أهميةً خاصّةً بين كتب الاستشراق المشتغل بالقرآن، ويعدّونه الكتاب العمدة في هذا الباب، وأنتم لكم اشتغال معمّق بالكتاب ومرتكزاته وقضاياه الرئيسة؛ فهل تشاركونهم هذا الاحتفاء بالكتاب؟ أو بمعنى آخر: ما هو الموقع من الأهمية الذي تعطونه لكتاب نولدكه؟

د/ رغداء زيدان:

كتاب نولدكه مهمّ بالطبع، لكن أهميته عندي تنبع من كونه يقدّم مثالًا حيًّا على دراسات المستشرقين للقرآن، كما أنه يساعد على تتبع الأثر الاستشراقي النولدكي في دراسات الباحثين الغربيين وكذلك العرب والمسلمين عن القرآن الكريم، فغولدتسيهر يصف نولدكه بـقوله: «زعيمنا الكبير»، ووصف كتابه «تاريخ القرآن» بأنه «أصيل بكر»، (انظر: التفسير الإسلامي لغولدتسهير، ترجمة: عبد الحليم النجار)، وكان يستشهد به، ويعدّه من مراجعه المعتمدة الموثوقة. وكذلك وصف رودي بارت هذا الكتاب بأنه أساس في هذا الفرع العلمي، وكان يقول: إنّ «على من يريد الاشتغال علميًّا بالقرآن على أيّ نحوٍ أن يعتمد على كتاب نولدكه: تاريخ القرآن» (بارت/ الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة: مصطفى ماهر). وعندما صدرت الطبعة الأولى من الترجمة العربية لكتاب نولدكه «تاريخ القرآن» جاء في التقديم: «نضع في تصرف القارئ العربي كتاب تاريخ القرآن، وهو أهم وأوسع ما صدر في القرن العشرين من كتب باللغة الألمانية، تتناول القرآن الكريم بأسْرِه بالبحث» (المقدمة بقلم جورج تامر). وقد اعتمدت المقالات الأساسية عن القرآن الكريم في دائرة المعارف البريطانية، ودائرة المعارف الإسلامية، ودائرة معارف بوردا الفرنسية على التعريف بالقرآن وفقًا لمنهج نولدكه الساعي إلى البحث عمّا يسمى بمصادر القرآن، وهو هدف استشراقي يسعى إلى وضع تاريخٍ للقرآن، كما تم وضع تاريخ للتوراة، ولبقية أسفار العهد القديم. فالكتاب حاز شهرة كبيرة، وأسّس لمدرسة علمية خاصّة في علم الاستشراق، فيما يخصّ دراسة القرآن، وقد أثنى عليه الباحثون العرب تأثرًا بهذا الإعجاب الذي لاقاه الكتاب من المستشرقين الغربيين، وراحوا يكيلون له المديح، رغم أن صلة معظمهم به كانت عن طريق دراسات المستعربين باللغتين الإنكليزية والفرنسية، حيث كانوا ينقلون عن المستشرقين دون رجوعهم إلى الكتاب بأصله الألماني.

س4: تعرض كتاب «تاريخ القرآن» لنولدكه لعملية تنقيح واسعة؛ فلو تطلعوننا عليها إجمالًا، وكذلك المرتكزات الرئيسة الفكرية والمنهجية للكتاب، وهل برأيكم هذه المرتكزات ما زالت حاضرة على ساحة الدرس الغربي للقرآن، أم بعضها قد خضع لمراجعة فكرية ومنهجية؟

د/ رغداء زيدان:

كتاب «تاريخ القرآن» أصله بحثٌ نال به نولدكه الدكتوراه، وكان عنوانه: «حول نشوء وتركيب السور القرآنية»، ثم أجرى عليه تعديلًا وتنقيحًا، ونشر ترجمة ألمانية للدراسة المنقحة تحت عنوان: «تاريخ القرآن»، وعندما طلب من نولدكه إصدار طبعة ثانية من الكتاب اقترح على تلميذه شفاللي القيام بمراجعة العمل ونشره من جديد، وقرّر شفاللي القيام بتعديلات جذرية على الكتاب وأضاف مقاطع كبيرة عليه، كما اشتغل على قسم ثان من الكتاب، وشرع في القسم الثالث الذي اعتنى بمسودته أوغست فيشر، ثم تولى برجشتراسر إنجاز جزأين من القسم الثالث من الكتاب، ليتولى تلميذه أوتو بريتسل إكمال العمل بعد وفاة برجشتراسر، وخرج الجزء الأخير من القسم الثالث للكتاب للنور سنة 1938م، أيْ: بعد وفاة نولدكه بثماني سنوات.

كان القسم الأول من الكتاب عن «أصل القرآن الكريم»، وقد عالجه شفاللي فترك بعض أبحاثه على ما كانت عليه، وعدّل بعضها. أمّا القسم الثاني فكان عن «جمع القرآن»، وقد أصلح فيه شفاللي إصلاحًا شاملًا، وأضاف إليه تعليقًا تاريخيًّا وثائقيًّا عن المصادر الإسلامية والبحث المسيحي الحديث، وتركه كمسودة، قام فيشر بإضافة بعض التصحيحات عليها ثم طبعها. وبالنسبة للقسم الثالث الذي يتحدّث عن «تاريخ النصّ القرآني»، فقد عمل كلّ من برجشتراسر وبريتسل على إصلاح نصّ نولدكه إصلاحًا شاملًا، وأضافا ثماني لوحات لمخطوطات قرآنية.

قام الكتاب على مرتكزات أساسية في معالجته، فقد اعتمد المنهج الفيلولوجي، الذي يبحث عن أصل الألفاظ، ودون اهتمام بنسقها أو بنية النصّ أو قوامه، وكذلك استخدم المنهج التاريخي الذي حاول من خلاله البحث عما أسماه مصادر القرآن، والتي أرجعها إلى التأثير اليهودي، كما استخدم منهج نقد الكتاب المقدّس في تعامله مع القرآن للبحث في ظروف تدوينه وجمعه.

درس نولدكه وشفاللي أصل القرآن عن طريق اهتمامهما بنبوّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وطرائق تلقّيه الوحي، وبدايات رسالته، كما تحدثا عن أمّية النبيّ والوسائل التي كُتب فيها القرآن، وفي البحث حول جمعِ القرآن تم التعامل مع الوحي حفظًا وتدوينًا، وتم بحث مسألة جمع القرآن أيام عثمان، في إبراز لشكوك كثيرة حول عديد من التفاصيل؛ مع الإطالة في المقارنة بين آيات القرآن وأحداث السيرة.

وفي البحث عن تاريخ نصّ القرآن، تم الاشتغال على القراءات القرآنية في محاولة لإثبات أنّ النصَّ الحاليَّ من القرآن إنما هو نصٌّ مشدَّبٌ ومجموعٌ من عشرات النصوص الأخرى.

ومن الأمور المعرفية التي قدّمها الكتابُ تصنيفَه للمراحل الثلاث للسُّوَر المكيّة، كما قدّم ترتيبًا للسُور القرآنية اعتمادًا على الموضوعات وليس استنادًا لأسباب النزول المعروفة.

بعض هذه المرتكزات التي قامت عليها دراسة نولدكه ما زالت حاضرة، خاصّة ما يتعلق ببشرية القرآن والبحث في تاريخيته، وبعضها تَراجع لصالح مرتكزات أخرى كالبحث الفيلولوجي لألفاظ القرآن، الذي تَراجع لصالح التعامل مع القرآن كنصّ شعائري متلوّ.

س5: لا شك أن اشتغالكم على هذا الكتاب كوَّن لديكم تصورًا عن المساحات الخاصّة التي تحتاج لاشتغال بحثيّ حولها من قِبَل الدارسين العرب والمسلمين، سواء في الكتاب نفسه أو فيما يتعلّق بالاستشراق الألماني في العموم؛ لذا نودّ لو تلقون لنا الضوء على أهم هذه المساحات التي تحتاج لاشتغال من الباحثين في ظنكم؟

د/ رغداء زيدان:

برأيي أنّ أهم المساحات اليوم التي تحتاج لاشتغال هي العمل على تطوير مناهج بحث تهتم بالدراسات القرآنية، فالضرورة تدفعنا لوضع أسس وقواعد لتوليد مناهج بحثية في الدراسات القرآنية، تكون قادرة على تحقيق الغاية منها، وهي الوصول إلى نتائج موضوعية صحيحة حول القرآن الكريم، أمّا لماذا نحتاج لمثل هذه المناهج فلأنّ:

1- القرآن كتاب للعالمين يصلح لكلّ زمان ومكان، وكان على مرّ العصور الأساس المولِّد لكثير من العلوم؛ فمنه استنبط العلماء علم الفقه وأصوله، وعلم الكلام وعلوم اللغة وعلم الأخلاق والتصوّف والزهد والمعاملات والنظم الاجتماعية والسياسية...إلخ، ومع ما أصاب المسلمين من ضعف وخَوَر وخمول خلال العقود الماضية، تبرز الحاجة الماسة لتطوير مناهج البحث في الدراسات القرآنية لتستطيع مواكبة تلك المتغيرات واحتوائها، وتقديم الحلول لمشكلات كثيرة تعصف في المجتمع العربي والإسلامي وبنيته خاصة وبالعالم عامة، فالعلوم الإسلامية ليست نتاج مفكّر أو فيلسوف تأمَّل ما حوله ثم دوّن تجربته واستنتاجاته، بل هي وليدة مهمّة أساسية كلّف اللهُ بها عباده المؤمنين، وبيّنها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهي عبادة الله تعالى، وعمارة الأرض التي استخلف الله فيها الإنسان، وتبليغ رسالة العدل والإحسان والخير للعالم كلّه.

2- ضرورة تخليص تراث الإسلام من النظرة الاستشراقية التجزيئية، التي اشتغلت بمضامين النصّ، وشرّحته شرائح متعدّدة ومتباينة منفصلة، فرّغته من محتواه ومدلولاته، وعملت على تجزئته وتذريته، وتجاهلت جهود العلماء السابقين الذين قدّموا مناهج مهمّة وأساسية وبنائية في دراسة القرآن وعلومه. وبدل أن يستوعب الباحثون العرب والمسلمون نتاج سابقيهم من علماء الإسلام، لاستخلاص الآليات والوسائل التي تساعدهم على فهمٍ تكاملي للتراث العلمي الإسلامي، يمكّنهم من متابعة البحث وتطويره وتوليد العلوم اللازمة المحققة لمقاصد الشريعة، المعبّرة عن ثقافتنا وخصائصنا؛ راحوا يقلدون، ويجترّون ما يقدمه المستشرقون من مباحث انتخبوها، منفصلة عن سياقها؛ لتحقيق أهدافهم الاستشراقية من جهة، أو تلك المتوافقة بشكلٍ أو بآخر مع منظومتهم الفكرية ومرجعياتهم الإدراكية من جهة أخرى. وهو ما أدّى إلى اضمحلال علوم وتوقُّف أخرى كان من الممكن أن تقدّم للبشرية خيرًا كثيرًا.

المحور الرابع: الاستشراق والدرس العربي المعاصر:

س6: دومًا ما نرى فجوة بين الدرس العربي المعاصر للقرآن وعلومه والدرس الاستشراقي، حتى يغيب أحيانًا عن الدرس العربي مجرد الوعي بهذا الدرس ومرتكزاته الفكرية والمنهجية؛ كيف تشخّصون هذا الإشكال وسبب هذه الفجوة؟

د/ رغداء زيدان:

أظنّ أن سبب ذلك يعود إلى حالة الانبهار المعرفي والاستلاب الفكري الذي نعاني منه كشعوب ضعيفة مقابل التفوّق الغربي بعلومه ومناهجه ومنتجاته؛ ولهذا نرى كثيرًا من المفكرين اليوم يتأثرون بالدرس الاستشراقي ويتبنون مخرجاته دون تمحيص أو نظر أو وعي لمرتكزاته الفكرية والمنهجية، فمثلًا كان من تجلّيات مدرسة نولدكه في العالم العربي والإسلامي مدرسة (الأمناء)، التي أنشأها أمين الخولي سنة 1943م. وحاول الخولي من خلالها إيجاد منهج جديد في تحليل النصّ القرآني، فجعل المستوى الفني في النصّ القرآني المقصد الأول في الدرس، ودعا إلى اعتماد المنهج الأدبي في تفسير القرآن، والنظر إلى القرآن من حيث هو كتاب العربية الأكبر، وأثرها الأدبي الأعظم. وكان يرى أن دراسة النصّ القرآني ينبغي أن تتناول الظروف العامة التي أحاطت بالنصّ، مع تحليل النصّ بالنظر إلى مفرداته وتتبع أصولها ومعانيها في العصر الذي نزل فيه القرآن، والقيام باستقراء تلك المعاني، بمختلف استعمالاتها في القرآن. واقترح تفسير القرآن تفسيرًا موضوعيًّا جديدًا، لا يعتمد على تفسير السور والأجزاء، وكلّ هذا يمكن عَدُّه تطبيقًا لطريقة نولدكه في تتبع أصل المفردات القرآنية والبحث في الظروف التاريخية والبيئية المحيطة. ويظهر تأثّر الخولي بمدرسة نولدكه التي اهتمت باللفظ والترتيب الزمني للقرآن. فإذا كان نولدكه يهدف من عمله بيان مصادر القرآن، كما زعم؛ فإن الخولي أعلن أنه يهدف إلى فهم تفسير القرآن، وبيان إعجازه، وتلمُّس الجمال الفني والأدبي فيه. ومع ذلك فإنه وضع قواعد لم يستطع هو نفسه الالتزام والإحاطة بها؛ لذلك لم يترك نتاجًا تفسيرًا علميًّا شاملًا لنظريته في قراءة النصّ القرآني، وكلّ ما تركه من دراسات قليلة أظهرت الفارق بين الواقع الذي قدّمه والمثال الذي دعا إليه.

س7: تُمَثِّل استفادة الباحث المسلم من الدرس الاستشراقي خاصّة حول القرآن وعلومه إحدى الإشكاليات، ويقع الباحث العربي بين معضلتين؛ إمّا الارتهان الكامل لهذا الدرس ومرتكزاته من جهة، وإمّا الاستبعاد لإمكان أيّ استفادة من هذا الدرس في الجهة المقابلة. في وجهة نظركم ما العلاقة القويمة المفترض إجراؤها مع هذا الدرس؟

د/ رغداء زيدان:

أظنّ أنّ العلاقة القويمة ستركّز على ما يمكن الاستفادة منه من الدرس الاستشراقي بعيدًا عن الاستلاب الفكري أو الرفض الكلي المسبق، والتعامل معه تعاملًا علميًّا جادًّا، يفتح مجالات جديدة لتأكيد فكرةٍ أو الردّ على شبهة أو مناقشة رأي وتفنيده، فالقرآن علّمنا أن كنوزه لا تفنى، وأنه محفوظ بحفظ الله، وأنه هدى ونور، محرك للعقل والفكر والوجدان، يستحثّ الإنسان دائمًا على البحث، ويتحدّاه بإعجازٍ ملفتٍ دائمٍ لا ينقطع.

س8: يلاحظ بعضهم أن الدرس العربي للنتاج الغربي يدور على الاشتباك مع المساحات الجزئية ولمّا ينتقل للمثاقفة المنهجية مع مرتكزات الدرس الغربي؛ كيف ترون هذه الملاحظة؟ وكيف يمكن تحقيق هذا الانتقال؟ وما أثره على إثراء الدرس العربي؟

د/ رغداء زيدان:

أتفق مع هذه الملاحظة، وإن كانت بعض الدراسات قد اشتغلت على المرتكزات المنهجية للدرس الغربي؛ مثل كتابات أنور عبد الملك أو إدوارد سعيد أو محمود شاكر أو محمد البهي، لكننا اليوم بحاجة لدراسات أكثر عمقًا وتحليلًا، تستطيع الإجابة عن مجموعة من الأسئلة المعاصرة، سواء ما يتعلق بأسئلة العولمة والحداثة الفكرية، أو تلك التي نتجت عن المتغيرات الدولية وظروف الواقع في بلادنا، والتي دفعت للمطالبة بالتجديد فيما يخصّ الدرس الإسلامي وإعادة قراءة النصّ القرآني، وهي مطالبات أوقعتنا في فخ ازدراء ما عندنا ومحاولة إنطاق النصّ بما ليس فيه ليتناسب مع النموذج الفكري الغربي المفروض؛ لذلك لا ننفي ضرورة العمل على البحث الجاد وعدم تجاهل متطلبات العصر، لكن مع الحذر من الانسياق وراء استلاب معرفي لا ينتبه لمخاطر ولا مثالب التفاعل الذي يقوم به.

س9: من خلال اطلاعكم؛ ما المساحات التي ترون أنها في حاجة لتكثيف الاشتغال حولها؟ وما المشاريع البحثية التي تستأهل النهوض بها في سياق بداية مثاقفة حقيقة مع الدرس الاستشراقي؟

د/ رغداء زيدان:

برأيي أهم مساحة تحتاج لتكثيف الاشتغال حولها هي التي تختصّ بالمناهج، فبدون مناهج صحيحة لن نصل لدراسات قرآنية صحيحة، ومناهج الدرس الاستشراقي لا تراعي خصائص القرآن ولا خصوصيته، ولا تتعامل معه على أنه وحي من الله، وتغلب عليها الجوانب المادية؛ لذلك فإنّ نتاجاتها وطريقة تعاطيها مع القرآن تحتاج لإعادة تقييم وتقويم.

لكن يغلب اليوم على الباحثين العرب إمّا التماهي مع منتجات الدرس الاستشراقي ومحاولة تقليدها عبر تبني مقولاتها أو البناء على تلك المقولات ومحاولة إعادة قراءة النصّ القرآني وفقها، أو الاشتغال بنقد تلك المنتجات والردّ عليها وتفنيدها، دون الانتباه لقضايا المنهج ومثالبه أو البحث عن المنهج العلمي اللازم للدرس القرآني الصحيح، فالقرآن وهو المعجزة الخالدة على مرّ الأزمان ما زال يقدم لنا الكثير، وما زال يحتاج منا للكثير من الاشتغال لاستخراج كنوزه والاهتداء به.

س10: يستدرك بعضهم عدم فعالية أقسام الاستشراق في الكليات والجامعات العربية وأنها لم تنتج اشتغالًا بحثيًّا مميزًا حتى الآن؛ ما تقييمكم لهذا الأمر ولِواقع هذه الأقسام بصورة عامة؟

د/ رغداء زيدان:

للأسف هذا التوصيف صحيح في كثير من الحالات، والسبب لا يخصّ هذه الجامعات والكليات والأقسام فقط، بل يخصّ قضايا البحث العلمي في كلياتنا وجامعاتنا على اختلاف اختصاصاتها، وضعفها التنظيمي والبرامجي والمناهجي والتعليمي؛ ولذلك أسباب كثيرة، على رأسها عدم الاهتمام الجادّ بالبحث العلمي، وعدم تقديم المتطلبات المادية والمعنوية اللازمة لذلك، بالإضافة إلى ندرة المختصين الجادّين القادرين على تبنّي وإدارة مشاريع بحثية مفيدة.

س11: ذكَر بعض المستشرقين أنه يودّ لو عرف وجهة نظر الباحثين المسلمين في النتاج الذي يقدّمه الاستشراق. في رأيكم ما أسباب هذه الفجوة؟ وكيف يمكن تجسيرها؟ وهل يمكن أن يكون لها انعكاسات حسنة على الدرس الاستشراقي؟

د/ رغداء زيدان:

السبب الأساس برأيي هو حال البحث العلمي المتردّي في بلادنا عمومًا، وعدم وجود مراكز علمية متخصّصة تساعد الباحث وتهيئ له البيئة العلمية المناسبة التي يستطيع الاطلاع من خلالها على آخر النتاجات الاستشراقية، وكذلك عدم وجود جهات تسهّل التواصل مع الباحثين، وإقامة اللقاءات والمؤتمرات المتخصّصة التي تجمع الباحثين وتسمح لهم بتبادل الآراء.

وقد ذكر عبد الرحمن بدوي أن ما قام به المستشرقون من إلغاء مؤتمر المستشرقين وتغيير اسمه ليصبح «المؤتمر العالمي للعلوم الإنسانية دراسات آسيا وشمال أفريقيا»؛ بحجة تصحيح المجال العلمي الذي تخوضه تلك المؤتمرات =كان نوعًا من المؤامرة، هدفَت لتطويق نتائج تلك المؤتمرات التي تُظْهِر أهمية الدراسات الإسلامية وغنى التراث الإسلامي، وهو ما أدى إلى تناثر الجهود المبذولة في المجال وغياب التواصل الفعّال بين الباحثين المهتمين بالاستشراق من مختلف البلدان.

س12: بالنسبة للباحث العربي وهو المنوط به أن يكون أساس هذا الانتقال. في ظنّكم ما التكوين الذي يجب أن يكون عليه الباحث المتخصّص في مجال الاستشراق حتى يستطيع إنجاز هذه المهمّة؟

د/ رغداء زيدان:

باختصار يجب أن يكتسب الدارس والمتخصّص في مجال الاستشراق مجموعة من المعارف الأساسية فيما يخصّ ظروف نشوء الاستشراق وأهدافه ومجالاته وأعلامه ومناهجه ونتاجاته، بالإضافة لقدرته على فهم العقلية الاستشراقية ونماذج التفكير الغربي وتطوراتها والتي أثّرت على الاستشراق وتعامله مع القرآن. كما أن الدارس للاستشراق يجب أن يُولِي تعلُّم اللغات الشرقية أهمية خاصّة وعلى رأسها اللغة العربية؛ بسبب ارتكاز الدين الإسلامي بصورة كاملة على القرآن الكريم الذي أُنزل ودُوّن باللغة العربية.

وكذلك يجب أن يكون عند الباحث القدرة على التنقل والاطلاع على المخطوطات والمكتبات في الدول المختلفة، كما يجب أن يكون قادرًا على التواصل المعرفي مع الباحثين المهتمين بالدرس الاستشراقي في الشرق والغرب على حدّ سواء، من أجل الاستفادة من النتاجات المختلفة وتقويمها وتقييمها، ومن أجل تكامل الجهود منعًا لهدرها أو تمحورها حول ذاتها. وقبل كلّ ذلك يجب أن يتعلم الباحث أخلاقيات البحث العلمي وقِـيَمه، وأن يدرب نفسه على التحكّم بتحيزاته وأيديولوجياته ومسبقاته ومسلّماته، حتى يكون بحثه أقرب للصواب، بعيدًا عن الأهواء والسطحية.

 

 

[1] يمكن الاطلاع على الجزء الأول من الحوار، على هذا الرابط: tafsir.net/interview/34.

[2] هذه الدراسة بعنوان: (كتاب تاريخ القرآن للمستشرق الألماني تيودور نولدكه؛ ترجمة وقراءة نقدية)، وقد صدرت مؤخرًا عن دار النوادر في ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول: الوحي إلى محمد بين الإنكار والتفسير النفسي. الجزء الثاني: الوحي إلى محمد هل هو صوتٌ داخلي؟ الجزء الثالث: النبي محمد والمرجعية هل ثمة تحوّل؟.

ضيف الحوار :

د. رغداء محمد أديب زيدان

حاصلة على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية/ لندن، ولها عدد من المؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))