عنوان تفسير «النهر» لأبي حيان الأندلسي
عرض وتحرير

‏تتناول هذه المقالة تسمية تفسير أبي حيان الأندلسي المطبوع باسم: «النهر المادّ من البحر»، وتناقش المشتهر في تسمية هذا التفسير، وتحرّر وجه التسمية بما يقارب مقصد المصنِّف.

  الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمّا بعد:

فَمِن العلماء الذين كان لهم إسهام في التصنيف في عِلْم التفسير العلّامة أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي (ت: 745هـ)، وقد ألَّف أكثر من كتاب في هذا العِلْم، أشهرها كتابه الكبير: (البحر المحيط)[1]، ثم إنه اختصره في كتابٍ طُبِع بعنوان: (النهرُ المادّ من البحر المحيط)[2]. وهذه التسمية للكتاب فيها إشكال؛ حيث إني وقفتُ على فائدة من البحَّاثة المدقّق د. محمد بن مهدي العجمي[3] -حفظه الله تعالى- في قناته على (التليجرام) تفيد بأنّ عنوان كتاب أبي حيان المختصر، هو: (النهرْ، الماد من البحرْ)، وأفاد بأنّ أبا حيان بنى هذا العنوان على السجع، و«أنّ الجار والمجرور (من البحر) متعلّقان بكلمة (الماد)، فحقّهما أن يتصلَا به لفظًا كما اتصلَا به معنًى»، وقد أحسن -جزاه الله خيرًا- فيما ذَكَر، فأردتُ في هذه المقالة أن أسلِّط الضوء على تحرير عنوان هذا الكتاب، وأدلّل عليه من مقدمة المصنّف نفسِه، ومخطوطات الكتاب، وتسمية أهل العلم للكتاب.

وقد يُظَنّ أنّ الفرق بينهما يسيرٌ فلا يحتاج إلى دراسة، وهذا الظنّ مردود، يقول الإمام الشافعي: «مَن تَعلَّم عِلْمًا فَلْيُدَقِّقْ فِيه؛ لِئلَّا يضيع دَقِيق العِلْمِ»[4]. إضافةً إلى أنه لا يخفى أنّ أُولى مراحل تحقيق كتابٍ ما: تحقيق عنوانه، وإثبات الاسم الذي سمَّاه به مصنِّفه،وفي هذا يقول العلّامة عبد السلام هارون: «الجهود التي تُبذل في كلّ مخطوط يجب أن تتناول البحث في الزوايا التالية»، ثم ذكر أوّلها، فقال: «تحقيق عنوان الكتاب»[5]، «وليس هذا بالأمر الهيِّن»[6]؛ لذلك يقع اختلاف بين أهل العلم في تحديد العنوان الدقيق لبعض المصنّفات.

ومن هنا تأتي هذه المقالة لتحرير عنوان تفسير أبي حيان المختصر المطبوع بعنوان: (النهر الماد من البحر المحيط).

من المشهور المتداول على أَلْسِنة كثير من الناس -ومنهم المتخصّصون- أنهم يُطلقون على هذا التفسير -من باب الاختصار، وأخذًا من غلاف الكتاب المطبوع-: (النهر الماد).

ومما يحسن أن يُعلم أنّ «كلماتِ السَّجْعِ موضوعةٌ على أن تكون ساكنة الأعجاز، موقوفًا عليها؛ لأنّ الغرض أن يُجَانَسَ بين القرائن ويزاوج بينها، وما يتمّ ذلك إلا بالوقف»[7]، «إذْ لو ظهر الإعراب لفات ذلك الغرض، وضاق المجال على قاصده»[8]. وهذا الأمر كان حاضرًا عند أبي حيان؛ إِذْ عَنون لكتابه بـ: «النَّهْرْ، المادّ من البَحْرْ»، فيُلاحِظ القارئ فيه أمرين: سكون الراء للسجع، وعدم إضافة (المحيط) بعد (البحر)، وإذا أراد أن يختصر العنوان فإنه يقول: (النهر) دون ذِكر (الماد)؛ إذ جعل أبو حيان (الماد) متعلّقة بما بعدها، لا بما قبلها.

ويشهد لِمَا ذُكِر الآتي:

أوَّلًا: كلام المصنّف في مقدّمته، فقد قال أبو حيان في مقدّمة كتابه: «فإنِّي لـمَّا صنَّفْتُ كتابي الكبيرْ، الـمسمى بالبحر المحيط في علم التفسيرْ، ‌عَجزَ لِطوله عن قطعه السابِحْ، وتفلَّت له عن اقتناصه البارح منه والسانِحْ، فأجريتُ منه نهرًا تجري عيونُهْ، وتلتقي فيه بأبكاره فيه عونُهْ، لينشط الكسلان في اجتلاء جمالِهْ، ويرتوي الظمآن بارتشاف زُلالِهْ.

وربما نشأ في هذا النَّهرْ، ما لم يكن في البحرْ؛ وذلك لتجدد نظر المستخرج لِلَآلِيهْ، المبتهج بالفكر في معانيه ومعاليهْ. وما أخليته من أكثر ما تضمّنه البحر من نُقودِهْ، بل اقتصرتُ على يواقيت عُقودِهْ، ونكبت عن ذِكْر ما في البحر من أقوال اضطربت بها لُـجَجُهْ، وإعراب متكلّف تقاصرت عنه حُجَجُهْ، وتفكيك أجزاء يخرج به الكلام عن براعَتِهْ، ويتجرَّدُ من فاخر بلاغته ونصاعَتِهْ. وهذا النهرْ، مَدُّه من بَحرْ، ليس له جَزْرْ، فيعسر وِرده على مَن حظه مِن النحو نَزْرْ؛ لأنَّ إدراك عويص المعاني، مُترتِّبٌ على تقدُّم معرفة المباني.

ولـمَّا أَثرْتُ دُرَّ هذا النهر من بَحرِهْ، ونثرت حِليَةً على مفرق الزمان وَجِيده وَنَحرِهْ = سَمَّيْتُه بـ(النهرْ، المادِّ من البحرْ)، واللهَ أسألُ أن يُعيننا على ذلِكْ، ويلطف بنا في الدارين هنا وهنالِكْ»[9].

ثانيًا: وردَ ضبط العنوان وَفق المذكور على غاشية نسخة الكتاب الخطّية، وضُبِط كذلك في المخطوطة.


صفحة عنوان الكتاب (نسخة مراد ملا 47)


صفحة عنوان الكتاب (نسخة مراد ملا 48)


المقدمة (نسخة داماد إبراهيم باشا 55)

ثالثًا: ذِكْر بعض الناقلين عنه والمترجمين له بهذا العنوان، ومن ذلك قول البقاعي: «نقله عنه أبو ‌حيان ‌في (‌النهر)»[10]، ولم يزد على ذلك، وقول المرداوي: «قال أبو حيان في (النهر)»[11]، ولم يزد على ذلك كذلك، وغيرهما كثير. وقال ابن الجزري في ترجمة أبي حيان: «له التفسير الذي لم يُسبق إلى مثله، سمَّاه: (البحر المحيط) في عشر مجلدات، واختصره في ثلاث مجلدات سمَّاه: (النهر)»[12]، ولم يزد على ذلك في التسمية.

وبعدُ، فالكتاب بحاجة إلى إعادة طباعة، أمّا التحقيق فقد كُفي أهل العلم ذلك من خلال المشروع الذي سُجِّل في قسم التفسير وعلوم القرآن بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، حيث حُقِّق الكتاب في 12 رسالة ماجستير تقريبًا، يسَّر اللهُ تعالى طباعتها والاستفادة منها. وأُشير هنا إلى أنه سُجِّل حديثًا مشروعٌ علمي في قسم التفسير والحديث بكلية الشريعة في جامعة الكويت، بعنوان: (الموازنة بين تفسيري (البحر المحيط) و(النهر)، لأبي حيان الأندلسي؛ دراسة تحليلية تطبيقية)، وُزِّعَت أجزاء القرآن على عشرة طلاب في مرحلة الماجستير[13].

خاتمة:

تبيَّن في هذه المقالة أنّ العنوان الذي طُبِع به تفسير أبي حيان المختصر: (النهر المادّ من البحر المحيط) محلّ نظر، وثبت بالأدلة أنّ العنوان الصحيح للكتاب، هو: (النَّهْرْ، المادّ من البَحْرْ)، ومَن أراد اختصاره فإنه يذكره باسم: (النهر)، وأمّا العنوان الذي طُبع به الكتاب: (النهر الماد، من البحر المحيط)، فإنه مخالف لمقصد المصنِّف رحمه الله تعالى. والله أعلم.

والحمدُ لله ربّ العالمين

 


[1] وقد حُقِّق في مشروع في مرحلة الدكتوراه بالجامعة الإسلامية، في 24 رسالة، حقّقت الكتاب كاملًا باستثناء تفسير آية 177 من سورة البقرة إلى آخر السورة، إِذْ حُقِّق هذا الجزء من الكتاب في رسالة دكتوراه في جامعة الإمام محمد بن سعود سنة 1408هـ.

[2] قال الباحث أحمد بن عتيق الله الصبحي -محقّق الجزء الأول من الكتاب في رسالته الماجستير بالجامعة الإسلامية-: «لقد طُبِع كتاب النهر الماد عِدَّة طبعات، وكلّها ليستْ محقّقة تحقيقًا علميًّا، مما زادني همّة بتحقيقه، وأفضل تلك الطبعات: طبعة دار الجيل ببيروت، بتحقيق د. عمر الأسعد...»، تحقيقه لـ(النهر)، ص76.

[3] الأستاذ المشارك بقسم الفقه المقارن بكلية الشريعة بجامعة الكويت.

[4] أخرجه عنه البيهقي في (المدخل إلى السنن الكبرى)، ص285، (416).

[5] تحقيق النصوص ونشرها، ص42.

[6] تحقيق النصوص ونشرها، ص43.

[7] شرح مقامات الزمخشري، ص8.

[8] ثمرات الأوراق، ص272. وانظر للمزيد حول هذه المسألة: الإشارات والتنبيهات للجرجاني، ص272- 273، ونهاية الأرب في فنون الأدب (7/ 103)، والإيضاح لتلخيص المفتاح، ص605، وشرح تلخيص المفتاح، ص823، والبرهان في علوم القرآن (1/ 163- 164)، وصبح الأعشى في صناعة الإنشا (2/ 302).

[9] النهر، الماد من البحر، ص88- 90، تحقيق: أحمد بن عتيق الله الصبحي، رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية.

[10] مصاعد النظر (1/ 178). وانظر كذلك: نظم الدرر (3/ 238) و(5/ 216) و(6/ 248)، وغيرها.

[11] التحبير شرح التحرير (2/ 641 و646) و(7/ 3735).

[12] غاية النهاية (3/ 719).

[13] أفادني بذلك أحد الباحثين في المشروع، وهو الأخ الكريم إبراهيم بن سعود الربيعة، ونصيبه في المشروع الأجزاء: 25 و26 و27، وفّقه الله تعالى ويسّر له ولزملائه إتمام المشروع على خير حال.

الكاتب

أحمد سليمان المنيفي

حاصل على بكالوريوس التفسير والحديث من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت، وله بعض الأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))