نقد التفسير؛ واقعه وآفاقه

يُعَدّ نقد التفسير من الإجراءات العلميّة المهمة في تثوير العلم، وتمييز صحيحه من سقيمه، وهذا الحوار مع د/ عبد السلام الجار الله يجيب فيه عن عدد من الأسئلة حول هذا الموضوع؛ محرِّرًا لتعريفه، وكاشفًا عن أهميته ومجالاته وملامحه وأهم آفاق البحث فيه.

مقدمة:

  تُعَدّ عملية النقد من الإجراءات العلميّة المهمّة في كل العلوم، التي من شأنها أن تثوِّر أفكارها، وتكشف عن دقائقها، وتبيّن صحيحها من سقيمها، وتجلِّي اعتبارات التصحيح والترجيح، إلى غير ذلك من الفوائد العلميّة المهمة التي لا يكاد يستغني عنها علم من العلوم.

وقد كان لعلم التفسير حظُّه الوافر من هذه العملية المهمّة، التي كان لها حضور منذ بداية ظهور التفسير، والذي يكشفه واقع تفسير السلف، ثم توسَّعت هذه الظاهرة مع ظهور التصانيف، واختلاف المناهج، ومثَّلت حضورًا بارزًا في كثير من تصانيف المفسِّرين.

وفي هذا الحوار مع فضيلة الدكتور/ عبد السلام بن صالح الجار الله، أستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الملك سعود، نتوجّه بجملة من التساؤلات حول موضوع نقد التفسير؛ للكشف عن واقعه، وأهميته، ومجالاته، وآفاق البحث فيه.

وقد جاء الحوار موزَّعًا على ثلاثة محاور؛ يتقدّمها محور تمهيدي، حول مفهوم نقد التفسير وتاريخه وأهميته. ثم المحور الأول: نقد التفسير؛ نظرات في الواقع. ثم المحور الثاني: نقد التفسير؛ الآفاق والتطلُّعات. ثم المحور الثالث؛ الذي اشتمل على عدد من الأسئلة المتفرقة حول هذا الموضوع.

نصّ الحوار

محور تمهيدي: نقد التفسير؛ مفهومه وتاريخه وأهميته:

س1: من البَدهي أن النقد لا يخلو منه فنّ من الفنون ولا علم من العلوم؛ ولكن قد يختلف مفهوم النقد ومعناه من علمٍ لآخر، فما مفهوم مصطلح النقد عند إضافته للتفسير؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:

فيراد بنقد التفسير اصطلاحًا: تمييز التفسير بمجالاته المختلفة، وبيان الصحيح من الضعيف.

وتمييز التفسير يبدأ بالنظر والفحص الدقيق، وينتهي ببيان الجيد من الرديء، والصحيح من الضعيف، ويتضح من هذا أن مفهوم نقد التفسير أوسع من بيان الضعيف فقط؛ فبيان الضعيف ليس هو نقد التفسير، وإن كان أحد ركائز النقد الأساسية، وأشهر معانيه، وأوسعها انتشارًا وأوفرها حظًّا، بل يكاد أن يكون المتبادرَ للذهن عند ذكر النقد، واستعمالُ الناس اليوم لهذه الكلمة يدور حول هذا المعنى، لكنّ المعنى الاصطلاحي أوسع من هذا المعنى.

ومما ينبغي أن يراعيَه الباحثون عند البحث في نقد التفسير التوازنُ بين هذه المعاني في مصطلح النقد، وإعطاء كل معنى حقه، فقد تستهلك بعض معاني النقد جهد الباحث وتكون محط نظره، فينشغل بالحديث عنها والتمثيل لها، فلا يكون حديثه شاملًا لمعاني النقد الأخرى، حتى يخيل للقارئ أن البحث في الترجيحات أو الاستدراكات أو الردود، ونحو ذلك.

ومن خلال هذا التعريف -أيضًا- يتبين أن التفسير منظومة مترابطة تشتمل على قول وقائل، ومنهج متبع في فهم الآية وتفسيرها، ثم وعاء ينتظم ذلك كله وهو الكتاب، ولا يمكن عزل بعض هذه المنظومة عن بعض، فقد يكون سببُ نقد تفسيرٍ ما خللًا عند المفسر، أو خللًا منهجيًّا عنده في فهم الآية وتفسيرها ونحو ذلك؛ مما دفع النقاد إلى انتقاد ما ذهب إليه ذلك المفسر في تفسير الآية، فالتفسير ينتظم مناهج التفسير وطرقه وأقواله ورجاله وكتبه، فالناقد -مثلًا- حين ينظر في قولٍ لابن عباس فينتقده لكونه من رواية الكلبي عن أبي صالح، فإن النقد هنا تطرق إليه من جهة أحد رواة تفسيره المتفق على ضعفهم في الرواية، وكذلك حين ينتقد قول مفسرٍ في تفسير آية من آيات الصفات مثلًا أو غيرها؛ فلأنه بنى تفسيره للآية على أصل فاسد في الاعتقاد، وهذا الأصل هو المؤثر في فهم الآية وتفسيرها؛ ولذلك يُنتقد هذا المفسِّر أو ذاك لهذا السبب، ويحذر من هذا المفسر في هذا المجال التفسيري أو ذاك، وبه نعرف أن هذه الأشياء منظومة متكاملة آخذ بعضها برقاب بعض.

س2: في ضوء اشتغالكم بفكرة نقد التفسير؛ هل هناك مرادفات لمصطلح (نقد التفسير) تُعبِّر عن المعنى نفسه المذكور في مفهومه؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 قد لا نجد مصطلحًا مرادفًا لمفهوم نقد التفسير في شموليته حسب التعريف السابق، لكن ثمة مصطلحات قد تشترك مع نقد التفسير في بعض جزئياته، فالاستدراك في التفسير -مثلًا- جزئية من جزئيات النقد، فهو يُعنى بتتبع الأقوال بما يصلح خطأها، أو يكمل نقصها، أو يزيل لبسها، والمستدرِك يتتبع مواطن الخلل لمن يستدرك عليه بأن يصلح خطأها أو يكمل نقصها أو يزيل اللبس عنها، أمّا النقد فهو أوسع وأشمل، والناقد نظرته أوسع، فإنه وإن اشترك مع المستدرِك فيما تقدم، فإنه يزيد عليه بأن يتوصل من خلال نظره النقدي إلى الإشادة ببعض الآراء والثناء عليها، وتفضيلها وترجيحها على الأقوال الأخرى، ويمكن تشبيه الناقد بالقاضي الذي ينظر في الدعاوى وأدلتها، وما احتفّ بها من قرائن، ثم يتوصل للحكم بينها، وكذلك الناقد فإنه ينظر في الأقوال في معنى الآية، ويتأمل حججها وأدلتها، ثم يعرضها على ميزان النقد، فيحكم بضعف بعضٍ ورجحان بعضٍ، وقد يتوصل إلى أن الأقوال في معنى الآية متساوية في القوة، وأن الآية تحتملها جميعًا، والناقد -أيضًا- ينظر في مناهج التفسير وطرقه ويقارن بينها، ويعرف مواطن الخلل فيها ومواطن القوة، وله نظرات دقيقة في رجال التفسير وكتبهم ومراتبهم ومنازلهم في تفسير القرآن.

س3: لا شك أن عملية النقد في العلوم تكون رديفة لظهور العلوم ذاتها، فلو تطلعوننا على تاريخ الممارسة النقدية في علم التفسير، وأهم المراحل التي مرت بها والتطورات التي وقعت فيها.

د/ عبد السلام الجار الله:

 نعم، وهذا ما وقع لنقد التفسير، فقد كان مواكبًا لفهم القرآن وتفسيره، وترجع جذوره إلى عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد جاءت عنه نصوص نقدية عديدة؛ يقوِّم فيها فهمًا، أو يجيب عن إشكال يقع لبعض الصحابة في فهم آية، فيعرضه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيردّه، ويبين الفهم الصحيح للآية، ومن المعلوم تفاوت الصحابة -رضي الله عنهم- في فهم القرآن الكريم، فقد يخطئ بعضهم، أو تشتبه عليه النصوص فيظن أن بينها تعارضًا، والأحاديث النبوية النقدية قليلة، نظرًا لشرف العصر، وما تمتع به الصحابة -رضي الله عنهم- من معرفة اللسان العربي، ومشاهدة التنزيل، وقوة الإيمان، وسلامة الفهم.

وبعد عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قام الصحابة والتابعون -رضي الله عنهم- بجهود كبيرة في نقد التفسير، فقد زادت الحاجة إليه لكثرة الداخلين في الإسلام وظهور العجمة، وبداية ظهور الأهواء والبدع، وكان نقدهم للتفسير يسير في اتجاهين:

الأول: اتجاه وقائيّ ببيان بعض الوسائل والأصول والقواعد التي تؤدي بمن سلكها -بإذن الله- إلى المعنى الصحيح، وتحميه من الوقوع في الخطأ في فهم القرآن أو الانحراف في تفسيره.

والاتجاه الثاني: علاجي لمن أخلّ بفهم القرآن الكريم وتفسيره؛ فقد جاء عنهم ذم بعض طرق التفسير ومناهجه الباطلة، مثل: اتباع المتشابه من القرآن الكريم، وضرب القرآن بعضه ببعض، أو تنزيل الآيات التي أنزلت في الكفار على المؤمنين، ونحو ذلك، كما جاء عنهم -رضي الله عنهم- روايات كثيرة تستعصي على الحصر نقدوا فيها نقدًا مباشرًا كثيرًا من التأويلات الباطلة والتفسيرات الخاطئة لآيات الكتاب العزيز، وكانت لهم أساليب متنوعة لنقد تلك الأقوال وردّها وتضعيفها؛ تارة بمحاورة المسترشد، وتارة بمجادلة المبطل. وقد فصّلتُ القولَ في هذين الاتجاهين في بحثي: نقد الصحابة والتابعين للتفسير[1].

وبعد تدوين التفسير برز الجانب النقدي بصورة ظاهرة عند بعض المصنفين ممن عُني بتحرير الأقوال ومناقشتها، كابن جرير وغيره، بل وجدنا بعض الكتب صُنفت لهذا الغرض.

والمصنفات في التفسير تتفاوت في هذه القضية، فظهور النفَس النقدي في تفاسير ابن جرير وابن عطية والرازي وأبي حيان وابن كثير أمرٌ ظاهر، وهي أظهر منها في تفسير الماوردي، وزاد المسير لابن الجوزي، والدر المنثور للسيوطي ونحوها، بل إن النفَس النقدي يتفاوت عند مفسِّر واحد، فظهوره عند الواحدي في تفسيره: البسيط يختلف كثيرًا عنه في تفسيره الوجيز، وما ذاك إلا أن منهجه ومقصده في البسيط يختلف عنه في الوجيز.

س4: من وجهة نظركم؛ ما أبرز العوامل والأسباب التي أسهمت في ظهور النقد في ساحة التفسير؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 لظهور النقد عوامل وأسباب عديدة، لكن يجمعها -في نظري- اختلاف المدارك والعقول في فهم القرآن الكريم، والناس - كما هو معلوم - متفاوتون في أفهامهم عامة، وفي فهم القرآن خاصة، كما أشار إليه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في صحيح البخاري، حين سأله أبو جحيفة: «هل عندكم شيء مما ليس في القرآن، أو قال: ما ليس عند الناس؟ فقال علي -رضي الله عنه-: والذي فلَق الحبة وبرَأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن؛ إلا فهمًا يُعطَى رجلٌ في كتابه». وإذا كان هذا التفاوت واقعًا بين الصحابة -رضي الله عنهم- في فهم القرآن، فمَن بعدهم أَوْلى وأَولى، والناقد البصير ينظر في هذا التفاوت في تفسير القرآن، فيُصحِّح ويُضعِّف، ثم ما يستتبع ذلك من بيان مراتب الأقوال وأَولاها بالصحة، ومراتب المفسرين ومنازلهم، ثم نقد مناهج المفسرين، وبيان ما لها وما عليها...

وهذا التفاوت في تفسير القرآن وفهمه تؤثر فيه مؤثرات عديدة، كالتحصيل العلمي والخلفية الثقافية، وحسن الفهم، وجودة الملَكة، وسلامة القصد وغيرها.

س5: ما الأسباب التي ترجع إليها أهمية نقد التفسير من وجهة نظركم؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 ترجع أهمية نقد التفسير إلى أثره الكبير في حفظ القرآن الكريم من إساءة فهمه والخلل في تفسيره، وكم من آية أُسيء فهمها وأُعجب بها فئام من الناس وراجت بينهم، لكن بعد عرضها على محك النقد، تبين تهافت تفسيرها وخطأ تأويلها، ووجود هؤلاء النقاد العالِمين بتفسير كلام الله سدٌّ منيع وحصن حصين -بإذن الله- عن أن يتجاوز أحد على معاني القرآن ويلبس على الناس، وقد قال الإمام أحمد واصفًا بقايا من أهل العلم بأنهم: ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولا يزالون -بحمد الله- إلى عصرنا هذا، فكم فُسِّرت آية، ونُـزّلت على غير مراد الله تعالى بها، وراجت بين الناس في وسائل التواصل المختلفة، فكشف علماء التفسير زيف تأويلها وأبطلوا معناه.

أضِفْ إلى ذلك أن الممارس لنقد التفسير تقوى لديه ملَكة تفسير القرآن الكريم وفهمه بسبب تكرار النظر في الأقوال في معنى الآيات وتأمل حججها وأدلتها، ثم التمييز بين صحيحها وضعيفها، وهذه الطريقة تحتاج قاعدةً علمية متينة.

المحور الأول: نقد التفسير؛ نظرات في الواقع:

س6: لا شك أن الناظر في الواقع البحثي المعاصر يلحظ ضعف الاشتغال بنقد التفسير وقلة الدراسات المعتنية بهذا الأمر رغم أهميته في دفع حركة العلم للأمام، فكيف ترون ذلك؟ وما أبرز أسبابه من وجهة نظركم؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 إنْ أُريد بهذا السؤال الاشتغال بنقد التفسير على النحو الذي قام به بعض أئمة التفسير كابن جرير وابن عطية، فلا ريب أن الدراسات المعاصرة شحيحة جدًّا، أمّا إنْ أُريد وجود نقد التفسير في الدراسات الجزئية المعاصرة فهو موجود بكثرة، كنقد قولٍ في تفسير آية، أو نقد الإسرائيليات في تفسيرٍ ما، أو نقد منهجٍ من مناهج التفسير، أو رجلٍ من رجال التفسير، ونحو ذلك، لكنها ليست بمفهوم النقد الذي سبق تعريفه، وإنما تتكلم في جزيئة من جزيئاته، فكثير منها في الردود، ولا تحمل في عناوينها اسم النقد، وهي لا تزال دون المأمول مقارنة بما تقذفه المطابع ووسائل الإعلام بقنواتها المختلفة من قضايا تفسيرية عديدة؛ بعضها يصدر عن حسن نية، مثل كثير من قضايا التفسير المتعلقة بالإعجاز، أو العلوم الاجتماعية والتربوية ونحوها، وبعضها مشبوهٌ تسرب إلى بعض المسلمين من الدراسات الاستشراقية، ويختفي -أحيانًا- تحت مسميات التجديد والمعاصرة، ولأربابها حضور إعلامي؛ ويتأثر بهم بعض الناس؛ مما يستدعي تضافر الجهود لنقدها.

س7: المتأمل في التفاسير يلحظ أنها وإن حظيت بحركة نقدية بصورة عامة، إلا أن هناك قلة ظاهرة في التفاسير التي تجرَّدت لتحرير الأقوال وانتصبت لهذا الغرض بصورة خاصة كما نجده عند الطبري وابن عطية مثلًا، فما تقييمكم لهذا الأمر وتفسيركم لأسبابه؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 نعم هذا واقع، وسببه أن هذه الطريقة تستفرغ عُمُر المفسر وجهده، ولن يضطلع بها إلا عالم موسوعي، والمفسر بهذه الطريقة ستعترض طريقَه قضايا تفسيرية كثيرة في علوم شتى، وحين أراد ابن جرير تفسير القرآن، قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، وقيل: إنه مكث في هذا المختصر سبع سنين، وهذا غير مستغرب، ولو أخذنا على سبيل المثال تفسير الماوردي وابن الجوزي ونحوهما من التفاسير التي تقتصر على سرد الأقوال فقط، وإن علّقَتْ عليها فبصورة مجملة، فلو أن هؤلاء سلكوا فيها الطريقة النقدية من سبر الأقوال وتمحيصها ومناقشتها، والاستدلال على ضعف هذا ورجحان ذاك، على نحو ما فعل ابن جرير، فكم سيستغرق ذلك من جهد ووقت؟! ولذا آثر هؤلاء وغيرهم الطريقة التي سلكوها، ثم تركوا النظر في الأقوال وتمحيصها والمقارنة بينها لفطنة القارئ.

وقد شكى الواحدي في مقدمة البسيط «غلظ حجم المصنفات في التفسير، وأن الواحدة منها تستغرق العمرَ كتابتُها، ويستنزف الروحَ سماعُها وقراءتها، ثم صاحبها بعد أن أنفق العمر على تحصيلها، ليس يحظى منها بطائل تعظم عائدته، وتعود عليه فائدته»، ويبدو أن هذه المصنفات التي اشتكى منها من التفاسير التي اقتصر أصحابها على النقل المجرد، ولم يعرضوا تلك النقول على محك النقد والتحرير، ولهذا السبب انتقد أبو حيان تفسير ابن النقيب، وقال: «هو أكبر كتاب رأيناه صُنِّف في علم التفسير، يبلغ في العدد مائة سِفْر أو يكاد إلا أنه كثير التكرير، قليل التحرير، مفرط الإسهاب لم يَعْدُ جامعُه من نسخِ كتبٍ في كتابه»، فإذا كان هذا النقل يستغرق هذا الوقت والجهد، ويحتاج هذا العدد الكبير من المجلدات، فكيف إذا أضيف إليه النظر الدقيق في النقول وتمحيصها، وبيان عللها وصحيحها من ضعيفها، وراجحها من مرجوحها، والاستدلال لكل ذلك، لا ريب أن ذلك مما تفنى فيه الأعمار.

وكتاب أضواء البيان للإمام الشنقيطي من الكتب المعاصرة في تفسير القرآن، وهو من التفاسير النقدية بالمفهوم الشمولي الذي ذكرناه سابقًا، ومع أن تفسيره للآيات انتقائي لم يُرد تفسير القرآن كله، وإنما يفسر بعض الآيات دون بعض، حيث قصد تفسير القرآن بالقرآن، وقد اخترمته المنيّة قبل إتمامه، ووصل فيه -رحمه الله- إلى نهاية سورة المجادلة، وخرج في سبعة مجلدات كبار، وماذا لو أنه سلك طريقة الطبري في تفسير القرآن كله؛ آية آية، فكم سيستغرق من وقت وجهد، وفي كم مجلد سيخرج؟!

وإذا أردت التحقق من هذا فانظر كيف انتشرت التفاسير المختصرة والمتوسطة، وراجت بين الناس وطلاب العلم مقارنة بتلك المطولات.

س8: مفهوم التفسير فيه اختلاف لا يخفى عليكم؛ فهناك مَن يقصره على بيان المعنى، وهناك من يوسعه ليشمل أمورًا فوق ذلك من استخراج الأحكام والحِكم. هل ترون لهذا الاختلاف المفهومي أثرًا في قلة العناية بنقد الأقوال والمعاني لانصراف بعضهم في الاشتغال التفسيري بما هو فوق المعنى ومناقشته؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 لا أحسب أن لهذا الاختلاف في مفهوم التفسير أثرًا في قلة العناية بنقد الأقوال والمعاني؛ ذلك أن للباحثين والأقسام العلمية والمراكز البحثية مشاربَ وتوجهاتٍ، مما نتج عنه هذا التنوع في البحوث، وقد يكون إعراض الباحثين والأقسام العلمية سواء في الدكتوراه أو الماجستير أو في المجلات العلمية عن نقد الأقوال والمعاني؛ لأنهم يرون أنها تندرج ضمن التفسير التحليلي، وقد كُتب فيه الكثير.

س9: يعدُّ تفسير الطبري من أبرز التفاسير التي اعتنت بتحرير الأقوال ومناقشة المعاني، إلا أن بعض الدارسين لحظ ضعف حضور هذه المستندات التي أبرزها الطبري في مناقشة الأقوال في التفاسير فيما بعد الطبري، فما تقييمكم لذلك وأسبابه، خاصة أن هذا الحضور كان مهمًّا للعملية النقدية وتدافعها؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 نعم هذا القصور ملاحظ، وقد أشرتُ إلى سببه فيما سبق، وللمفسرين في مؤلفاتهم مقاصد، فقد يرى بعض المفسرين أن الاختصار وتقريب فهم القرآن إلى الناس هو الأنسب، وفي بعض مقدماتهم إشارة لذلك، ويميل آخرون إلى التوسط في التأليف، إلى غير ذلك من مقاصدهم في تأليف التفسير.

س10: حظي الواقع المعاصر بخروج بعض التفاسير الكثيرة والمتنوعة المشارب والألوان، ما تقييمكم للممارسة النقدية في هذه التفاسير بصورة عامة؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 بعض التفاسير الشمولية مارست النقد، لكنها قليلة، ومنها: أضواء البيان، والتحرير والتنوير. أمّا غالب التفاسير، فهي إمّا مختصرة -وهذا هو الغالب- أو أُلّفت بهدف تيسير فهم القرآن لعموم الناس، أو لمعالجة بعض القضايا الاجتماعية والتربوية ونحوهما، ومثل هذه التفاسير لا يناسب فيها التفسير النقدي، أمّا التفاسير الجزئية التي تتكلم عن تفسير آية ونحوها، فهذه يكثر فيها النقد، وإن جاءت بمسميات أخرى غير مسمى النقد؛ كالتفسير التحليلي ونحوه.

المحور الثاني: نقد التفسير؛ الآفاق والتطلعات:

س11: في ضوء ضعف حركة النقد في الواقع المعاصر للتفسير، كيف ترون إمكانية معالجة ذلك؟ وما أبرز الأسباب لدفع هذه الحركة إلى الأمام؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 من المهم هنا تحديد معالم نقد التفسير كما حُددت معالم التفسير التحليلي والتفسير الموضوعي، والترجيحات والاستدراكات ونحوها، فإذا حُددت معالم نقد التفسير من حيث مفهومه وطريقة البحث فيه؛ فحينئذٍ سيكون أمام الباحثين خريطة عمل واضحة المعالم، وعناصر محددة لطريقة البحث، وهذا سيشجعهم على اقتحام هذا الموضوع، وسيعرفون من أين يبدؤون، وكيف يبحثون؟

س12: ما أبرز المشروعات العلمية التي يمكن أن تسهم في إثراء حركة نقد التفسير في الواقع المعاصر؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 كثير من الدراسات الأكاديمية التي حملت مسمى (نقد التفسير) إمّا أنها تتحدث عن الجانب التأصيلي لنقد التفسير، وهذه قليلة، أو أنها -وهي الأكثر- تتحدث عن منهج المفسرين في نقد التفسير؛ مبتدئة بعصر الصحابة والتابعين، مرورًا بأشهَر المفسرين؛ كابن جرير، وابن عطية، وابن كثير...

وثمة مجالات أخرى يمكن أن تكون محل دراسة، منها:

نقد كتب التفسير، ونقد رجال التفسير، والمقصود هنا دراسة مجموعة من الكتب أو مجموعة من رجال التفسير، وبإمكان الباحث جمع كلام العلماء حول هذه الكتب والرجال مدحًا وذمًّا، ثم البحث في أسباب النقد ودواعيه، ومناقشة الأقوال والترجيح بينها، إلى أن يتوصل من خلال تلك الدراسة إلى المفاضلة بين الكتب والرجال في علم التفسير وأثر النقد عليها، وينبغي أن تكون الدراسة محددة بزمن معيّن، أو قطر معيّن، أو عند عالم معين، كابن تيمية مثلًا، فإن له كلامًا نقديًّا كثيرًا حول كتب التفسير من الجدير إفراده بدراسة.

ومن المجالات: دراسة الحركة النقدية في قُطْر معيّن أو زمن محدد، مثل: نقد التفسير في تفاسير الأندلسيين.

ومن المجالات البحثية: نقد التفسير في مقدمات المفسرين؛ ففي مقدماتهم مادة خصبة في نقد مناهج التفسير ورجاله وكتبه، ولا تكاد تتطرق المقدمات لنقد الأقوال التفسيرية.

ومن المجالات أيضًا: دراسة نقد التفسير في تخصص محدد، مثل: نقد التفسير في كتب معاني القرآن الكريم، أو نقد التفسير في كتب تفسير آيات الأحكام، وبخاصة أن بعض أتباع المذاهب صنف في تفسير آيات الأحكام لمناظرة مذهب آخر حول تفسير آيات الأحكام، وهكذا، وسوف يلحظ الباحث في هذه التخصصات عناية الأول بالنقد في التفسير اللغوي، وعناية الثاني بالنقد في التفسير الفقهي.

وبكل حال فوضع المجهر لاستخراج البحوث والدراسات سوف يوقف الباحث على موضوعات نقدية كثيرة في مجالات التفسير المختلفة، وهي إلى جانب إضافتها العلمية في الدراسات القرآنية فإنها مهمة للباحث وبنائه العلمي؛ لما تتمتع به البحوث النقدية بعامة من المقارنة والموازنة، والمناقشة والتحليل.

س13: قررت بعض الدراسات المعاصرة ضعف حركة تقرير قواعد التفسير عبر التاريخ، كما نقدت التأليف في قواعد التفسير وقررت وجود إشكالات عديدة في القواعد التي حملها هذا التأليف، في ضوء مثل هذه النقُود، كيف ترون شكوى بعض الباحثين من ضعف معيارية النقد في الميدان التفسيري وعدم حيازته لأصول وقواعد دقيقة كما هو موجود في بقية العلوم؟ وكيف يمكننا مجابهة هذا الإشكال؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 استعمال المفسرين لقواعد التفسير عند الترجيح أو التضعيف أمرٌ ظاهر لا يمكن إنكاره، واستعمالهم لهذه القواعد كثير: صراحةً أو ضمنًا، وخير شاهد لذلك صنيع ابن جرير في تفسيره، بل إن السلف من الصحابة والتابعين أشاروا لتلك القواعد في الترجيح والتضعيف.

أمّا مسألة عدم تقرير القواعد والتنصيص على ذلك، أو أن أحدًا من العلماء المتقدمين لم يصنف فيها بصورة مستقلة فله مبرراته، ولعلهم رأوا أن الأنسب والأليق بهذه القواعد علم أصول الفقه، فهو يبحث في الأدلة، وفي مقدمتها القرآن، وكثير من القواعد مشترك بين القرآن وغيره؛ كالعموم والخصوص، والمطلق والمقيد، والمفهوم والمنطوق، وغيرها. ولا ننكر أن بعضًا منها خاصٌّ بالقرآن الكريم، ولم تكن العلوم الشرعية فيما سبق بهذا الانفصال والتباين على النحو الذي نراه اليوم بعد أنْ جاءت الدراسات الحديثة والتخصصات الأكاديمية فاتسعت الفجوة بين العلوم الشرعية، وأخذ بعضها ينفصل عن بعض، وأصبح لكل تخصص مجالاته وبحوثه، وأصبح كثير من الباحثين في تخصص التفسير أو الفقه أو الحديث أو غيرها من العلوم الشرعية لا يتجاسر على الحديث والبحث في غير تخصصه، إمّا احترامًا للتخصص، وإمّا لعدم إلمامه بالتخصصات الشرعية الأخرى، بل أصبح الدارس للتفسير وعلوم القرآن أو غيره لا يكاد يأخذ من التخصصات الأخرى إلا النَّزْر اليسير، فرأى بعض الباحثين -وقد أحسنوا- تقريب ما هو مدون ومقرر في العلوم الشرعية الأخرى إلى تلاميذهم، ومن ذلك قواعد التفسير، وإنما تطرق الخلل إلى بعض الباحثين والطلاب عند دراسة هذه الموضوعات من جهتين:

الأولى: ادّعاء خصوصيتها بالتفسير وعلوم القرآن، وأسبقية المفسرين في الكلام عنها، مما أحدث ردّة فعل في التخصصات الأخرى، فادّعى أربابها أن مَن قعّدوا لتلك القواعد وأفردوها بالتصنيف لم يأتوا بجديد، وإنما هم عالة على العلوم الأخرى، وهذا يوحي بشيء من التعصب.

الثانية: المبالغة في اعتماد تلك القواعد، وجعلها في درجة النصوص الشرعية؛ حتى في التعامل مع ألفاظها، ثم استخدامها سيفًا مصلتًا على الآراء المخالفة، مع ما يعتري بعض تلك القواعد من الخلل والضعف؛ يصل أحيانًا إلى النزاع في أصل القاعدة واعتمادها، وإذا كان الاحتجاج بالحديث في تفسير القرآن في الدرجة العليا، كما قال كثير من المفسرين: لا قولَ لأحدٍ بعد قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك فقد يعتري الحديثَ ما يُضعف الاستدلال به لضعف سنده، أو عدم صراحته في الدلالة، أو وجود معارض أقوى، ونحو ذلك، فما الشأن في قاعدة غير مطردة أو مختلف فيها؛ ولذا نجد بعض المفسرين كابن جرير يستدل بقاعدة في موطن، ويهملها في موطن آخر لوجود معارض أقوى.

ولعل هذا يجيب عن الشق الثاني من السؤال، فأكثر معايير النقد مشتركة بين التفسير وغيره، وشكوى بعضهم من ضعف معيارية النقد في الميدان التفسيري وعدم حيازته قواعد وأصول دقيقة يحتاج مزيدًا من التحقق والإثبات، ذلك أن تفسير القرآن والترجيح بين أقوال المفسرين في معنى الآية يختلف عن الترجيح بين الأحكام بحلال أو حرام، أو الحكم على حديث بصحة أو ضعف ونحو ذلك، فالمفسر الناقد حين ينظر في الأقوال ويعرضها على ميزان النقد قد يتوصل إلى صواب ما قيل في الآية من معانٍ، فالأمر متعلق بالمعاني، وباب المعاني باب واسع، والقرآن الكريم جاء بألفاظٍ وجيزة تتسع لمعانٍ كثيرة، فيذكر بعض المفسرين معنى، ويذكر غيره معنى آخر؛ ولهذا يَرِدُ عند نقَّاد المفسِّرين كابن جرير وابن كثير وغيرهما قبولُ جميع ما قيل في الآية مع الحكم بأن بعضها أَولى من بعض، وقد قرر ذلك الشنقيطي في مقدمة تفسيره، فقال: «ربما كان في الآية الكريمة أقوال كلها حق، وكل واحد منها يشهد له قرآن، فإنّا نذكرها ونذكر القرآن الدال عليها من غير تعرُّض لترجيح بعضها؛ لأن كل واحد منها صحيح»، وأكد ذلك في مواضع من تفسيره؛ ولذلك اختلاف التنوع حاضر بكثرة عند المفسرين، والله أعلم.

س14: هل يمكن أن تلعب المؤسسات الرسمية الأكاديمية ومراكز البحث دورًا إزاء نقد التفسير والعناية به؟ ما هذا الدور من وجهة نظركم؟ وما مقترحاتكم إزاءه؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 بالتأكيد، فالمؤسسات الرسمية الأكاديمية ومراكز البحث قادرة على الاضطلاع بدور كبير ومؤثر في نقد التفسير المعاصر؛ لما تتمتع به من مكانة علمية، ودرجة كبيرة من المصداقية والثقة، ولما تتمتع به هذه المؤسسات من كوادر بحثية متميزة؛ متعددة المشارب والاتجاهات في التفسير وعلوم القرآن الكريم، وهي -أيضًا- من حيث التنظيم الإداري والكفاءة المالية أقوى وأقدر من الجهود الفردية؛ ولهذه الأسباب وغيرها أرى أن النتاج العلمي لتلك المؤسسات والمراكز البحثية سوف يحظى -بإذن الله- بقبول بين الأوساط العلمية وعامة الناس.

ولهذه المزايا وغيرها، فعلى عاتق هذه المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية مسؤولية كبيرة؛ نظرًا لكثرة الأطروحات التي تحتاج إلى نقد في شتى مجالات تفسير القرآن.

المحور الثالث: متفرقات:

س15: من خلال دراستكم التطبيقية -نقد الصحابة والتابعين للتفسير- بيَّنتم أن النقد عندهم لم يكن ترفًا فكريًّا ولا رغبة في الانتصار... إلى آخر تلك الآفات التي كثرتْ بعدهم. فما أهم الأسباب التي أفضت لبروز النقد على هذا النحو في عصر الصحابة والتابعين؟ وكذلك ما أبرز الدواعي التي أدت للجنوح عن ذلك فيما تلاهم؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 من أهم الأسباب التي ميّزت نقد الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- على النحو المذكور في السؤال شرفُ وقتهم لقربهم من عصر النبوة؛ فالصحابة تربية النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد شاهدوا هَدْيه -صلى الله عليه وسلم- وكراهيته للنزاع والجدال والخصام، مع ما اختُصُّوا به من قوة الإيمان، وسلامة الفهم، وحسن القصد، والنصح للخلق، وما هم عليه من الورع والخشية لله، والبُعد عن الانتصار للنفس، ومحبتهم للاجتماع والائتلاف، ونفرتهم عن الفُرقة والاختلاف، وعنهم أخذ التابعون هذه الخلال.

وهذه الخلال وغيرها منها مَن لا يشاركهم فيها أحد ممن جاء بعدهم، وما وقعت فيه المشاركة مع غيرهم، فلهم فيها قصبُ السبق والقِدْحُ الـمُعَلّى.

أمّا بعد عصرهم فقد زادت الفُرقة، وكثرت البدع، وتفرقت بالناس الأهواء، وفشت العجمة، وما رافق ذلك من التقليد والتعصب المذهبي، سواء كان عقديًّا أو غيره، وما تبعه من نشاط التأليف واتساع الردود، ومن أراد التحقق من ذلك فليقارن بين تراث الصحابة والتابعين النقدي، وواقع النقد بعدهم.

س16: قررتم في دراستكم حول نقد الصحابة والتابعين للتفسير أهميةَ العناية بمعرفة اصطلاحات الصحابة والتابعين لمَن يقرأ في تفسيرهم، وأثرَ ذلك في حسن فهم نتاجهم التفسيري، كيف ترون أبعاد إهمال هذا الأمر في التعامل مع تفسير الصحابة والتابعين؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 من المعلوم أن المصطلحات والألفاظ يطرأ عليها شيء من تغيُّر المعنى؛ بمعنى أنها تُستعمل في وقت أو عند فئة بمعنى، ثم تُستعمل في وقت آخر أو عند فئة أخرى بمعنى ثانٍ؛ ولهذا نبّه ابن القيم وغيره على بطلان تأويل القرآن على ما لم يُؤْلَف استعماله في لغة المخاطب، وإن أُلِفَ في الاصطلاح الحادث، وكان معهودًا في اصطلاح المتأخرين؛ ومن هذا المنطلق يجب فهم كلام الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- على المصطلحات والمعاني التي أرادوها، لا على المصطلحات والمعاني التي حدثت بعدهم؛ لئلا يترتب على ذلك آثار غير محمودة. ومن ذلك: ردُّ أقوالهم وتضعيفها بناءً على المصطلحات والمعاني المتأخرة، ثم ما يترتب على ذلك من تجهيلهم.

ومن آثاره -أيضًا- تفسير الآيات على غير مرادهم، ونسبته إليهم، وأنهم أرادوا بمعنى الآية كذا وكذا، مع أنهم أرادوا شيئًا آخر.

س17: في هذا العصر برزت تيارات وقراءات حداثية للنص القرآني، وحملت نقودًا عديدة للتراث التفسيري. ما تقييمكم العام لهذه القراءات والنقد التفسيري الذي تمارسه؟ وكيف يمكن التعامل معه؟ وما أبرز الأسس النافعة في ذلكم الصدد؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 هذا القراءات الحداثية المعاصرة التي تريد تفسير القرآن بصورة مغايرة لما عليه علماء التفسير، لا تعترف بأصول التفسير وقواعده، ولا ترفع بها رأسًا، ولا تحتكم إلى النصوص الشرعية الواضحة ودلالاتها القطعية، وإنما تحاكمها، وليس لديها في النقد سقف تنتهي إليه، وأصحاب هذه القراءات المعاصرة يحترمون التخصص إلا فيما يتصل بتفسير القرآن الكريم وعلوم الشريعة، فهي عندهم حِمًى مستباحٌ، ثم هم بعد ذلك يتلقفون ما يقذفه الغرب من نظريات هنا وهناك؛ مثل المنهج الفلسفي المسيحي الهرمنيوطيقي الذي قام في أصل نشأته على تفسير النص الديني المسيحي انطلاقًا من معايير وقواعد محددة؛ مثل: بشرية النصوص وأَنْسَنَـتها وتاريخيتها، ووجود معانٍ حقيقية خفية وراءها. وقد نشأ هذا المنهج في الغرب بسبب وجود مشكلات عديدة حول الإنجيل من حيث ثبوته، واحتكار رجال الدين لتفسيره حسب أهوائهم، ومع خطورة الأسس التي قام عليها هذا المنهج، فقد تلقفه بعض المفكرين العرب وتأثروا به، واستعملوه في تفسير القرآن الكريم، وقد أدى بهم إلى نتائج خطيرة في الاعتقاد، وفهم القرآن وتأويله، وهذا مثال واحد لعدد من القراءات المعاصرة التي لها أنصارها ومروِّجوها، ومثل هذه الأطروحات من الخطورة بمكان؛ لما لأربابها من حضور إعلامي، ودعم بعض المؤسسات لهم ووقوفها خلفهم.

وهذا الانحراف في فهم القرآن وتفسيره ليس وليد اللحظة، وإنما هو قديم من الصدر الأول، وهو دائم التجدد في أفكار وصور متعددة، وقد رأى هؤلاء وأمثالهم أن القَدْح في صحة القرآن وثبوته غير ممكن، فلجأوا إلى تحريف معانيه، وقد ابتُلي بهم المؤمنون، ولأهل العلم ونقّاد التفسير جهود مشكورة في الردّ عليهم والتصدّي لهم، وهذا يذكِّرنا بمقولة ابن المبارك حين قيل له: (هذه الأحاديث المصنوعة؟! قال: يعيش لها الجهابذة)، وهذه المعاني المنحرفة بالغة الخطورة يعيش لها العلماء ونقّاد التفسير بإذن الله، والله غالب على أمره، والذي قال: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، هو الذي قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: 19]، قال السعدي: «أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه، وهذا أعلى ما يكون»، ولا ريب أن اجتهاد العلماء في نشر التفسير الصحيح وإذاعته بين الناس من أعظم الوسائل لمكافحة هذه القراءات الـمُضَلِّلة.

س18: من خلال عنايتكم بدراسة النقد في إطار تفسير الصحابة والتابعين، ما أبرز العقبات التي يمكن أن يجابهها مَن يتصدى لمثل هذا الموضوع في إطار تفسيري مختلف؟ وكذلك أهم النصائح التي ترون حاجته إليها؟

د/ عبد السلام الجار الله:

 ينبغي لمن أراد دراسة شيء من آثار الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- مراعاة الآتي:

التحقق مما يُنسب إليهم، فكثير مما يُنسب إليهم قد يكون بغير أسانيد، أو بأسانيد ضعيفة واهية، وينبغي هنا قراءة ما ذكره العلماء حول أسانيد التفسير.

- ما تتميز به أقوالهم من الإيجاز والاختصار، وهذا قد يكون عائقًا في فهم كلامهم ومعرفة مقاصدهم، ولتجاوز هذه العقبة يتأكد جمع الروايات المتعددة في القضية الواحدة، وضمّ بعضها إلى بعض؛ فإن الروايات إذا جُمعت فسَّر بعضها بعضًا.

- تفرُّق كلامهم في المصادر المختلفة؛ فقد نجد لهم في مجال التفسير -مثلًا- نصوصًا كثيرة مهمة في غير مظانّها، مثل: كتب العقائد المسندة، وكتب التراجم والطبقات، ونحوها.

- وقوع التعارض بين كلامهم أحيانًا، وقد يكون التعارض في كلام الواحد منهم؛ مما يستدعي النظر الدقيق، وإعمال وسائل الجمع والترجيح.

- معرفة مراتبهم ومنازلهم في العلوم، فهذا مما ينبغي استحضاره عند دراسة أقوالهم؛ فابن عباس -مثلًا- مقدَّم في التفسير، وابن مسعود مقدّم في الإقراء، وأبو هريرة في الحديث، وهكذا.

والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

 

 

[1] وهو مطبوع بعنوان: (نقد الصحابة والتابعين للتفسير؛ دراسة نظرية تطبيقية)، ط. دار التدمرية بمشاركة الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه، الطبعة الأولى، 1429هـ-2008م.

ضيف الحوار :

الدكتور عبد السلام بن صالح الجار الله

أستاذ بقسم الدراسات القرآنية في كلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))