هل يُعَدُّ تفسير الطبري تفسيرًا بالمأثور؟

لطالما انتُقد تصنيف الطبري ضمن كتب التفسير المأثور لِمَا حواه من موازنة علمية موسّعة بين الأقوال، هذا المقال يستعرض النقود المثارة حول تصنيف الطبري ضمن التفسير بالمأثور ويساجلها، ويعتني بإبراز جانب اجتهادي في تفسير الطبري قلَّ التنبّه له، ويبيّن أهمية استحضاره في الوعي بصنيع الطبري وحُسْن تصنيفه.

مقدمة:

  يُعَدّ تقسيم التفسير إلى مأثور ورأي من أشهر التقسيمات المعروفة للتفسير، وبناء عليه تم تصنيف العديد من كتب التفسير إلى كتب تفسير بالمأثور وكتب تفسير بالرأي. وفي هذه المقالة سنحاول النظر في أحد أهمّ التفاسير التي صُنِّفت ضمن المأثور، والتي مثَّلت إشكالًا في تصنيفها حتى لدى من قاموا بهذا التصنيف، وهو تفسير الإمام الطبري، ونبيّن جانبًا من الصناعة التفسيرية عند الطبري قلَّ الانتباه له وتأمُّل أبعاده وأثره في حسن تصنيف تفسير الطبري، وفيما يأتي بيان ذلك.

مدخل:

يُعَرّف التفسير بالمأثور بأنه: «تفسير القرآن بالقرآن وبالسُّنة وبأقوال الصحابة والتابعين»[1].

ويُعَد تفسير محمد بن جرير الطبري -رحمه الله- من أشهر كتب التفسير التي صُنّفت على أنها تفسير بالمأثور، ويُعتبر المرجعَ الأول والأهمّ للتفسير بالمأثور عند الكثيرين -كما هو معلوم-، بيدَ أنّ إدراجه في كتب التفسير بالمأثور كان -ولا يزال- مثار إشكال، وذلك منذ اللحظة الأولى لميلاد هذا التقسيم وعند أوائل من تكلموا عنه؛ وذلك لأنهم وجدوا أن في تفسير الطبري -رحمه الله- إضافة إلى التفسير المأثور رأيًا كثيرًا، وذلك عندهم ما قام به الطبري -رحمه الله- من توجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وبيان الإعراب والقراءات ووجوه الاستنباط، فلأجلِ حضور هذه الأشياء في تفسيره -رحمه الله- فإنهم اعتبروه من المراجع المهمّة للتفسير العقلي أو التفسير بالرأي إلى جانب كونه أجلَّ كتب التفسير بالمأثور، يقول الزرقاني -رحمه الله- بعد أن عدَّدَ جملة من التفاسير بالمأثور ومنها تفسير الطبري: «وليس في تفاسير هؤلاء إلّا ما هو مسند إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم، ما عدا ابن جرير فإنه تعرّض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وذكر الإعراب والاستنباط»[2].

ويقول الذهبي -رحمه الله-: «يُعتبر تفسير ابن جرير مِن أقومِ التفاسير وأشهرها، كما يُعتبر المرجعَ الأول عند المفسِّرين الذين عُنوا بالتفسير النقلي، وإن كان في الوقت نفسه يُعتبر مرجعًا غير قليل الأهمية من مراجع التفسير العقلي؛ نظرًا لِما فيه من الاستنباط، وتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، ترجيحًا يعتمد على النظر العقلي، والبحث الحر الدقيق»[3].

ويقول أيضًا: «وبعد.. فإنّ ما جمعه ابن جرير في كتابه من أقوال المفسِّرين الذين تقدَّموا عليه، وما نقله لنا من مدرسة ابن عباس، ومدرسة ابن مسعود، ومدرسة عليّ بن أبي طالب، ومدرسة أُبَيّ بن كعب، وما استفاده مما جمعه ابن جريج والسدّى وابن إسحاق وغيرهم من التفاسير جعلَت هذا الكتاب أعظم الكتب المؤلَّفة في التفسير بالمأثور، كما أنّ ما جاء في الكتاب من إعراب، وتوجيهات لُغوية، واستنباطات في نواحٍ متعددة، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، كان نقطة التحوّل في التفسير، ونواة لِما وُجِد بعد من التفسير بالرأي، كما كان مظهرًا من مظاهر الروح العلمية السائدة في هذا العصر الذي يعيش فيه ابن جرير.

وفي الحقّ، إنّ شخصية ابن جرير الأدبية والعلمية، جعلَت تفسيره مرجعًا مهمًّا من مراجع التفسير بالرواية، فترجيحاته المختلفة تقوم على نظرات أدبية ولُغوية وعلمية قيِّمة، فوق ما جمع فيه من الروايات الأثرية المتكاثرة»[4].

ويقول د/ مساعد الطيار: «يَعُدُّون تفسير الطبري من كتب التفسير بالمأثور، ويغفلون عن ذكر تعرضه لتوجيه الأقوال والترجيح بينها، وإذا كانت هذه طريقته، فلِمَ لا يكون من التفسير بالرأي، وما الحدُّ الفاصل في جعلِه من كتب التفسير بالمأثور لا من كتب التفسير بالرأي؟!

فالتفسير يُنسب إليه، وفيه آراؤه في التفسير، وفيه مصادره التي من أعظمها التفسير المأثور عن السلف، ومنها اللغة، ولو سلَك من يكتب عن تفسيره الأسلوب الذي انتهجه هؤلاء في عدِّهم لتفسيره أنه من التفسير بالمأثور بسبب أسانيده ورواياته لتفسير السلف، لو عدَّه من كتب التفسير اللغوي بسبب كثرة اعتماده عليها لَمَا أبعد في ذلك.

لكن النظر هنا إلى تحريراته في التفسير، لا إلى مصادره، وإذا كان النظر من هذه الزاوية -وهي الصحيحة لا غير- فهو من أعظم كتب التفسير بالرأي المحمود»[5].

ونلحظ في كلّ هذه النقول أن توجيه الطبري للأقوال وترجيحه لبعضها على بعض وبيان وجوه الإعراب والقراءات هو مدار الحديث عن الرأي في تفسيره -رحمه الله-، وهو مدار التحفّظ الملحوظ على إدراجه ضمن كتب التفسير بالمأثور، مما جعل الدكتور مساعد الطيار يتساءل: «لِمَ لا يكون من التفسير بالرأي؟!» عطفًا على بيانه لتعرض الطبري للترجيح بين الأقوال وتوجيهها.

وقبل أن يمضي بنا الحديث، فمن المهم أن نبيّن أن قيام العالم بالترجيح والموازنة هو رأي منه بلا شك، وأن وجود هذا بصورة ظاهرة وعلى طول التفسير عند الطبري يجعل من تصنيفه في دائرة المأثور أمرًا محلّ نظر، كما ذكر أصحاب النقول السالفة، غير أن دائرة النقاش التي سنتجه إليها فيما يأتي تتعلّق بالنظر في مدى اعتبار الطبري مُنتِجًا للمعنى من عدمه، وهل له اجتهاد في هذه المساحة أم أنّ الرأي في تفسيره متوقف فقط عند حدود ما ذكروه من ترجيحات وتوجيهات وبيان الإعراب والاستنباطات؟ وما مساحة هذا الاجتهاد حال ثبوته؟

هل يعدُّ الطبري ناقلًا للمعنى؟

إننا، ومن خلال نظرنا في تفسير الطبري وتأمُّل نسق اشتغاله نستطيع أن نقول: ما ذَكرَتْه النقول السالفة مُشكِل؛ لأن حضور التوجيه للأقوال وترجيح بعضها على بعض في تفسير الطبري واعتبار هذا مجالَ الرأي عنده يمكن أن ينازَعوا فيه؛ لأن هذا ليس تفسيرًا، نعني: ليس إنتاجًا للمعنى ولا بيانًا للقرآن، وإنما هو توجيه للمنتَج وموازنة بينه، وهذا وإن كان رأيًا يُنسب إلى الطبري كما قلنا؛ ولكنه ليس بتفسير[6]، وهو ليس مقابلًا للرأي عندهم؛ لأن التفسير بالرأي عندهم يتجه إلى إنتاج المعنى بأدوات ليس عمادها النقل، ولا يُعنى به خدمة المنتَج والموازنة بينه، وبالتالي فخدمةُ التفسير المنتَج توجيهًا وشرحًا ونقدًا وترجيحًا خارجٌ عن دائرة النظر بحسب تقسيم التفسير إلى مأثور ورأي، وهذا قد يشير إلى خلط بين حضور مطلق الرأي وبين التفسير بالرأي المقصود في تقسيمهم للتفسير، ولو أُريد بالرأي مطلق الرأي لربما انهار هذا التقسيم كلّه؛ إذ لن يخلو كتاب تفسير من رأي، حتى تلك التفاسير التي اقتصرت على سرد المرويات التفسيرية والنظائر القرآنية؛ لأن ربط الآيات بعضها ببعض، وربط الآثار المروية بالآيات، وتوظيف بعض الآثار في الكشف عن مدلولات الكتاب هو اجتهاد من المفسّر، وبالتالي لن يخلو تفسير من رأي، وسيكون الرأي شاملًا لكلّ ما في التفسير أو أغلبه، ولا نحسب أن واضعي هذا التقسيم قصدوا هذا، لكنهم اضطربوا فيما كتبوا في بعض المناحي، تبعًا لاضطراب التقسيم ذاته.

وما ذكروه يُخيِّل لقارئه أنّ الرأي في تفسير الطبري منحصر فيما دوَّنه من توجيهات وترجيحات ووجوه الإعراب لبعض الآيات، وهذا -أصلًا- غير صحيح، ففي تفسير الطبري -رحمه الله- إنتاج للمعنى بالرأي، في العديد من آيات القرآن الكريم، وذلك ما فسَّره الطبري -رحمه الله- من آيات القرآن الكريم دون نسبة تفسيره إلى أحد من السلف، لأن الطبري -رحمه الله- لم يسند إلى السلف في كلّ آيات القرآن، لكن إذا كان عنده للسلف قولٌ حدَّث به، وإذا لم يكن فسَّر هو النصّ برأيه، وهذه هي الجهة التي كان ينبغي التوجه إلى نقاشها ولكن غُفِل عنها، وهي التي يمكن أن تشغِّب بقوة على اعتبار تفسير الطبري -رحمه الله- تفسيرًا بالمأثور، وذلك إذا اتسعت رقعتها، ونحن ليس لدينا حتى ساعة كتابة هذه المقالة حصر بعدد الآيات التي فسرها الطبري -رحمه الله- برأيه دون نسبة إلى أحد من السلف، لكننا وفي ضوء اطلاعنا على تفسيره واشتغالنا به نظنّ أنها آيات ليست بالقليلة، لا سيّما إن نظرنا إلى أجزاء الآيات وليس إلى الآيات الكاملة التي لم ينسب فيها إلى السلف، فقد يكون لبعض السلف في بعض الآية قول ويتكفّل الطبري -رحمه الله- ببيان بقيتها برأيه، فيظنّ المطالِع لتفسيره على عجلٍ أنّ كلامه في الآية كلِّه مأخوذ عن السلف لِما يراه من نسبة الطبري إليهم في بعض أجزائها، وهو -رحمه الله- لا ينصّ أحيانًا على ما للسلف من التفسير وما له منه.

ولاستيضاح هذه الفكرة وتقريبها قمنا بمراجعة تفسير سورة الأحقاف كاملة في تفسير الطبري -رحمه الله- فوجدنا عشر آيات كاملة[7] لم ينسب فيها الطبري إلى أحد من السلف، فهل تركها دون تفسير؟ بالطبع لا، فسّرها الطبري برأيه، هذا فضلًا عن أجزاء الآيات، وهي كثيرة، فمثلًا قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الأحقاف: 4]، لم ينسب فيها الطبري إلى أحد من السلف إلا في تفسير قوله تعالى: {أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} وبقية الآية فسرها الطبري. ومثلًا قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الأحقاف: 8]، لم ينسب فيها الطبري لأحد من السلف إلا في تفسير قوله: {تُفِيضُونَ} أورد أثرًا عن مجاهد فسَّر فيه تفيضون بـ: (تقولون)، ولم يزِد على هذا بحسب رواية الطبري، وبقية الآية فسرها الطبري، وهكذا في العديد من المواطن، بحيث تبيّن لنا بهذا الفحص أن الطبري فسَّر ما يزيد عن نصف السورة، دون الإسناد إلى أحد من السلف، وهي نسبة -كما نرى- مرتفعة.

وعلى كلٍّ فسواء كانت هذه المواطن قليلة أو كثيرة فالقصد أنها كانت أَولى بالنقاش مما ذكروه من توجيهات الطبري وترجيحاته وذكر الإعراب والقراءات؛ لأنها إنتاج للمعنى بالرأي، وأمّا ما ذكروه من أمور فيمكن أن تضاف -إذا صح اعتبارها مجالًا للنظر فيما نحن بصدده- إلى ما فسَّره الطبري برأيه من الآيات، وساعتها لن يكون لعدِّه تفسيرًا بالمأثور وجهٌ.

وصحيح أن الطبري يشتهر بأنه ناقل للمعنى وأنه يفسّر من خلال أقوال السلف، كما نجده عند بعض العلماء القدامى كابن تيمية وغيره[8]، إلّا أن هذا مما يدلّل على حاجة هذا التفسير إلى مزيد دراسة وعناية لاستبانة طبيعة عمله، خاصة وأن مناهج المفسرين ودراستها بصورة محررة أمرٌ فيه قصورٌ كبيرٌ في التاريخ ولا يزال لم يقع بصورة علمية مناسبة.

وإن قيل -وقد قيل في جانب الترجيحات والتوجيهات-: إن ذلك على الأغلب، قلنا: ليس لدينا إحصاء بما فسَّره برأيه وما نقله عن غيره، بيدَ أن الحديث عن الأغلب إنما يُستدعى عادةً في كلام العلماء ونقاش المسائل إذا حصل تفاوت ملحوظٌ وكبيرٌ في النسب المتحصّلة لجهات الإحصاء، وليس لمجرد وجود فوارق طفيفة أو وجود فوارق مطلقًا بينها، هذا يعني أننا بحاجة إلى النظر في تفسير الطبري -رحمه الله- وإحصاء ما فسّره برأيه وما نقله عن غيره، فإنْ وجدنا ما فسّره بناء على قول غيره كبيرًا والبون بينه وبين ما فسره برأيه شاسعًا صحّ الحكم بكونه على المأثور[9] بأغلبية ما تَبِعَ فيه غيره، وإن لم نجد هذا لم يصحّ هذا الحكم.

هذا فيما يتعلق بما أبانه الطبري -رحمه الله- برأيه من آيات أو أجزاء آيات لم ينسب فيها إلى أحد من السلف، ولكن نحن لدينا وجه آخر دقيق يزيد -إنْ صحّ- في نسبة ما فسّره الطبري -رحمه الله- برأيه من القرآن، وهذا الوجه غير ظاهر ظهور الوجه الأول الذي ذكرناه، وهو متعلّق بمفهوم التفسير ومراحله وموضع تفسير السلف منه؛ لأن كثيرًا من تفسير السلف في كثير من الآيات قد يكون جزءًا من عملية التفسير وليس تفسيرًا كاملًا بحسب مفهوم التفسير الذي اصطلح عليه أهل العلم لاحقًا، فقد يرد في بعض الآيات أقوال منسوبة إلى بعض السلف، ولكنّ المفسرين لم يكتفوا بسردها بل قاموا مع هذا ببيان معاني الكلمات والتراكيب في لغة العرب، وبينوا الروابط بين الآيات، وقدّروا المعنى على الأقوال، وناقشوا أمورًا مهمة في عملية البيان، قد يكون في كلام السلف إشارة إليها وقد لا يكون، قد تستفاد من كلامهم وقد لا تستفاد، وكلّ هذا مما قام به الطبري والمفسرون من بعده، فليس مجرد حضور التفسير عن السلف يعني أن دور المفسّر ينتهي عند نقله، وأن التفسير قد تم بما ذكروا، ولنضرب لهذا مثالًا، قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}[النبأ: 1]، ورد فيه عن الحسن أنه قال: «لما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جعلوا يتساءلون بينهم، فنزلت: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}[النبأ: 1، 2]»، فهذا الأثر أفاد أمورًا بعضها واضح وبعضها يمكن أن يستفاد منه وإن لم تكن واضحة فيه؛ فظاهره أن الضمير في قوله: {يَتَسَاءَلُونَ} يرجع إلى المشركين من قريش، وأنهم كانوا يتساءلون فيما بينهم، أي: يسأل بعضهم بعضًا، ولكن الحديث عن {عَمَّ} وبيان معناها وتركيبها، والاحتمالات في مرجع الضمير من {يَتَسَاءَلُونَ}، وكون التساؤل حقيقيًّا أو مجازيًّا، وغير هذا، كلّ هذا مما تكفّل المفسرون ببيانه، وبعض هذه الأمور مهمّة في فهم الكلام، ولا يسعف فيها ما جاء عن الحسن.

وإذا مضينا مع سورة النبأ نجد الآية الثانية تتكلم عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، وقد بيَّن السلف أن النبأ العظيم إمّا القرآن وإمّا البعث، ولكنَّ تقدير معنى الآيتين، أعني: الأولى والثانية، وربطهما ببعضٍ وبيان المعنى المتحصل، وتحديد طبيعة التساؤل بناء على كلّ قول، كلّ هذا مما قام به المفسرون، وهو مهم في بيان المراد، وليس في كلام السلف ما يسعف عليه؛ ونحو هذا كثير في تفسير القرآن.

 ومعلوم أن السلف لم يقصدوا شرح النصّ القرآني على النحو الذي جرى عليه عمل المفسرين لاحقًا، فنراهم يكتفون في بعض الآيات ببيان معاني بعض الكلمات، أو بيان المراد الشرعي دون البيان اللغوي، أو ذكر قصص الآية ووقائع نزولها، والمفسرون يتلقفون هذا عنهم ولكنهم لا يقتصرون عليه؛ لأنه قد لا يسعفهم في عملية البيان بتمامها، والطبري شأنه شأن كلّ المفسرين، كانت له اختياراته اللغوية وتقديراته للمعاني، بل هو من أجلِّهم في هذا المضمار؛ لأنه التزم عمل ما يشبه الترجمة لكلّ آيات القرآن الكريم، ولا شك أنه في سبيل هذا قد قدَّر معاني حروف جر وروابط ومناسبات بين الآيات، واختار اختيارات في معاني الكلمات والتراكيب والإعراب، وغير هذا مما هو لازم هذه الترجمة شبه الحرفية للنصّ، وكثيرٌ مما قال الطبري في تفسير النصّ القرآني ليس في كلام السلف، وإنما هو رأي الطبري، وهو من تمام بيان المعنى، وهذا ظاهر لكلّ مَن تأمَّل تفسيره -رحمه الله-، والفرق بين الطبري وكثير من المفسرين في هذا السياق هو أن الطبري -رحمه الله- لم يكن يخصّ بعض البيان اللغوي والاختلافات في تقدير المعاني بحديث، وإنما يُقَدّر المعنى في جملة طويلة دون الدخول في نقاشات مطوّلة حول بعض الاختيارات اللغوية أو التقديرات لبعض التراكيب، فجاء المفسرون من بعده وأفردوا كثيرًا من هذه الأمور بحديث بينوا فيه المسائل والاختلافات فيها، فظنّ بعضٌ أنهم يخرجون عن أقوال السلف والطبري وأشباهه من المفسرين يلتزمون بها، وليس الأمر على هذا النحو، وإنما الفرق يشبه أن يكون فنيًّا بين الطبري وكثير من المفسرين، هذا في بعض المواطن وليس في جميعها بطبيعة الحال؛ فإن الطبري من أكثر المفسرين ضبطًا لمادة التفسير وحدوده، وهو كذلك من أكثر المفسرين التزامًا بتفسير السلف وعدم الخروج عنه فيما كان لهم فيه قول، وفي تفاسير مَن جاؤوا بعده أشياء لم يتعرّض لها إجمالًا أو تفصيلًا، لكن القصد هنا التنبيه على المواطن التي أجمل الطبري القول فيها وبسَطها غيره، وليست في كلام السلف ولا مأخوذة عنهم، وأن الطبري وغيره من المفسرين اختاروا بآرائهم وفسروا بها، ولمّا جاء بعض المتكلمين في علوم القرآن ونظروا في هذه التفاسير التي تبسط ما ليس مبسوطًا في كلام السلف حسبوا أنهم يعدلون عنه أو يخلطون به غيره من الرأي، وأن الطبري وأشباهه من المفسّرين يقفون مع كلام السلف ولا يتعدونه، فصنفوا تفسير الطبري مأثورًا والتفاسير الأخرى رأيًا، ولكنهم لو تأملوا لوجدوا في تفسير الطبري ما في بقية التفاسير من الرأي ولكنه دون بسط وتفصيل.

 ولنتأمل مثلًا هذه العنونة من الطبري -رحمه الله- لبعض أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا}[النبأ: 14]، قال: «وقوله: {وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ}، اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بالمعصرات، فقال بعضهم: عُنِي بها الرياح التي تَعصِر في هبوبها»، ثم أسند إلى بعض السلف، ثم قال: «وقال آخرون: بل هي السحاب التي تتحلَّب بالمطر ولمَّا تمطِر، كالمرأة المُعصِر التي قد دنا أوان حيضها ولم تَحِض»، وأسند كذلك إلى بعض السلف، ولمّا راجعنا الآثار التي أوردها الطبري -رحمه الله- في كِلا القولين وجدنا أن أرباب القول الأول اكتفوا بأن المعصرات الرياح، دون ما أضافه الطبري من عنده بقوله: «التي تَعصِر في هبوبها»، وأرباب القول الثاني اكتفوا بأنها السحاب، دون هذه الإضافة التي أضافها الطبري: «التي تتحلَّب بالمطر ولمَّا تمطِر، كالمرأة المُعصِر التي قد دنا أوان حيضها ولم تَحِض»[10]، فإنْ نظر العَجِلُ حَسِبَ أنّ هذا تفسير السلف، ولكن الحقيقة أن هاتين الإضافتين من عند الطبري، وليس فيما روى من آثار عن السلف أيّ تصريح بهما، ولا يقال إنّ هذا لازم أقوال السلف؛ لأننا وجدنا -لا سيّما في السحاب- اختلافًا في توجيه وصفها بالمعصرات، قال ابن عطية -رحمه الله-: «قال ابن عباس وأبو العالية والربيع والضحاك: المعصرات السحاب القاطرة، وهو مأخوذ من العصر؛ لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء، وهذا قول الجمهور، وبه فسَّر عبيدُ الله بن الحسن بن محمد العنبري القاضي بيتَ حسان: كلتاهما حلب العصير.

وقال بعض مَن سمّيت: هي السحاب التي فيها الماء تمطر كالمرأة المعصر وهي التي دنا حيضها ولم تحض بعدُ، وقال ابن الكيسان: قيل للسحاب معصرات من حيث تغيث فهي من المعصرة، ومنه قوله تعالى: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[يوسف: 49]»[11].

وحين نرجع إلى بعض التفاسير سنجدها أفردت توجيه التعبير عن السحاب بالمعصرات وبسطت القول فيه[12]، ونقلوا في ذلك كلام الفراء وغيره من اللغويين، فقد يظنّ الناظر -غير المتأمل- أن الطبري وقف عند حدود السلف، وتخطاها هؤلاء، وليس كذلك.

والطبري -رحمه الله- إنما يفعل هذا لإتمام البيان لمعاني القرآن، ببيان ما سكت السلف عن بيانه مما لم يكن من مشاغلهم، وكثير من المفسرين بعد الطبري نصبوا مثل هذا مجالًا للنظر وعرضوا الوجهات فيه، والطبري خلطه في الظاهر بكلام السلفِ فظُنَّ منه، واعتُبر كلام غيره من المفسرين رأيًا، وربما خروجًا عن كلام السلف، وليس الأمر على هذا النحو في كثير من المواطن والمسائل.

بقيت شبهة قد تثار على ما ذكرنا، وهي أن يقول قائل: سلّمنا أن الطبري لم يسند في بعض الآيات إلى النبي أو الصحابة أو التابعين، ولكن لعله فسرها بنظائرها من كتاب الله، وتفسير القرآن بالقرآن أحد أنواع التفسير بالمأثور؟

قلنا: هذا احتمال بعيد في العديد من الآيات، ولكن حتى لا نُلقي القول على عواهنه فقد راجَعْنا الآيات العشر من سورة الأحقاف، وفحَصْنا طريقة الطبري -رحمه الله- في تفسيرها فلم نره فسرها بنظائر لها من كتاب الله تعالى، ونحسب أن الأمر في هذا ظاهر والمقصود قد تم.

والمقصود بعد هذا التطواف أنّ تصنيف تفسير الطبري تفسيرًا بالمأثور على مفهومهم فيه غلط، ولكن من وجوه تتعلّق بعملية بيان معاني القرآن نفسها وإنتاجها، وليس ينحصر فيما بثّه في تفسيره من ترجيحاته وتوجيهاته للأقوال وغير ذلك مما ذكروه، وفي هذا الذي ذكروه تقليلٌ من الدّوْر الكبير الذي قام به الطبري -رحمه الله- والمفسرون من بعده، وفيه خلط بين مطلق الرأي والرأي المقابل عندهم للمأثور.

خاتمة:

تبيّن لنا من خلال ما سبق أن الطبري وإن اشتهر بأنه ناقل للمعنى وليس له في هذا الجانب كبير اجتهاد، إلا أن هذا الاعتبار غير صحيح، وأن للطبري مساحة اجتهاد في هذا الصدد حَرِيَّة بالدرس والنظر، وربما يكون لها انعكاسات مهمة جدًّا إزاء تصورنا للعديد من القضايا والمسائل المركزية؛ منها تصنيف التفسير إلى مأثور ورأي، وتصنيف كتب التفسير تبعًا له، وكذلك لها انعكاسات واضحة على موضوع تفسير السلف ومجاله ودور المفسرين حياله، لا سيّما وإن تفسير السلف يعدُّ عمدة التفسير بالمأثور عند من يقسمون التفسير إلى مأثور ورأي، فهم وإن ذكروا بجواره التفسير النبوي وتفسير القرآن بالقرآن، إلا أنه يبقى الركن الأهم والأظهر في هذا التقسيم، وقد بينّا أن الأمر في تفسير السلف عند الطبري وغيره من المفسرين ليس كما يُتصَوّر من اعتمادهم التام أو شبه التام على مقولاتهم واقتصارهم عليها، وأن تفسير السلف له مساحته التي ربما لا يصلح قيام التفسير بالاقتصار عليها، ولكن المفسرين قاموا بجهود كبيرة بجوار ما نقلوه عن السلف من التفسير، وهو ما يثير النظر جدًّا في قضايا تفسيرية محورية في ضوء واقع أقوال السلف داخل كتب التفسير وطريقة تعاطي المفسرين مع هذه الأقوال، ومساحة الاشتغال التي غطاها تفسير السلف، ومساحة الاشتغال التي غطاها صنيع المفسرين بعدهم، وغير ذلك من القضايا، والله تعالى أعلم.

 

[1] ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 12)، التفسير والمفسرون (1/ 112).

[2] مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 28).

[3] التفسير والمفسرون (1/ 149).

[4] السابق (1/ 159).

[5] مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر (ص45).

[6] نعني بالتفسير هنا إنتاج المعنى ابتداء، ولا نعني إخراج هذه الأمور من عمل المفسرين وعلم التفسير بتمامه.

[7] في هذا العدّ نوع تهاون؛ فقد تجاوزنا عن بعض الآيات التي كان بالإمكان إدخالها فيه، ذكر فيها الطبري أقوالًا للسلف، لكن يمكن بعد الفحص والشرح القول بأنها مما فسره الطبري برأيه، ولكننا لم نشأ الدخول في هذه المساحة، واكتفينا بذكر ما لم ينسب فيها للسلف إطلاقًا.

[8] حيث قال: «أمّا التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها (تفسير محمد بن جرير الطبري)؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي»، مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية (ص51). ولعل هذا ما غَرّ بعضهم فظنوا أن الطبري مجرد ناقل، وليس له من الرأي إلا ترجيحاته وتوجيهاته.

[9] قصدنا بالمأثور هنا الانطلاق في إنتاج المعنى بالنقل عن الآخرين، وهذا القدر الممكن اعتباره في هذا المصطلح.

[10] تفسير الطبري (24/ 153-154).

[11] تفسير ابن عطية (5/ 424).

[12] ينظر مثلًا: زاد المسير- المكتب الإسلامي (9/ 6)، فقد نقل ابن الجوزي عن الفراء وابن قتيبة والزجاج أقوالهم في هذا.

الكاتب

محمود حمد السيد

باحث في التفسير وعلوم القرآن، شارك في عدد من الأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))