مقدمة:
منذ عقودٍ أضحى الاستشراقُ ظاهرةً تخضع للتحليل العلمي وفق كثيرٍ من المقاربات والمداخل المنهجية، وتعدّدت المنظورات للتعريف الدقيق له وللأهداف والدوافع التي حكمت نشأته وتحكم حركته وتطوّره، هذا سواء أكان حديثنا عن دراسة الشرق والإسلام بصورة عامة، أو إذا حدّدنا حديثنا بجانب دراسة القرآن وعلومه ضمن هذا الحقل، ويُعَدّ فهم طبيعة هذا الحقل وأبعاد نشأته وتطوّره والبناء النظري والمنهجي له نقطةَ أساسٍ في محاولة فهم الملامح الخاصّة لمقاربته للقرآن.
في هذا الحوار مع الدكتورة/ رغداء زيدان -والتي خصصت رسالتها للدكتوراه لأحد أهم الكتب في الدراسات الغربية للقرآن وهو (تاريخ القرآن) لنولدكه- نتناول هذا الحقل؛ طبيعته والبناء المنهجي له، خصوصًا في دراسة القرآن، والتلقي العربي البحثي لنتاج هذا الحقل وأنماطه.
وقد جاء هذا الحوار على أربعة محاور: المحور الأول: الاستشراق ودراسات القرآن. المحور الثاني: الاستشراق الألماني. المحور الثالث: كتاب (تاريخ القرآن) لتيودور نولدكه. المحور الرابع: الاستشراق والدرس العربي المعاصر للقرآن.
وفي هذا الجزء الأول من الحوار نتناول المحورين: الأول والثاني؛ ففي المحور الأول: الاستشراق ودراسات القرآن؛ نتناول حقل الاستشراق والتحديد العلمي له ومناهج دراسته، ودوافع نشأته وتطوّره، كما نلقي الضوء على مسألة المناهج الخاصّة التي يستخدمها في قراءة القرآن ومدى كفاءتها. ثم نخصّص حديثنا -في المحور الثاني- بأحد أهم التقاليد ضمن هذا الدّرس، والذي يُعَدّ من أعمدة الدراسة الغربية للقرآن؛ أي الاستشراق الألماني، فنتناول الفارق بينه وبين غيره من التقاليد، وإشكالات الترجمة لأهم نتاج هذا التقليد، وغيرها من القضايا.
نصّ الحوار
المحور الأول: الاستشراق ودراسات القرآن:
س1: للاستشراق مساحة اشتغال شديدة السّعة والتباين، ويمثّل مفهومه وبداياته بؤرة خلاف مشتهرة بين الدارسين، فلو تطلعوننا على شيء من ذلك؟
د/ رغداء زيدان:
المطّلع على تاريخ الاستشراق وبدايات ظهوره -الذي يرجعه بعض الباحثين إلى بداية تعرّف الأوروبيين إلى الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس، وذلك في القرن الثامن الميلادي (أحمد سمايلوفيتش/ فلسفة الاستشراق)، بينما يقول آخرون إنه لم يظهر رسميًّا إلا بعد قرار مجمع فيينّا الكنسي عام 1312م، القاضي بإنشاء عددٍ من كراسي اللغة العربية في عددٍ من الجامعات الأوروبية (علي بن إبراهيم النملة/ المستشرقون والتنصير)- يدركُ أن الاستشراق كظاهرة لا يمكن حصرها ضمن نطاق محدّد، بحيث نستطيع تحديد معناها ومجال اشتغالها بشكلٍ دقيق؛ ولهذا سنجد اختلافًا كبيرًا في تحديد المفهوم عند الباحثين، سواء كانوا غربيين أم عربًا، فبينما وجده باحثون غربيون علمًا غير واضح الحدود؛ كون مصطلح الشرق نفسه بحاجة لتحديد (رغم أن دراسة العرب والإسلام وما يتعلق بهما كانت ولا تزال أمرًا بالغ الأهمية في علم الاستشراق)، لكنهم اتفقوا على أنه علم واسع ومختلط بالعلوم الأخرى، ومرّ بأدوار مختلفة بدءًا بمعرفة لغة من لغات الشرق والتبحّر بآدابها، وصولًا إلى شمول الاستشراق كلّ ما يتعلق بمعارف الشرق؛ من لغة وآداب وتاريخ وآثار وفنّ وفلسفة ودين، وجعله بعضهم بابًا من أبواب تاريخ الروح الإنساني (م. أ، جويدي/ في علم الشرق وتاريخ العمران).
أمّا المفكّرون العرب فكانت نظرتهم مختلفة إليه؛ فمنهم من عدّه علمًا يختصّ بالاشتغال بالعقليات الشرقية، ومنهم من وجده مجرّد مهنة هدفها التبشير والتنصير وتسهيل مهمّة الاستعمار (حسين الهواري/ نحن والمستشرقون)، ومنهم من خصّه بالكتابة عن الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية إمّا بروح العداء أو بروح الإنصاف (مالك بن نبي/ إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث)، بينما جعله آخرون حركة علمية شملت المدنيات الشرقية: ما غبر منها وحضر، وما استقر منها وما اندثر (يوسف داغر/ مصادر الدراسة الأدبية).
لكنّ محاولة التعريف هذه للاستشراق تحوّلت منذ ظهور مقال أنور عبد الملك «الاستشراق في أزمة» الذي نُشر عام 1963 في مجلة ديوجين الفرنسية العدد 44، (ترجمَهُ: حسن قبيسي/ مجلة الفكر العربي، العدد 32، 1983)، وبعده ظهور كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» عام 1978، وما تبعه من ردود سواء بالتأييد أو الرفض والنقد، إلى محاولة لفهم ماهية الاستشراق وتحديد من هو المستشرق، أو بالأحرى أيّ نوع من البشر هو؟ ما دوافعه؟ ما اهتماماته؟ وما أهدافه؟...إلخ.
ولعلّ ما بيّنه سعيد من أنّ الاستشراق هو نمط فكري مبنيّ على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب، يؤسّس لثنائية متجذّرة بين الشرق والغرب، وهو أسلوب خطاب، تحكمت الإمبريالية والاستعمار من خلاله ببلاد الشرق. لا يمكن وفق وجهة نظري إنكاره، خاصّة ونحن نعيش آثار ذلك وتبعاته في بلادنا. أمّا ما قاله مكسيم ردونسون عن كون الاستشراق نتج لضرورات علمية، فإنه لم يستطع إنكار ما قدّمه سعيد رغم أنه حصره في نطاق ما أسماه «الاستشراق التقليدي»، رافضًا أن يكون هو شخصيًّا مستشرقًا، بل قال إنه مستعرب يحب الاطلاع على الثقافة العربية والإسلامية (ردونسون/ جاذبية الإسلام).
س2: كثيرًا ما يتم الحديث -سواء مِن قِبَل مستشرقين أو من قِبَل بعض الكتّاب العرب- عن ظاهرة الاستشراق باعتبارها ظاهرة نشأت لدوافع موضوعية تتعلق بزيادة المعرفة بالإسلام. كيف ترون هذه النظرة ومدى دقّتها في تناول هذه النشأة؟
د/ رغداء زيدان:
لا يخفى على باحث أن الاستشراق أول ما شبَّ وترعرع كان في كَنَفِ الكنيسة في القرن الثامن الميلادي كما أسلفنا بهدف دراسة «العدوّ»-إن صح التعبير-، لكن مع ذلك كان الإمبراطور شارلمان (742-814م) وحفيده شارل (823-877م) معجبَيْن بالحضارة العربية الإسلامية، وأرادا لبلادهما أن تنهض وتحذو حذو المسلمين في تقدّمهم وعلومهم، فأسّسَا المدارس المختلفة والمجامع العلمية لتعليم الأوروبيين العلوم العربية الإسلامية، وتبعهما البابا سلفستر الثاني (930-1003) الذي أمر بترجمة الآثار العقلية العربية في مختلف العلوم إلى اللغة اللاتينية. أمّا الحروب الصليبية فقد نبهت الغرب إلى الحضارة العربية والإسلامية، لكنها بالوقت نفسه زادت التعصّب الديني، فَرَاحَ الأوروبيون يتعلّمون العربية ويدرسون الإسلام، لا حبًّا في العرب والحضارة الإسلامية، وإنما رغبة في محاربتهما. ثم تغيّر الحال مع ظهور أول مطبعة عربية في إيطاليا سنة 1514م، مما دفع بحركة الاستشراق إلى مجالات أوسع وأكثر شمولًا، ولم يأتِ القرن الثامن عشر الميلادي إلا والاستشراق قد وطّد أركانه وحدّد معالمه، وقد أسهم في ازدهاره ضعفُ الدولة العثمانية، وسيطرةُ الاستعمار على الدول العربية.
وبهذا نلحظ أنّ الاستشراق لم ينشأ بغاية علمية بحتة، ولم تقتصر أهدافه على العلم فقط، فقد كان له أهداف دينية واقتصادية وسياسية وعلمية كذلك، كما أنه مرّ بمراحل وتطوّرات، جعلت أهدافه تتمايز بين مرحلة وأخرى، وبالتالي فإنّ نتاجه أيضًا يتمايز بين مرحلة وأخرى، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن كلّ مرحلة تركت آثارها على عموم الاستشراق، وأسهمت في بلورة ماهيته وتكوينه.
س3: من الأمور المركزيّة التي تُثار بطبيعة الحال عند تناول الاستشراق ودراسته للإسلام وللقرآن: قضية المنهج، ومدى قدرته على تناول ما يدرسه من ظواهر. من خلال خبرتكم؛ ما المنهجيات الرئيسة التي تُشَكّل البناءَ المنهجي للاستشراق في اشتغاله على القرآن؟ وما مقدار التطوّر فيها؟ وما مدى قدرتها على تحقيق معرفة علمية حقيقية بما تدرس؟
د/ رغداء زيدان:
أهم المنهجيات الرئيسة التي تشكّل البناء المنهجي للاستشراق في دراسته للقرآن ثلاثة مناهج أساسية، وهي:
1-المنهج التاريخي: الذي يهتم بتحليل وتفسير الحوادث التاريخية كأساس لفهم المشاكل المعاصرة، ومحاولة التنبؤ بالمستقبل، غير أنّ المستشرقين طبّقوا هذا المنهج على الدراسات الإسلامية والقرآنية عبر ترتيب الوقائع التاريخية وتبويبها وتصنيفها، ثم الإخبار عنها والتعريف بها، لكن تصنيفهم للأحداث والشخصيات الإسلامية تم على أساس عقليتهم الغربية ومعاييرهم الحضارية، متغافلين عن خصائص المجتمعات العربية، وعاداتها وتقاليدها، والظروف البيئية والاجتماعية التي كانت تحكمها، فأثاروا الشكوك حول الوقائع التاريخية الثابتة، والروايات الصحيحة المرتبطة بتاريخ القرآن وعلومه، وشكّكوا بروايات جمعه وتبويبه وتبليغه، وادّعى كثير منهم أن النصّ القرآني نالته تعديلات بالزيادة والنقصان خاصّة في صورته المكتوبة. بالإضافة إلى أنّ هذا المنهج التشكيكي دفعهم لعدم الاعتماد على ما دوّنه المسلمون والعمل على التشكيك بالمصادر الإسلامية، بالإضافة إلى أنّ المنهج الاستشراقي عمومًا منهج مادّي ينفي الجانب الروحي، ولا يؤمن إلا بالجوانب الملموسة، وهو لا يتناسب مع دراسة الظاهرة الدينيّة.
2- منهج دراسة العهدَيْن القديم والحديث وتطبيقه على دراسة القرآن: ويقوم هذا المنهج على التعامل مع النصّ القرآني باعتباره ظاهرة دينية تطوّرت داخل إطار العلوم الاجتماعية والإنسانية، فأوجدوا ما يعرف مجازًا بعلم نقد القرآن الكريم، فبحثوا في التأثّر المزعوم للقرآن بالإنجيل والتوراة، كما تحدّثوا عن نظريات التحريف والتبديل وتعدُّد المصادر وتاريخ النصّ، فعملوا على تطبيق نظرياتهم الخاصّة حول دراسة العهد القديم والجديد على القرآن الكريم، متجاهلين الاختلاف الكبير بين القرآن والكتاب المقدّس، فليس في القرآن «تاريخ للنصّ القرآني»، كون الوحي القرآني معروف البداية والنهاية، بعكس النصّ التوراتي الذي يمتد لثمانمائة عام ما بين بدء الوحي، حتى عملية التدوين. وكان لهذا تأثير سلبي على الدراسات القرآنية عند المستشرقين، تمثّل بعدم تجاوز الاهتمام بتاريخ النصّ والبحث في مصادره إلى دراسة مضمون القرآن الكريم، وأفكاره، ومحتوياته الدينية والأخلاقية، ولم يتجاوز درسهم حدود المسألة التاريخية المرتبطة بما سماه المستشرقون «تاريخ الإسلام»، ودراسة نشأته، وتطوّره، ونادرًا ما نجد تحوّلًا استشراقيًّا من دراسة موضوعات النشأة والتطوّر إلى دراسة المضامين الدينية والأخلاقية للإسلام.
3- المنهج الفيلولوجي: ويهدف للبحث عن جذور النصّ وأصوله المتسلسلة، سواء في اللغة الواحدة أم في اللغات المتعددة. وتتداخل الفيلولوجيا مع مجموعة من العلوم؛ كعلم الأجناس (الأنثربولوجيا)، وعلم الصوتيات (الفونطيقا)، ومع مختلف العلوم التي تهتم بالتاريخ الإنساني. وكان المستشرقون يرون أن النصّ القرآني مكوّن من ألفاظ ومفردات، وإذا قاموا بإرجاعها إلى أصولها -مقارنة باللغات الساميّة- بعد وضع النصوص ضمن سياقها التاريخي، يمكن عندها فهم النصّ القرآني بأكبر قدرٍ ممكن من الوضوح حسب رأيهم، ويمكن بعدها وضع قاعدة واعتمادها لترتيبٍ زمنيّ لسور القرآن الكريم. لكنّ المستشرقين طبّقوا المنهج الفيلولوجي بتعسّف على النصّ القرآني، ولم يراعوا طبائعه، ولا خصائصه الأسلوبية، ولا ما تنطوي عليه ألفاظُه من بلاغةٍ وتجلّيات رُوحية وارتباطات وأنساق في المعاني والمفاهيم، وهو ما أفقدهم القدرة على الفهم والمحافظة على المصطلحات القرآنية، فغيَّروا كثيرًا في معانيها وحمّلوها ما لا تحتمل.
هذه المناهج -ورغم التوسّع في استخدامها وتنوّع وتطوّر وتشعّب طرقها- لم تكن قادرة على مقاربة النصّ القرآني بشكلٍ صحيح، واليوم نجد من يتحدّث عن تاريخ القرآن باعتباره نصًّا شعائريًّا، يخصّ جماعة مسيحية أو يهودية سابقة للإسلام، أو يخصّ جماعة مسلمة أُولى. وهي نظرية تقوم على تمازج هذه المناهج الثلاثة، من خلال البحث عن تاريخ متخيَّل لتطوّر لغوي فيلولوجي لنصّ إنساني بشري نُزعت عنه القدسية، وتم الاكتفاء بدراسته كأيّ نصّ بشري آخر له متعلّقات تاريخية ومؤثّرات اجتماعية وألسنية وإنسانية متداخلة.
س4: جزء أساس من الانتقادات الموجّهة إلى الاستشراق ودراسته للإسلام هو الانطلاق الدائم من مُسبَقات ومعايير خاصّة، مصدرها مسيحي مرّة، وعلماني مرّة، كما يقول جعيط، وبعضها منغرس تمامًا في أساطير القرون الوسطى حول الإسلام وحول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا بالطبع يقطع الطريق على أيّ فهمٍ موضوعي لما يتم دراسته. هل ترون أن هذا الانتقاد في محلّه؟ وإلى أيّ مدى يمكننا تعميمه؟ وهل لمستم وجود هذه المسبقات في اطلاعكم الواسع على هذا الحقل وفي اشتغالكم على الاستشراق الألماني وعلى نولدكه؟
د/ رغداء زيدان:
هذا النقد صحيح إلى حدٍّ بعيد برأيي، ومن خلال اشتغالي على نقد منهج نولدكه في كتابه (تاريخ القرآن) لمست هذا؛ فنولدكه في بحثه عن أصل القرآن، ومنذ الصفحة الأولى لكتابه (تاريخ القرآن)، وقع في سقطة علمية برأيي، أخذَتْه بعيدًا عن الطريق الذي يمكن أن يوصله إلى الحقيقة. فالعالِم إذا نسي كونه باحثًا عن الحقيقة، واعتبر نفسه مالكًا لها؛ فإنه يلج بحثه لا ليكتشفها، بل ليدلّل على صواب رأيه هو فيها قبل أن يبدأ بالبحث، فيثبـّتها كقضية مسلّمة، ويمرّ ليبني عليها استنتاجاته التالية دون أن يخبرنا لماذا أو كيف توصّل إلى ما اعتبرَه حقيقة مسلّمة لا تحتاج إلى دليلٍ أو سبب، وهذا ما فعله نولدكه عندما قرّر منذ البداية أن محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- نبيّ، لكن ليس كالأنبياء، فهو لم يوحَ إليه، ولكنه الصوت الداخلي الذي أقضّ مضجعه -حسب رأي نولدكه-. وعلى هذا المنوال يقرّر أنّ النبيّ -صلوات الله عليه- «تراءى له أنه مدفوع بقوة إلهية ليبلّغ مَن حوله من الناس تلك الفكرة على أنها حقيقة آتية من الله»، ويقول: إنّ أفضل ما في تعاليم محمد أخذه عن اليهود والمسيحيين، لذلك: فـ«إنّ محمدًا حمل طويلًا في وحدته ما تسلّمه من الغرباء، وجعله يتفاعل وتفكيره، ثم أعاد صياغته بحسب فكره، حتى أجبره أخيرًا الصوت الداخلي الحازم أن يبرز لبني قومه رغم الخطر والسخرية اللذَيْن تعرض لهما».
وهكذا لا يبدأ نولدكه بحثه بعرض النظريتين المحتملتين حول أصل القرآن، وهما: الوحي الإلهي، أو التأليف البشري، بل يبدأ مباشرةً بتقرير أن القرآن من عند النبيّ، ويبدأ بالبحث عن أدلة للبرهنة على بشرية القرآن، وكأنّ هذا حقيقةٌ ثابتة لا نزاع فيها ولا جدال، وإنما الجدال في تفاصيل هذه الحقيقة، أي: ما مصادر المعلومات التي اعتمدها محمد في تأليفه للقرآن؟ -حسب زعم نولدكه-.
وهذا الذي فعله نولدكه سار عليه معظمُ المستشرقين في تعاطيهم مع القرآن والنبوّة والوحي، على اختلاف بينهم في الأسلوب والتبريرات التي قدّموها أو النتائج التي وصلوا إليها وأثبتوها دون وجه حقّ.
المحور الثاني: الاستشراق الألماني:
س5: الكثير يعطي للاستشراق الألماني موقعًا خاصًّا بالنسبة لغيره من المدارس الاستشراقية. هل ترون أنه بالفعل ثمة اختلافات عميقة بين المدارس الاستشراقية تجعلنا أمام تقاليد استشراقية مختلفة من حيث الموضوعات وطرُق الاشتغال؟ وما سبب هذه الاختلافات سواء من الناحية المعرفيّة أو السياسية؟
د/ رغداء زيدان:
تقسيم الاستشراق إلى مدارس تبعًا للجغرافية واجَهَ اعتراضًا؛ كونه يخالف النتائج المنطقية للبحث في الاستشراق ودراسة نتاج المستشرقين، فوجود الاختلاف بين المستشرقين ليس مردّه إلى الجغرافية واختلاف البيئات المكانية، بل يعود إلى التناوب والتراكم المعرفي، والخبرة في تسيير عجلة البحث الاستشراقي، فالمدارس الاستشراقية تكاد تكون متطابقة من حيث الاهتمامات والمنطلقات وطرق البحث ومناهج الدراسات، كما أنها مكملة بعضها لبعض. وحقيقة فإنّ المدارس الاستشراقية تتشابه في الواقع بنتاجاتها ومناهجها، على الرغم من وجود اختلافات بينها، وذلك نتيجة الاختلاف الطبيعي بين الشعوب والأفراد.
وبالنسبة للاستشراق الألماني فقد تميّز بميزات، أهمها:
1- أنه لا يخضع لغايات استعمارية أو تبشيرية كالاستشراق في بريطانيا وفرنسا مثلًا، فاهتم الاستشراق الألماني بالدراسات الشرقية القديمة والآثار والفنون والآداب، وهي دراسات تخلو غالبًا من الأغراض السياسية.
2- لم تتصف الدراسات الألمانية بالرّوح العدائية للإسلام أو العرب، بل كان بين المستشرقين الألمان معجبون بالإسلام واللغة العربية (جوته كمثال أو آنا ماري شميل)، بينما وُجد في مدارس استشراقية أخرى مستشرقون كان عداؤهم واضحًا للإسلام.
3- كان هناك دعمٌ ماليّ للأبحاث، مع وجود معاهد خاصّة، وتعاون العلماء الألمان في إنجاز أبحاث استغرق إتمامها سنين طويلة، منها مثلًا كتاب نولدكه عن «تاريخ القرآن» الذي أنجزه عدّة مستشرقين، واستمر العمل عليه سنوات طويلة.
4- اهتمّ الألمان كذلك بدراسة النصّ القرآني عبر الفيلولوجيا، التي تهتم بجذور النصّ وأصوله المتسلسلة.
5- تركّز اهتمام الألمان على نشر المخطوطات القديمة وفهرستها، والاهتمام بمعاجم اللغة والدراسات القرآنية، وكان لهم إنتاجٌ كبيرٌ كان مثالًا سار عليه باحثون كُثُر من مدارس استشراقية بل وإسلامية وعربية أيضًا.
هذه المميزات التي امتازت بها المدرسة الألمانية للاستشراق، أعطتها مكانة كبيرة ومهمّة في العالم.
س6: هناك معضلات في ساحة الدرس العربي تواجه حُسن المتابعة والاطلاع على حصاد الاستشراق الألماني؛ أوّلها بالطبع معضلة اللغة وقلّة المتقنين لهذه اللغة، فضلًا عن غلبة الفيلولوجي على منهجيات هذا الاستشراق. كيف يمكن برأيكم مجاوزة هذا الأمر؟
د/ رغداء زيدان:
نحتاج لمراكز متخصّصة في هذا المجال، تساعد الباحثين على التعرّف إلى تلك النتاجات والأبحاث عبر ترجمتها ودرْسها وتأمين البيئة المناسبة للباحثين والمختصّين وتوفير الدراسات والكتب اللازمة، بالإضافة لعقد المؤتمرات واللقاءات المشتركة مع الباحثين الغربيين خاصّة الألمان منهم لاهتمامهم وجهودهم في هذا المجال، ومشاركة الآراء والتواصل الثقافي البيني سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي، فالجهد الشخصي الذي يبذله الباحثون العرب والمسلمون يبقى قاصرًا على المتابعة الجيدة والكافية. لكن للأسف حتى الآن لا يوجد مراكز كافية ولا خطة عملية لتجاوز هذا النقص.
س7: لا شك أن للاستشراق أثره وإن لم تترجم كلّ كتبه لعموم الدارسين، لكنه يترك أثره على كثير من الباحثين العرب المطّلعين عليه، ويُؤثّر بشكلٍ أو بآخر على ساحة الدرس العربي للقرآن وعلومه. من وجهة نظركم، ما أهم القضايا الفكرية والمنهجية التي أثّر بها الاستشراق على الدارسين العرب للقرآن وعلومه؟
د/ رغداء زيدان:
أدّى اهتمام المستشرقين بالقرآن وعلومه إلى نشر مجموعة كبيرة من المخطوطات والكتب وترجمات القرآن؛ مما كان له تأثيره الكبير على الحركة الفكرية الإسلامية، وكذلك كان له أثر في توجيه الاهتمام نحو مباحث جديدة في علوم القرآن، فاهتمت الدراسات الاستشراقية بالقرآن وعلومه، وقدّم المستشرقون أبحاثهم حول النصّ القرآني والوحي والقراءات والرسم القرآني والمكي والمدني وترتيب القرآن وتفسيره... وغيرها من العلوم القرآنية، كما قاموا بترجمة القرآن إلى اللغات الأوروبية المختلفة، وعملوا على نشر المخطوطات الخاصّة بعلوم القرآن، وحقّقوها وفهرسوها ونظّموها، وعملوا على وضع المعاجم المتنوّعة التي تخصّ القرآن. وأظنّ أن أهم القضايا التي أثّر بها الاستشراق على الدارسين العرب للقرآن الكريم وعلومه يمكن تلخيصها بما يأتي:
1- قضية تدوين القرآن وجمعه وترتيب سوره حسب النزول.
2- قضية فهارس ألفاظ القرآن وموضوعاته.
3- شبهات المستشرقين فيما يخصّ الوحي والنبوّة.
4- قضايا دراسة النصّ القرآني باعتباره نصًّا تاريخيًّا عاكسًا للثقافة والبيئة التي وُجد فيها.
5- قضايا متنوّعة تختصّ بعلوم القرآن وتصنيفاتها.
6- ترجمات القرآن وتفسيراته.
فالجهد الاستشراقي في دراسة القرآن الكريم وعلومه أثار الاهتمام ووجّه الباحثين للردّ على طروحات المستشرقين، وأيضًا فتح عيونهم على بحث مواضيع أخرى تخصّ الدرس القرآني.