بحث: الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي
ل أنجيليكا نويفرت
"عرض وتقويم"

المؤلف : محمود عماد
تُعدُّ أنجيليكا نويفرت مِن أهمّ الباحثين على ساحة ما يُعرف بالاتجاه التزامني لدراسة القرآن؛ في ورقتها البحثية (الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي)، تناولت علاقة القرآن بالكتاب المقدس، وغير ذلك من الأمور، هذا المقال هو عرض لورقة نويفرت وإبداء لبعض الملحوظات النقدية حولها.

  نُشرت مؤخرا على موقع تفسير ترجمة ورقة بحثية لإحدى الباحثات الغربيّات، والتي تناوَلتْ فيها الباحثة أحد الموضوعات المهمّة، وهي ورقة: (الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي)[1]، للباحثة أنجيليكا نويفرت[2]، وفي هذه المقالة سنحاول تقويم ورقة نويفرت وبيان الموقف منها، وستأتي معالجتنا النقدية مقسومة لقسمين؛ أحدهما لعرض البحث كما عرضته صاحبتُه باختصار لا يخلّ به، والثاني لتقويمه، وذلك بعد تمهيد نعرِّج فيه أوّلًا حول إسهامات نويفرت في الدراسات الاستشراقية وكيفية تعاطيها مع القرآن، وثانيًا حول ما أثارته نويفرت من فكرة تعامُل القرآن مع الكتاب المقدّس وتحوّله من التغلغل فيه إلى الهيمنة عليه، وهو ما نتعرّض له بالتفصيل في هذه المقالة التي تُعَدُّ مقاربة نقدية نأمل أن تكون مُنْصِفة وشارحة لمنهج الباحثة قدر الاستطاعة؛ واقفة على أهم ما يميّز هذا البحث وأبرز ما اعتراه من نقص وإشكال في إيجاز شديد.

تمهيد:

أولًا: إسهامات أنجيليكا نويفرت في الدراسات القرآنية:

 شهدتْ الدراسة الغربية للقرآن مؤخرًا بدءَ ظهورٍ لتناوُلٍ مختلِفٍ، وهو التناول التزامني (السانكروني)، والذي ينطلق من فرضية معاكسة تمامًا للفرضية التي ألجأَتْ لاستحضار المنهج التاريخي النقدي لدى غالب المستشرقين؛ وهي القول بأنّ النصّ القرآني -كما هو موجود الآن- نصٌّ متسقٌ وله بُنْيَة تحتاج للكشف عنها والبحث فيها لفهمها، ومِن ثَمّ استثمار المنهج التزامني لا التعاقبي في الكشف عن هذه البنية وفهم أبعادها[3].

وتعدُّ أنجيليكا نويفرت أهم روّاد هذا الاتجاه وخاصّة بعد صدور كتابها: (دراسات حول تركيب السور المكية) عام 1981، والذي أثار اهتمامًا واسعًا في أكاديميا الدراسات القرآنية؛ فقد استطاعت الباحثة الألمانية أن تقدّم أفكارًا جديدة على ساحة الاستشراق الغربي حول دراسة النصّ القرآني باعتباره نصًّا أدبيًّا له ميزاته الخاصّة وحددت السورة القرآنية لتكون وحدة هذا النصّ، بالإضافة إلى مُجادلتها المستمرة للتعامل مع القرآن باعتباره نصًّا مقدسًا وإيجاد العلاقة بينه وبين الكتاب المقدّس ويُعَدّ هذا البحث أحد تجليات هذه الأفكار، وسنناقش الفكرة بمزيد من التوضيح فيما سيأتي[4]. 

ثانيًا: تناوُل أنجيليكا نويفرت لعلاقة القرآن بالكتاب المقدّس:

 تُعَدّ نويفرت -أستاذ الدراسات الساميّة والعربية في جامعة برلين الحُرّة- واحدةً من الباحثين الذين خَطَوا على خُطى نولدكه في التعاطي مع سور القرآن وتقسيمها إلى مراحل أربع؛ (3 مكية ومرحلة مدنية)، رغم ذلك فهي لم توافق نولدكه في كلّ أفكاره وقدّمت نقدًا قويًّا له وطوّرت على مشروعه الكثير، وبعد صدور كتابها الثاني والمعروف باسم: (القرآن كنصّ من العصور القديمة المتأخّرة؛ مقاربة أوروبية)، حاولتْ طرح فكرة أنّ النصّ القرآني ليس مستقلًّا عن التراث الكتابي للتوراة والأناجيل، وإنما هو امتداد لهم، مُحاوِلةً الوصول لأصل نشأة القرآن ودراسة بداية ظهوره ومقارنتها بالتراث الموجود في تلك الفترة، مع مراعاة اللغة الأصلية للقرآن نفسه وسماع صوته الداخلي، وهي بذلك تطرح مقاربة للدّارِس الغربي الباحث عن تفسيرات للكتاب المقدّس بأنّ القرآن هو أصلٌ لاهوتيّ يمكن الرجوع إليه للاستفادة من تطوّر الرؤية النقدية بداخله. إنّ نويفرت تقرّر أنّ القرآن بدأ من نقطة تماس مع التراث السابق عليه من الكتاب المقدّس، وقد تطوّر بعد ذلك ليكون نصًّا مستقلًّا يخاطب أُمّة حية تؤمن به وتتشكّل مع مرور الزمن مكوِّنة هويتها الخاصّة.  

القسم الأول: بحث أنجيليكا نويفرت؛ عرض وبيان:

هدف البحث:

يهدف البحث إلى إيجاد علاقة بين القرآن ككتاب مقدّس يُمثّل (اللوجوس logos) من ناحية وبين الكتاب المقدّس من ناحية أخرى، وتحاول نويفرت أن تُؤسِّس لوجود ثلاث مراحل لتكوّن هذه العلاقة؛ تبدأ من الانطلاق من رؤية الكتاب المقدّس ثم تتطور للتغلغل داخل تفاصيله وأحداثه بدقّة إلى أن تصل للمرحلة الأخيرة، وهي الهيمنة عليه وتصحيح الرؤى لمعتنقيه من اليهود في المدينة المنورة.

وقد قسمت الباحثة هذه الورقة إلى ثلاث نقاط رئيسة، هي:

- المثلث القرآني.

- المراحل الثلاث لتطوّر القرآن (الجزء الأساسي للبحث).

- التعليق على منهجيات الدراسات القرآنية.

أولًا: المثلث القرآني:

 تقدّم الباحثة القرآن باعتباره له ثلاث ميزات تختصّ به، وهي: البلاغ، والوحي، والهدى. وهو ما أسمته بالمثلث القرآني:  

أولًا: القرآن بلاغ:

تُعَدّ الميزة الأولى عند نويفرت أنّ القرآن يخاطب أُمّة منذ اللحظة الأولى، وتنعكس النصوص مع الجمهور المتلقّي لهذا النصّ، وهذا التفاعل النصّي يتدرّج مع جماعة المسلمين في كلّ مرحلة محدِّدًا هويتها وما عليها فِعْلُه؛ لذلك تؤكِّد الباحثة على أهمية الدراسة التاريخية السياقية لوجود النصّ والوصول لإيجاد علاقة تزامنية بين بداية ظهور النصّ وتكوّن الأمّة الذي يُعَدّ القرآن فيه سجلًّا تأريخيًّا لتلك الأمة التي تطوّرت شيئًا فشيئًا هويتها الدينية الخاصّة، وهو ما تقدّمه الباحثة فرضًا لفهم النصّ قبل البحث فيه.

ثانيًا: القرآن وحي:

تعبِّر نويفرت عن الخاصية الثانية للنصّ بأنه رسالة مقدّسة، واستخدمت التعبير (لوجوس logosللتعبير عن هذه الصفة بمعنى القوّة التي تتوسّط بين الله والبشر، أو بمعنى كلمة الله المتجسّدة في المسيحية، وتقول إنّ هذه الميزة يقرّ بها النصّ عندما يتحدّث الصوت الإلهي بصيغة (أنا) أو (نحن) داخل القرآن، وإنه لا يمكن إغفال هذه الميزة عند دراسة القرآن، مخالفةً بذلك لرأي د/ نصر أبو زيد الذي يقول بعدم خضوع هذه الفرضية للدراسة؛ نظرًا لعدم إمكانية اختبارها في الدراسات الأكاديمية.

ثالثًا: القرآن هُدَى:

تُشير الباحثةُ هنا إلى نقطتين، وهما: مخاطبة اليهود (بنصوص تشبه الكتاب المقدّس)، وعرب الجزيرة العربية (بلغة أدبية تتشابه مع الشِّعْر وترتقي به في أسلوب جديد)؛ فوجود الوصايا العشر بصورة جديدة في القرآن يمثّل دعوة لتحسين الأخلاقيات في المجتمع المكي، كما أنّ تكرار التأكيد على قضية البعث والحساب يشابه تكرار بداية ذِكْر الأطلال في مفتتح القصيدة الشِّعْرية قبل الإسلام، وبالطبع قضية البعث بعد الموت ووجود الجنة والنار كثواب على أفعال الإنسان تعيد الرؤية الجديدة للارتباط بالبيئة العربية وتشكيل الوعي الجمعي.

ثانيًا: تطور القرآن خلال ثلاث مراحل:

أولًا: المرحلة الأولى هي الانطلاق من الكتاب المقدّس:

تُحاول نويفرت أن تُثْبِتَ تشابُهَ القرآن مع الكتاب المقدّس في بداية نزوله في المرحلة المبكّرة من خلال سَوقها لدليل استعمال كلمة قرآن في المعاجم القديمة (تطبيق الدراسة الفيلولوجية) والتي تعني -حسب نويفرت-: تلاوة النصوص التعبّدية ليلًا، وتضربُ مثالًا لذلك بوجه الشبه بين سورة المزمّل التي نزلت في بداية بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبين سفر المزامير كما هو موضح بالجدول الآتي:

سورة المزمل

سفر المزامير

﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[المزمل: 2]

فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ أَقُومُ لأَحْمَدَكَ عَلَى أَحْكَامِ بِرِّكَ.119: 62

﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾[المزمل: 8]

هَلِّلُوا يَاسَبِّحُوا يَا عَبِيدَ الرَّبِّ.. 113: 1

﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ...﴾[المزمل: 9]

إِلهُ الآلِهَةِ الرَّبُّ تَكَلَّمَ، وَدَعَا الأَرْضَ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا.50: 1

 

- كما تشير أنجيليكا لملاحظة أنّ القراءة التعبّدية ليست فقط للرسول وإنما للأمّة المخاطَبة بتلك النصوص ليكون هذا الكتاب مرشدًا لها[5].

ثانيًا: التغلغل في التراث الكتابي (الكتاب المقدّس):

تتميّز هذه الفترة بعملية الانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثالثة؛ حيث إنّ سور المرحلة المكية المتوسّطة أصبحت تركّز على سردِ فصولٍ من التاريخ التوراتي مع التأكيد في بداية السورة ونهايتها بأنه الكتاب المصدِّق لرسالة المبلِّغ.

 أيضًا تم التركيز في تلك الفترة على قصة سيدنا موسى واستحضار ذِكْر الأرض المقدّسة ومهد الرسالات بالتزامن مع انتقال قِبْلَة الصلاة إلى المسجد الأقصى، والذي يعطي أمّة الإسلام هويتهم الجديدة المستمدّة من الرسالات السابقة والرّسل السابقين واعتبار الرسول الحالي امتدادًا لهم.

وتذكر الباحثة أنّ هناك اختلافًا بين قصة موسى والكلام عن اليهود في القرآن المكي والمدني؛ حيث يركِّز النصّ المكي على عقائد التوحيد وذِكْر التوبة والخلاص الذّاتي للأُمّة المؤمنة، إلى الانتقال بعد ذلك في النصّ المدني إلى أمّة دينية تعتمد على نفسها وتتمتّع بهوية سياسية مستقلّة، وهذه هي المرحلة الجديدة التي يتطوّر بها النصّ القرآني والتي تعدّ المرحلة الثالثة للنصّ القرآني وهيمنته على الكتاب المقدّس، وضربت مثالًا لذلك بسورة طه وذِكر القصص التوراتي بها، وهو ما نتعرّض له بالتفصيل في النقطة التالية[6].

ثالثًا: الهيمنة على التراث الكتابي/ حوار مع العهد القديم:

تُقدِّم نويفرت نظرية جديدة بقولها إنّ المرحلة المدنية شَهِدَت منحنى آخر لسرد قصص التوراة والنبي موسى الذي كان غير مُنازَع المقام في السور التي نزلت في الحقبة المكية، وبعد وجود الرسول في المدينة أصبح هناك وجود لذِكْر محمد كرسولٍ جديد يحلّ محلّ الرّسل السابقين وعلى رأسهم موسى، كما أصبح هناك وجود لتعليقات تُخاطِب اليهود الحاضرين لنزول القرآن تُبيّن وتُصَحِّح لهم بعض المفاهيم الخاطئة التي يمارسونها؛ مثل التشدّد في القوانين الغذائية اليهودية بدلًا من الاهتمام بتعاليم الإله المتعلّقة بالتوحيد وعدم الشِّرْك، من خلال سردِ قصةِ العِجْل الذهبي في سورة طه[7].

وتفترض الباحثة أنّ الآيات 80: 82 من سورة طه آيات مدنية تم إضافتها للسورة المكية، وهذه الإضافة تُمَثّل الجزء المهيمن على الكتاب المقدّس -بحدّ تعبيرها-، وهذا القرآن المدني يركِّز على إظهار الجوانب السلبية لبني إسرائيل ويحاور اليهود المعاصرين لنزول القرآن بشكلٍ غير مباشر؛ تذكيرًا لهم بأهمية اتّباع النبي المرسَل وعدم الوقوع في أخطاء الماضي كما عبدَت بنو إسرائيل العِجْل بعد الخروج مع النبي موسى، وتحاول إيجاد تشابه بين الآيتين 81 و82 من السورة مع الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر الخروج، كما هو موضح في الجدول الآتي:

سورة طه

سفر الخروج

﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾[طه: 81]

 فَاجْتَازَ الرَّبُّ قُدَّامَهُ، وَنَادَى الرَّبُّ: «الرَّبُّ إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ».34: 6

﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه: 82]

«حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ. وَلكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً. مُفْتَقِدٌ إِثْمَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ، وَفِي أَبْنَاءِ الأَبْنَاءِ، فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ». 34: 7

 

ثالثًا: التعليق على منهجيات الدراسات القرآنية:

تنتهي الباحثة في تلك الورقة إلى ضرورة إعادة النظر في الدراسات القرآنية الغربية والتعامل مع القرآن من حيث هو نصّ له بُعد تاريخيّ وطبوغرافيا محدّدة، وله مُحاوِرون يتفاعل معهم وكلّما يزداد عددهم ودرجة إيمانهم كلّما تتغير لغة هذا النصّ؛ ويمكن دراسة ذلك من خلال دراسة الترتيب التاريخي لسور القرآن، وهي رؤية تتوافق مع الرؤية التقليدية الإسلامية إلى حدّ كبير، لكن القسم المتعلّق بأسباب النزول غير كافٍ للبحث؛ لذلك يجب الاهتمام بالبحث النصِّي ذاته لسور القرآن وعدم الاعتماد على السياقات الاجتماعية الخارجة عليه.

لذلك جاءت توصيتها بعدم الميل للبحث التاريخي/ الكرونولوجي الذي يجتزئ النصوص والتركيز على طرق نقل المصحف، بينما يغفل عن دراسة النصّ نفسه من الداخل، كما أوصتْ بأهمية دراسة النصوص أدبيًّا وفيلولوجيًّا وتطبيق ذلك في المناهج الحديثة لدراسة القرآن.

وحتى البحوث الغربية المعنيّة بدراسة الكتاب المقدس فقد لفتت النظر إلى أهمية دراسة نقد الكتاب المقدّس في داخل السرد القرآني، وأنّ هذا سيفيد كثيرًا الدراسات الكتابية النقدية.

وقد قامت بالفعل بدمج بعض المناهج؛ ومنها بالطبع المنهج الدياكروني/ التعاقبي، مع المنهج التزامني/ السانكروني وتطبيقه على النصّ القرآني، وقدّمت بعض الأمثلة نَذكُر منها تفسيرها لسورة البلد؛ حيث تم نشر محاضرة لها بعنوان:

 - Locating the Qur’an in the Epistemic Space of Late Antiquity.

أو: قراءة القرآن في الفضاء المعرفي للعصور القديمة المتأخرة، عام 2013م[8].

قراءة لسورة البلد حسب منهج نويفرت:

 تبدأ سورة البلد (90)، بمجموعة من الأقسام؛ أوّلها: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد: 1]، وتستحضر المكانة المرموقة لمكّة بصفتها مستوطنة حضرية -وضمنيًّا بصفتها مكانًا مقدّسًا- كما أن مكّة وهي مسقط رأس المخاطَب، قُدّمت له كملجأ قبل ذلك.

والقسَم الثاني: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[البلد: 3]، باعتباره ركيزة الحياة الاجتماعية [الآيات: 1- 3]. وهاهنا نتعرّض على الأقل إلى بيانَيْن دلاليّيْن: البلد المقدسة والطبوغرافية من ناحية، والوالد- الولد الفسيولوجي والاجتماعي من الناحية الأخرى.

بالتالي، فإنّ مجموعة الأقسام التي تنظر إلى التناسل والقداسة في سياق واحد، تقترح مقدّمة تشدّد خصيصًا على البيان الناتج والمدهش كونه سلبيًّا؛ إذ يزعم بأنّ الإنسان، برغم جدارته في بناء مستوطنة منظمة هي البلد: Polis، فإنه خُلِق على أساس أنه كائن ناقص؛ {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]. ويُشرح تعبير (خُلِق في كَبَد) غير المحدّد، في الآيات التالية: حيث لم يزل الإنسان ملتزمًا بالنظام الأخلاقي الوثني، الذي يظهر في موقفه تجاه ممتلكاته المادية التي يضيعها بالإسراف المتباهي: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد: 6] - وهذه الآية شبه اقتباس لبيتٍ من الشِّعْر الجاهلي لعنترة في قوله: «فإذا شربتُ فإنني مستهلِكٌ مالي...». ويعدّ الإسراف والجود بالنسبة إلى النموذج العربي الوثني فضيلة تجلب الشهرة والسُّمْعة البطولية، ولكنها مذكورة في السورة على أنها من الرذائل. والتوبيخ القرآني: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}[البلد: 7]، يكشف عن الدونية المعرفية للشخص المتباهي؛ إِذْ لم يُدْرِك أنه خاضع لقانون الحساب الأخروي.

مقابل هذه الصورة الوثنية المكتفية ذاتيًّا -بيدَ أنها جاهلية في آخر الأمر- تخرج صورة جديدة للإنسان: الإنسان المنعَّم بملكات معيّنة، فيرى بمعنى أن يتبيّن، ويتكلّم بمعنى أن يفهم: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}؟[البلد: 8، 9]. هذه الأجهزة الفسيولوجية التي تشير إلى البيان الفسيولوجي للقسَم الثاني: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}، تحمّله مسؤولية تصرفاته. لكن أجهزته الفسيولوجية هذه تتطلب التزامًا أخلاقيًّا وتعكس أيضًا انسجام الخَلْق الإلهي؛ فقد خُلِق الإنسان بصورة متوازنة، حيث له عينان وشفتان، حيث كلّ منهما في أزواج. وهذا الهيكل الإنساني الذي يمكن إثباته تجريبيًّا باعتبار الإنسان عالَمًا مصغّرًا، يجب تطبيقه إذن على البلد الذي يمثّل العالم الكبير، وبالتالي يجب أيضًا تطبيق الجهاز المورفولوجي الثنائي من أجل بناء البلد سائرة في طريقين: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد: 10].

و(العقبة) [11، 12]: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} التي تعيد الاتصال مع البيان الطبوغرافي المفتتح في أول قسَم: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} - تطرح لغزًا عند النظرة الأولى. ورغم أنّ {النَّجْدَيْنِ} تبدو عند أول وهلة وكأنها تشير إلى طبوغرافيا مكة، مسقط رأس المخاطَب، إلا أنّ استحضار التوبوس (الرمز) الكتابي (للطريقين) كمقابل أخلاقي هو أمر يصعب إغفاله. وقد تم حلّ الالتباس الكائن حول العقبة وفقًا لهذه الآيات الحاسمة: فاختيار الطريق الصعب، عن طريق الفعل الثلاثي المتمثِّل في تحرير العبيد وإطعام الجوعى وتوفير الرعاية للفقراء، يعدّ مسعًى أخلاقيًّا: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد: 13- 16].

وعلى كلّ حال، فليست أفعالُ الإحسان الثلاثة هذه جديدةً، بل إنها تعكس نصًّا -بشكلٍ ما- مقتبسًا عن الكتاب المقدّس العبري: [إشعياء 58: 6- 7]: «أَلَيْسَ هَذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُود الشَّرِّ. فَكّ عُقَد النِّيرِ، وإِطْلاق الْمَسْحُوقِين أَحْرَارًا، وَقَطْع كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ...».

لقد أُعيدت صياغة الأفعال الثلاثة التي طالب بها إشعياء في العصور القديمة المتأخّرة في إطار أخروي وكذلك في إطار كريستولوجي في إنجيل متّى (25: 34) وما يليه. ففي يوم الحساب، سيُبارك المسيح الناس (الذين عن يمينه) لتأديتهم أعمال الإحسان الثلاثة قائلًا: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي... لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ».

وسيحكم على (الذين عن اليسار) بنار الجحيم لفشلهم في تأدية أعمال الإحسان. ويبدو أن الإشارة القرآنية لــ{أَصْحَاب الْمَيْمَنَة} و{أَصْحَاب الْمَشْأَمَة}[الواقعة: 8، 9] تمثل صدًى لمشهد إنجيل متّى. ورغم ذلك لا يوجد أيّ أثر لتبرير الإحسان بربطه بيسوع المسيح. وقد أخذَت حُجّة السورة مسلكًا مختلفًا تمامًا، وبالفعل حلّ القانونُ الكتابي للقِيَم، والمنصوصُ عليه بصورة أخروية في الإنجيل مكانَ النظام السلوكي العربي الوثني في القرآن.

لقد تسببتْ سلطة التقليد الكتابي في إضعاف المُثُل الوثنية التي ورثتها تقاليد الأجداد. ولكن، الأهمّ من ذلك هو البُعد الديالكتيكي الذي ينطوي عليه الأمر، فمن الواضح أنّ النصَّ الكريستولوجي الماورائي الذي فُرِض على إشعياء، استُبدِل به نموذج جديد للمعنى: هو الانسجام الخُلُقيّ الذي يعكس الانسجام اللغوي. فقانون التناغم والتوازن الأصيل في اللغة، والإبداع في حَدّ ذاته، يكفي لجعل الإحسان والمسؤولية الجماعية أمورًا إلزامية. والقرآن يَستبدل بالولاء الأسطوري الدليلَ المعرفي.

وهكذا نرى أنها قد جمعَت بين عدّة مناهج لقراءة السورة فقد استدعَت الدراسة التاريخية لربط كلمة البلد بمكة الأرض الذي يسكن بها النبي وقت نزول القرآن، واستدعت الدراسة الفيلولوجية لتفسير آيات مثل (خُلِق في كَبَد) و (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)، كما طبّقَت المناهج الدياكرونية وربطَت بين بعض المفاهيم التي جاءت في آيات السورة مع بعض نصوص الكتاب المقدّس وإيجاد العلاقة بينهما.

وهكذا استفادت نويفرت من جمعِ أكثر من منهج عند قراءة النصّ، وهذه من أهم الميزات التي تتميز بها قراءة نويفرت. 

نتائج البحث:

تصل أنجيليكا إلى نتيجة أنّ القرآن تعامَل مع المؤمنين بالكتاب المقدّس عن طريق ثلاث مراحل؛ بدأت بالانطلاق منه: من حيث الشكل والمحاكاة في الجانب الليوتورجي التعبدي للكتاب المقدّس (سفر المزامير)، ليتغلغل في تفاصيل القصص التي تكلّمَت عن أمّة بني إسرائيل والنبي موسى، ثم بدأ النصّ في التطوّر ومحاولة الهيمنة وإحلال بديلٍ للنصّ بنصٍّ جديد يجب على اليهود الإيمان به، ورسولٍ جديد يجب اتّباعه.

كما توضح أنّ القرآن له ميزات تتشابك مع اللغة الأدبية المعاصرة له والمتمثّلة في الشِّعْر العربي، واستخدام تلك الأساليب الأدبية لمخاطبة أمّة تَتشكّل وتَتكوّن يكون النصّ هو الهوية المركزية لهذه الأُمة المؤمنة.

وبذلك نكون قد انتهينا من عرض بحث نويفرت، والآن ننتقل لمراجعة ما قرّرته في بحثها وبيان الموقف منه واستعراض مزاياه وسلبياته.

القسم الثاني: بحث نويفرت؛ نقد وتقويم:

أهم مزايا البحث:

 ينطوي البحث على بعض الميزات، أهمها ما يأتي:  

أولًا: النقد لمنهجيات الدراسات الكرونولجية للقرآن:

تُشير الباحثة في بداية ورقتها لمنهج الدكتور/ عزيز العظمة، وتحاول انتقاد طريقته في البحث، من خلال التركيز على نصّ القرآن نفسه وليس دراسة التقاليد العربية القديمة وأقدم الطرق لكتابة ونقل المصحف الشريف، لا تقول نويفرت بعدم أهمية البحث التاريخي لهذه الفترة، إنما تنبّه دائمًا على أهمية وجود نظرة أدبية للنصّ وعدم إغفال دراسة النصّ القرآني عند بحث السياقات التاريخية له.

ثانيًا: تطعيم الدراسات التاريخية بالدراسات الفيلولوجية:

 أشارت نويفرت لضرورة تطوّر البحث التاريخي النقدي الجديد عن طريق إضافات الفحص الموجّه لمعنى النصّ المدروس (الدراسات الفيلولوجية للنصّ)، وهي ما تحاول الوصول إليه بالفعل من خلال أبحاثها في هذا الشأن. ورغم أنّ البحث الذي نقوم بعرضه لم يتعرض بشكلٍ عميق إلى تلك النقطة بل ذكرتها الباحثة في مرور سريع، حيث إن الموضوع الرئيس الذي ركّزَت عليه الباحثة في بحثها هو عن علاقة القرآن بالكتاب المقدّس، إلا أنّنا يمكن أن نتعرّض لتلك الفكرة بعرض فيه من التفصيل ما لا يخلّ بها، فمقصود الباحثة من الدراسة الفيلولوجية هي دراسة ثلاثة أبعاد للنصّ:

 1- البحث في المعنى النصّي.

2- فهم سياق المعنى الأصلي.

3- دراسة منهج الدارسين الفيلولوجين السابقين لهذا النصّ.

ومعنى دراسة هذه الأبعاد الثلاثة على النصّ القرآني يعني أنه يجب النظر في مدلول الكلمات داخل القرآن في اللغات القديمة؛ كالسريانية والآرامية والعبرية، ومقارنتها بما تحمله من معنى في الكتب السابقة والأشعار الموجودة في زمن نزول القرآن.

وثانيًا: دراسة الكلمة القرآنية من داخل سياق الآيات المحيطة بها والسورة التي توجد داخلها بل ومقارنتها بالسور الأخرى؛ حتى يتبيّن مقصود المعنى من تلك الكلمة داخل سياقها الداخلي.

 وثالثًا وأخيرًا: دراسة المعاني المذكورة لدى الباحثين السابقين، ودراسة طريقتهم في البحث ومنهجهم للوصول لمعنى الكلمة/ النصّ وبهذا تتكون صورة أكثر وضوحًا واتساقًا لفهم النصّ من وجه نظر الباحثة.   

ثالثًا: إيجاد علاقات مشتركة بين القرآن كنصّ مقدّس والكتب السابقة عليه:

قدّمت أنجيليكا بعض العلاقات بين القرآن والكتاب المقدّس، وليس هذا بالأمر الجديد أو المميز؛ فالدراسات بين القرآن والكتاب المقدّس غزيرة وقديمة، لكن تكمن أهمية ما تقدّمه الباحثة في ساحة الإستشراق الغربي في تأكيدها على دراسة القرآن كنصّ مقدّس مستقلّ عن الكتب السابقة، وعدم النظر إليه باعتباره تقليدًا للكتب السابقة، وهي قد أشارت في أعمال كثيرة سابقة إلى تلك الخصيصة وضرورة الإصغاء إلى صوت القرآن ذاته عند دراسته للوصول إلى نتائج أكثر دقّة في عملية البحث.

أهم إشكالات البحث:

 ينطوي البحث على بعض الإشكالات، وأهمها ما يأتي:  

أولًا: إشكالات داخل البحث:

1- الاستنتاج المسبق على الفرضيات:

من المعروف لدى الدّرْس الاستشراقي دراسةُ القرآن في ضوء الكتاب المقدّس، ومن أثر ذلك تفسيرُ المصطلحات القرآنية ومعانيها من خلال تفسير المعاني الموجودة في الكتاب المقدّس. بمعنى آخر، يعتبر الكتاب المقدّس هو النصّ الأصلي الذي يستمد منه القرآن المرجعية المعرفية، وبالرغم من محاولات نويفرت لمعارضة هذه الفكرة ومحاولتها دراسة القرآن كنصّ مستقل إلا أن الفكرة ذاتها ما زالت مستقرة في ذهنها ومؤثّرة عليها؛ مما يدفعها لاستنتاجات مسبقة وسريعة دون تحرٍّ دقيق لاختبار الفرضيات الواسعة التي يتم إطلاقها بشواهد ضعيفة وواهية ولا تَرْقَى لتكون دلائل، فهي تستخدم مصطلحات استُخدمت لدراسة الكتاب المقدّس بالأساس، وتُسقِط ذلك في معرض حديثها في أماكن لا نرى فيها اتساقًا؛ مثل استخدامها لكلمات مثل (موتيف)، ويتضح ذلك بشكلٍ أوضح عندما استلهمت حديثها بذِكْر مفاهيم «الاستمرارية النصّية» التي تَشكّلت بعد «الاستمرارية الطقسية»، وربط ذلك بدراسة القرآن وتحوّله من النصّ الليوترجي الشفاهي للأمة إلى النصّ المكتوب والمقروء فيما بعد، وهذا إسقاط غير دقيق كما سنوضح في النقطة التالية (انظر تعليق قسم الترجمات على البحث ص22)[9].

2- التّفرقة بين النصوص التشريعية والتعبدية (القرآن نصًّا ليتورجيًّا):

يبدو أن أنجيليكا تُسيطر عليها مفاهيم دراسات الكتاب المقدّس للتعامل مع النصّ القرآني حتى وإن لم تتعمّد ذلك، فنجدها تربط بين التّفرقة التي تطلق على الكتاب المقدّس من حيث وجود نصوص تشريعية ونصوص شعائرية (ليتورجية) تعبّدية؛ وفي هذا تغافل واضح لميزة خاصّة للقرآن الكريم وهي أنه يُقرأ كلّه في الصلاة التعبدية ولا يوجد به نصوص خاصة تُستخدم للعبادة مثل الديانات الأخرى، وهذا الربط بين القرآن والكتاب المقدّس من هذا الوجه لا يستقيم.

وفكرة الذاكرة الحضارية لأمّة معيّنة والتي ظهرت في دراسة اليهودية أيضًا لا يمكن تطبيقها على المسلمين؛ لأنّ القرآن ليس أرشيفًا تاريخيًّا يحفظ ذاكرة الأمة وأحداثها الحضارية الخاصّة مثل التوراة التي تحتفظ بتاريخ الخلاص (سفر الخروج) وما بعده من أحداث، وهذا الربط غير مبرّر سوى أنّ الأفكار مستقرّة في ذهن الباحثة وتنطلق منها لاستنتاجات سريعة ومسبقة قبل عملية البحث كما ذكرنا آنفًا.

3- الافتراضات الضخمة بدون قرائن واضحة:

جادلت أنجيليكا بأنّ القرآن انطلق في البداية من الكتاب المقدّس وتغلغل فيه ثم تحوّل للهيمنة عليه، بيدَ أن النص يعلن من اللحظة الأولى تصحيح الأخطاء التي وقع فيها الكتاب المقدس، والافتراض الذي بُنيت عليه الدراسة من أنّ الآيات 80: 82 من سورة طه آيات مدنية تم إضافتها مؤخرًا على القصة الأصلية؛ إنما هو ادّعاء لا يوجد عليه أيّ أدلة أو قرائن تسمح بزعم التوصّل إلى تلك النتيجة.

وما تقوله نويفرت عن عدم ذِكْرِ القرآن للاصطدام مع اليهود في بدايات العهد المكي فإنّ هذا الادّعاء مردود عليه بكلام الباحثة نفسها!! فقد ذكرت نويفرت في مواضع أخرى أن عدم وجود اشتباك حقيقي مع عقائد اليهود في الفترة المكية وهذا التسلسل في التعامل مع اليهود إنما يعود لأسباب تاريخية وطبوغرافية تتعلّق بهجرة النبي -عليه الصلاة والسلام- من مكة إلى المدينة[10]، ومع أول تعامل مع عقائد الأديان السابقة يقوم القرآن مباشرةً بالردّ على أيّ مخالفة توجد لديهم وبيان العقيدة السليمة دون مواربة؛ إِذْ لم يكن الأمر كما صورته أنه بدأ بانطلاق من الكتاب المقدّس ثم تحوّل بعد ذلك، بل هو نصّ إلهي مستقلّ والتشابه بينه وبين الكتاب المقدّس يرجع لوحدة المصدر؛ وهذه التقسيمة الثلاثية لمراحل تعامل النصّ مع اليهود غير دقيقة ولا يمكن الاعتماد عليها وترفضها حتى النظرة الأدبية التي تتبنّاها الباحثة كما سنعرض في النقطة التالية.

4-التحليل الأدبي يعارض نويفرت:

قام مشروع نويفرت في بدايته على التحليل الأدبي للنصّ القرآني، واشتهرت بكتابها (نَظْم السور المكية) الذي قامَت فيه بتحليل القوافي لسور القرآن، ومن خلاله قسّمَت السور إلى ثلاث مراحل في العهد المكي المبكّر والمتوسط والمتأخّر كما أسّس نولدكه، ومما قالته الباحثة تارانيه ويلكنسون في مقالة قامت بترجمتها الأستاذة أمنية أبو بكر على موقع مركز تفسير: «تعمل السورة -وخاصّة السور المكية- كنوع أدبي تامِّ الفرادة للقرآن. باختصار، تجادل نويفرت أنه عن طريق تحليل السورة المفردة -من ناحية كلٍّ من طولها وبِنيتها ومحتواها وشكلها الأدبي والتسلسل الزمني الخاصّ المقدّر لها- يمكن للباحث الحديث أن يقف على الأنماط المميّزة التي يطبقها على السور الأخرى»[11].

بالرغم من ذلك فقد قرّرت نويفرت أنّ الآيات الثلاث -من 80 إلى 82- من السورة لا تنتمي لهذا المكان وتم إضافتها بعد ذلك، وأكّدت أنها آيات مدنية بدون تقديم أيّ أدلة سوى أن القرآن المكي لم يقُل لفظ (بني إسرائيل) قبل ذلك، وهذا الزعم يمكن الردّ عليه بالآتي:

1. مغالطة المصادرة على المطلوب:

فقد افترضت الباحثة أنّ الآيات 80: 82 من سورة طه آيات مدنية تم إضافتها مؤخرًا على القصة الأصلية وهي إضافة غير منسجمة. بيدَ أن هذا الافتراض يحمل الدليل في ذاته، ولو كانت الآيات من سورة طه مكية = إذًا يسقط الفرض بعدم وجود لفظ (بني إسرائيل) في القرآن المكي.

2. التحليل الأدبي لنظم السورة:

لا أعلم موقف الباحثة من تحليل القوافي لتلك الآيات، ولماذا غضّت الطرف عن التعليق على تحليل نظم السورة؟ ربما لأن الآيات الثلاث منسجمة كليًّا ومترابطة فيما بينها وبين الآيات السابقة واللاحقة فتنتهي الآيات الثلاث بكلمات: (السَّلْوَى/ هَوَى/ اهْتَدَى)، والآية السابقة تنتهي بكلمة: (هَدَى)، والآية اللاحقة تنتهي بكلمة: (يَا مُوسَى).

وهكذا نرى أنّ الباحثة لم توفّق في قولها أنّ الآيات الثلاث مضافة لاحقًا على القصة، بل هي منسجمة سياقيًّا ومنسجمة من جهة النَّظْم والقافية، وعدم ذِكر الباحثة لنَظْم الآيات غير مبرّر هنا إلا لإثبات افتراض كان معها منذ البداية، وكانت تبحث له عن مثال تسقطه عليه حتى لو اضطرها ذلك لمصادرتها على النتيجة النهائية قبل بحث الفرضية.

ثانيًا: إشكالات منهجية للاتجاه التزامني الذي تنتمي إليه الباحثة:

كنّا قد أشرنا في مقال سابق[12]، إلى أهم الجوانب التي يتم التغافل عنها من قِبَل الاتجاه التزامني (السانكروني) الذي تُعَدُّ نويفرت في الوقت الحالي رائدة هذا الاتجاه الاستشراقي، وكانت هذه الإشكالات تتلخّص في الآتي:

أولًا: النظر للقرآن باعتباره المصدر الوحيد للدراسة.

ثانيًا: التقسيم المشوّش لسور القرآن.

ثالثًا: جدوى التحليل الحديث للسورة/ لوحدة النصّ القرآني.

ويمكن الاطلاع على المقال للتعرّف على هذه النقاط بالتفصيل.

خاتمة:

وبعد هذا النظر في فحص هذه الدراسة التي قدّمَتها نويفرت، وتمحيص هذه البناءات منهجيًّا تبيّن لنا عدّة جوانب إيجابية؛ فقد رأينا عرضًا لنظرية المثلث القرآني (البلاغ/ الوحي/ الهدى)، ومجادلتها لدراسة النصّ القرآني باعتباره نصًّا مقدسًا، وأيضًا مطالبتها لتطعيم البحث التاريخي الحديث ببعضٍ من دراسات التحليل الأدبي والفيلولوجي للنصوص، وضرَبْنا مثالًا لها في عرض سورة البلد وكيف استطاعت الدمج بين المنهجين (الدياكروني والسانكروني) معًا، وتعرّضنا بعد ذلك للأخطاء التي وقعَت فيها الباحثة وكيف أنّ الاستنتاجات التي بَنَتْ عليها نظرية التدرّج من الانطلاق إلى التغلغل ثم الهيمنة إنما هي استنتاجات استقرّت في ذهن الباحثة قبل الشروع في عملية البحث، وأنّ القرآن قد ذكَر بعض القصص في الكتاب المقدّس -الحالي-لذِكْر العِبْرة والعِظَة من تلك الأمم السابقة على أمّة الإسلام، مع ذلك استمر في بيان الأغلاط والقصور المتراكمة في تحريفات هذا الكتاب؛ لذلك وجدنا أنّ الباحثة لم توفّق فيما توصّلَت إليه من نتائج بحثها. واعتبار هذا التدريج بتلك التقسيمة غير دقيق ويحتاج لمزيد من الدراسة للتدليل على صحته، وأنّ المثال الوحيد المستخدَم في بناء هذه النظرية -الآيات 80: 82 من سورة طه- مثالٌ ضعيف ولا يمكن التَثبّت مِنْهُ، كما قدّمنا بعض الاعتراضات التي توجّه لمنهجية الاتجاه التزامني بشكلٍ عام، فلم تخلُ الدراسة التي بين أيدينا من أخطاء تُمثّل خللًا في المقدّمات قد ترتّب عليها خللٌ في النتائج، ونؤكّد في ختام البحث أنّ الدراسة العلائقية للقرآن الكريم مع الكتب المقدسة السابقة عليه بها الكثير من الميزات التي يجب إضافتها للتفسير الحديث للقرآن ويمكن للباحثين المسلمين تطبيقه والاستفادة منه.

 

 

[1] الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي، انطلاق القرآن من التراث الكتابي وتغلغله فيه وهيمنته عليه، أنجيليكا نويفرت، ترجمة: محمد عبد الفتاح، مركز تفسير للدراسات القرآنية، وهي منشورة على موقع تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsir.net/translation/41.

[2] الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي، أنجيليكا نويفرت، ص2.

[3] الاتجاه السانكروني (التزامني) في دراسة القرآن، مسؤولو قسم الترجمة في موقع تفسير، قسم الترجمات، وهي منشورة على موقع تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsir.net/translation/44.

[4] عرض كتاب (دراسات حول السور المكية) لأنجيليكا نويفرت، تارانيه ويلكنسون، ترجمة: أمنية أبو بكر، وهي منشورة على موقع تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsir.net/translation/52.

[5] الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي، أنجيليكا نويفرت، ص19.

[6] الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي، أنجيليكا نويفرت، ص20.

[7] الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي، أنجيليكا نويفرت، ص32.

[8]  مترجمة للعربية، ترجمة: أمنية أبو بكر، منشورة على موقع تفسير على الرابط التالي: tafsir.net/translation/89.

[9] الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي، أنجيليكا نويفرت، ص22، حاشية البحث تعليق قسم الترجمات.

[10] «لوقت طويل، لا نجد أيّ نزاع صريح ضد اليهود أو المسيحيين، فالنزاع لم يَنْمُ إلا بمواجهة مع (الورثة الحقيقيين) للتقليد الكتابي في المدينة، حيث تتحيّز مجموعات فردية لآراء تُناقَش أو تُدحَض غالبًا». القرآن والكتاب المقدّس؛ كنصٍّ ضمنيٍّ له، لجبريل سعيد رينولدز، عرض وتقديم أنجيليكا نويفرت، ترجمة: أمنية أبو بكر، منشور على موقع تفسير على الرابط الآتي: tafsir.net/translation/37.

[11] عرض كتاب دراسات حول السور المكية لأنجيليكا نويفرت، تارانيه ويلكنسون، ترجمة: أمنية أبو بكر، وهي منشورة على موقع تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsir.net/translation/52.

[12] بحث: بنية وتفسير سورة المؤمنون لنيل روبنسون "عرض وتقويم"، محمود عماد، وهي منشورة على موقع تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsir.net/paper/25.

المؤلف

محمود عماد

باحث في التفسير وعلوم القرآن

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))