الحضور التبليغي والإفهامي والتفاعلي مع آيات القرآن
في الفضاء الإعلامي والوسط الاجتماعي الإسلامي العربي المعاصر

إعداد : محمد كنفودي
ضيف الحوار : عبد الرحمن البزور
يصف القرآنُ ذاتَه بـ(البلاغ) مما يبرز أهمية هذه السّمة للقرآن، ومع التطوّر في وسائل الإعلام والتواصل الذي يشهده السياق العربي والإسلامي، والذي يزيد من تيسير عملية البلاغ كما قد يشوّش عليها، فإن الوقوف على المحدّدات التي يضعها القرآن لهذه العملية والسمات التي يفترضها في المبلِّغ يصبح ملحًّا لضبط مسار عملية البلاغ. في هذا الحوار مع الأستاذ/ عبد الرحمن البزور نناقش أهم هذه المحددات، وكيف يمكن وفقًا لها تجاوز ما يشهده السياق المعاصر من عوائق، والحلول التي تيسر قيام الأمة بوظيفة البلاغ.

مقدمة:

  يصف القرآنُ ذاتَه بأنه (بلاغ)، مما يبرز كون السمة التبليغية هي سمة أساسية في تلقّيه والتعاطي معه، سواء بالإنصات لبلاغِه، أو بالعمل على إيصال هذا البلاغ للمخاطَبِين به الذين هم -في ضوء عالمية الرسالة- كلّ إنسان بما هو إنسان في كلّ سياق زماني أو مكاني، ومع الطفرة الكبيرة التي يشهدها مجال الإعلام ووسائل التوصيل والاتصال في الآونة الأخيرة، والتي لا شك وفّرت مساحات أوسع وأدوات أيسر لهذا التبليغ، وكذلك منحت الكثيرَ القدرةَ على القيام بهذه الوظيفة البلاغية، فإن النظر في السمات الخاصّة للبلاغ القرآني والخصائص التي حدّدها كخصائص رئيسة لعملية التبليغ يصبح ملحًّا، ليقرأ هذا السياق المعاصر في ضوئه؛ بغية ضبط مساراته والتأكّد من توافقها المنهجي مع موضوع تبليغها (القرآن)، وفهم العوائق التي قد تعيق التبليغ أو تشوّش عليه شكلًا أو مضمونًا.

في هذا الحوار الذي نجريه مع الأستاذ/ عبد الرحمن البزور نناقش حضورَ القرآن التبليغي والتفاعلي في السياق العربي والإسلامي المعاصر، ويأتي حوارنا معه على ثلاثة محاور؛ المحور الأول: الطبيعة التبليغية لآيات القرآن الحكيم، ويدور فيه الحديث حول سمة القرآن التبليغية، ومن هو الذي ينيطه القرآن بالبلاغ، وما هي الخصائص والسمات التي يحدّدها للقيام بهذا البلاغ على أكمل وجه. وفي المحور الثاني: تبليغ آيات القرآن في فضاء وسائل الإعلام والتواصل والوسط الاجتماعي بين الناس، يدور الحديث حول السياق الحالي العربي والإسلامي للتبليغ، والطريقة التي يحضر بها القرآن في هذا السياق الذي يشهد تطورًا كبيرًا في وسائل الإعلام والاتصال، والسبل التي يوفّرها هذا السياق لعملية التبليغ، وكذا العوائق التي تقف أمام هذه العملية أو تشوّش عليها. أمّا في المحور الثالث والأخير: الحلول والمقترحات للتبليغ والإفهام الأكملَيْن لآيات القرآن، فنناقش عددًا من المقترحات التي من شأنها أن تذلّل العوائق أمام عملية التبليغ، وتضمن سلامةً أكبر لهذه الوظيفة؛ سواء من حيث موضوع البلاغ (القرآن)، والسمات المنهجية الخاصّة التي يتحتم الانتباه لها وفقًا لطبيعته، أو من حيث وسيلة البلاغ وسمات المبلِّغ.

وفيما يأتي نصّ الحوار:

نَصُّ الحوار

المحور الأول: الطبيعة التبليغيّة لآيات القرآن الحكيم:

س1: آيات عديدة أناطت بالرسولِ -عليه الصلاة السلام- مهمةَ تبليغ آيات القرآن للناس؛ سواء كانوا من (أمة الدعوة) أو (أمة الإجابة)؛ منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]، وقوله سبحانه: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}[المائدة: 99]. نود أن نسأل فضيلتكم، ما الدلالة الكلية لمفهوم (التبليغ) لآيات القرآن بوصفه من مهامّ الرسول –عليه الصلاة السلام-؟

أ/ عبد الرحمن البزور:

لقد جاء الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- في أجواء جاهلية عالمية شبيهة بالأوضاع التي يعيشها العالم اليوم، لكنه -صلى الله عليه وسلم- تحمَّل الأمانة كلّها على عاتقه، ثم حمَّلها لأصحابه من بعده بهذا القرآن حتى غيّروا به وجه العالم؛ فأصبحت كلمة: (لا إله إلّا الله) هي العليا، وكلمة الوثنيين والنصارى واليهود والملحدين والمنافقين هي السفلى؛ ذلك أنّ آيةً من كتاب الله تعالى كانت محرِّكًا جبارًا لهمم الموحِّدين من الناس نحو إخراج الناس (بالإسلام) من الظلمات إلى النور، وهي الآية التي استشهدتم بها أعلاه؛ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67].

 وعليه، فإنّ المفهوم العام للتبليغ يهدف أساسًا إلى تبليغ الرِّسالة مع بيانِها قولًا وفعلًا، وإقامة الحُجَّة على الخلق، والدعوة إلى التوحيد وعبادة الله واجتناب الطاغوت، والتذكير بالمعاد، وإحياء القلوب والأرواح، والتبشير والإنذار، وإصلاح الإنسان وتزكيته ظاهرًا وباطنًا، وتطبيقها عمليًّا كنموذج مثاليّ إنسانيّ راقٍ، واقعيّ مَعِيش في واقع الناس، بواسطة الأسوة الحسنة في الرسول -عليه الصلاة والسلام-.

س2: وظيفة أو (مقام) تبليغ آيات القرآن ليس وقفًا على الرسول –عليه الصلاة السلام-، وإن كان هو الأنموذج الأمثل والأكمل في التبليغ منهجًا وآليات ومقاصد، بدليل وجود مجموعة من الأحاديث النبويّة التي تحضُّ المسلم على تبليغ آيات القرآن؛ منها: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «بلِّغوا عنِّي ولو آية»[1]. ما المعنى الذي نحدّد به مفهوم (تبليغ) آيات القرآن، كما ورد في السنة النبوية في علاقته بالإنسان المسلم في السياق المعاصر؟

أ/ عبد الرحمن البزور:

إنّ البلوغ، والإبلاغ، والتبليغ في اللغة بمعنى الانتهاء، والوصول، والإيصال، والتوصيل إلى غاية مقصودة أو حدٍّ مراد، سواء كان هذا الحدُّ أو تلك الغاية مكانًا أو زمانًا أو أمرًا من الأمور المقدّرة معنويًّا.

 وعليه؛ يُمكن أنْ نستوحي من المعنى اللغوي والاستعمال القرآني أنّ التبليغ في الإسلام هو عرض إيصال التعاليم والإرشادات السماويّة الإسلاميّة إلى الناس، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]. نجد الكثيرَ من الآيات والروايات التي تتحدّث عن مكانة التبليغ والدعوة وأهمّيتهما في حياة الأمم والشعوب على طول التاريخ؛ وذلك نظرًا لارتباطهما بمختلف مفاصل المجتمع البشريّ ومستوياته ومتطلّباته الأخروية والدنيوية، وكونهما يُمثّلان الواسطة المباشرة بين السماء والأرض، والوسيلة التي اختارها الله تعالى لهداية خلقه وتعليمهم وتزكيتهم. وما الحديث المفصّل الذي ورد في الدعوة والتبليغ والإرشاد والهداية والأمر بالمعروف ونحوها في موارد عدّة في الكتاب والسنّة =إلّا خير دليل على الحرص الإلهيّ على إيصال الشرائع السماوية، ولا سيّما الشريعة الإسلاميّة، وتعليم أحكامها للناس، وهو ما نطلق عليه «عملية التبليغ والدعوة إلى الله تعالى».

لذا فإنّ إطْلاع الناس على الأحكام الإسلاميّة والمعارف الإلهية، وتبشير المؤمنين بالجنّة والنعيم الإلهيّ، وإنذار المخالفين بالعذاب، وتحذيرهم من مغبّة الانحراف وراء الشهوات وملذّات الدنيا ونسيان الآخرة =هو المقصود من التبليغ الإسلاميّ. فالتبليغ هو الهدف من وجود كلّ نبي، فلولا مهمّة التبليغ لكان إرسال الأنبياء عبثًا دون معنى. وإرسال الأنبياء مظهر من مظاهر صفة الرحمانية والرحيمية، فهم للبشرية كالشمس هدايةً ونفعًا، وأكثر ما تجلّت هاتان الصفتان في الرسول -عليه الصلاة والسلام- في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

س3: الرسول -عليه الصلاة السلام- بَلَّغَ آيات القرآن كلّها للناس، وقد شهد الله تعالى على أنه أكمل وأتم ذلك، كما أشار إليه في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3]. وأمارة ذلك، دخول الناس في دين الله أفواجًا، كما هو منصوص عليه في قوله سبحانه: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر: 2]. لو تحدّدون لنا الطرق والآليات البيانية التي كان يعتمدها الرسول -عليه الصلاة السلام- في تبليغ آيات القرآن للناس زمن النزول، باعتبار أنّ صحةَ الفهم والتنزيل متوقفةٌ على طريقة مهمّة (التبليغ) ونجاحها.

أ/ عبد الرحمن البزور:

 بالرجوع إلى ثلاثة مصادر أساسية: (القرآن الكريم، والسُّنة النبوية، والسيرة النبوية) يمكننا أن نستخلص جملة من الطرق والآليات، ولعلّ أهمها:

أ. خاصية التدرّج في تبليغ الرسالة ونشرها: فلم تتأتَّ عالمية الدعوة الإسلامية عن طريق اكتساح شامل للعالم في بداية أمرها، بل عمرها لم يتجاوز ثلاثًا وعشرين سنة، ومع ذلك استطاعت أن تَعُمّ العالم بفضل خاصية التدرّج من أصغر حيّز وأصغر عددٍ إلى أكبر حيّز وأكبر عددٍ.

ب. خاصية طريقة «الحِكْمة» في التبليغ والبيان في الدعوة: حدّد اللهُ -عز وجل- طريقة تبليغ وبيان دعوته فقال -جلَّ من قائل-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125]، فالمعروف أن «الحِكمة» هي معرفةٌ تُدْرَك بأفضل الوسائل، وأفضل وسيلة لمعرفة الدعوة هي السُّنة؛ لهذا يقول الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}[النساء: 113]، ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبلِّغًا بالحكمة أيْ بالسُّنة التي هي أقواله وأفعاله وما أقـرّه مما عاينه ممّن عايشه. والموعظة هي النصيحة، ولا تكون حسنة إلّا إذا كانت مستمرة غير منقطعة زمانًا ومكانًا، وموافقة للزمان والمكان والحال، وبذل فيها كلّ الوسع الذي لا يبقى معه عذر لمنتصح. والجدال هو النقاش والخصام كلامًا، ولا يكون بالتي هي أحسن إلّا إذا توفرت فيه الحجج الدامغة المقنعة والتي توقف جدال الخصم وتنهيه وتحسمه، ولازم ذلك أن الذي يملك الحجة والبرهان للإقناع في جداله لا يسقط في سوء الجدال ضرورة كما يسقط فيه من لا حُجة له فيستعيض عن الحجة والبرهان والدليل بالتعصّب الأعمى الذي يسيء إلى جداله. والجدال بالتي هي أحسن هو التماس الحجة البالغة؛ لقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}[الأنعام: 149]، بمعنى المقنعة، ومن أساليب الإقناع التذكير؛ لأن الناسي إذا ذكر اقتنع؛ لهذا قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}[ق: 45]. ومن أساليب الإقناع أيضًا قصّ القصص؛ لهذا قال الله تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الأعراف: 176]، فالناسي يتفكر إذا سمع قصة تَمُتُّ بصِلة إلى ما هو فيه أو عليه من حال.

ج. خاصية الرحمة في الدعوة: فمَن كانت طريقته في الدعوة الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن كان شأنه الرفق بمن يدعوهم، وهو رفقٌ منشؤه الرحمة؛ لهذا أمَر الله تعالى رسوله بالرحمة في الدعوة، فقال -جلّ من قائل-: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء: 215]، وخفضُ الجناح في القرآن الكريم يدلّ على الرحمة. ولا يمكن للدعوة أن تنتشر إلا بخاصية الرحمة؛ لهذا يقول الله -عز وجل-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159]. فالفظاظة والغِلْظة تُنَفِّران الأتباع من الداعية، واللُّيونة ترغِّبهم فيه؛ ونجاح الدعوة رهين بدرجة الرحمة الموجودة فيها.

د. خاصية البشارة والإنذار في الدعوة: لمّا كانت خاصية دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي الرحمة، فإنها تتأتّى من طريقين: طريق البشارة، وطريق الإنذار. فالبشارة والإنذار ضدان يتدافعان، ولا يجتمعان إلا في حالٍ معلومة، وهي حال المحافظة على توازنهما الذي لا ينتفي فيه أحد النقيضين. ودعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترغِّب الأتباع فيها من خلال المحافظة على التوازن بين البشارة التي تُغْرِي ولا تُغرِّر، والإنذار الذي يُرْهِب ولا يُقنِّط.

هـ. خاصية الدعاء للأتباع في الدعوة: فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يلتجئ بالدعاء إلى صاحب القدرة -جل جلاله- طالبًا لها وسَائِلًا، وهو مفتقر إليها لا مدَّعٍ ولا مستغنٍ عنها بما يدَّعيه وهو ليس له؛ لهذا قال الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}[التوبة: 103]، بمعنى: «ادعُ اللهَ لهم ما ليس تملك ويملكه اللهُ -عز وجل- عسى الله أن يستجيب لك، فيعطيهم ما سألوه مما عنده وحده بلا شريك». فما كان يملكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو دعاء الله -عز وجل- واللجوء إليه مع الاعتراف الكامل بالافتقار والحاجة إليه، وعدم ادّعاء شيء لنفسه، أو تقديم وعود به لمن تبعه من الأتباع.

المحور الثاني: تبليغ آيات القرآن في فضاء وسائل الإعلام والتواصل والوسط الاجتماعي بين الناس:

 س4: يشهد السياق العربي والإسلامي المعاصر تطورًا ملحوظًا في وسائل الإعلام والاتصال، ولا شك فإنّ آيات القرآن حاضرة بين الأفراد في مختلف هذه الوسائل، مسموعة كانت أو مقروءة أو مرئية ونحوها. في البداية لو تحدّدون لنا أهم ملاحظاتكم العامّة على هذا الحضور في الفضاء الإعلامي التواصلي العربي بين الأفراد.

أ/ عبد الرحمن البزور:

صحيح أن آيات القرآن الكريم حاضرة وبقوة في مختلف وسائل الإعلام والتواصل، وهذا أمر إن دلّ فإنما يدلّ على اهتمام الناس بالقرآن الكريم، ورجوعهم إليه، واعتمادهم عليه، وتحكيمهم إيّاه في قضاياهم الدينية والدنيوية، على أساس أن القرآن الكريم منهاج الحياة للمسلمين، والذي من شأنه أن يوجّه الفرد المسلم إلى طريق الحقّ القويم في علاقته مع الله تعالى وعلاقته مع الناس ومع نفسه، غير أن التعامل مع القرآن الكريم له ضوابط وقواعد ومنهج معيّن، يقتضي ذلك أن يكون الإنسان على علم ودراية به، حتى يحقق الهدف والمقصود من الاستشهاد بالنصّ القرآني، وذلك حتى لا تواجهه العوائق، والمشوشات، والصعوبات، ولا يتم توظيف النصوص القرآنية على وجه الخطأ؛ حتى لا يسيء إليه، وإلى الدعوة ككلّ.

س5: لا شك أن التبليغ السليم لأيّ رسالة أو مادة من مرسِل ومستقبِل، تعترضه (عوائق) أو (مشوشات تواصلية) في الغالب، تمنع من تحقيق ما يسمى بــ(التغذية الراجعة) بينهما. من منظوركم، ما أهم المعوقات الموضوعية التي تَحُول دون تحقيق التبليغ الأمثل لآيات القرآن نصًّا وإفهامًا؛ سواء تعلّقت بالمبلِّغ أو المتلقِّي أو وسائل التبليغ؟

أ/ عبد الرحمن البزور:

صحيح، هناك الكثير من العوائق، والمشوّشات التي تحول دون الوصول إلى المبتغَى، ولعلّ أهم ذلك:

 أ. عدم اتّباع المنهج والطريق الذي رسمه لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والذي تمّت الإشارة إلى شيء من معالمه سلفًا.

 ب. انحراف النية وفَقْد الإخلاص، وخاصة لمن طال بهم السير في ركاب التبليغ، فقد يأتيه الشيطان ليصرفه ويجعله يعمل إمّا للدنيا أو لحظوظ النفس أو غيرها.

 ج. ومن العوائق أيضًا أن الداعي (المبلِّغ) أحيانًا لا يعرف بماذا يبدأ؟ ومن أين ينطلق في دعوته؟ أيْ: يكون مجانبًا لترتيب الأولويات.

 د. ومن العقبات التي تواجه بعض الدعاة الاستهزاء والغمز واللمز، وكذا قلّة الوعي وعدم البصيرة، والجهل بالواقع والمحيط، وكذلك الجهل بالأعداء ومكرهم وأساليبهم مما يوقع في ورطات ومواقف خاطئة.

 هـ. مخالفة العمل للعلم، وقلّة القدوات بسبب تسلُّل الأمراض (المعنوية) إلى صفوف الدعاة من حب الزعامة، والعُجْب...

 و. إهمال فقه الأولويات، وضعف الموازنة بين المفاسد والمصالح والواجبات والإمكانات.

 ز. سوء تقدير الكفاءات والقدرات الذاتية للداعية، التي سيعمل على توظيفها في تبليغ الدعوة.

 س6. تلاحظون في وسائل الإعلام والتواصل الكثيرَ من الأفراد أو الجهات أو المواقع ونحو ذلك الذين يقدّمون أنفسهم للآخر على أنهم هم المؤهلون وحدهم لتبليغ آيات القرآن خصوصًا على مستوى الفهم، مع العلم أن أغلبهم لا تربطهم بآيات القرآن -خصوصًا على مستوى منهج الفهم والإفهام- صلة علميّة موضوعيّة محرّرة الأصول والقواعد، مما أفضى إلى ما يسمى بــ(التلاعب اللامحدد واللامحدود) أو الدخول في عصر (السيولة) الدلالية لآيات القرآن. في نظركم، ما آثار هذا المسلك في النظر إلى آيات القرآن خصوصًا على المتلقِّي الذي لا يتجاوز مرتبة (الأمية المعرفية)؟ وماذا تقترحون للحدّ من آثار هذا المنهج في النظر إلى آيات القرآن؟

أ/ عبد الرحمن البزور:

بالفعل هذا واقع نعيشه اليوم، حيث تصدَّر كثيرٌ من الناس لهذا الأمر، وليست لهم الأهلية اللازمة لذلك، ولا شك أن هذا الأمر له آثار سلبية عديدة، أهمها:

 تحريف كلام الله عن موضعه، والتقوُّل على الله بدون علم، وتحميل القرآن الكريم ما لا يحتمله من المعاني والدلالات. وقد حذر الله سبحانه من ذلك، واعتبره من خطوات الشيطان، فقال سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 168، 169]، وهذا مما حرمه الله تعالى، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33]؛ ولهذا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والأمر لكلّ من اقتدى به، فقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف: 108].

بالإضافة إلى ما سبق فإن ذلك يؤدي إلى تشويه الإسلام وحقائقه، وبالتالي تنفير الناس من الدين الإسلامي، وقد قال -عليه السلام-: «بشِّروا ولا تنفِّروا».

وللحدّ من هذه الآثار لا بد من التسلّح بالعلم عامّة، ودراسة علوم القرآن خاصّة: من أسباب النزول، والتناسب بين الآيات والسور، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاصّ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصّل، وكذا معرفة أساليب القرآن الكريم في الخطاب والحوار، وغير ذلك من القضايا العلمية المرتبطة بالقرآن الكريم. ومعرفة خصوصيات المخاطَب، وخصوصيات الزمان والمكان، إلى غير ذلك من المعالم المنهجية والعلمية.

س7: ذاع بين الناس -وخصوصًا بين المسلمين في الوطن العربي- مقولة تلقوها بالقبول والتسليم، وسعوا إلى تنزيلها واقعيًّا بمختلف الوسائل، وهي: «إن آيات القرآن شفاء لكلّ داءٍ عضويّ أو نفسيّ أو عقليّ» ونحوه. وقد أُنشئت في سبيل نشر ذلك بين الناس عدّة قنوات وإذاعات ومواقع ومجلات مختلفة، ودليل هؤلاء، هو قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: 82]، وقوله سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ}[فصلت: 44]. ما قولكم في هذه الظاهرة أو الواقعة العامة التي كثر روادها وعظم أشياعها ومريدوها؟ وما حدود الأخذ بهذا الخبر القرآني؟

أ/ عبد الرحمن البزور:

القرآن الكريم هو كلام رب العالمين، وهو حبل الله المتين والنور المبين، وهو الشفاء والدواء، ذو النفع العظيم، والعصمة لمن تمسك به، والنجاة لمن اتّبعه. وهو شفاء للأمراض القلبية والبدنية؛ فهو طبّ للأبدان كما أنه للأرواح، وهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها، وبكشف غطاء القلب من مرض الجهل، وتنويره بأنوار الإيمان، وهو الدواء والترياق المجرب للأمراض الجسمانية الظاهرة بالرُّقَى والتعوذ ونحوه بإذن الله تعالى إذا العليل أراد التداوي به، وعالج به مرضه بصدق ويقين وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم واستيفاء للشروط.

غير أن الأمر قد زاد عن حده حتى انقلب إلى ضده، فقد انتشرت في المجتمع بشكلٍ خطيرٍ الشعوذة الممنوعة، واختلطت في الواقع بالرقية المشروعة، حتى لا يكاد المسلم يميز بينهما، نظرًا لامتهان الكُثر (مهنة) الرقية الشرعية، حيث أُنشِئت قنوات، ومواقع ومجلات خصيصة لهذا الغرض. وكأنّ الآيات القرآنية عندهم عُلَبٌ في رفوف الصيدلة؛ كلّ آية والمرض الذي تصلح له عندهم بحيث لا تستعمل في غيره؛ فاخترعوا لكلّ سورة ما تختص به من الأمراض، وكذا فعلوا بآياتها.

س8: في الوسط الاجتماعي الإسلامي العربي تحضر العديد من الآيات في التداول الاجتماعي، حاكمها العام، (السياق المناسباتي)؛ فمثلًا لا سؤال ولا حديث في الغالب عن (آيات الصيام) إلّا في (رمضان)، ولا حديث عن (آيات قصة الفداء الإبراهيمي)، إلا في (عيد الأضحى)، ولا حديث عن (آيات الزواج) إلا في مناسبات (الزفاف)، ولا حديث عن (آيات الآخرة والجنة والنار) إلا في مناسبة (الموت) ونحو ذلك. وهذا ليس وقفًا على الوسط الاجتماعي، بل يشمل مختلف فضاءات التواصل بين الناس. هذا المسلك في نظركم، ما جدواه وفاعليته؟ وما النقص والقصور الذي يكتنفه، خصوصًا في علاقته بآيات القرآن وخصائصه؟

أ/ عبد الرحمن البزور:

نعم، جميل جدًّا أن تستغل المناسبة، ويكون الحديث وفق هذا السياق؛ لأن ذلك أبلغ تأثيرًا، وأشد وقعًا على المخاطَب، وقديمًا قال العلماء: المناسبة شرط. ولعلّ هذه المقولة تستمد قوتها ومشروعيتها من القاعدة البلاغية: لكلّ مقام مقال. فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر، وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر.

غير أن لزوم هذا المسلك باستمرار قد يؤدي إلى نتيجة سلبية، وهي أن تصبح عباداتنا موسمية، لا نهتم بها إلّا عند حلول موسمها، سواء تفقهًا، أو عمليًّا، وهذا يتنافى مع المقصد من الوجود. يقول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر: 99]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56].

 المحور الثالث: الحلول والمقترحات للتبليغ والإفهام الأكملَيْن لآيات القرآن:

 س9: كما تبيَّن من حديثنا مع فضيلتكم، فإنّ حضور رسالة آيات القرآن؛ سواء في فضاء الإعلام والتواصل، أو في الوسط الاجتماعي، أو غيرهما من الفضاءات التفاعلية والتشاركية، تعترض تبليغها وإفهامها للآخَر العديد من الصعوبات والعراقيل، التي تحدّ من آثارها العالية والفائقة الجدوى. في رؤيتكم ما الحلول والمقترحات للتبليغ السليم لآيات القرآن نصًّا-خطابًا وفهمًا وإفهامًا؟ ولنبدأ أولًا بالمقترحات المتعلقة بآيات القرآن، فمن المعلوم أنها تقترن بسياقات نزول وترتيب، وتستخدم أوعية تبليغية لغوية محدّدة، وتستهدف تحقيق مقاصد معيّنة، وتتحرك في ضوء آفاق عالية بيّنة. في نظركم، وباستحضار هذه المقومات الأربعة لآيات القرآن، كيف تصورون منهج تبليغ آيات القرآن للآخَر في السياق المعاصر؟

أ/ عبد الرحمن البزور:

لا بد من مراعاة مجموعة من الخصائص، لكي يتحقق المراد، ومن ذلك:

أ. معرفة سبب النزول: فإن لمعرفة سبب النزول أثرًا في فهم المعنى، وتفسير الآية، وهو أمر في غاية الأهمية، رغم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرّر عند علماء الأصول.

ب. معرفة أوجه التناسب بين السور والآيات داخل السورة الواحدة: فمعرفة المناسبة بين الآيات تساعد كذلك على حسن التأويل، ودقة الفهم، وإدراك اتساق المعاني بين الآيات، وترابط أفكارها، وتلاؤم ألفاظها، فالقرآن الكريم فيه كثير من فنون العقائد، والأحكام، والأخلاق، والوعظ، والقصص، وغيرها من مقاصد القرآن التي جعلها الله سبحانه هداية للبشر، والتي تدور جميعها على الدعوة إلى الله، والقرآن يبث هذا المعنى من خلال المقاصد والأغراض الموزعة على كافة الآيات والسور، فلو جمع كلّ نوع على حدة لفقد القرآن بذلك أعظم مزايا هدايته المقصودة.

ج. مراعاة ترتيب سور القرآن: يختلف ترتيب القرآن الكريم في النزول عن ترتيبه في المصحف اختلافًا كبيرًا، ومنشأ هذا الاختلاف هو اختلاف الهدف المقصود من كلا الترتيبين، فهو في ترتيبه النزولي منهج لتأسيس دعوة، وأسلوب إقناع بعقيدة وطريقة تبشير وإنذار، ودحض كامل لمنطق الإلحاد المريض، وهو في ترتيبه المصحفي أسلوب حياة، وبناء حضارة، ودستور للعالم كلّه، محيط بكلّ صغيرة وكبيرة من حاجاته ومطالبه، أحكم ترتيبه من هذه الوجهة ليكون هداية للمؤمنين.

د. مراعاة خصوصية المصطلح القرآني: إنّ خصائص لسان القرآن تستدعي أولًا اكتشافها، ثم تفعيلها أثناء مقاربته لمصطلحاته وتثوير آياته، حتى تكون سياجًا يحمي المبلِّغين من الخروج عن دائرة القرآن، أو أن يتعامل معها بمنهج لا يقبله القرآن.

س10: نثنِّي بالمقترحات المتعلقة بقنوات التبليغ بمختلف روافدها، إذ من المعروف أن وسائل الإعلام والتواصل في السياق المعاصر، بقدر ما تحولت إلى ضرورة وجودية في الحياة، فهي أيضًا تمتلك من قوة التأثير في الآخر ما لا يمتلكه غيرها. بناء عليه، ما المعالم المنهجيّة العامة التي تمكننا من تبليغ آيات القرآن تبليغًا ينسجم مع خصوصية القرآن ويحقّق أهدافه ويتحرك في آفاقه؟

أ/ عبد الرحمن البزور:

هناك العديد من المعالم التي ينبغي أن تستحضرها قنوات التبليغ، ولعلّ أهمها:

 التثبت من المعلومة قبل نشرها، عملًا بقول ربنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: 6]، وكذا تجنب سوء الظن عملًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}[الحجرات: 12]، ثم استحضار مراقبة الله تعالى في السر والعلن، والالتزام بالتوجيهات الشرعية، ثم الالتزام بمنظومة القيم الإسلامية.

س11: نختم مع فضيلتكم بالمقترحات المتعلقة بالمبلِّغ؛ إذ من المسلَّم به أن نجاح التبليغ متوقف على كفاءة المبلِّغ. في الحديث عن هذا التلازم، ما أهم الشروط والضوابط المنهجية التي بها يتحقق كمال التبليغ لآيات القرآن نصًّا وإفهامًا؟

أ/ عبد الرحمن البزور:

لا بد من التحلي بالإخلاص، وخاصة أن الأمر يتعلّق بكتاب الله تعالى؛ حتى يصيب المبلِّغ الهدف، وينال الأجر والثواب على ما قدّم، وكذا التمكُّن من معرفة خصوصيات وأسرار آي القرآن الكريم، ومراعاة أحوال المخاطبين، ثم اعتماد مبدأ التدرّج، والتيسير، والتبشير، اقتداء بالنبي البشير، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

 

 

[1] صحيح الإمام البخاري، ألفا للنشر والتوزيع، ترتيب وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، تقديم: أحمد محمد شاكر، ط. 2011، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم: 3461.

ضيف الحوار :

عبد الرحمن البزور

حاصل على ماجستير الفقه المالكي من كلية الشريعة والقانون بفاس - المغرب، وأستاذ التعليم الثانوي التأهيلي.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))