مقدمة:
يتواصل حوارنا مع الدكتور/ أحمد البهنسي حول الاستشراق، وخصوصًا الاستشراق الإسرائيلي، وبعد أن تناول الحديث في الجزء الأول[1] من هذا الحوار تعريف الاستشراق، ونشأته، وأهدافه، وأهم الفرضيات الكامنة في عمق بنائه المنهجي خصوصًا فرضية (التأثُّر والتأثير)؛ يدور الحديث في هذا الجزء الثاني والأخير حول البناء المنهجي للاستشراق، فيُلقي الضوء على أهم المناهج المستخدمة من قِبَل المستشرقين، وأهم المدارس والاتجاهات التي تبرز على ساحته، والموقع الذي يحتله الاستشراق الإسرائيلي وفقًا لهذه التقاليد، كما يتناول الاستشراق وعلاقته بالدرس العربي للقرآن، من جهة تأثّره به وتأثيره فيه، وكذا من جهة العلاقات القويمة المفترض قيامها بين الدّرسين.
وفيما يلي نص الحوار:
نص الحوار
المحور الأول: المنهجيات الرئيسة في الدرس الاستشراقي للقرآن:
س1: لو حاولنا تحديد المفاصل الرئيسة للبناء المنهجي الاستشراقي الذي يتم من خلاله الاشتغال على النصّ القرآني، ولنكن محدّدِين بالاستشراق الإسرائيلي الذي له علاقاته، كذلك بالاستشراق عمومًا. فما أهمّ هذه المنهجيات؟
د/ أحمد البهنسي:
لم يبتعد الاستشراق الإسرائيلي كثيرًا عن المنهجيات العامّة التي استخدمتها التقاليد أو المدارس الاستشراقية عامّة في دراساتها للإسلام ومصادره الرئيسة وفي مقدمتها القرآن الكريم. ورغم تخبّط الدراسات العربية والإسلامية حول تحديد هذه المناهج إلا أنّ استخدام الاستشراق الإسرائيلي لها قد انحصر -من وجهة نظري- في أربعة مناهج رئيسة، وهي:
1- منهج التأثير والتأثُّر: الذي يعدُّ الأبرز والأكثر شيوعًا في الدراسات الاستشراقية الإسرائيلية حول النصّ القرآني؛ لأنه يخدم الأيديولوجية الرئيسة للاستشراق الإسرائيلي القائلة بتأثّر القرآن بالعهدين القديم والجديد.
2- المنهج المقارن: وهو من المناهج شائعة الاستخدام أيضًا في الاستشراق الإسرائيلي، والذي عادةً ما يستخدم للمقارنة بين قصص الأنبياء والنصوص القرآنية والمقرائية (أي: الواردة في العهد القديم)، ويعود كثرة استخدامه من قِبل المستشرقين الإسرائيليين لاقتناعهم بوجود مشتركات بين اليهودية والإسلام، لكنهم يضعونها في إطار ما يمكن تسميته بـ(السيادة الفكرية والدينية اليهودية على الإسلام ومصادره الرئيسة).
3- المنهج التحليلي: وهو غير شائع كثيرًا في الدراسات الاستشراقية الإسرائيلية، وأظنّ أن ذلك عائد إلى أنه يخرج -في كثير من الأحيان- بنتائج مغايرة لأهداف وأيديولوجيات الاستشراق الإسرائيلي؛ إِذْ يُظهر هذا المنهج خصوصية النصّ القرآني وتفرُّده واختلاف تفاصيله ومضامينه عن النصوص الشبيهة به في العهدين القديم والجديد.
4- المنهج الإسقاطي: وقد تركّز في الكثير من الدراسات الاستشراقية حول النصّ القرآني على الإسقاط السياسي؛ نظرًا لـ(سطوة البُعد السياسي) على اهتمامات وموضوعات هذا التقليد من الاستشراق حتى فيما يتعلق بدراسته للنصّ القرآني.
س2: في رأيكم ما أهم الاتجاهات الاستشراقية في دراسة القرآن، لو حاولنا تصنيف هذا الاشتغال لعددٍ من الاتجاهات والمدارس؟
د/ أحمد البهنسي:
هناك عدّة اتجاهات استشراقية، لكن وفق وجهة نظري يمكن حصرها في اتجاهين كبيرين، وهما: الاتجاه الموضوعي (العلمي)، والاتجاه اللاهوتي (الجدلي)، ويندرج تحت منهما أربعة اتجاهات رئيسة، وهي:
1- الاتجاه التاريخي: وهو من الاتجاهات اللاهوتية، وأظنّ أنه نابع من محاولة بعض المستشرقين تطبيق مناهج النقد التاريخية عَنْوة على النصّ القرآني، وهي المناهج التي طُبقت على الكتاب المقدّس، وطورت فيما بعد علم اليهودية ومن ثَمّ علم نقد أسفار العهد القديم في الغرب، وخرجَت هذه المناهج بنتائج تفيد بأنّ هذه النصوص كُتبت في مراحل تاريخية مختلفة وتنتمي لعدّة مؤلفين وليست لمؤلف واحد، ومن أشهر الكتابات الاستشراقية في هذا الصدد كتاب المستشرق الألماني (تيودور نولدكه) «تاريخ القرآن» عام 1860م، والذي أظنّ أنه تأثرَت به الكثير من الكتابات الاستشراقية التي نهجَت هذا النهج؛ إِذْ حاولَت وضع النصّ القرآني في إطار تاريخي، مقسِّمة سور القرآن إلى مجموعات وفقًا لمراحل وحقب تاريخية مختلفة ارتأَتْ أنّ كلًّا منها كان لها تأثير على مضامين آيِ القرآن.
2- الاتجاه التأصيلي: وهو اتجاه لاهوتي صرف، ويمكن اعتباره الاتجاه الأكثر سيطرة -كما ذكرنا من قبل- على معظم الكتابات الاستشراقية؛ إِذْ يحاول التأصيل للنصّ القرآني من خلال ردِّه إلى نصوص دينية يهودية ونصرانية ووثنية.
3- الاتجاه المقارن: وهو اتجاه يجمع بين كونه لاهوتيًّا وموضوعيًّا في آنٍ، وقد ظهر في القرن التاسع عشر الميلادي واستمر حتى وقتنا الحالي، وحاول البحث في العلاقة بين قصص القرآن وقصص كتب اليهود والنصارى من خلال المقارنة بينهما، وقد بدأ بظهور بعض الدراسات الاستشراقية المرتبطة بأهل الكتاب في القرآن الكريم؛ مثل دراسة المستشرق الألماني (سيمون فايل) عن التوراة في القرآن (شتوتجارت 1835)، ورغم بزوغ بعض المظاهر الإيجابية لهذا الاتجاه المتمثلة في البحث عن مصادر لقصص القرآن بعيدًا عن الكتاب المقدّس، إلا أنه لم يعترف بخصوصية هذا القصص وبمصدره الإلهي، وبدأ يبحث عن مصادر أخرى له لكن خارج المصادر اللاهوتية التقليدية المتمثلة في العهدين القديم والجديد، وذلك مثل دراسة المستشرق واللاهوتي الفرنسي (أي. ف. ف بيشوب) التي تمحورت حول لفائف قمران والقرآن الكريم.
4- الاتجاه اللغوي: وهو اتجاه يندرج تحت الاتجاه العلمي الموضوعي وبدأ يتزايد التركيز الاستشراقي عليه مؤخرًا، إِذْ يُعنى بالتحليل الفيلولوجي (اللغوي) للنصّ القرآني، بغرض الوقوف على البناء الأدبي والأسلوبي له، ويحسب لهذا الاتجاه اتصافه بالموضوعية إلى حدٍّ كبيرٍ؛ نظرًا لاعتماده بالأساس على علم اللغة المقارن، وهو اتجاه يرى البعض أنه تواكب مع ظهور ترجمات أجنبية لمعاني القرآن الكريم، وبلغ ذروته في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين، وذلك مع تطوير عالم اللغات الألماني (شلايشر schleischer) آراء عالم التاريخ الطبيعي والجيولوجي (داروين) التطوّرية وتطبيقها في مجال اللغات والاستفادة منها في تفسير الظواهر اللغوية المقارنة.
س3: هناك انتقاد دائم موجَّه للمستشرقين بأنهم يفوتون في التعامل مع القرآن الكثيرَ من المناهج والأدوات المعاصرة التي تطبّق على الأديان الأخرى. بأيّ قدر هذا صحيح في ظنكم؟ وما أهمّ أسبابه؟
د/ أحمد البهنسي:
هذا صحيح بقدرٍ كبيرٍ، واسمحوا لي أن أقول أنهم لم يفوتوا فحسب، بل (تأخروا كثيرًا) في تطبيق هذه المناهج مع القرآن الكريم، والتي أظنّ أنّ من أهمها نظرية (الفَهم) للمستشرق وعالم الأديان الألماني (يواكيم فاخ Y.Wach)، والتي تقول بضرورة دراسة كلّ دين من منطلق فهم أصحابه له، وأنه من الضروري إعطاء النصّ الديني الفرصة للتعبير عن مضامينه ومفاهيمه الخاصّة، وليس دراسته في ضوء ارتباطه بنصوص دينية سابقة عليه.
ومع ذلك -وحتى أكون موضوعيًّا- لا يمكن إغفال أنّ هناك بعض الاتجاهات الاستشراقية التي حاولَت الاستفادة من بعض الأدوات المعاصرة والحديثة في دراسة الأديان، وقد تزايدت خلال العقود القليلة الماضية، مثل التي تدرس القرآن في ضوء علم اللغة المقارن، وكذلك في ضوء المناهج الغربية لنقد الكتاب المقدّس التي استفادت من الدراسات الإسلامية كثيرًا في هذا الصدد؛ إذ اتجهت بعض الدراسات الاستشراقية إلى الاستفادة مما قدَّمه الإسلام من نقد لليهودية والنصرانية، وأذكر منها دراسة المستشرق اليهودي (تساك أورشليمي) حول (قصة يوسف في القرآن) والذي ركَّز على التحليل الفيلولوجي (اللغوي) للقصة، وخرج بنتيجة مفادها أنها تحمل نسقًا حواريًّا ولغويًّا خاصًّا يعبِّر عن حكمة نبوية.
أما عن أسباب هذا التفويت أو التأخُّر الاستشراقي في استخدامهم في دراسة القرآن لأدوات معاصرة لدراسة الأديان الأخرى، فيمكنني حصر أهمها في:
1- خضوع الاستشراق منذ نشأته لأيديولوجية تحمل أفكارًا مُسبقة غير صحيحة عن القرآن، ما جعل هذا الاتجاه الفكري الذي ظهر في الغرب أسيرًا لمناهج وأدوات بحثية بعينها تخدم هذه الأيديولوجيا، كما استخدمت هذه المناهج إمّا بشكلٍ (مبتسر) أو بشكلٍ خاطئ، أدَّى في كثير من الأحيان إلى ظهور ما يمكن تسميته أسلوب (ليّ عنق) الأفكار والنتائج البحثية لتخدم فكرة المستشرق وأيديولوجيته ما أدى إلى «طغيان الأيديولوجيا على العلم في كتابات المستشرقين».
2- عدم قدرة الاستشراق -حتى الحديث والمعاصر- على التخلّص الكامل من أفكار وأنماط الاستشراق الكلاسيكي (اللاهوتي) الذي اتخذ في كثير من الأحيان شكل (الجدل الديني) مع المسلمين لإثبات أنّ كتابهم المقدّس (القرآن) مجرد هرطقة يهودية ونصرانية.
3- وجود (خلل علمي ومنهجي) بالأساس في الاستشراق نتيجة غياب الاستقلالية العلمية؛ إِذْ كان لارتباط الاستشراق بالاستعمار وكذلك اعتناقه أيديولوجيات مغلوطة عن القرآن -أكبر الأثر في أن يُهمل المنهج العلمي الموضوعي والمنصف ولا يكترث باستخدام مناهج علمية رصينة ودقيقة، وهو ما أدَّى من جانب آخر إلى ظهور أزمة منهجية في الاستشراق أدت إلى عدم اعتماده لمنهج علمي واضح ومحدد يميزه عن المجالات العلمية الأخرى، وهو ما أدى إلى تبعية الاستشراق منهجيًّا إلى علوم أخرى وخاصة العلوم الاجتماعية.
س4: وما الذي تستطيع هذه المناهج أن تُضِيئه لو طُـبِّقَت في دراسة الإسلام والقرآن من وجهة نظركم؟
د/ أحمد البهنسي:
يمكن لهذه المناهج أن تضيء الكثير والمهم في آنٍ؛ إِذْ بإمكانها إظهار الوجه الحقيقي للإسلام والقرآن، كذلك إبراز خصوصية النصّ القرآني وتفرُّده وأنه غير مقتبَس من نصوص دينية سابقة عليه (العهدين القديم والجديد)، وفي ظنّي أنه قبل كلّ ذلك بإمكانها توضيح جوانب الإعجاز اللغوي في النصّ القرآني، وفي هذا الصدد يحضرني ما قاله المستشرق الإسرائيلي (أوري روبين) حول البناء اللغوي والأسلوبي للنصّ القرآني؛ إذ اعترف في مقدمة ترجمته العبرية للقرآن بأن القرآن «يعدُّ عملًا متجانسًا من ناحية البناء الأدبي، يحظى بأسلوب نثري عربي إيقاعي لا مثيل له في أيّ نصّ عربي آخر معروف لدينا».
س5: هناك بعض الباحثين، مثل: (أندرو ريبين) و(جوزيف لمبارد)، طرحوا فكرة ضرورة الاستفادة الغربية من المنهجيات التراثية في دراسة الإسلام والقرآن تحديدًا. ما تصوركم لأهمية هذا ومدى أثَره على الدرس الاستشراقي وإخراجه من التمركز حول المنهجيات الغربية؟ والأهمّ.. مدى إمكانه؟
د/ أحمد البهنسي:
أظنه أمرٌ مهم جدًّا لا سيما ما يتعلق منه بالتراث التفسيري الإسلامي للقرآن الكريم، إِذْ يطرح رؤية المسلمين وفهمهم لكتابهم المقدّس، وهو من الاتجاهات الحديثة التي أرى أنها بدأت تنتشر في الدراسات الاستشراقية مؤخرًا ومن الممكن تطبيقها، كما أنها تشير إلى محاولات استشراقية للتخلّص من النمط الكلاسيكي للأفكار الاستشراقية عن القرآن، المتمحورة حول فهم القرآن ودراسته بعيدًا عن فهم أهله له وعن تراثه التفسيري، وأرى أنّ ذلك يشير إلى بحث الاستشراق عن منهجيات أخرى غير تلك الغربية التي يُدرس بها القرآن، وهو توجّه يمكن تطبيقه لا سيما في ظلّ تزايد الحرص الاستشراقي على التعرّف على الإسلام من الداخل بعيدًا عن أسلوب الموازنات والمقارنات؛ فعلى سبيل المثال أدت بعض الأبحاث الاستشراقية عن قصص القرآن وقصص الكتاب المقدّس إلى زيادة تشكّك المستشرقين في صحة ما جاء عن هذه القصص في الكتاب المقدّس فاتجهوا للكتب التراثية الإسلامية (رغم ما بها من إسرائيليات) لمحاولة فهم صورة وطبيعة هذه القصص والشخصيات الواردة بها، كما وردت في القرآن، وظهر ذلك في كتابات المستشرقِين: (فرانتز بوهل، وتور أندريه، ومنتجيمري وات، ورودي بارت). ولربما كان ذلك هو السبب في أنْ يقوم عددٌ من المستشرقين بتحقيق كتب تراثية إسلامية وترجمة بعضها إلى اللغات الأوروبية.
المحور الثاني: الاستشراق والدرس العربي للقرآن:
س6: في علاقة الدرس العربي بالاستشراق، ونقصد العلاقة عبر الباحثين والدارسين والأكاديميات. هل ترون أنّ الدرس العربي يقف بالفعل على مرتكزات الدرس الاستشراقي؟ ولو خصَّصْنا حديثنا بدراسات القرآن، هل ترون أنّ الدارس العربي يقف على مرتكزات وأهمِّ نتاجات وأعلامِ واتجاهاتِ هذا الحقل، أم لا يزال بعيدًا عن مثل هذه الإحاطة؟ وفي ظنكم ما سبب هذا؟
د/ أحمد البهنسي:
أظنّ أنّ الشبكة العنكبوتية أتاحت كثيرًا للدارس العربي أن يقف على أهم مستجدات وإصدارات الفكر الاستشراقي في الغرب، ومع ذلك فإنّ (حركة) الدارس العربي لحصر ونقد هذه المجهودات الاستشراقية بطيئة ولا تتواكب مع سرعة ونشاط الحركة الاستشراقية في الغرب، وفي ظنّي أن أهم سبب وراء ذلك هو قلّة مراكز الأبحاث والأقسام العلمية في عالمنا العربي المتخصصة في الاستشراق، والمنوط بها متابعة هذه الأنشطة عن كثب، وحصرها ونقدها وإيضاح ما فيها من سلبيات أو حتى إيجابيات.
س7: وكيف ترون العلاقة بين الدرسَين: الدرس الاستشراقي، والدرس العربي للقرآن؟ هل ترون لهذه الأفكار والمناهج التي تحدَّثْنا عنها أثرًا في الدرس العربي؛ (كُتَّاب وكتابات متأثرة بها)؟
د/ أحمد البهنسي:
بطبيعة الحال هناك تأثير استشراقي على الكاتب العربي والذي لا يمكنني أن أحصره في التأثير (السلبي) فحسب، بل أيضًا هناك تأثير (إيجابي)، فلا يمكن أن نُغْفل أنّ المجهودات الاستشراقية أثارت انتباه واهتمام الدارس العربي بالمخطوطات القرآنية وأهميتها؛ نظرًا لأنّ المستشرقين قاموا بجمع وتحقيق الكثير من هذه المخطوطات.
أما عن التأثير السلبي فقد تبدَّى -من وجهة نظري- في محاولة بعض الدارسين العرب وضع القرآن في إطار تاريخي عامٍّ، وهذا أحد مناهج الاستشراق (المنهج التاريخي) في دراسة القرآن وتحليله، كما ذكرنا من قبل، والتي اعتبرت النصّ القرآني مساويًا لنصَّي العهدين القديم والجديد؛ أيْ أنه نصّ له تاريخ، وأنّ هذا التاريخ كان مؤثرًا في الأفكار والرؤى المتضمنة فيه.
س8: وما تقييمكم للكتب التي تصدر في محاولة للردّ أو التفنيد، سواء من حيث شمولها واستيعابها لأبعاد الدرس الاستشراقي أو من حيث جودتها المنهجية؟
د/ أحمد البهنسي:
أولًا وقبل أيّ شيء أنا أقدِّر بشدّة أيّ مجهود علمي يُبذل في هذا الصدد، وأعتبر أننا جميعًا كدارسين عرب للاستشراق وناقدين له، نقف كجنود في معركةٍ وكلٌّ منّا له دوره ومهمته، ورغم ذلك فإنه من الواضح أنّ المجهودات العربية التي تصدر في هذا المجال لديها أزمة حقيقة وأنا أسمِّيها أزمة (طغيان العاطفة)، فالكثير من هذه الدراسات تسيطر عليها الحمية العاطفية والاندفاع وراء انفعالات نفسية وعاطفية تجعل من عمله أشبه بالخطبة أو الموعظة الدينية الصرفة، بعيدة عن استخدام منهجيات علمية رصينة ومعقولة يمكنها أن تكون بمثابة ردٍّ علمي وحقيقي لأيّ عمل استشراقي. ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو إطلاق ألفاظ من باب (شبهات، افتراءات، ادِّعاءات) على ما يطرح استشراقيًّا، وهي ألفاظ -من وجهة نظري- غير موضوعية ولا تتّفق مع كلّ ما يطرحه الاستشراق، لا سيما في العصر الحديث؛ إِذْ بات للاستشراق مسحة أكاديمية علميّة واضحة تحتاج لتدقيق علمي للردّ عليها، فهذه الألفاظ التي يستخدمها الدارس العربي تطرح رأيًا مُسبقًا بأن رأي المستشرق أو فكرته خاطئه ومريبة ومشكوك فيها، دون أن تمهل للقارئ فرصة معرفة جوانب الخطأ وأسبابه، وبطبيعة الحال فإنّ الوصول إلى النتيجة قبل اتباع الخطوات العلمية اللازمة للوصول لهذه النتيجة يعدُّ أمرًا خاطئًا من الناحية البحثية والعلمية، وأنا شخصيًّا أستخدِمُ في أبحاثي لفظ (فرضيات)، معتبرًا أن الاستشراق مثله مثل أيّ فكرٍ أو توجُّهٍ علمي يطرح فرضيات علمية قد تحتمل الخطأ أو الصواب، وأنّ مهمتي كدارس أو ناقد عربي له، هي تتبع هذه الفرضية بالوصف والتحليل والنقد لتبيان ذلك.
أما عن شمول واستيعاب هذه الكتابات للدرس الاستشراقي، فالحقيقية أنا أُلاحظ أنّ جزءًا كبيرًا منها لم يتجاوز بعدُ الأفكار النمطية التقليدية عن الاستشراق؛ إِذْ تركّز على نقد ما يسمى بالاستشراق الكلاسيكي التقليدي (اللاهوتي) الذي قام في معظمه على أكتاف القساوسة والحاخامات وبعض العلماء المصاحبين للحملات الاستعمارية، في حين أنّ هناك تقليدًا استشراقيًّا تطوّر في الغرب لديه مسحة علمية أكاديمية، وبدأ يعتمد مناهج حديثة بعض الشيء، لا سيما ما يعتمد منها على التحليل الفيلولوجي للدرس القرآني، وهو ما يغيب عن كثيرٍ من الدارسين العرب لمتابعته ورصده ونقده وتحليله، وتبيان سلبياته ومناقصه وكذا الوقوف على إيجابياته وجوانبه الموضوعية المنصفة.
س9: في ظنّكم ما الطريقة المثلى للتعامل مع الدرس الاستشراقي؟ وكيف يكون التعامل معه بداية لمثاقفة حقيقية وواعية بعيدة عن الردّ الجزئي على بعض تفصيلاته ونتاجاته، أو القبول المطلق لكلّ نتائجه ومناهجه؟
د/ أحمد البهنسي:
أرى أنه -أولًا وقبل أيّ شيء- من الضروري اعتماد (لغة العقل)، بمعنى الابتعاد عن أيّة عواطف أو انحيازات؛ لأن هذه هي اللغة التي يمكن محاججة الفرضيات الاستشراقية بها بشكلٍ واعٍ ومؤثِّر، كما أنه من الضروري (تطوير مناهج إسلامية) مبتكرة للردّ على الاستشراق وفرضياته المختلفة حول الإسلام ومصادره الرئيسة؛ فالدوائر العلمية والأكاديمية العربية والإسلامية ما زالت أسيرة مناهج غربية لا يمكن أن تكون شافية للغليل في استخدامها لمثاقفة الاستشراق؛ إِذْ يجب أن نخرج من قوقعة (الحوار مع الذات) إلى دائرة (الحوار مع الآخر)، فإذا كان الاستشراق هو خطاب أو نهج فكري غربي يُعنى بالشرق، فعلينا أن نردَّ عليه بتلك اللغة التي يفهمها ويمكنه أن يحترمها، ألَا وهي لغة العقل وليست لغة العواطف والانفعالات.
أرى كذلك أنه من أجل مواجهة الاستشراق في عُقْر داره وكشف مدى مركزيته حول أفكار وأيديولوجيات معيَّنة، فإنه من الضروري استغلال نظريات غربية علمية ومنصفة لمستشرقين، أهملها الغرب في دراسته للإسلام وشؤونه، فأنا شخصيًّا لَفَتَ انتباهي نظرية (الفَهم) للمستشرق وعالم الأديان الألماني (يواكيم فاخ) والتي أهمل المستشرقون تطبيقها؛ نظرًا لأنها تدعو إلى احترام خصوصية النصّ الذي يقوم المستشرق بدراسته، وتركه يعبر عن مضامينه وفق فهم أهله له وليس وفق مفاهيم دخيلة عليه. إضافة إلى تسليط الضوء على حالة الضعف العلمي التي تعتري الكتابات الاستشراقية، والتي من أهمها غياب منهج محدّد وموضوعي في تناوله للإسلام وشؤونه، علاوة على الاستعانة بآراء ووجهات نظر مَن يمكن وصفهم بـ(المُنصفين) من المستشرقين أنفسهم.
كما لا يفوتني كذلك التأكيد على ضرورة إتقان اللغات التي تُكتب بها الدراسات الاستشراقية، وأيضًا فهم الثقافة الفكرية والحضارية والدينية النابعة منها، وذلك حسب لغة كلّ مدرسة استشراقية وخلفياتها الثقافية والحضارية، فعلى سبيل المثال لا يمكن لدارس الاستشراق الإسرائيلي أن لا يكون عالمًا باللغة العبرية، وكذلك على دراية بالمفاهيم الدينية والثقافية والحضارية للجماعات اليهودية المختلفة، وبطبيعة الحال على دراية بالتوجّهات الفكرية والعلمية السائدة في المؤسّسات الاستشراقية داخل إسرائيل باختلاف أنواعها.
[1] يمكن مطالعة الجزء الأول من الحوار، على هذا الرابط: tafsir.net/interview/18.