رؤية إعادة بناء علوم القرآن للدكتور/ خليل محمود اليماني
قراءة تقويمية

مقدمة:
يشهد العصر الحديث تطوّرًا متسارعًا في مختلف ميادين المعرفة، مما يستدعي مراجعة مستمرة لمناهج العلوم وأُسُس بنائها المعرفي. وتكتسب فلسفة العلوم في هذا السياق أهمية بالغة؛ إِذْ تمثِّل الإطار النظري الذي يضبط مسارات البحث العلمي ويؤصِّل مناهجه ويحدّد معاييره. ولعلّ من أبرز التحديات المعرفيّة المعاصرة إعادة النظر في بناء العلوم الشرعية وفق رؤية منهجية معاصرة تحافظ على أصالتها وتستهدف معالجة ما تعانيه من إشكاليات منهجية وبنائية.
وتأتي علوم القرآن في صدارة العلوم الشرعية التي تحتاج إلى مراجعة منهجية شاملة تُعيد النظر في أُسُسها وقواعد بنائها، خاصّة مع مركزية القرآن الكريم في علوم الشريعة وتنوّع المناهج المستخدمة في دراسته. ولا شك أن هذا العمل يتطلَّب جهدًا جماعيًّا وتواصلًا علميًّا مستمرًّا بين المتخصّصين، يهدف إلى تقويم المناهج القائمة وتطويرها، والوصول إلى معايير منضبطة تحكم البحث في هذا المجال.
وقد اطّلعتُ على مشروعٍ عِلْمي للدكتور/ خليل اليماني، عَقَدَهُ لمناقشة عِلْمِيةِ علوم القرآن، وقدَّم فيه نقدًا منهجيًّا لهذه العلوم، واقترح رؤية بنائية جديدة لها، رأى إمكان سحبها كذلك على مختلف العلوم، وأيضًا طبّق هذه الرؤية في بناءٍ جديدٍ لأحد العلوم القرآنية وهو (علم التفسير)[1]، وسنحاول من خلال هذه المقالة تقويم هذه الرؤية البنائية لعلوم القرآن بشكلٍ خاصّ، مستندين إلى الأُسس المنهجية في فلسفة العلوم، ومراعين خصوصية العلوم الشرعية وطبيعتها المتميّزة، وسنركّز أولًا في تقويمنا لهذه الرؤية على الجانب التنظيري الذي تطرحه لإعادة بناء علوم القرآن، ثم نتحدّث عن التأسيس الجديد المقترح في ضوئها لعلم التفسير.
أولًا: الجانب التنظيري الذي تقدّمه الرؤية لإعادة بناء علوم القرآن:
قدَّم مشروع الدكتور/ خليل اليماني تنظيرًا متكاملًا لإعادة بناء علوم القرآن، فعالج بالأساس مفهوم العلم وتعريفه، ومعيار منح العِلْمية، وكيفيات تصنيف العلوم، وله في ذلك اجتهادات جديدة أصّل لها، ونقاش للتركة القائمة في هذه القضايا، وفيما يأتي نستعرض المحصول الذي قدَّمه هذا المشروع الذي سنشير إليه اختصارًا بـ(الطَّرْح اليماني)، ونبيِّن رؤيتنا له.
تعريف العلم ومعيار العلمية:
تفرض طبيعة الاشتغال المنهجي على إعادة بناء العلم استعمال العديد من المقولات الفلسفية والمعرفية التي تساعد الباحث في تأطير اشتغاله واشتباكه مع موضوعه؛ وعلى رأس هذه المقولات تعريف (العِلْم) ومعيار (العِلْمِيَّة). وقد كان النقاش حول هاتين المسألتين حاضرًا بقوّة في العديد من السجالات حول قضايا فلسفة العلم والإبستمولوجيا في الحقل الغربي؛ فمنذ أرسطو وحتى العصر الحديث، ظلّت إشكالية تمييز المعرفة العِلمية عن غيرها من أشكال المعرفة موضوعًا للبحث والنقاش المستمر. وقد ازدادت أهمية هذه المسألة مع التطوّر الهائل في العلوم التجريبية والإنسانية، وظهور مناهج بحثية جديدة، وتعدّد المدارس الفكرية في فلسفة العلم.
وإنّ الناظر في هذه السجالات سيتصوّر حجم الفجوة التي تعاني منها، ذلك أن جميعها تستحضر صورة العلوم الطبيعية وتأسيسها الأوروبي لبناء تصوّرها المنهجي حول العلوم، وهو ما برز في كتابات أعلام فلسفة العلم المعاصرين (كارل بوبر، توماس كون، بول فيرابند) ومَن نقلَ عنهم في الكتابات العربية، حتى آخرهم (لاري لودان) الذي حاول في كتاباته حلّ الإشكالات المنهجية والإبستمولوجية في البناء المنهجي للعلوم واستيعاب التاريخ الفعلي الذي مرّت به، فانتهى في آخر المطاف إلى نظرية براجماتية حول العلم حيث يُحكم بنجاعة وفعالية (تقليد بحثي) (ومن ورائه عِلميّته) بناءً على قدرته على حلّ المشكلات، وجعل هذا هو المعيار الوحيد للعقلانية في العلوم وصورة التقدُّم الوحيدة التي اعتبرها ملائمة لتاريخ العلم[2].
فعندما نتتبّع تطوّر النقاش في فلسفة العلم الغربية، نجد أنّ كارل بوبر قدَّم معيارًا للعلمية يتمثّل في قابلية النظريات للتكذيب، وهو معيار مستمدّ بشكلٍ مباشرٍ من تجربة العلوم الطبيعية؛ بيد أنّ الإشكال الأكبر -رغم الاعتراضات الكبيرة على المفهوم نفسه- هو أنّ هذا في الحقيقة معيارٌ للممايزة والمفاضلة بين النظريات، وليس معيارًا للعِلْمية. ثم جاء توماس كون ليقدّم رؤية أكثر تعقيدًا تعتمد على مفهوم (النماذج الإرشادية) وطبيعة الثورات العلمية، لكنه أيضًا استمدّ تصوّراته بشكلٍ أساسي من تاريخ العلوم الطبيعية، مع كون ما قدَّمه هو بالأساس محاولة لدمج العناصر الاجتماعية في مسيرة العلوم. أمّا بول فيرابند فقد ذهب إلى أبعد من ذلك في نقده للمنهجية العلمية التقليدية، حيث أنْكَر وجود المنهج من أساسه، وظلّ هو الآخَر أسير النموذج الغربي في فهمه لطبيعة العلم[3].
وحتى عندما حاول لاري لودان تجاوز هذه الإشكالات من خلال نظريته في تقاليد البحث، انتهى إلى موقف براجماتي يختزل العلمية في القدرة على حلّ المشكلات. هذا الموقف، رغم محاولته تجاوز القصور في النظريات السابقة، يظلّ محدودًا في فهمه لطبيعة العلم وأهدافه. فالعلم لا يقتصر على حلّ المشكلات العملية، بل يشمل أيضًا البحث عن الحقيقة، وفهم الواقع، وبناء تصوّرات شاملة عن الظواهر المدروسة.
هذا القصور في النظر إلى العلم سواء مِن تشوّش قضية العلم نفسها لدى فلاسفة العلم الغربيين، أو من خلال الانحصار في النموذج الغربي المتصوّر لمسيرة العلوم الطبيعية يصبح أكثر وضوحًا عندما نحاول تطبيق هذه المعايير على علومٍ خارج المجال التداولي الغربي، منها بالطبع العلوم الشرعية. فهذه العلوم تتميز بخصائص وأهداف تختلف جوهريًّا عن العلوم الطبيعية. فهي تتعامل مع نصوص مقدَّسة، وتسعى إلى فهم المعاني والدلالات، وتهتم بالأبعاد المعيارية والقيمية، وهي جوانب لا يمكن اختزالها في نموذج العلوم الطبيعية أو في معيار حلّ المشكلات.
هذا يدفعنا إلى ضرورة تطوير تصوّر أوسع وأشمل للعلم والعلمية، تصوّر يستوعب تنوّع المجالات المعرفية وخصوصياتها؛ وهذا يتطلّب إعادة النظر في مفهوم العلم نفسه، وتوسيع دائرة النظر في معايير العلمية.
لكن؛ رغم الإشكاليات المنهجية الكثيرة الحاضرة في التصوّر الغربي السائد حول تعريف العلم ومعيار العلمية، فالسؤال الذي يمكن طرحه هنا: لماذا لم يبرز اشتغالٌ مماثِل في المجال العربي، رغم المدى التاريخي الواسع للاشتغال العِلْمي في هذا السياق؟
لا يتعلّق الأمر هنا بالمقابلة بين الشرق والغرب، بل يتعلّق بالأَحْرَى بطبيعة بؤرة الاشتغال. فبؤرة الاشتغال العلمي في الفضاء الفكري العربي -العلوم الشرعية بصورة خاصّة- تتركّز (تاريخيًّا) في الاشتغال العملي والتطبيقي للعلوم، ومن طبيعة الأسئلة المنهجية التي تنتمي إلى حقل فلسفة العلم أنها لا تبرز إلا عندما يكون هناك اشتغال حقيقي على البَلْوَرة الفلسفية للممارسة العلمية. وإنّ الناظر في بؤرة الاشتغال على العلوم الشرعية سيجد أنها لا تكاد تخرج عن ناحيتين:
1- جَمْع مادة الوحي وما تفرّع عنها، سواء في تتبّع الحديث أو أقوال الصحابة ومذاهبهم، وغير ذلك للأغراض التعليمية.
2- ارتباط الاجتهاد في العلوم الشرعية بتولِّي القضاء والحُكْم في الأموال والدماء، امتصّ أكثر الجهود العلمية وجعلها تجنح نحو الاشتغال التطبيقي أكثر من التنظير المنهجي للعلوم الشرعية بعامّة.
ونتيجة لهذا، كانت المحاولات المنهجية الحقيقية -سواء في تصنيف العلوم أو تعريف العلم أو تأصيل معيار العلمية- قليلة جدًّا، وتعتمل فيها إشكالاتٌ كثيرةٌ، استطاع الدكتور خليل رصدها بدقّة كبيرة، وحرّرها بتفصيلٍ وافٍ[4].
وهنا قدّم الطرح اليماني تصوّرًا حول التأسيس المنهجي الأوَّلِيّ للعلم وتعريفه (من حيث هو)، ومعيار العلمية المناسب له، مفرِّقًا بين العلم والممارسات العلمية السابقة عليه.
خلاصة الطَّرْح اليماني في هذه المسألة[5] هي أنّ الاشتغال العلمي التطبيقي (الجزئي) -وهو ما سمّاه بالممارسات المعرفية- يسبق العلوم؛ والعلم هو الإطار ذو القضية الكلية الذي يُبنى لخدمة هذه الممارسات؛ وهذه القضية الكلية هي معيار الوصف بالعلمية، فالعلم لا بدّ من بنائه على قضية كلية، ومن ثم فالممارسات ليست علومًا. ويقرّر الطرح أنّ هناك نوعين من الخدمة تقدّمهما العلوم للممارسات: تقنين وتقعيد مزاولة الممارسة، وصناعة الوعي بالواقع التطبيقي للممارسة.
يبدأ التأصيل بافتراض أساسي: الممارسة المعرفية أسبق من العلم في الوجود؛ هذا يعني أنّ البشر يمارسون أنشطة معرفية مختلفة قبل أن تتشكّل العلوم التي تدرس هذه الممارسات. فالتفسير أسبق في الوجود من (علم التفسير) كإطار نظري منظِّم لهذه الممارسة. والعلم، وفق هذا التصور، ليس مجرّد تراكم للمعارف الجزئية، بل هو إطارٌ كليٌّ يُبنى بهدف محدّد وهو خدمة هذه الممارسات المعرفية وتنظيمها. والسمة المميزة للعلم هي وجود (قضية كلية) تؤطر موضوعه وتحدّد مجاله؛ وهذه القضية الكلية هي التي تميّز العلم عن الممارسة المعرفية الجزئية.
المقصود بالقضية الكلية أنها إطار شامل قابل للامتداد التطبيقي أبدًا، بحيث تتولّد عنه أسئلة وإشكالات بحثية تُبقي الممارسة في اشتغال مستمرّ. فهي ليست مجرَّد قاعدة أو مبدأ، بل هي تصوّر كليّ يحدد طبيعة العلم ومجال اشتغاله. وهذا ما يجعل العلم قابلًا للتطور والنموّ المستمر.
وفق هذا التصوّر، تقدِّم العلوم نوعين من الخدمة للممارسات المعرفية:
النوع الأول: هو التقنين والتقعيد؛ أي: وضع القواعد والضوابط التي تنظِّم الممارسة وتضبطها.
النوع الثاني: هو صناعة الوعي بالواقع التطبيقي؛ أي: تقديم فهمٍ عميق وشامل لطبيعة الممارسة وكيفية عملها في الواقع.
نقاط القوّة في هذا التأصيل:
يقدِّم هذا التأصيل نموذجًا متماسكًا للعلاقة بين الممارسة والتنظير، حيث يفسِّر كيف تنشأ العلوم من احتياجات معرفية وتطبيقية واقعية؛ وهذا يتوافق مع التطوّر التاريخي الفعلي للكثير من العلوم الشرعية التي انبثقت بشكلٍ رئيسٍ عن ممارسات جزئية (اجتهادات الصحابة وأقوالهم، فتاوى كبار الأئمة وتصانيفهم وأقوالهم...إلخ) ولـمّا تنتظم بعدُ في تقعيدٍ منهجيّ إلا في مراحل لاحقة اشتغلتْ بشكل رئيس على هذه الممارسات الأُولى.
كما أنّ هذا التأصيل يقدِّم معيارًا واضحًا للتمييز بين العلم والممارسة المعرفية من خلال مفهوم (القضية الكلية)؛ ذلك أنّ اعتبار وجود القضية الكلية من عدمه والتأكيد على ضرورة القابلية للتوسّع البحثي أبدًا = يساعد في تجاوز مأزق تصنيف العلوم بإشكالاته التي رُصِدَتْ بتوسّع؛ فبدلًا من الاعتماد على معايير خارجية أو تقسيمات تاريخية موروثة (ومشكلة)، يركّز هذا المعيار على العلم من حيث هو؛ ووجود قضية كلية قابلة للتوسّع البحثي المستمر. هذا التركيز على الكلية كمعيار أساسي يفتح آفاقًا جديدة في فهم طبيعة العلوم وتصنيفها، ويتجاوز الخلافات التقليدية التي نشأت حول تصنيف المعارف والعلوم.
كما أنه مفيدٌ بشكلٍ خاصٍّ في حلّ الإشكالية الرئيسة التي رصدها الطرح اليماني في التصنيف في علوم القرآن، ألا وهي هيمنة القضايا الجزئية على نمط البحث والتأليف؛ فالتركيز على ضرورة وجود قضية كلية يدفع الباحثين إلى تجاوز التناول الجزئي للموضوعات والبحث عن الروابط والعلاقات الكلية بين القضايا المختلفة. وهذا بدوره يؤدِّي إلى تأسيس أُطُر نظرية شاملة تنتظم تحتها المباحث الجزئية، مما يساعد في تجاوز حالة التشتت والتجزؤ التي تعاني منها تصانيف علوم القرآن.
كما أنّ تطبيق هذا المعيار في مجال علوم القرآن يفتح مجالات بحثية جديدة وآفاقًا معرفية واسعة. فالتركيز على القضايا الكلية يدفع إلى إعادة النظر في العلاقات بين مختلف علوم القرآن من منظور شمولي، ويساعد في تطوير نظريات متكاملة في فهم النصّ القرآني وتفسيره. وهذا يتجاوز النظرة التقليدية التي تتعامل مع علوم القرآن كمجموعة من المباحث المنفصلة، إلى رؤية أكثر تكاملًا تدرك الترابط العميق بين هذه العلوم وتسعى إلى فهم الأُطُر الكلية التي تحكمها.
الأسئلة الواردة على التأصيل:
رغم قوّة هذا التأصيل وتماسكه المنهجي، إلا أنه يواجه بعض الأسئلة التي تمثِّل مساحات يمكن الاشتغال عليها وتحسينها.
المسألة الأولى تتعلّق بالعلاقة بين الممارسة المعرفية وتبَلْوُر العلوم؛ فالتأصيل يفترض مسارًا خطيًّا يبدأ من الممارسة المعرفية الجزئية وينتهي بالتقعيد المنهجي الكلّي، وكأنَّ العلم ما هو إلا اشتغالٌ محض على خدمة الممارسات المعرفية وتنظيم لها، وفي هذا افتراضٌ ضمني بوحدة رُتْبَة الممارسات المعرفية. بيد أنّ الواقع التاريخي (حتى وإن كان ذلك خارج إطار علوم القرآن، وهي مسألة تتعلّق بتوسيع نطاق هذا التأصيل إلى علوم الشريعة عامة) يكشف عن وجود ممارسات معرفية (تنظيرية) ذات طابع كلّي (حتى ولو كانت تلك الكلية هي باعتبارات معيّنة). فالمقصود أنّ الممارسات المعرفية التي تقام العلوم لخدمتها ليست كلّها على رُتبة واحدة في الوصف بالجزئية أو الكلية، وليست كلّها تندرج تحت وصف الجزئية المطلقة، بل العلاقة أكثر تعقيدًا وتفاعلية بين الممارسات المعرفية والنظر الكلّي التقعيديّ.
ومن ثم؛ فهناك حاجة إلى الاشتغال بصورة أكبر على رُتب الممارسات المعرفية، ذلك أنه على مستوى التعاطي مع نصوص الوحيين فالأغلب هو اختلاط النظر الجزئي بالتقعيد الكلّي في الممارسات الأُولى، حتى لربما يكون التقعيد ضمنيًّا تشهد له كثرة الجزئيات؛ ذلك أنّ هناك بعض الممارسات الجزئية التي تستلزم ولا بدّ الانطلاق من أصل كلّي مسبق مثل عِلْم المناسبة؛ فالقول فيه فرعٌ عن أصلٍ كلّي هو ترابط نَظْم القرآن، واستحضاره سابقٌ عليه ولا بدّ.
المسألة الثانية تتعلّق بالتصوّر حول طبيعة العلاقة بين العلم والممارسة المعرفية. ذلك أنّ حصر هذه العلاقة في نمطين فقط -التقعيد والتقنين من جهة، وصناعة الوعي بالواقع التطبيقي من جهة أخرى- يُغْفِل أنماطًا أخرى مهمّة من العلاقات التي يمكن رصدها في تاريخ العلوم وواقعها.
يمكن للعلم أن يضطلع بدور استشرافي مهمّ تجاه الممارسة، حيث يستكشف آفاقًا جديدة للممارسة لم تكن موجودة من قبلُ؛ فالعِلْم لا يكتفي بتنظيم الواقع القائم، بل يمكنه أن يفتح مجالات جديدة للممارسة من خلال طرح تصوّرات نظرية مبتكرة. ولعلّ التطورات الحديثة في مجال الدراسات القرآنية المعاصرة تقدِّم مثالًا جيِّدًا على هذا الدور الاستشرافي.
ثمة نمط آخر من العلاقة (أو الخدمة) يمكن وصفه بالعلاقة التكاملية التفاعلية، حيث يتطوّر العلم والممارسة معًا في حوار مستمرّ. في هذا النمط، لا يكون العلمُ مجرّدَ تابعٍ للممارسة أو موجِّهٍ لها، بل يدخل معها في علاقة تبادلية معقّدة يؤثر كلّ منهما في الآخر ويتأثر به. فالتطوّرات في المجال النظري قد تؤدّي إلى تغييرات في الممارسة، كما أنّ التحديات التي تظهر في الممارسة قد تدفع إلى تطوير الأُطُر النظرية.
كذلك يمكن للعلم أن يقوم بدور تفسيري يتجاوز مجرّد صناعة الوعي بالواقع التطبيقي؛ فالعلم قد يقدِّم نماذج تفسيرية متكاملة تساعد في فهم الممارسات المختلفة وتفسير العلاقات بينها، بل ربما يقدِّم تأطيرًا للعلاقات بين الممارسات المختلفة، ومحرّكات كلّ منها (سواء كانت محرّكات معرفية أو ثقافية أو اجتماعية)، وهو ما يجعل هذا التأصيل متجاوبًا مع كافة المحرّكات للممارسات، والتي يشتبك فيها الثقافي مع الاجتماعي مع المعرفي. وهذا الدور التفسيري قد يكون مستقلًّا عن التقنين أو صناعة الوعي؛ فعِلْم أصول التفسير مثلًا لا يقتصر دوره على تقنين مزاولة التفسير أو توصيف واقع الممارسة، بل يقدِّم نماذج متكاملة لفهم عملية التفسير نفسها وآلياتها المعرفية.
إنَّ توسيع النظر في أنماط العلاقة بين العلم والممارسة يساعد في بناء فهمٍ أعمق وأشمل لطبيعة العلم وأدواره. كما أنه يفتح المجال لتطوير تصوّر أكثر شمولًا وتعقيدًا لهذه العلاقة، يتجاوز الثنائية البسيطة بين التقنين وصناعة الوعي؛ وهذا الفهم الأعمق ضروري خاصّة في مجال العلوم الشرعية، حيث تتداخل الأبعاد المعيارية والوصفية، وتتشابك العلاقات بين النظرية والتطبيق بشكلٍ معقّدٍ.
يبقى معيارُ القضية الكلية والتأصيل المرتبط به حلًّا منهجيًّا واعدًا لإشكاليات عديدة (سبق ورصدها الطرح بصورة مفصلة)؛ فهو يقدِّم إطارًا نظريًّا متماسكًا يمكن من خلاله إعادة بناء هذه العلوم بشكلٍ أكثر تنظيمًا وترابطًا. كما أنه يفتح المجال لتطوير رؤى جديدة في فهم العلاقة بين النظري والتطبيقي في علوم القرآن، ويساعد في تجاوز الفجوة التقليدية بين التنظير المجرّد والممارسة العملية في هذا المجال.
******
بناء علوم القرآن وفق التأصيل السابق:
رصَدَ الاجتهاد اليماني الإشكالية الرئيسة في التصنيف في علوم القرآن، والتي أَجْمَلَهَا في أنَّ قضية الاشتغال في هذه المصنفات هي ذِكْر أنواع العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم والكلام عليها بما يقرِّبها ويعرِّف بها؛ مع مناقشة ما تفرَّع عن هذه الإشكالية من إشكاليات متعدّدة. وتكمن قوّة الطرح اليماني في أنه يتجاوز مجرّد النقد السطحي أو التشخيص العابر لمشكلات التصنيف في علوم القرآن إلى مستوى أعمق وأكثر منهجية؛ فهو يؤسِّس لرؤية تكاملية تربط بين ثلاثة مستويات رئيسة:
المستوى الأول: هو الرصد المنهجي الدقيق لمشكلات التصنيف في علوم القرآن؛ وهذا الرصد لم يكن مجرّد تجميع للمشكلات، بل كان تحليلًا عميقًا لجذورها وأسبابها وتداعياتها؛ فحين يرصد مثلًا إشكالية أنّ قضية الاشتغال في المصنفات تتمحور حول ذِكْر أنواع العلوم المرتبطة بالقرآن، فإنه يكشف عن خَلَل منهجي عميق في التعامل مع علوم القرآن.
المستوى الثاني: هو التأصيل النظري الجديد؛ فبدلًا من الاكتفاء بطرح المشكلات، يقدِّم تصورًا بديلًا يقوم على أُسُس منهجية راسخة؛ وهذا التأصيل لا ينطلق من فراغ، بل يستفيد من الرصد السابق للمشكلات ليتجنّبها ويتجاوزها. فحين يؤسِّس لقضية جديدة لعلوم القرآن، فإنه يستهدف تجاوز إشكالية حصر العلوم في مجرّد تقريبها والتعريف بها.
المستوى الثالث: هو الربط العملي بين الرصد والتأصيل؛ فالطرح اليماني لم يترك الفجوة قائمة بين تشخيص المشكلات والتنظير لحلِّها، بل عمل على بناء جسور عملية بينهما؛ إِذْ لم يكتفِ بالتتبّع المفصَّل لمشكلات التصنيف في علوم القرآن، ولم يقتصر عند مجرّد تقديم توصيات عابرة، بل ربط هذا الرصد المتعمّق للمشكلات ببناء التصوّر الجديد لعلوم القرآن وفق التأصيل السابق؛ حيث يستهدف البناء الجديد حلّ المشكلات المرصودة، أو تجاوز المسارات التي أدّت إلى الوقوع فيها.
وهذا الترابط بين المستويات الثلاثة يمنح الطرح اليماني قوّة منهجية خاصّة. فهو ليس مجرّد نقد، ولا مجرّد تنظير، ولا مجرّد توصيات عملية، بل هو مزيج متكامل من كلّ هذه العناصر. وهذا التكامل يجعله أكثر قدرة على إحداث تغيير حقيقي في ساحة علوم القرآن. ولعلّ من أهمّ ما يميّز هذا الطرح أيضًا أنه يتجاوز النظرة التجزيئية التي تتعامل مع كلّ مشكلة على حِدَة، إلى نظرة كلية تدرك الترابط بين المشكلات وتسعى لحلّها ضمن إطارٍ منهجي موحَّد. فحين يقترح ضبط قضية الاشتغال في علوم القرآن، فإنه لا يفعل ذلك بمعزل عن باقي عناصر المنظومة المعرفية؛ بل يفرّع على هذه الإشكالية الرئيسة إشكاليات تفصيلية على مستويات مختلفة داخل المنظومة المعرفية لعلوم القرآن؛ فرصد إشكاليات (التعريف، والحدّ، وانعدام الثمرة العلمية، وعدم وجود موضوع اشتغال محدّد، وتشوش المباحث والموضوعات، وتفلّت النطاق، والعجز عن توليد المصطلحات واصطناع المنهجيات الخاصّة، واضطراب التراكم المعرفي التاريخي للعلم، وانتهاءً بعدم انتظام مقرّر تعليمي متين)، وجميعها إشكاليات رُصِدَت بدقّة وتفصيل، وهي متفرّعة بشكلٍ رئيس عن الإشكالية الأُمّ؛ ومن المفترض أنّ الطرح البنائي الجديد يعالج كافة هذه الإشكاليات بصورة دقيقة، أو يتجاوز المفاوز التي أدّت إليها.
منشأ الإشكالية الرئيسة:
ننوّه هنا إلى الحديث حول منشأ الإشكالية الرئيسة المرصودة في مصنّفات علوم القرآن؛ لأنه سيخدم فيما بعد التقييم المنهجي للبناء الجديد، لأنّ هذا البناء متفرّعٌ بصورة رئيسة عن تلك الإشكالية.
تَكثر في تاريخ العلوم -لا سيما في لحظات التكوين- ظاهرة أسمِّيها (المحاكاة المنهجية)؛ وهي تنشأ عندما يحاول المنظِّرون لعلمٍ جديدٍ أو ناشئ (أو تأخّر تطوّرُه) استعارة ومحاكاة المناهج والأدوات والمصطلحات من عِلْمٍ آخر ناضج ومتطوِّر. وهذا أمرٌ متكرّر في تاريخ العلوم ويمكن رصده بصورة كبيرة في لحظات التكوين من تطوّر العلوم الإنسانية بشكلٍ عامّ.
فمثلًا: في القرن التاسع عشر، كان النجاح المذهل للفيزياء في تفسير الظواهر الطبيعية من خلال قوانين دقيقة مصدرَ إلهامٍ للعلماء في المجالات الأخرى؛ وتزامن هذا النجاح مع لحظة تكوينية في علم الاجتماع، حتى حاوَل أوغست كونت وآخرون تأسيس (فيزياء اجتماعية) تدرس المجتمع البشري بنفس الدقة والموضوعية التي تدرس بها الفيزياء الأجرام السماوية؛ وتبنّت مدرسته الكثير من المنطلقات والمفاهيم والمناهج الفيزيائية مع تطويعها لتطبيقها على دراسة المجتمعات. على نفس المنوال؛ كان رينيه ديكارت مفتونًا بالوضوح والدقة التي تتّسم بها الرياضيات؛ ورأى كيف يمكن للرياضيات أن تبدأ من مبادئ يسيرة وبديهية وتَبني عليها استنتاجات معقّدة بثقة تامّة؛ فحاوَل تطبيق هذا المنهج على الفلسفة كلها، مبتدِئًا من (أنا أُفكِّر، إِذَنْ أنا موجود)، كأساس يقيني يَبني عليه بقية معرفته.
تتسبب هذه الظاهرة -إن استمرت طويلًا- في إشكاليات منهجية ومعرفية عديدة، وعلى مستويات مختلفة:
التشويه المعرفي لقضية العلم الناشئ: فعندما يحاول المنظِّرون محاكاة منهج عِلْمٍ آخر، فإنهم غالبًا ما يضطرون إلى (تكييف) قضية العلم الناشئ ليتناسب مع المنهج المستعار. وهذا التكييف القسري يؤدي إلى تشويه القضية المدروسة أو الممارسة المعرفية التي يُبنى العلم لخدمتها، ويفقدها خصائصها الأساسية. فمثلًا: عندما حاول منظِّرو علم النفس السلوكي محاكاة العلوم الطبيعية، اضطروا إلى اختزال السلوك البشري المعقَّد إلى مجرد استجابات آلية للمثيرات، متجاهلين الأبعاد النفسية والوجدانية العميقة للإنسان.
الإسقاط المنهجي غير المبرَّر: تفترض ظاهرة المحاكاة المنهجية ضمنًا أنّ ما نجح في مجال معيَّن سينجح بالضرورة في مجال آخر. وهذا الافتراض يتجاهل الاختلافات الجوهرية بين الممارسات المعرفية التي تخدمها العلوم. فعندما حاول علماء الاجتماع تطبيق نموذج العلوم الطبيعية، افترضوا أنّ المجتمع البشري يمكن دراسته بنفس موضوعية دراسة الظواهر الطبيعية، متجاهلين أن الظواهر الاجتماعية تتضمّن عناصر ذاتية وقِيَمِيَّة لا يمكن اختزالها إلى متغيّرات كمِّية.
تأخير النضج المنهجي للعلم: تؤخّر المحاكاة تطوّر المناهج الخاصّة بالعلم الناشئ؛ فبدلًا من البحث عن طرق جديدة تناسب طبيعة الممارسة المعرفية المراد خدمتها، يظلّ العلم أسيرًا لمحاولة تطبيق مناهج مستعارة لا تتناسب وطبيعة الممارسة المدروسة. وهذا ما حدث مثلًا في علم النفس، حيث أخّرت المحاكاة المفرطة للعلوم الطبيعية ظهور مناهج نوعية أكثر ملاءمة لدراسة النفس البشرية.
التقييد الإبستمولوجي: تفرض المحاكاة قيودًا معرفية غير ضرورية على العِلْم الناشئ؛ فعندما يتبنى منظِّرو عِلْمٍ ما الافتراضات الإبستمولوجية لعِلْمٍ آخر، فإنهم يَحْرِمون أنفسَهم من إمكانية بناء منهجية جديدة بافتراضات تلائم طبيعة الممارسة المراد خدمتها. وهذا ما حدث في العلوم الإنسانية عندما تبنّت النموذج الوضعي للعلوم الطبيعية.
الوهم المنهجي: المحاكاة قد تخلق وهمًا بالدقة العلمية دون تحقيقها فعليًّا؛ فاستخدام الأساليب والمناهج وطرق التصنيف المتّبعة في عِلْمٍ متطور قد يعطي انطباعًا بالدقّة العلمية والمتانة والرسوخ المنهجي، بينما في الحقيقة يولِّد هذا النمط من بناء العلوم إشكاليات تُعِيق تطوّر العلم نفسه وتجفِّف منابع الإبداع فيه.
هذه الظاهرة شديدة الصِّلَة بمنشأ الإشكال الرئيس في مصنّفات علوم القرآن والذي رصده الطرح اليماني؛ وهو غلبة الجزئيات على ساحة التصنيف وكون قضية الاشتغال الأساسية هي ذِكْر أنواع العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم والكلام عليها بما يقرِّبها ويعرِّف بها. وقد رصد الطَّرْح تصريح كبار المصنفين في علوم القرآن بأنهم استهدفوا محاكاة علم الحديث بصورة خاصّة، ليكون هناك مصنفات في علوم القرآن على غِرَار مصنّفات علم الحديث.
فنحن هنا أمام ظاهرة المحاكاة المنهجية الموصوفة أعلاه، إِذْ لم يُراعَ في هذا التأصيل الفروق الجوهرية الكثيرة بين الممارسات المعرفية المتعلقة بالقرآن والممارسات المعرفية المتعلقة بالحديث. فرغم أنّ القرآن والحديث يمثّلان مرتكز الاشتغال الشرعي عمومًا؛ بيد أنّ ثمة فروقًا جوهرية بينهما على مستوى التعامل المنهجي والعلمي. أبرز هذه الفروق أنّ الاشتغال على الحديث النبوي يقع جزءٌ كبيرٌ منه في مساحة الاستيثاق والحُكْم على الحديث وهو ما تفرّعت عنه علوم الرواية والرجال والعِلَل وغير ذلك. أمّا القرآن فالاشتغال الأكبر عليه يتعلّق بالدلالة والتأويل والاستنباط، وما يُبنى حولها من ممارسات. حتى في جوانب الرواية والاستيثاق، فإنّ مستوى الاشتغال نفسه متفاوت بين القرآن والحديث، وما يناسب أحدهما لا يناسب الآخر.
هذه الفروق الجوهرية من الضروري أن تنعكس على طبيعة الاشتغال التصنيفي والمنهجي المختصّ ببناء العلوم التي ستخدم الممارسات المعرفية لكلّ منهما. وهو ما لم يحدث وأنتج إشكاليات عميقة، أثقلت الساحة القرآنية، وأعاقت تطوّر علومٍ تناسب طبيعة الممارسات المدروسة. فغلبة الجزئيات على الساحة القرآنية وانفلات الضابط المنهجي وراء تلك الجزئيات تعود بالأساس إلى كون المصنِّفين لم يضعوا نُصْب أعينهم الممارسات المتعلقة بالقرآن ليشتغلوا عليها بما يخدمها، وإنما كانت أعينهم بالأساس مصوَّبة نحو بناء تفريعٍ مماثل لعلوم الحديث، التي في تلك المرحلة كانت قد وصلت إلى مرحلة تكاثر الجزئيات التي تخدم قضية العلم الكلية؛ فانبرى المصنِّفون يكثّرون سواد الجزئيات في ساحة علوم القرآن دون وجود ضابط منهجي يراعي خصوصية النصّ القرآني والاختلافات الجوهرية بين ممارساته المعرفية عن تلك الخاصّة بالحديث.
الدرس الأهمّ هنا هو أنّ البناء العلمي الحقيقي يأتي عندما يتجاوز العلم مرحلة المحاكاة ويطور هويته المستقلة ومناهجه الخاصّة التي تناسب طبيعة موضوعه وقضيته والممارسات التي يخدمها؛ وهي المحاولة التي يقدِّمها الطرح اليماني بصورة متماسكة إلى حدٍّ كبيرٍ.
يقدِّم الطرح اليماني حلًّا لهذه المشكلة في مصنّفات علوم القرآن، يتجاوز مجرّد النقد إلى البناء المنهجي الشامل. يبدأ هذا الحلّ من نقطة جوهرية وهي إعادة تأسيس قضية كلية لعلوم القرآن تختلف عن المقاربة التقليدية التي اقتصرت على جمع العلوم المرتبطة بالقرآن والتعريف بها. هذه القضية الكلية الجديدة تنطلق من واقع الممارسات المعرفية في التعامل مع النصّ القرآني، وتهدف إلى خدمة هذه الممارسات وتطويرها بشكل منهجي ومنظَّم.
وتتجلّى أهمية هذا التأسيس الجديد في أنه يتجاوز إشكالية المحاكاة غير الواعية لعلوم الحديث، ويؤسِّس لمنهجية خاصّة تراعي طبيعة النصّ القرآني وخصائصه الفريدة. فالقرآن، بوصفه نصًّا إلهيًّا معجزًا، يتطلّب منهجية خاصّة تتناسب مع مستوياته المتعدّدة من الفهم والتدبّر والاستنباط والتأويل. وهذه المنهجية لا تنشغل فقط بقضايا الرواية والتوثيق -كما هو الحال في علوم الحديث- بل تُولِي اهتمامًا خاصًّا لجوانب الدلالة والتأويل والاستنباط، إلى جانب الأنواع الأخرى من الممارسات المعرفية المتعلّقة بالقرآن.
ويمتدّ هذا التأسيس المنهجي إلى إعادة تنظيم شاملة لعلوم القرآن؛ فبدلًا من التراكم العشوائي للجزئيات، يقترح الطرح نظامًا معرفيًّا منضبطًا يربط بين الممارسات المعرفية المختلفة وأدواتها المنهجية. وهذا النظام يصنّف الممارسات المعرفية المتعلّقة بالقرآن، ويحدّد الأدوات المنهجية اللازمة لكلّ نوع منها، مما يخلق بنية معرفية متماسكة تخدم القضية الكلية للعِلْم. وفي معالجته لمشكلة غلبة الجزئيات، يقدِّم الطرح مقاربة منهجية تربط هذه الجزئيات بالقضية الكلية للعلم. فلا يُقْبَل من العلوم إلا ما كان له ممارسة معرفية خاصّة بالقرآن، تقبل الامتداد التطبيقي أبدًا، وهذا يضمن تماسك البناء المعرفي وفعاليته في خدمة أهدافه.
وبهذا يمثّل الطرح اليماني نقلةً نوعيةً في تصوّر علوم القرآن وبنائها المنهجي. فهو يتجاوز الإشكاليات التاريخية التي نتجتْ عن المحاكاة غير الواعية، ويؤسِّس لعِلْم مستقلّ له هويته المنهجية الخاصّة التي تناسب طبيعة موضوعه وقضيته والممارسات التي يخدمها.
تأسيس علوم القرآن: القضايا الكلية القرآنية:
انتظمتْ خطوات بناء علوم القرآن في الطرح اليماني في أربع خطوات رئيسة، مبنيّة على التأصيل السابق حول أسبقية الممارسات المعرفية على التقعيد النظري، كون العلوم (القضايا الكلية) تُبنى لخدمة هذه الممارسات (الجزئية)[6].
1- كيفيات ضبط القضايا وتحريرها.
2- تصنيف القضايا وأنماطها.
3- ضبط مبادئ القضية ومحاور دراستها.
4- بناء المقرّرات التعليمية للقضايا.
هذه الخطوات مترابطة منطقيًّا؛ فالخطوة الأولى (ضبط القضايا وتحريرها) تمثّل نقطة البداية الضرورية، حيث يجري فيها تحديد وتعريف القضايا القرآنية بدقّة ووضوح؛ وهذه الخطوة تضع الأساس لكلّ ما يليها؛ لأنه لا يمكن دراسةٌ أو تصنيفٌ ما لم يُحدَّد ويُضبَط أوّلًا. ثم تأتي الخطوة الثانية (تصنيف القضايا وأنماطها) بعد ضبط القضايا، حيث تُنَظَّم في مجموعات وفئات متجانسة؛ وهذا التصنيف يسهّل فهم العلاقات بين القضايا المختلفة ويكشف عن أنماطها المشتركة، مما يمهّد الطريق للخطوة التالية. في الخطوة الثالثة (ضبط مبادئ القضية ومحاور دراستها)، وبعد أن أصبحت القضايا مضبوطة ومصنّفة، يمكن تحديد المبادئ الأساسية التي تحكم كلّ قضية والمحاور الرئيسة لدراستها. أخيرًا، تأتي الخطوة الرابعة (بناء المقرّرات التعليمية للقضايا) كتتويج للخطوات السابقة؛ فبعد ضبط القضايا وتصنيفها وتحديد مبادئها ومحاور دراستها، يمكن تحويل هذه المعرفة المنظّمة إلى مقرّرات تعليمية متينة.
كيفيات الضبط والتحرير[7]:
يُدْرِك الطَّرْح اليماني أننا أمام تشعُّب واسع من القضايا القرآنية وتشعّب مماثل من الممارسات المعرفية المرتبطة بالقرآن؛ ولمّا كانت الممارسات هي الأسبق في الوجود، يبدأ تحرير القضايا التي يمكن نصبها علومًا -وفق الطرح اليماني- من خلال تحرير الممارسات المعرفية المتّصلة بالقرآن. وبتحرير الممارسات تتحرّر لدينا أنماط الخدمة التي يمكن للعلوم تقديمها لهذه الممارسات.
يتأتَّى تحرير الممارسات -وفق الطرح اليماني- من خلال التأمّل في قضايا الاشتغال الجزئي القائمة حول القرآن وتطبيقاتها، وهو ما يؤدِّي إلى ضبط الممارسات، والتي بدورها ستقودنا إلى تحرير القضايا الكلية التي ستكون محور العلوم الخادمة لهذه الممارسات.
السؤال الذي يبرز هنا هو: بالنظر إلى كثرة قضايا الاشتغال الجزئي وتشعّبها، وفق أيّ معيار سيجري اعتبار ما يصلح منها أن يكون ممارسة معرفية (ومن ثم تستحقّ بناء علومٍ خادمة لها)، وما لا يصلح منها لأن يكون ممارسة بذاته، بل يقتصر على كونه ضمن إطارِ العلوم الخادِمِ للممارسة؟
جواب الطرح اليماني هو اعتماد معيار صلاحية الممارسة وقابليتها للامتداد التطبيقي؛ فما يصحّ نصبه عِلْمًا يتوجّب امتلاكه أصالةً ممارسة تطبيقية[8] يقوم على خدمتها؛ وإلّا يقتصر دوره على إطارِ العلوم الخادمِ للممارسة.
بهذا التصوّر، يستهدف الطرح اليماني تجاوز الإشكاليات المرصودة في مصنّفات علوم القرآن، وتمحيص الساحة القرآنية من الدخيل، فلا يكون هناك عِلْم قرآني إلا ما كان له ممارسة خاصّة في الاشتغال على القرآن.
التساؤلات الواردة على هذا التصوّر:
يتميّز الطرح اليماني في هذه الخطوة بمنهجية علمية واعدة جدًّا في تأسيس وتصنيف علوم القرآن، حيث يبدأ من الممارسات (الجزئية) للوصول إلى التنظير العلمي (الكلي). هذا المنهج يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة تطوّر العلوم ويتجاوز إشكاليات التصوّرات التقليدية؛ إِذْ تنشأ العلوم عادةً استجابة لحاجات عملية قبل أن تتحوّل إلى نظريات وقواعد.
غير أنّ مفهوم «الممارسة المعرفية»[9] في هذا البناء بحاجة إلى تحديد أكثر دقّة ووضوحًا؛ فرغم أنّ البناء يؤسِّس معيارًا للتمييز بين ما يصلح أن يكون ممارسة معرفية تستحقّ البناء العلمي وما ليس كذلك، إلا أنّ المفهوم نفسه يكتنفه شيء من الغموض؛ ومع اعتراف الطرح اليماني بكون ساحة الممايزة تلك قد تكتنفها اختلافات عديدة -وهذا صحيح، وصحيح أيضًا أنه ملمح طبيعي، والاختلاف على التطبيق لا يقلّل من قيمة المعيار- سيكون بناء تصوّر أو تعريف للممارسات المعرفية مفيدًا في تضييق أُفق هذا الاختلاف وضبطه؛ ذلك أن تحرير القضايا يتطلّب فهمًا أعمق لحدود الممارسة وطبيعتها وكيفية تمييزها عن غيرها من الممارسات.
كما يثير معيار (صلاحية الممارسة وقابليتها للامتداد التطبيقي) تساؤلات مهمة تحتاج إلى إجابات واضحة؛ فكيف ستُقاس هذه القابلية للامتداد التطبيقي بشكلٍ موضوعي؟ وما هو الحد الأدنى المقبول من هذا الامتداد الذي يؤهل الممارسة لأنْ تستحق بناء علوم خادمة لها؟ وهل تتغيّر هذه المعايير بتغيّر السياقات التاريخية والثقافية؟ هذه الأسئلة جوهرية لتطبيق المنهج بشكلٍ فعّال.
كما يظهر في التأصيل أيضًا تداخلٌ بين ثلاثة مستويات: قضايا الاشتغال الجزئي، والممارسات المعرفية، وإطار العلوم الخادمة؛ هذا التداخل قد يسبِّب إرباكًا في التطبيق العملي. فمثلًا، كيف سيتعامل التأصيل مع ممارسة معرفية تخدم (حُكمًا أو فِعلًا) عدّة علوم في آنٍ واحد؟ وكيف سيُقرّر ما إذا كانت قضية جزئية معيَّنة تستحقّ أن تتحوّل إلى ممارسة معرفية مستقلة؟
كلّ هذه التساؤلات هي مسارات تثري الطرح، ولا تقلّل من جَوْدَته، بل غايتها أن تحسّن تطبيقه العملي.
ضبط مبادئ القضية ومحاور دراستها:
فصّل الطرح اليماني تفصيلًا حسنًا -أحسبه من أبرز مآثره- في هذه الخطوة، إِذْ قَدَّم بنية متماسكة لضبط محاور الاشتغال في نوعي الخدمة (تقنين المزاولة - صناعة الوعي بالممارسة).
أنواع العلوم | علوم تقنّن وتقعّد مزاولة الممارسة | علوم تصنع الوعي بالواقع التطبيقي للممارسة | |
المركزيات الرئيسة للعلوم | موضوع العلم | ||
مفهوم العلم | |||
غاية العلم | |||
محاور الاشتغال الكبرى للعلوم | ضبط مرتكزات الممارسة | تاريخ الممارسة | |
مؤلَّفات الممارسة | |||
ضبط موارد الممارسة | ثمرة الممارسة | ||
مدارس الممارسين ومناهجهم | |||
ضبط ملَكة الممارسة | رجال الممارسة |
يبدأ الإطار بتحديد المركزيات الأساسية لأيّ علم قرآني؛ وهي: موضوع العلم ومفهومه وغايته. هذا التأسيس المفاهيمي يضع حدودًا واضحة للعلم ويميزه عن غيره من العلوم. فتحديد موضوع العِلْم يوضح مجال اشتغاله، ومفهومه يبيّن ماهيته وحدوده، وغايته تكشف عن أهدافه وثمراته المرجوّة. يجمع الإطار بين التنظير والتطبيق، وبين التأصيل التاريخي والواقع المعاصر. فهو يربط بين المركَّبات النظرية للعلم وتطبيقاته العملية، مما يَضْمَنُ عدم انفصال النظرية عن التطبيق.
إمكانات تطوير هذا الإطار المنهجي:
في مجال المركزيات الرئيسة، يمكن إضافة عنصر (مُسلَّمات العلم) كمُكوِّن أساسي إلى جانب الموضوع والمفهوم والغاية. فكلّ عِلْم يقوم على مجموعة من المسلَّمات التي تشكِّل أساسه المعرفي، وتوضيح هذه المسلَّمات يساعد في فهم أعمق للعلم وحدوده.
كما يمكن تطوير (محاور الاشتغال الكبرى) بإضافة تصنيف داخلي يوضح العلاقات والتراتبية بين هذه المحاور؛ فبعض المحاور قد تكون أساسية وأخرى فرعية، وبعضها قد يكون مقدّمة لغيره. هذا التصنيف سيساعد في فهم أفضل لكيفية تطوّر العلم وبنائه المعرفي. فمثلًا في علم التفسير، يمكن تصنيف المحاور إلى تأسيسية كـ(أصول التفسير)، وتطبيقية كـ(مناهج المفسِّرين)، وتكميلية كـ(تاريخ التفسير).
كما يمكن تطوير الإطار بإضافة بُعْدٍ تقييمي يقيس مدى نجاح الممارسة في تحقيق أهدافها؛ فهذا يمكن أن يشمل مؤشّرات رئيسة ومعايير لقياس جودة الممارسة وفعاليتها. كما يمكن إضافة بُعْدٍ تكاملي يوضح علاقة العلم بغيره من العلوم القرآنية والشرعية؛ فالعلوم القرآنية متداخلة ومترابطة، وفهم هذه العلاقات يساعد في تطوير ممارسات أكثر شموليةً وعمقًا.
التقييم النهائي للتصوّر التنظيري الخاصّ بإعادة بناء علوم القرآن:
يمثِّل هذا المشروع لإعادة بناء علوم القرآن خطوة رائدة ومتقدِّمة في مجال الدراسات القرآنية، وذلك لعدّة أسباب جوهرية تجعله مشروعًا واعدًا يستحقّ الاهتمام والتطوير.
يتميز المشروع أوّلًا بمنهجيّته العلمية الدقيقة التي تنطلق من الواقع التطبيقي إلى التنظير العلمي؛ هذا المنهج يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة تطوّر العلوم، حيث تنشأ العلوم عادةً استجابة لحاجات عملية قبل أن تتحوّل إلى نظريات وقواعد. هذا التأصيل المنهجي يَضْمَن ارتباط العلوم بواقع الممارسة، مما يجعلها أكثر فاعليةً وثراءً.
كما يتميّز المشروع بتركيزه على مفهوم (الممارسة المعرفية) كأساس لبناء العلوم؛ هذا المفهوم يقدِّم معيارًا واضحًا لتمييز ما يستحقّ أن يكون له عِلْم مستقلّ عمّا يندرج تحت إطار خدمة مسارات العلوم. وهذا التمييز يساعد في تنقية ساحة علوم القرآن من التداخلات غير الضرورية ويجعلها أكثر تنظيمًا؛ ويتجاوز بها إشكاليات كثيرة.
ومن نقاط القوّة البارزة في المشروع منهجيته في ضبط مبادئ كلّ عِلْم ومحاور دراسته. فالإطار المنهجي الذي يقدِّمه يشمل المركَّبات الرئيسة للعلم، ومحاور اشتغاله الكبرى، وضوابط ممارسته. هذا الإطار الشامل يوفر خريطةً واضحة لفهم كلّ عِلْم وتطويره. ومما يجعلُ هذا المشروع واعدًا بشكل خاصّ قدرتُهُ على تجاوز الإشكاليات التي عانَتْ منها علوم القرآن تقليديًّا؛ مِثل تشوّش الساحة بالجزئيات، وعدم وضوح المعايير العلمية، فالمشروع يقدِّم حلولًا منهجية لهذه الإشكاليات.
******
ثانيًا: التأسيس الجديد الذي يقدِّمه الطرح اليماني لعِلْم التفسير:
لمّا كانت الممارسة التفسيرية هي رأس الممارسات المعرفية المرتبطة بالقرآن الكريم؛ ناسَب أن تكون هي محلّ التطبيق الرئيس الموسَّع والشامل للأنموذج اليماني في إعادة بناء علوم القرآن[10]. ويجدر هنا -قبل الدخول في تفاصيل التطبيق- الإنباه إلى مسألتين:
الأولى: هي أنّ التقويم الجادّ لأطروحات التأسيس الجديد ينصبّ بالأصالة على البناء النظري، وتقييم جودته وتحليل صلاحيته وإمكانات تحسينه. ويأتي تقويم التطبيق في مرتبة لاحقة؛ لأنّ الأنظار تتفاوت فيه، وباب الاجتهاد فيه أوسع. وإنّ المتانة النظرية للطرح اليماني (وهو ما تبيّن في القسم الأول)، تُنبئ بإمكانية تحقيق نتائج مثمرة في التطبيق، ليس على مستوى علوم القرآن فحسب، بل نراها صالحة -مع بعض التحسينات- للتوسُّع في علوم أخرى.
الثانية: أنّ دائرة التطبيق أوسع من دائرة التنظير؛ فالتطبيق ليس مجرّد إسقاط آليّ للمقرّر النظري، فالتطبيق يتطلَّب مرونة في التعامل مع المعطيات المختلفة، مع الحفاظ على الأصول المنهجية الأساسية. لذلك فإنّ تقويمنا هنا سيكون منصبًّا على مدى نجاح التطبيق في تحقيق أهداف الأنموذج اليماني، ومدى قدرته على معالجة الإشكالات التفسيرية المختلفة، مع الحفاظ على المرونة اللازمة في التعامل مع المعطيات المتنوعة.
****
لا شكّ أنّ الممارسة التفسيرية هي الممارسة الأبرز والأهمّ والأكثر تعلّقًا بالقرآن الكريم باعتباره نصًّا مركزيًّا في التراث الإسلامي، والمنبع الذي تفرّعت عنه العلوم الشرعية. وفي ضوء هذا التأصيل لعلوم القرآن، وكونه مرتكِزًا بصورة رئيسة على الممارسات المعرفية؛ كان من الطبيعي أن يستهدف الطرح اليماني الممارسة التفسيرية لتأسيس عِلْم التفسير وفق هذا التصوّر الجديد، وهو ما يضيف قوّة تطبيقية للتصوّر النظري.
وإذا تأمّلنا هذا الطرح الجديد، سنجد أنه قَدَّم تأصيلات مهمّة ونقاشات مركّزة للعديد من قضايا الاشتغال في حقل التفسير (تحقيب الممارسة التفسيرية ومراحلها، وتصنيف التفاسير، ومدارس التفسير...إلخ) وجميعها من القضايا المركزية في حقل التفسير. وعلى عادة التأصيل النظري السابق، اتّسم الطرح اليماني بطول النَّفَس في طرح الإشكاليات ورصدها، ومناقشتها والتفريع عليها، حتى إذا ما طرح تأصيلًا جديدًا، جاء في تجاوب فعّال مع الإشكاليات المرصودة.
سنتطرّق في هذا الجزء من المقالة إلى أبعادٍ من الطَّرْح اليماني -عوضًا عن الدخول في مناقشة تفاصيل الإشكاليات المرصودة- وهي المساحات التي طُرحت فيها معايير منهجية دقيقة لتأسيسٍ جديد، ونراها مركزية وجديرة بالتقييم. أمّا باقي المساحات فجاء الاشتغال فيها متماسكًا بحيث لا تظهر الحاجة لإعادة الكلام عليه هنا.
عِلْم التفسير: القضية والموضوع:
يتناول الطَّرْح اليماني في هذا المنحى إشكالية غياب عِلْمٍ متكامل يخدم الممارسة التفسيرية للقرآن الكريم في واقعها التطبيقي، حيث يشير إلى أنّ الواقع الحالي يفتقر إلى إطار منهجي موحَّد يضبط هذه الممارسة ويصنع الوعي بها. فرغم وجود مسارات بحثية متفرّقة حول التفسير، إلا أنّ هذا التشتّت نفسه يعدّ دليلًا على غياب المسلك الجامع الذي يمثِّله علم التفسير بمفهومه الشامل. وقد أدّى هذا الغياب إلى تقزيم الاشتغال بالجزئيات وتحويلها إلى معلومات مفكّكة لا تخدم غاية مركزية محدّدة، كما أسهم في تشويش حركة التأصيل المعاصر للتفسير وإضعاف قدرتها على التقعيد للممارسة التفسيرية.
وفي ضوء هذا الواقع، يقترح الطرح اليماني تأسيسَ عِلْمٍ للتفسير يختصّ بصناعة الوعي بالممارسة التفسيرية القائمة للقرآن الكريم في واقعها التطبيقي. ويتميّز هذا العلم بموضوع كلّي قادر على توليد حركة بحثية واسعة ومستمرة؛ نظرًا لارتباطه بممارسة معرفية متجدّدة. ويعرَّف هذا العِلْم بأنه: «معرفة الممارسة التفسيرية القائمة للقرآن الكريم»[11]، وتتمثّل غايته في ضمان حسن تحقّق الوعي بالممارسة التفسيرية وتطوير النظر في قضاياها المختلفة. وقد جاء اصطلاح هذا العلم منسجمًا مع طبيعة قضيته، حيث يحمل اسم الممارسة التي يصنع الوعي بها مباشرة.
ويحدّد الطرح اليماني خمسة محاور رئيسة لهذا العلم المقترح، تشكّل مرتكزات كلية لتفريع نسق اشتغال بحثي متكامل. تتمثّل هذه المحاور في: دراسة تاريخ ممارسة التفسير ومحطّاته عبر الزمن، ومعرفة مؤلَّفات الممارسة التفسيرية وتصنيفها، ودراسة ثمرة العمل التفسيري، وبيان مدارس المفسِّرين ومناهجهم وأسباب اختلافهم، وأخيرًا معرفة تراجم المفسِّرين وطبقاتهم ورُتَبهم في التفسير. وتعمل هذه المحاور مجتمعة على تحقيق التكاملية في دراسة قضية العِلْم وتطوير فهم شامل للممارسة التفسيرية للقرآن الكريم.
نقاط قوّة الطرح اليماني في تأسيس عِلْم التفسير:
يتميّز هذا الطرح بعدّة نقاط قوّة جوهرية تعود بالأساس إلى متانة البناء النظري المؤسَّس عليه؛ فمن الناحية المنهجية، يقدِّم تشخيصًا دقيقًا لإشكالية حقيقية في واقع الدراسات القرآنية المعاصرة، وهي غياب إطار علمي متكامل يخدم الممارسة التفسيرية ويؤصّل لها. هذا التشخيص لا يقف عند حدود الوصف السطحي، بل يتعمّق في تحليل أسباب المشكلة وتداعياتها، موضحًا كيف أنّ غياب هذا الإطار العلمي أدَّى إلى تشتّت الجهود البحثية وتقزيم الاشتغال بالجزئيات دون رابط منهجي يجمعها. كما يبرز الطرح بوضوح الفَرْق بين وجود مسارات بحثية متفرّقة وبين وجود عِلْم متكامل له منهجيته وأدواته.
ومن جهة أخرى، يتميّز الطرح بقُدْرته على تقديم رؤية تأسيسية واضحة المعالم لعِلْم التفسير المنشود. فهو لا يكتفي بنقد الواقع، بل يتجاوزه إلى تقديم تصوّر متكامل لماهية هذا العلم وموضوعه وغاياته ومحاوره الرئيسة. ويظهر عمق هذا التصوّر في تحديده الدقيق لموضوع العلم بأنه «معرفة الممارسة التفسيرية القائمة للقرآن الكريم»، وهو تحديد يجمع بين الدقة المنهجية والشمول المعرفي. كما يتجلّى هذا العمق في تأصيله لاصطلاح العلم وتبريره المنطقي لاختيار مصطلح (علم التفسير) رغم ما قد يثيره من إشكالات اصطلاحية.
أمّا على مستوى البناء المعرفي، فيتميز الطرح بقدرته على تحديد المحاور الكبرى للعلم بشكلٍ يضمن التكامل المعرفي والمنهجي. فالمحاور الخمسة التي حدّدها (تاريخ الممارسة، التفاسير، التفسير، مدارس المفسِّرين، والمفسِّرون) تشكّل منظومة متكاملة تغطِّي مختلف جوانب الممارسة التفسيرية. وما يميز هذه المحاور أنها تمثّل مرتكزات كُليّة قابلة للتفريع والتوسّع، مما يجعل العلم قادرًا على التطوّر والنموّ المستمر. كما أنّ هذه المحاور تراعي البُعْدَيْن (التاريخي والمعرفي) للممارسة التفسيرية، مما يضمن فهمًا شاملًا ومتوازنًا لها.
يتعلّق بهذا الطرح مسألة واحدة نرى أنها تقع ضمن آفاق تحسين هذا البناء؛ وهي تتعلّق بعدم وضوح الغاية من عِلْم التفسير؛ فقد حدّد الطَّرْح اليماني أنّ غاية علم التفسير تكمن في «ضمان حُسْن تحقّق الوعي بالممارسة التفسيرية»، لكن هذا التعبير يشوبه لونٌ من الغموض؛ فما المقصود بـ«حُسن تحقّق الوعي»؟ هل مراد هذا التحقّق معرفي أم بنائي؛ معرفي بمعنى الإلمام النظري بالممارسة، أم بنائي بمعنى القدرة على مَوْضَعَة الممارسات على تنوعها ضمن أنساق مختلفة وتحليلها ونقدها.
تحقيب ممارسة التفسير:
فيما يتعلّق بتحقيب ممارسة التفسير -وعلى نفس النسق الذي سارت عليه الأطروحة في البناءات السابقة- انطلق الطرح اليماني من رصدِ راهنِ التحقيب المعاصر، مُبْرِزًا ما يثيره من إشكالات وما يعتمل فيه من نواقص منهجية. وجديرٌ بالذِّكْر في هذا النمط من النظر والبناء، هو أنّ تلك الإشكاليات تعمل بمنزلة البوصلة التي تضبط التأصيل أو التطبيق المنهجي المقترح، حيث إنّ الطرح اليماني يستهدف بالأساس هذه الإشكالات ويعمل على تقديم حلول منهجية لها، مع العناية بتأصيل هذه الحلول وربطها بالأُسس النظرية التي قام عليها المشروع ككلّ. وتتجلّى أهمية هذا المنهج في كونه يجمع بين النقد البنّاء للتراكمات السابقة وبين التأسيس المنهجي الجديد، مما يضمن استمرارية المعرفة وتطوّرها في إطار منضبط.
أطّر الطرحُ اليماني الإشكاليات المنهجية في التحقيب المعاصر في كونه يفتقد لمعيار محدّد للمراحل التي طرحها، كما أنّ التفسير في هذه المراحل المختلفة ليس له ضابط واضح وحدود معيّنة. والنتيجة الطبيعية لهذه الإشكاليات هي أنّ التحقيب لم يؤتِ الثمرة المنتظرة منه والتي تُتوقَّع عادةً من التحقيب، كما أنه أغفل الاختلافات الجذرية بين التفاسير التي ضمّها تحت مرحلة واحدة.
ومن ثمّ اعتمد الطرح اليماني في مقاربته لمسألة تحقيب ممارسة التفسير على رؤية شمولية تراعي مختلف الأبعاد التاريخية والمعرفية والمنهجية. فهو لا يكتفي برصد المراحل الزمنية لممارسة التفسير وتقسيمها إلى حقب تاريخية، بل يتجاوز ذلك إلى تحليل السِّمَات المميزة لكلّ مرحلة، والعوامل التي أثّرت في تطوّر الممارسة التفسيرية خلالها، والتحوّلات المنهجية التي طرأتْ على ممارسة التفسير في كلّ حقبة. وهذه النظرة الشمولية تساعد في فهمٍ أعمق لتاريخ ممارسة التفسير وتطوّرها.
وتكمن القيمة المضافة للطرح اليماني في مجال تحقيب ممارسة التفسير في قدرته على تجاوز النظرة التجزيئية التي اتّسمت بها المحاولات السابقة، والتي غالبًا ما اقتصرت على التقسيم الزمني اليسير دون اعتبارٍ كافٍ للتحوّلات المعرفية والمنهجية العميقة التي شهدتها الممارسة التفسيرية عبر تاريخها. كما يتميز هذا الطرح بقدرته على ربط التحقيب بالإطار النظري الأوسع لعلم التفسير، مما يجعله أداة منهجية فعّالة لفهم تطوّر الممارسة التفسيرية وتحليل مساراتها المختلفة.
يقدّم الطرح اليماني في هذا الصدد رؤية متعمقة لمنهجية تحقيب ممارسة التفسير القرآني، منطلقًا من ضرورة وجود معيار منهجي محدّد لقراءة تاريخ الممارسة التفسيرية وفهمِ تحوّلاتها الجوهرية. وتكمن أهمية هذا المعيار في كونه يتجاوز مجرّد التتبّع الشكلي لمسارات التأليف إلى رصد التحوّلات العميقة في بنية الممارسة التفسيرية ذاتها. ويؤكّد الطرح اليماني أن المعيار الأنسب لهذا التحقيب هو قضية الممارسة وموضوعها، باعتبارها المحور المركزي الذي يحدّد هوية الممارسة التفسيرية وأهدافها ومناهجها، وأيّ تغيير في هذا الموضوع يؤدِّي حتمًا إلى تحوّلات جوهرية في طبيعة الممارسة وشروطها المنهجية.
وبناءً على هذا المعيار المنهجي، يقسم الطرح اليماني تاريخ الممارسة التفسيرية إلى ثلاث مراحل رئيسة، تتميز كلّ منها بنمط خاصّ من الاشتغال التفسيري. فالمرحلة الأولى، التي امتدّت حتى نهايات القرن السادس الهجري، تميّزت بالتركيز على تبيين المعنى المباشر للنصّ القرآني دون التوسّع في الاستنباطات والتحليلات الإضافية. وقد شكّلت هذه المرحلة المنطلق التأسيسي للممارسة التفسيرية، وتميّزت بفرادة منهجية خاصّة في مرحلة السلف؛ حيث كان التركيز على بيان المعنى المراد وليس مجرّد المعنى اللغوي.
أمّا المرحلة الثانية، التي امتدّت من أواخر القرن السادس الهجري حتى أواسط القرن الرابع عشر، فقد شهدت توسّعًا كبيرًا في مجال الاشتغال التفسيري، حيث جمَعَت بين تبيين المعنى والاهتمام بما وراء المعنى من نكات بيانية واستنباطات فقهية وهدايات وردود على الشبهات. وتُعَدّ هذه المرحلة الأطول زمنًا والأغزر إنتاجًا، حيث تضمّ معظم النتاج التفسيري عبر التاريخ، وتميّزت بتنوّع كبير في الاتجاهات والمناهج التفسيرية.
وتمثّل المرحلة الثالثة -حسب الاجتهاد اليماني في التحقيب- تحوُّلًا نوعيًّا في الممارسة التفسيرية، حيث أصبح التركيز الأساسي على ما وراء المعنى المباشر، مع اهتمام خاصّ بالجانب الهدائي للقرآن وتطبيقاته في معالجة القضايا المعاصرة. تميّزت هذه المرحلة -رغم قصر امتدادها الزمني- بغزارة الإنتاج التفسيري وتنوُّعه، مع تركيز خاصّ على الرؤية الكلية للسّور القرآنية والمعالجات القرآنية للمشكلات الاجتماعية والفكرية المعاصرة. وقد عكسَتْ هذه المرحلة تحوُّلًا منهجيًّا في التعامل مع النصّ القرآني، يتجاوز التفسير التقليدي إلى محاولة استخراج الرؤية القرآنية الشاملة للقضايا المختلفة.
واختتم الطّرْح اليماني بملاحظات عامّة ومهمّة حول خصائص كلّ مرحلة وعلاقتها بالمراحل الأخرى، مؤكّدًا على التمايز المنهجي الواضح للمرحلة الأولى، وأهميتها التأسيسية في تاريخ التفسير. كما يشير إلى الامتداد الزمني والإنتاجي الكبير للمرحلة الثانية، والتحوّل النوعي الذي مثّلته المرحلة الثالثة في تاريخ الممارسة التفسيرية. وتعكس هذه الملاحظات فهمًا عميقًا لتطوّر الممارسة التفسيرية وتحوّلاتها المنهجية عبر التاريخ، مما يساعد في بناء فهمٍ أفضل لتاريخ التفسير وتطوره.
نقاط قوة أطروحة تحقيب ممارسة التفسير:
يتميّز الطرح المقدَّم في تحقيب ممارسة التفسير بعُمْق منهجي يتجلّى في تأسيسه لمعيار موضوعي لقراءة تاريخ الممارسة التفسيرية. فبدلًا من الاكتفاء بالتقسيم الزمني اليسير أو تتبع الأشكال الخارجية للتأليف، يؤسِّس الطرح معيارًا جوهريًّا يرتبط بقضية الممارسة وموضوعها. وتكمن قوّة هذا المنهج في قُدْرَته على الكشف عن التحوّلات الحقيقية في بنية الممارسة التفسيرية، متجاوزًا بذلك السطح إلى العمق، والشكل إلى الجوهر. فعندما يكون المعيار هو تحوُّل قضية الممارسة وموضوعها، يصبح التحقيب قادرًا على رصد المنعطفات المركزية التي غيّرت فعلًا في طبيعة الممارسة التفسيرية وأهدافها ومناهجها.
يتميّز الطرح اليماني أيضًا بقُدْرَتِهِ على تقديم فهمٍ تطوّري عميق للممارسة التفسيرية، يكشف عن المنطق الداخلي لتطوّرها. فالانتقال من مرحلة تبيين المعنى إلى مرحلة الجمع بين المعنى وما فوق المعنى، ثم إلى مرحلة التركيز على ما فوق المعنى، يعكس تطوُّرًا منطقيًّا في التعامل مع النصّ القرآني؛ خصوصًا إذا استُحضرت السياقات الاجتماعية والثقافية التي أُنْتِجَت فيها تفاسير كلّ مرحلة. فهذا التطوّر يشبه نمو أيّ علم، حيث يبدأ بتأسيس الأساسيات (المعنى)، ثم يتوسّع في التطبيقات والتفريعات (ما فوق المعنى)، ثم ينتقل إلى مرحلة النضج حيث يصبح قادرًا على معالجة قضايا أكثر تعقيدًا وتجريدًا.
كما يتميز الطرح بدقّته في رصد الخصائص المميزة لكلّ مرحلة وعلاقتها بالمراحل الأخرى؛ فهو لا يكتفي بتحديد المراحل، بل يقدّم تحليلًا معمّقًا لطبيعة الاشتغال التفسيري في كلّ مرحلة، والعوامل التي أدّت إلى التحوّل من مرحلة إلى أخرى. وهذا يساعد في فهمِ كيف تطوّرت أدوات التفسير ومناهجه استجابةً للتحديات المعرفية والواقعية التي واجهت المفسِّرين في كلّ عصر.
ومن نقاط القوّة البارزة في هذا الطرح قدرته على الربط بين التحوّلات في الممارسة التفسيرية والتحوّلات الفكرية والاجتماعية الأوسع. فالانتقال إلى مرحلة الاهتمام بما فوق المعنى في العصر الحديث، على سبيل المثال، يرتبط بالتحديات الجديدة التي واجهت المجتمعات الإسلامية والحاجة إلى استنباط رؤية قرآنية شاملة للقضايا المعاصرة. وهذا يجعل التحقيب ليس أداةً لفهم تاريخ ممارسة التفسير فحسب، بل أيضًا مدخلًا مهمًّا لفهم تاريخ الفكر الإسلامي والتحوّلات الاجتماعية والثقافية في العالم الإسلامي.
آفاق إثراء وتطوير أطروحة تحقيب ممارسة التفسير:
من الناحية المنهجية، يبرز إشكال التداخل بين المراحل التاريخية المقترحة؛ فرغم وضوح المعيار المنهجي المعتمد (قضية الممارسة وموضوعها)، إلا أنّ التطبيق العملي لهذا المعيار قد يواجه صعوبة في تحديد الحدود الفاصلة بين المراحل بشكلٍ دقيق. فعلى سبيل المثال، الانتقال من مرحلة تبيين المعنى إلى مرحلة الجمع بين المعنى وما فوق المعنى لم يكن انتقالًا حادًّا أو مفاجئًا، بل كان تحوُّلًا تدريجيًّا يصعب تحديد نقطة بدايته ونهايته بدقّة. وهذا التداخل يتطلّب تطوير مراحل بينيّة، وفي هذا الصّدد سيكون استحضار التحوّلات الاجتماعية والثقافية الأوسع مفيدًا في تحليل هذه الفترات البينيّة.
ولتطوير هذا الطرح وتحسينه، يمكن اقتراح تطوير إطارٍ نظريّ أكثر تعقيدًا يستوعب التداخلات والتنوّعات في الممارسة التفسيرية لكلّ مرحلة، بحيث يستوعب المراحل البينية، وكذلك التباينات داخل كلّ مرحلة منها؛ ليكون في النهاية نموذجًا متعدّد الأبعاد لا يأخذ في الاعتبار قضية الممارسة وموضوعها فحسب، بل أيضًا العوامل الاجتماعية والفكرية والمنهجية المؤثرة في تطوّر التفسير.
كما يمكن تعميق الطَّرْح من خلال دراسات تطبيقية مقارنة تختبر صلاحية النموذج المقترح في تحليل نماذج تفسيرية محدّدة. فمثلًا: كيف يمكن تطبيق هذا النموذج على تفاسير معينة تجمع بين سماتٍ مِن مراحل مختلفة؟ وكيف يمكن استخدامه لفهم التطوّرات المعاصرة في الممارسة التفسيرية؟ مثل هذه الدراسات التطبيقية ستساعد في تحسين النموذج وتطويره ليصبح أداة تحليلية أكثر فعالية في فهم تاريخ التفسير وتطوّره.
تصنيف التفاسير تفسيريًّا:
يرصد الطرح اليماني واقعًا ملموسًا بصورة جدّ ظاهرة، وهو التعدّدية الفائقة في مضامين كتب التفسير، في مقابل وسمها جميعًا بأنها كتب تفسير، فوحدة التسمية والاندراج تحت مسمّى واحد لا تعكس انسجامًا في المضمون، بل يقابلها تعدّدية وتفاوت كبير في مادة التفسير في هذه الكتب.
أمام هذه الحالة، تطرح المقاربة اليمانية معيارًا هو المعنى التفسيري لتصنيف هذا الكَمّ من المصنفات، حيث تُصنّف التفاسير حسب طبيعة علاقتها بهذا المعنى التفسيري؛ إمّا اقتصارًا على بيانه أو توسّعًا فيما وراءه.
يبرّر الطرح اليماني اختيار هذا المعيار لكون المعنى يمثل ثقلًا مركزيًّا في مدونة التفسير ككلّ، والقلب النابض للممارسة التفسيرية بعامة -وهو ما يجعل إهماله عند تصنيف التفاسير مزلقًا منهجيًّا-، هذا إلى جانب أنّ هذا المعيار يتجاوز بتصنيفِ التفاسير المفازةَ الأيديولوجية التي جعلَت معيار الحكم على التفسير بالمضامين والتوجّهات العقدية، ويُعيد للمعنى وعلاقةِ التفسير به مكانتَه في تقييم وتصنيف المصنفات التفسيرية.
وفقًا لهذا المعيار كان التنزيل التطبيقي للطرح اليماني في تصنيف التفاسير كما يأتي:
أولًا: تصنيف التفاسير من حيث اشتغالها بالمعنى من عدمه:
1- تفاسير تشتغل بالمعنى: وهي التي يبرز في اشتغالها التفسيري حضور الارتباط بالمعنى.
2- تفاسير غير مشتغلة بالمعنى: وهي التي لا يرتبط عملها التفسيري بالمعنى ولكنها تستهدف مقاصد أخرى لا يبرز فيها الاهتمام بالمعنى التفسيري وإفراد مساحة له.
النوع الأول ينقسم إلى:
ثانيًا: تصنيف التفاسير من حيث اشتغالها العلمي على المعنى:
يمثل هذا التصنيف المقترح في الطرح اليماني إضافة نوعية مهمّة في مجال الدراسات القرآنية والتفسيرية، ويمكن تحديد نقاط قوّته في عدّة جوانب رئيسة:
- يتميز هذا التصنيف بدقّته المنهجية في تحديد معيار واضح وموضوعي للتصنيف، وهو المعنى التفسيري. فبدلًا من الاعتماد على معايير خارجية أو تصنيفات أيديولوجية أجنبية عن حقل التفسير، يركّز على جوهر العملية التفسيرية ذاتها وهو المعنى. وهذا يمثّل تطوُّرًا مهمًّا في فهم طبيعة التفسير وتصنيف مدوَّناته.
- كما يتميّز هذا التصنيف بقُدْرَته على تجاوز الإشكالات التي وقعَت فيها التصنيفات السابقة، خاصّة تلك التي اعتمدت على المعايير الأيديولوجية أو المذهبية. فالتركيز على المعنى التفسيري كمعيار للتصنيف يحرّر الدراسات التفسيرية من أَسْرِ التوجّهات العقدية والمذهبية، ويعيد الاعتبار للمعنى كمحور أساسي في العملية التفسيرية.
- ومن نقاط القوّة البارزة في هذا التصنيف أنه يقدّم رؤية شاملة ومتكاملة لكتب التفسير، حيث يراعي مختلف أنماط التعامل مع المعنى التفسيري؛ فهو لا يقتصر على تصنيف واحد، بل يقدِّم مستويَيْن من التصنيف: الأول يتعلق باشتغال التفاسير بالمعنى من عدمه، والثاني يتعلق بطبيعة الاشتغال العلمي على المعنى. وهذا يتيح فهمًا أعمق لطبيعة المدوَّنة التفسيرية وتنوّعاتها.
- كذلك يتميز هذا التصنيف بمرونته وقُدْرَتِه على استيعاب مختلف أنواع التفاسير؛ فهو لا يُقصِي أيَّ نوع من التفاسير، بل يضع كلَّ نوع في موقعه المناسب حسب علاقته بالمعنى التفسيري. وهذه المرونة تجعل التصنيف قادرًا على التعامل مع التنوّع الكبير في المدوّنة التفسيرية.
- ومن المزايا المهمّة لهذا التصنيف أنه يساعد الباحثين والدارسين على فهم طبيعة كلّ تفسير وخصائصه؛ فمن خلال معرفة موقع التفسير في هذا التصنيف، يمكن فهم منهجه في التعامل مع المعنى التفسيري، وبالتالي التعامل معه بشكلٍ أدقّ.
- يمتاز هذا التصنيف بأنه يؤسّس لرؤية جديدة في دراسة التفاسير وتقييمها. فهو لا يكتفي بالتصنيف الشكلي، بل يدخل في صميم العملية التفسيرية من خلال التركيز على المعنى كمعيار أساسي. وهذا يفتح آفاقًا جديدة في دراسة التراث التفسيري وفهمه وتقييمه.
ومع القوّة المنهجية التي يتمتّع بها هذا التصنيف، فهناك مجالات يمكن من خلالها تطويره وتحسينه ليصبح أكثر شمولية وفاعلية في فهم وتحليل المدوّنة التفسيرية.
في المستوى الأول، يمكن تعميق مفهوم (المعنى التفسيري) نفسه وتوضيح حدوده وأبعاده بشكلٍ أدقّ؛ فعلى الرغم من أهمية هذا المفهوم كمعيار للتصنيف، إلا أنه قد يحتاج إلى مزيد من التحديد والتدقيق. فما هي حدود المعنى التفسيري؟ وكيف يمكن تمييزه عن غيره من المعاني التي قد ترِد في كتب التفسير؟ وما هي العلاقة بين المعنى التفسيري والمعاني الأخرى كالمعنى اللغوي؟
كما يمكن تطوير التصنيف من خلال إضافة مستويات أخرى للتحليل تتجاوز مجرّد العلاقة بالمعنى؛ فمثلًا، يمكن إضافة مستوى يتعلّق بالمنهجية المتّبعة في التعامل مع المعنى التفسيري: هل هي منهجية تحليلية أم تركيبية؟ هل تعتمد على التحليل اللغوي أم على النظر في السياق والمقاصد؟ هذا التوسّع في مستويات التحليل سيُثري التصنيف ويجعله أكثر قدرةً على فهم طبيعة المدوّنة التفسيرية.
كذلك يمكن تطوير التصنيف من خلال إضافة معايير فرعية تساعد في فهم أدقّ لطبيعة كلّ نوع من أنواع التفاسير. فمثلًا، في حالة (التفاسير المتوسعة في الزيادة على المعنى)، يمكن تحديد أنماط هذه الزيادة وطبيعتها: هل هي زيادة في التحليل اللغوي؟ أم في الاستنباطات الفقهية؟ أم في التأمّلات الإشارية؟
التقييم النهائي للتأسيس الذي قدَّمه الطرح اليماني لعلم التفسير:
يمثّل تأسيس عِلْم التفسير خطوة منهجية متقدِّمة في تطوّر الدراسات القرآنية، حيث يسعى إلى تجاوز النظرة التقليدية التي تعاملتْ مع التفسير كممارسة تراكمية غير منضبطة بقواعد علمية محدّدة. فهذا التأسيس يضع أُسُسًا منهجية واضحة لعِلْم التفسير، تجعل منه عِلْمًا مستقلًّا له ملامح منهجية منضبطة.
يتميّز هذا التأسيس بتركيزه على المعنى التفسيري كمحور أساسي في العملية التفسيرية. وهذا التركيز يُعيد للتفسير جوهره الحقيقي كعلمٍ يهدف إلى فهمِ مراد الله تعالى من كلامه.
ويضاف إلى ذلك أنّ هذا التأسيس يقدِّم رؤية متكاملة للتعامل مع التراث التفسيري. فهو لا يقطع مع هذا التراث، بل يُعِيد قراءته وفهمه وفق منهجية علمية واضحة. وهذه القراءة الجديدة للتراث التفسيري تساعد في الاستفادة منه بشكلٍ أفضل، وتجاوز السلبيات التي شابَت التعامل معه في السابق.
وفي النهاية، يمكن القول إنّ تأسيس عِلْم التفسير يمثّل خطوة مهمّة في تطوّر الدراسات القرآنية، ويفتح آفاقًا جديدة في الدراسات التفسيرية. وهو مشروع واعد جدًّا، يمكن التأسيس والبناء عليه وتطويره وتدعيمه بمزيد من الأدوات المنهجية ليزداد ثراءً ونجاعة.
*****
الخاتمة:
قدَّمت هذه المقالة التقويمية تحليلًا شاملًا ومعمَّقًا للرؤية البنائية لإعادة بناء علوم القرآن المقدَّمة من الدكتور خليل محمود اليماني. وقد تناولت المقالة عدّة محاور رئيسة مترابطة؛ بدءًا من المناقشة المعمّقة لمفهوم العلم ومعيار العلمية، مرورًا بتحليل الإشكاليات المنهجية في تصنيف العلوم، وصولًا إلى التطبيق العملي لهذه الرؤية في مجال علم التفسير.
وقد خلصت المقالة إلى عدّة نتائج رئيسة:
فمن الناحية النظرية، قدّم الطرح اليماني تصوّرًا نظريًّا متينًا ومتكاملًا للعلاقة بين الممارسات المعرفية والتنظير العلمي، مؤسّسًا على فكرة أنّ العلوم تنشأ لخدمة ممارسات معرفية سابقة عليها. وقد تجلَّت قوّة هذا التصوّر في قدرته على تجاوز إشكاليات التصوّرات التقليدية للعلم، وتقديم معيار واضح للتمييز بين ما يستحقّ أن يكون عِلْمًا وما لا يستحقّه، وهو معيار (القضية الكلية) وقابلية الممارسة للامتداد التطبيقي.
أمّا على المستوى التطبيقي، فقد نجح المشروع في تقديم نموذج متماسك لإعادة بناء علم التفسير، متجاوزًا الإشكاليات التي عانَتْ منها المقاربات التقليدية. وتجلَّى هذا النجاح بشكلٍ خاصّ في تقديم معايير منهجية دقيقة لتحقيب ممارسة التفسير وتصنيف التفاسير، معتمدًا على معيار المعنى التفسيري كمحور مركزيّ للتصنيف والتحليل.
كما قد أشارت المقالة إلى إمكانات تطوير وتحسين هذا المشروع في عدّة اتجاهات؛ منها تعميق مفهوم (الممارسة المعرفية) وتحديد حدوده بدقة أكبر، وتطوير أدوات منهجية إضافية لتحليل العلاقات بين مختلف أنواع الممارسات المعرفية، وتوسيع نطاق التطبيق ليشمل علومًا إسلامية أخرى.
ورغم هذه النقاط التي تحتاج إلى تطوير، إلا أنّ المقالة تؤكّد أنّ المشروع يمثّل خطوة متقدّمة ومهمّة في تطوير الدراسات القرآنية، ويفتح آفاقًا جديدة في فهم وتحليل التراث التفسيري الإسلامي يمكن البناء عليها بما يحقّق نتائج مميزة.
وختامًا، تشير المقالة إلى أنّ هذا المشروع يمثّل إضافة نوعية مهمّة في مجال الدراسات القرآنية، ليس فقط لقيمته النظرية في إعادة بناء علوم القرآن، بل أيضًا لقُدْرَته على تقديم حلول عملية لإشكاليات منهجية عميقة في التراث التفسيري الإسلامي. وهو ما يجعله مشروعًا واعدًا يستحقّ المزيد من التطوير والتطبيق في مجالات أوسع من الدراسات الإسلامية.
التوصيات:
في ضوء التحليل المعمق لمشروع إعادة بناء علوم القرآن، نطرح التوصيات الآتية لتطوير المشروع وتعزيز فاعليته:
من الناحية النظرية، سوف يستفيد البناء النظري كثيرًا من الاشتغال على ضبط إطارٍ مفاهيمي أدقّ وأكثر تفصيلًا لمفهوم (الممارسة المعرفية) في سياق العلوم الإسلامية. وهذا يتطلّب دراسات معمّقة في فلسفة العلوم الإسلامية، وتحليلًا تاريخيًّا لتطوّر الممارسات المعرفية في التراث الإسلامي، كما يشمل ذلك وضع معايير واضحة لتمييز الممارسات المعرفية التي تستحقّ بناء علومٍ خادمة لها عن غيرها من الأنشطة المعرفية.
ومن الناحية التطبيقية، يوصَى بتوسيع نطاق تطبيق النموذج اليماني ليشمل علومًا إسلامية أخرى غير علوم القرآن. فالنموذج المقترح يمتلك مقومات منهجية تؤهّله للتطبيق في مجالات أخرى؛ كعلوم الحديث وأصول الفقه. ويتطلّب هذا التوسّع دراسات تطبيقية مقارنة تختبر صلاحية النموذج في هذه المجالات وتكشف عن التكييفات المنهجية اللازمة لتطويعه لكلّ مجال.
على المستوى التعليمي، يوصَى بتطوير مقرّرات دراسية تعكس هذه الرؤية الجديدة لعلوم القرآن؛ وهذا يتطلَّب إعادة النظر في المناهج التقليدية وتطوير طُرق تدريس تناسب هذا التصور الجديد للعلم وعلاقته بالممارسة المعرفية.
[1] يتمثل هذا المشروع للدكتور اليماني بالأساس في الكتابات الآتية:
1- تصنيف أنواع العلوم؛ قراءة في المنجز، وتصنيف معياري مقترح، بحث منشور على موقع نماء.
2- علوم القرآن؛ نقد العلمية ومقاربة في البناء، كتاب ورقي صادر عن مركز نماء، 2023م.
3- تأسيس علم التفسير؛ مقاربة تأسيسية مقترحة، كتاب ورقي صادر عن مركز نماء، 2024م.
[2] انظر: التقدّم ومشكلاته، لاري لودان، ترجمة: فاطمة إسماعيل؛ العلم والفرضية، لاري لودان، ترجمة: فاطمة إسماعيل، المركز القومي للترجمة.
[3] انظر: منطق الكشف العلمي، كارل بوبر، ترجمة: يمنى الخولي؛ بنية الثورات العلمية، توماس كون، ترجمة: شوقي جلال؛ ضد المنهج، بول فيرابند، ترجمة: ماهر عبد القادر عليّ.
[4] انظر: تصنيف أنواع العلوم؛ قراءة في المنجز، وتصنيف معياري مقترح، خليل محمود اليماني.
[5] انظر: تصنيف أنواع العلوم؛ قراءة في المنجز، وتصنيف معياري مقترح، خليل محمود اليماني؛ علوم القرآن؛ نقد العلمية ومقاربة في البناء.
[6] انظر: علوم القرآن؛ نقد العلمية ومقاربة في البناء، خليل محمود اليماني، ص239 وما بعدها.
[7] لن نعلِّق على جميع الخطوات الأربع، بل سنتطرّق -اختصارًا للمساحة- إلى النقاط التي نرى أنها بحاجة إلى مناقشة ما يمكن إضافته إليها من تحسينات فقط.
[8] ذكر الطرح اليماني أنّ الممارسة عبارة عن جهد تطبيقي في جانب معيَّن قابل لدوام التتابع، وبَيَّن أنها قضية جزئية تختلف عن غيرها من القضايا الجزئية بديمومة الامتداد التطبيقي.
[9] يمكن تعريف الممارسة المعرفية التي تصلح لبناء علوم خادمة لها في سياق علوم القرآن بأنها: «نشاط عقلي منهجي متكرّر يتعلق بالقرآن الكريم لذاته، يهدف إلى إنتاج معرفة منضبطة قابلة للتطوّر والتراكم، ويمتلك قواعد وأدوات خاصة به تميزه عن غيره من الممارسات، مع قابليته للتطبيق في سياقات متعدّدة».
«نشاط عقلي منهجي»: هذا القيد يميز الممارسة المعرفية عن الممارسات التعبدية المحضة؛ فالنشاط العقلي المنهجي يشير إلى وجود عملية تفكير منظمة وواعية.
«متكرّر»: يشير إلى أن هذه الممارسة ليست حدثًا عارضًا أو فرديًّا، بل هي نمط مستمر من النشاط المعرفي؛ وهذا التكرار ضروري لتراكم الخبرة وتطوير المنهجية.
«يهدف إلى إنتاج معرفة منضبطة»: هذا يميز الممارسة المعرفية عن الممارسات التي تهدف لغايات غير معرفية؛ فالهدف هنا هو إنتاج معرفة يمكن توثيقها ونقلها وتطويرها.
«قابلة للتطور والتراكم»: هذا العنصر يشير إلى أنّ الممارسة المعرفية يجب أن تكون قادرة على النمو والتطوّر مع الزمن، وأن تسمح بتراكم المعرفة عبر الأجيال.
«يمتلك قواعد وأدوات خاصّة به»: هذا يؤكّد استقلالية الممارسة المعرفية وتميّزها عن غيرها من الممارسات التي لا تصلح لبناء العلوم، فلكلّ ممارسة معرفية منهجيتها وأدواتها الخاصّة التي تميّزها عن غيرها من الممارسات.
«قابليته للتطبيق في سياقات متعدّدة»: هذا يتّصل بمعيار «الامتداد التطبيقي» المذكور في التأصيل اليماني، ويؤكّد أن الممارسة المعرفية يجب أن تكون قابلة للتطبيق في مواقف وسياقات مختلفة.
هذا مجرّد تعريف مقترح ويمكن تطويره ومناقشته.
[10] وذلك في كتابه: تأسيس علم التفسير؛ مقاربة تأسيسية مقترحة.
[11] تأسيس علم التفسير؛ مقاربة تأسيسية مقترحة، ص43.