الملف الثالث على قسم الترجمات
«الاتجاه السانكروني (التزامني) في دراسة القرآن»

بعد أن نشرنا ملفًّا يدور حول (تاريخ القرآن) كتكثيف للمنهج الدياكروني (التعاقبي) الذي يلجأ إليه المستشرقون في دراسة القرآن؛ نقوم بنشر ملفٍّ جديد يدور حول اتجاه معاكس في الطرح الاستشراقي وهو «الاتجاه السانكروني (التزامني)» البارز مؤخرًا، هذه المقالة مدخل تعريفي بالملف، يوضح الهدف منه والسياسات المتّبَعة في نشره.

مدخل تعريفي:

لعلّ من أبرز المناهج الغربية التي يتوسل بها المستشرقون مقاربة القرآن -هو المنهج التاريخي النقدي (التعاقبي/ الدياكروني)، وذلك أنهم انطلقوا من فرضية أن النصّ القرآني يبدو -من وجهة نظرهم- مركَّبًا من أجزاء ليست متّسقة ولا مرتَّبة بذات الطريقة الخطيّة المعهودة في الكتابات بصورة عامة، ومِن ثَمّ لجؤوا لذلكم المنهج في مقاربة القرآن باعتباره الأنسب لتتبع تاريخ أجزاء النصوص والكشف عن مصادرها التي رُكِّبت منها؛ ومن هاهنا دارت المشاغل البحثية لدراسات الاستشراق حول القرآن على البحث في تاريخه وملابسات تدوينه والتطوّرات التي لحقت به، والاهتمام بالنظر في ترتيب سوره وآياته زمنيًّا، ومحاولة الكشف عن أصوله التي استُقِي منها، والاجتهاد في تبيُّن العلاقات بينه وبين البيئة التي نزل فيها ووجوه أثرها، وكذلك الصلات بينه وبين النصوص السابقة عليه...إلخ.

وقد ظهر معنا كثيرٌ من تلك المشاغل في الملف الثاني الذي نشرناه على (قسم الترجمات) والذي جاء بعنوان: (تاريخ القرآن)، حيث ظهر اهتمام الدرس الغربي بجوانب تاريخية في تدوين القرآن وكيفيات تحقيبهم لهذا التدوين ورؤيتهم لمراحله، وكذلك انشغالهم الشديد بمسألة ترتيب السور...إلخ.

ورغم السيطرة الكبيرة للمنهج التعاقبي في دراسة القرآن على معظم مفاصل الدرس الغربي للقرآن، حتى إن هذه المقاربة الدياكرونية صارت عَلَمًا وعنوانًا على التناول الغربي للقرآن بصورة عامّة، إلا أن الدراسة الغربية للقرآن شهدت مؤخرًا بدء ظهورٍ لتناوُلٍ مختلِفٍ، وهو التناول التزامني (السانكروني)، والذي ينطلق من فرضية معاكسة تمامًا للفرضية التي ألجأَتْ لاستحضار المنهج التاريخي النقدي لدى غالب المستشرقين؛ وهي القول بأن النصّ القرآني -كما هو موجود الآن- نصٌّ متسقٌ وله بُنْيَة تحتاج للكشف عنها والبحث فيها لفهمها، ومِن ثَمّ استثمار المنهج التزامني لا التعاقبي في الكشف عن هذه البنية وفهم أبعادها.

ويرجع بروز التزامنية على ساحة دراسات القرآن الغربية في العقود الأخيرة لسببين رئيسين:

أولًا: تطور مناهج دراسة النصوص ذاتها في الفكر الغربي -كظهور البنيوية وغيرها- والتي تهتم باستكشاف بُنَى النصوص لا دراسة أصلها ومصدرها كالمنهج الدياكروني.

ثانيًا: تطوّر مناهج دراسة النصوص الدينية ذاتها في الغرب، ومحاولة استفادتها من المناهج التزامنية وتحقيقها الكثير من النتائج اللافتة للنظر من خلالها، والتي حفزت بالتالي المستشرقين لمحاولة تطبيقها على القرآن، خصوصًا في إثر تنامي الرغبة الأوسع في نقل دراسة القرآن لحقل دراسات اللاهوت ومحاولة إيجاد منهج أكثر ملاءمة يستطيع تلافي بعض الإشكالات التي طالما لابست المنهج التعاقبي في دراسته القرآن.

في هذا السياق، فإن الدراسة السانكرونية للقرآن استطاعت تجاوز فكرتين أساسيتين لطالما رافقتا الدراسة الدياكرونية للقرآن حتى صارتا معتمَدًا للفكر الاستشراقي في تعامله مع القرآن، وهما:

أولًا: تجاوز نظرية التأثّر والتأثير والبحث عن أصول ومصادر النصّ القرآني والتي شكلت إطار الدرس لكثيرٍ من الكتابات الاستشراقية الكلاسيكية، على رأسها كتاب جيجر: (ماذا أخذ محمد عن اليهودية؟)، حيث انتقلت الدراسة السانكرونية بدلًا عن هذا إلى مفهوم التناصّ، والذي يحيل -بدلًا من مفاهيم الانتحال والاقتباس التي تدع الدارس دومًا خارج النصّ- إلى مساحات إعادة الصياغة والتشكيل التي قام بها النصّ القرآني نفسه كبناء خاصّ في تعامله مع النصوص السابقة عليه بغية الهيمنة النصيّة والعقدية عليها، وهو ما يرتبط بمفهوم بات مهمًّا في الدرس الاستشراقي وهو (المرجعية الذاتية للنصّ) والذي يعني امتلاك النصّ بؤرةً أو مركزًا دلاليًّا يتحكم في الدلالات الجزئية له ويحدّد مستوياتها الدلالية.

ثانيًا: تجاوز استشكال بُنية النصّ القرآني من جهة كونها غير خطّية وكذلك غير موضوعية، وبالتالي اعتبار الترتيب التاريخي للقرآن هو المفتاح الوحيد لفهمه عبر ربطه بواقع الدعوة، وأنّ الترتيب الموضوعي للنصّ هو المفتاح الوحيد لجعل أفكار النصّ جلية للقارئ الغربي، حيث انطلقت الدراسات السانكرونية في مقابل هذا من تعقد بنية النصّ القرآني في عمليات الاستعادة والتكرار والتوظيف، وكون أسلوبه الذي ربما لا يتفق مع الأسلوب الخطي أو الموضوعي هو أسلوب خاصّ يحتاج للاستكشاف ولدراسة أبعاده ومزاياه بدلًا من محاولة إخضاع النصّ لأسلوب لا يتفق معه.

وقد اخترنا بالأساس جملةً من المواد الأساسية كي تنشر ضمن هذا الملف، آملين قدرتها على تغطية الجوانب الرئيسة لهذا الاتجاه وأبرز نتاجه ومؤلفاته، وهي قائمة على التنويع نفسِه المقرّر المذكور في دليل السياسات، حيث راعينا انتماءها إلى تقاليد استشراقية متنوعة: إنجليزية وفرنسية وألمانية، بل وأحيانًا خارج هذه التقاليد الثلاثة الشهيرة، كما راعينا أن تكون متنوعة من حيث منطلقات وخلفيات كُتّابها.

وقد جعلنا أحد المحاور الرئيسة في هذ الملف، هو: «الاتجاه البلاغي في دراسة القرآن»، والذي يُعَدُّ ميشيل كويبرس من أبرز أعلامه بل رائد تطبيقه في القرآن تحديدًا[1]، وقد جعلنا لمواد هذا الاتجاه تحديدًا المساحة الأكبر في الملف؛ كونه من أبرز الاتجاهات التزامنية التي تركز على استكشاف بنيات النصّ من داخله، وطرائق تركُّبه وبنائه بصورة دقيقة ومركزة.

ونحن -إِذْ نستعين بالله في طرح هذا الملف- يحدونا الأمل في أن يثمر إثمارًا حسنًا في تعريف الدارسين بالمنهج التزامني في الدرس الغربي ومؤلفاته، وكذلك أحد أبرز التطبيقات الناضجة فيه والتي يمثلها (الاتجاه البلاغي)، لا سيما وأنّ كثيرًا من نتائج هذا المنهج تستحق العناية وتحمل إفادات مهمّة لإثراء حقل الدراسات القرآنية وذلك خلافًا للمنهج التعاقبي، والذي قلّما تفيد نتائجه في إثراء الدرس الإسلامي بصورة عامّة للقرآن.

ونحن نجري هنا في نشر المواد قيد هذا الملف على القواعد نفسِها التي أرسيناها قَبْلُ[2]؛ حيث نقدم كلّ ترجمة بمقدمة توضّح أهمية المادة، وتُلقِي ضوءًا على فكرتها المركزية، ونضمّنها حواشي مُعرِّفة بالأعلام والمذاهب والكتُب الواردة في النصوص، وخصوصًا ذات الصلة بالقرآن الكريم وعلومه، كما سيجد قارئنا الكريم عددًا من التعليقات على بعض الآراء التي وجدنا فيها إغراقًا في البُعد عن العِلْميّة.

 

 

[1] طبّق عددٌ من الباحثين في جامعة القديس يوسف ببيروت (رولان مينيه، أهيف سنو، لويس بوزيه، نائلة فاروقي) هذا المنهج لكن على الحديث، وليس على القرآن.

[2] يراجع على القسم هنا مقالة: «قسم الترجمات؛ الدوافع، الأهداف، الآليات، الإشكالات»، على هذا الرابط: tafsir.net/translation/3 .

المؤلف

إعداد/ قسم الترجمات بموقع تفسير

مسئولو قسم الترجمات بموقع مركز تفسير للدراسات القرآنية

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))