مقدمة:
تزداد أهميةُ تدبّر القرآن بصورةٍ كبيرةٍ مع دخول شهر رمضان المبارك؛ حيث تهفو الأرواحُ في هذا الشهر الكريم إلى القرآن ساعيةً لتجديد صِلَتها به، وقطع هجرانه قراءةً وعملًا، وتمثّل نزوله، والخشوع لهداياته، والعمل بأحكامه.
ونحن في هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور/ محمد بن عبد الله الربيعة، الأستاذ بجامعة القصيم، وصاحب الاهتمام الكبير والمعروف بقضايا التدبّر؛ تنظيرًا وتطبيقًا وتدريسًا، حيث له عدد من البحوث المنشورة حول التدبّر، كما أنه مدير وعضو تحرير مجلة (تدبّر)، كما قام بإعداد الكثير من المؤتمرات والمساقات الدراسية حول التدبّر، نحاول تسليط الضوء على مفهوم تدبّر القرآن وقضاياه، وما يُعِين المسلم عليه، وكيف يسلك طريقه، وتلك الثمرات التي تنتظر المتدبِّر في الحياة الدنيا والآخرة.
وقد جاء الحوار على ثلاثة محاور، تسبقها أسئلة تمهيدية حاولنا فيها التعرف على سبب اهتمام مُحاورنا الكريم بالتدبّر، ونتاجه في هذا: النظري، والتطبيقي.
أما في المحور الأول فجاء حديثنا عن التدبّر ومفهومه، وتلك المُعِينات التي تُعِين عليه، وتلك العوائق التي تقف حائلًا دونه، وبيان كيفية مقاومتها، ثم في المحور الثاني انتقل الحديث إلى التدبّر في شهر رمضان، والصلة بين القرآن والصيام، وختَمْنا حديثنا مع فضيلة الأستاذ الدكتور بالمحور الثالث عن كيفية تحويل المسلمِ تدبُّــرَ القرآن لفعلٍ دائم غير مقتصر على رمضان، وكذلك أهم المسالك التي تجعل هذا الشهر الكريم بداية تغيير علاقتنا بالقرآن، وأبرز ثمرات التدبّر التي يجتنيها المتدبِّر.
وفيما يلي نصّ الحوار:
نص الحوار
أسئلة تمهيدية:
س1: لا يخفى على القارئ الكريم عناية فضيلتكم بعلوم القرآن عامّةً، وبموضوع تدبُّر القرآن الكريم خاصةً، نودُّ في البداية لو تُطلعونَنا على سبب اتِّجاهكم نحو العناية بتدبّر القرآن الكريم، ومتى بدأتم الاهتمام بهذه القضيَّة؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
- (الفكرة): كانت البداية -بتوفيق الله- بعد انتهائي من رسالة الدكتوراه بفضل الله عام ١٤٢٨هـ.
- (السبب): سبب اتجاهي لهذا المجال هو شعوري العميق بحاجة الأمة لمشروع قرآني ينهض بها ويجدّد علاقتها بالقرآن واقعًا عمليًّا.
- (الانطلاقة): اتصلتُ بعددٍ من أهل العلم المهتمين بالقرآن فرأيتُ أنّ الفكرة تدور في خواطرهم واهتمامهم فاجتمعنا لذلك في شوال عام ١٤٢٨هـ، وتم إنشاء مشروع تدبّر، وجعلناه تحت اسم «مركز تدبّر»، ومقرُّه بالرياض، والحمد لله على توفيقه.
س2: لكم في هذه القضية نتاجات مهمّة، فلو تطلعون القارئ الكريم على أهمّ هذه النتاجات، وموضِع كلٍّ منها في التعبير عن رؤيتكم لهذه القضية.
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
على نطاق المشروع عامّة:
- كان أول مشروع تم إطلاقه لمركز تدبّر هو (جوال تدبّر)، وهو يبعث رسائل تدبريّة يتم استخلاصها من التفاسير ومما يكتبه المشايخ المتخصصون في هذا الشأن، وقد جُمِعَت في كتاب (حصاد التدبّر).
- (ملتقى تدبّر) وكان هدفه تحرير مفهوم التدبّر وضوابطه.
- (مؤتمرات تدبّر): الأول والثاني. وكانت في مناهج وبرامج وأعلام تدبّر.
- (دبلوم تدبّر) وهو يُعْنَى بتأهيل معلمي تدبّر لمدة سنة.
- (مجلة تدبر) وهي مجلة مُحكمة للباحثين في الجامعات، وقد تمّت ستة أعداد منها بحمد الله.
- مجموعة من الكتب المتخصصة في التدبّر.
- (مصحف تدبّر) وهو كتاب هدايات تدبريّة على هامش المصحف.
ثُمّ تَمّ -بحمد الله- إنشاء مركز (النبأ العظيم) وهو يُعنَى بنشر مجالس التدارس ونشر هدايات القرآن.
ويشمل عدّة مشاريع:
- (مشروع تدارس) وهو يُعنى بإحياء مجالس تدارس القرآن في المحاضن التربوية.
- (مشروع القرآن وصناعة القادة) وهو يُعنى بإحياء الهمم واستشعار الرسالة في القادة.
- (كرسي الهدايات القرآنية) وهو يشرف على موسوعة الهدايات القرآنية التي تضم ٦٠ باحثًا في مرحلة الدكتوراه في ٢٠ جامعة عالمية.
أما على النطاق الخاصّ:
فغالب بحوثي بعد الدكتوراه بما يخدم المشروع بحمد الله، ومنها:
- مفهوم التدبر.
- المقاصد القرآنية.
- مقاصد السور.
- جوانب التدبّر عند ابن كثير.
- البُعد المقاصدي عند السعدي.
- مجالس التدارس تأصيلًا وتطبيقًا.
المحور الأول: التدبُّر؛ مفهومه، الأمور المُعِينة عليه، عوائقه.
س3: أنزل اللهُ -تبارك وتعالى- القرآنَ وَأَمَرَنا بتدبّره، فما المراد بالتدبّر المأمور به؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
- التدبر المأمور به هو النظر لما يريد الله منّا في الآيات، فهو مرحلة ما بعد فَهْم المعنى العام للآيات.
فالواجب بالنسبة للآية أمران:
الأول: فَهْم المراد المتعلّق بالمعنى اللغوي والسياقي، وهو التفسير.
الثاني: فهم مراد الله منّا في الآية الذي يشمل الإيمان والعمل، وهو التدبّر.
س4: في ضوء مفهوم التدبّر الذي طرحتموه: ما أهمية التدبر؟ وما الأمور التي تُعيننا عليه؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
- التدبر هو الغاية التي أرادها اللهُ من إنزال كتابه، كما قال -تعالى-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}[ص: 29].
ومما يُعِين عليه:
- فَهْم المعنى الأصلي.
- النظر إلى تفسير السّلف، وأحوالهم مع الآيات.
- النظر لجوانب الإيمان والعمل.
- عَرْض الآيات على النفس، ومحاسبتها.
- استخراج القواعد المنهجية والسنن الإلهية، والتعامل بها.
س5: لكلّ طريق عَقَبات، فما العقبات التي يمكن أن تواجهنا في طريقنا إلى التدبّر؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
من أهم العقبات:
- الانشغال بتفاصيل التفسير.
- الانشغال بالاستنباطات والأسرار التعبيرية.
وهذه وظيفة العلماء والمتخصصين، وهي مرتبة رفيعة توصِل لمراتب عليا من التدبّر، لكن يجب ألّا يستغرق المتخصّص فيها فتشغله عن جوانب الإيمان والعمل. أما غير المتخصص فلا يليق به الانشغال بها وهو غير مؤهّل لذلك.
وهناك صوارف تصرف عن التدبّر، من أهمها:
- الانصراف عن القرآن وعدم تعظيمه.
- الانشغال بالدنيا عن كتاب الله.
- انصراف القلب لشهوات النفس.
س6: من خلال ما مَرَّ على فضيلتكم من تجارب -ولا تخفى عنايتكم بالتدريس- ما الأخطاء الشائعة التي لاحظتموها في تناوُل قضية التدبّر؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
من أهم الأخطاء:
- الجرأة على كتاب الله باستنباط تدبرات دقيقة من غير علمٍ بكتاب الله، وقد عظَّم اللهُ ذلك بقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء: 36].
- الاستشهاد بالقرآن على مفاهيم ونظريات معاصرة محتملة ربما تكون خاطئة، والقرآن أصلٌ في استخلاص القواعد والمنهجيات وليس هو تابعًا، ويُستشهَد به على الحقائق الثابتة بالأدلة.
س7: كان للصحابة تفاعل معروف مع القرآن: فما منهجهم إزاء التعامل مع القرآن؟ وكيف نقارب مسالكهم في ذلكم الأمر؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
- الصحابة منهجهم واضح مُطّرد كما وصفه ابن مسعود: «كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يتجاوزها حتى يعلم ما فيها من العلم والعمل».
ففهمهم للقرآن مبنيّ على أمرين: علم وعمل. ولذلك تجد تفسيراتهم دائرة على هذين الأمرين.
فمثلًا في تفسيرهم لقوله -تعالى-: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}[فاطر: 32]. تجد أقوالهم تدور على صور وأمثلة عملية للسابق وهو ما يسمَّى التفسير بالمثال، وهو يدلّ على عنايتهم بالعمل مع العلم.
فمَن رام منهجهم فليسلك سبيلهم بالجمع بين العلم والعمل في الآيات.
المحور الثاني: التدبُّر ورمضان:
س8: الصيام من أعظم الفرائض التي اختصَّ الله بها هذا الشهر الكريم، وكذلك شرَّف اللهُ هذا الشهر بإنزال القرآن، فما العلاقة بين القرآن والصيام؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
العلاقة بين القرآن والصيام تتجلَّى بكون شهر رمضان جمَع اللهُ فيه فضيلتين: فضيلة إنزال القرآن ابتداءً، وفضيلة تشريع الصيام فيه؛ ولهذا قرَن الله بينهما في قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ... فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185]، فجعَل فضيلةَ إنزال القرآن فيه -وهي أعظم نعمة على الأُمّة- داعيةً إلى فضيلة صيامه شكرًا لله وتهيئةً للقلب لتَلَقِّي هدايات القرآن؛ ولذلك قال في الآية نفسِها: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
فمَن عاش رمضان بغير القرآن فسيفقد روحانيته، ومَن لم يُعِينه الصيام على صفاء قلبه لتَلقِّي هدايات كتاب ربه لم يعرف حكمة الصيام وعلاقته بالقرآن.
ولهذا شُرِعَت في ليالي رمضان صلاةُ التراويح لسماع آيات القرآن وتلقِّي هداياته. فهنيئًا لمَن كان صيامه باعثًا له على صفاء قلبه للقرآن.
س9: نسمع القرآن في الصلوات الجهرية المفروضة وصلاة التراويح، وتمرُّ علينا الكثيرُ من الآيات التي نجهل معناها، في ظنّكم ما أسبابُ انتشارِ هذا بيننا؟ وغيابِ تدبّر القرآن قراءةً وسماعًا؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
من أهم أسباب عدم فَهْم القرآن وتدبُّر آياته عند سماعه في الصلوات:
- انقطاعُنا عنه وضَعْفُ تلاوتنا لكتاب ربِّنا في عامِنا كلِّه، وكلّما بَعُدَ الإنسان عن الشيء ضَعُفَ إدراكه له.
- عدمُ عنايتنا بالرجوع للتفسير -ولو مختصرًا- لما يُشكِل علينا فهمه عند تلاوته، واقتصارُنا على قَصْد كسب الأجر لتلاوة حروفه.
س10: إذن كيف يكون رمضان منطلَقًا للمسلم كي يبتدئ طريقه لتجاوز هذا إلى تدبّر القرآن، فيخرج منه وقد تغيَّرتْ صِلَته به، فتكون للصائم حين يُفطِر فرحة ثالثة هي فرحة تذوُّقه حلاوة القرآن؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
الطريقة للتلذُّذ بالقرآن في رمضان تتلخص في أمور:
- تعظيم القرآن والاغتباط به، واستشعار كونه كلام ربّ العالمين الهادي إلى رضوانه وجنته.
- لا يكن قصدك في التلاوة مجرد التلاوة، بل اجعل لك هدفًا تريد تحقيقه في كلّ ختمة؛ كأن تقول: أريد التحقُّق بأوامر الله في كتابه، أريد التحلِّي بمكارم الأخلاق، أريد استشعار عظمة الله من كلامه، أريد العَيش مع سِيرة الأنبياء وأخلاقهم في القرآن، أريد معالجة قلبي...وهكذا، وإنْ أمكنَ أنْ تَكتب الآيات التي تَحَرَّك قلبُك معها تأمُّلًا وتأثُّرًا فذلك حَسَنٌ.
- استخرِجْ من كتاب ربك في كلّ ختمة قواعدَ منهجيةً تتمثلها في حياتك.
س11: ومن خلال خبرتكم ومشاهداتكم، هل شهرٌ واحدٌ كافٍ ليضع الإنسان لَبِناتٍ أُولى في هذا الطريق؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
إِي وربي إنّ رمضانَ مدرسةٌ للبناء الروحي وإعادة الروح للقرآن، لكن مشكلتنا أننا نسقي الروح بالقرآن في رمضان فتنتعش وتحيا ثم نقطع السُّقيا بعده فتضعف الروح وتجفّ منابع حياتها بهدايات كتاب ربها، والواجب أن يكون المسلم في علاقة بالقرآن دومًا، ويكون رمضان مجددًا للعزم، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس في سائر عامِهِ، وأجود ما يكون في رمضان.
المحور الثالث: نصائح في جَعْل التدبر أمرًا دائمًا:
س12: ما نصائح فضيلتكم لجَعْل التدبر أمرًا دائمًا طوال العام، لا يقتصر فقط على هذا الشهر الكريم؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
مما أُوصي به نفسي وإخواني:
- أن يكون لك وردٌ يوميٌّ ولو بضع صفحات تعيش معها بقلبك قبل نظرك، هذا هو غذاء الروح الذي يجعلها تعيش بسعادة واطمئنان دائم.
- أن تحرص على حضور مجالس القرآن التي تشتمل على تدارس آياته وتدبرها وتزكية النفوس، فتلك وربي تسمو بك إلى الملكوت الأعلى، وكفاك فضلًا وأثرًا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضلها: «وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلَّا نزلَتْ عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمَن عنده». رواه مسلم.
س13: في ختام هذا الحوار، من خلال عملكم الطويل في تدريس التدبّر وتتبُّع أثَرِه حولكم، وقبل هذا من خلال معاينتكم لهذا الفعل، ما الأثر الذي يتركه التدبّر على حياة المسلم؟ وكيف تَتغيَّر صِلَته بالقرآن بعد المداومة على التدبر؟
أ.د/ محمد بن عبد الله الربيعة:
العلاقة مع القرآن بالتدبّر والتزكِّي تُحقِّق لك:
- سموًّا روحيًّا وطمأنينة نفسية لا تجدها إلَّا مع القرآن والذِّكْر والصلاة.
- الاغتناء بالقرآن عن الخَلْق والحاجة إليهم، ستشعر أنك غني بكتاب ربك وكأنك تملك خزائن الأرض ولو كنت فقيرًا.
- كفاك أن تشعر بأنك مع كلام ربّ العالمين، فأيّ فخر وشرف فوق هذا؟! «مَن أُعطِي القرآن فرأى أنّ غيرَه خيرٌ منه، فقد عَظَّم ما صَغَّر اللهُ، وصَغَّرَ ما عَظّمَ اللهُ».
- تشعر بروح متجدّدة، وقوة دائمة، وسلامة من دخائل النفوس وأهوائها.
- تشعر بأنك مع دليلٍ كاملٍ شامل للحياة ترجع إليه كلما مرّ بك موقف يستدعي إرشادًا وعلاجًا.