سلسة التفسير الفلسفي للقرآن (1)
تعريفٍ مجملٍ باجتهاد أبي يعرب المرزوقي
نستهلّ المقالة الأولى من سلسلة المقالات المتعلقة بالاجتهاد التفسيري الفلسفي المعاصر لأبي يعرب المرزوقي[1] بالتسهيم - التعريف المجمل لما يقدمه المتن اليعربي المتصل بفضاء تفسير النصّ القرآني[2]، من خلال التركيز على مقاربة الكليات الأساسية للمنظور اليعربي، والتي تعدّ عبارة عن صُوَى هادية أو قرائن مفيدة لما يأتي من المقالات.
يقول أبو يعرب المرزوقي: «إنّ التفسير الفلسفي للقرآن الكريم ليس هو أمرًا ضروريًّا للمسلمين من منطلق الوضع الإسلامي الراهن فحسب، بل هو كان ينبغي أن يكون ضرورة من بداية الدعوة الإسلامية. فالقرآن هو الذي اعتبر تبيّن حقيقة القرآن أمرًا سَيُري اللهُ الناسَ آياته في الآفاق والأنفس حتى يتبيّن لهم أنه الحق»[3].
يعدّ نص القرآن في السياق التاريخي المعاصر أحد أبرز الفاعلين الحقيقيين على مستوى «التأثير الرمزي» في مختلف مجالات الأحداث الإنسانية عالميًّا[4]، بالرغم من أن حامله «الطليعي الفاعل» أو قل «الشاهد»، يكاد يكون معدوم الوجود، إلا على المستوى الذهني أو التصور النظري المجرد، وهذا المحدد له أصالة بالاعتبار الأول المنزل به منذ اكتمال تنجيمه نزولًا على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، مرورًا بمختلف «أزمنة التكليف» و«التأويل» في تاريخ الفكر الإسلامي والإنساني. وهذا الأمر أيضًا ليس له بالنظر إلى كونه «الوحي الخاتم»، أو بالنظر إلى محدداته المنهجية الموضوعية الذاتية، أو بالنظر إلى اشتماله على ناظم «الإعجاز»، أو بالنظر إلى حمله «للمعنى» و«معنى المعنى» المتجاوز لكلّ الألسن القومية والثقافات القطرية، بل لأنه يعد خطاب «الفطرة»، المحمول بالقوة وبالفعل لدى مطلق الخَلق الإنساني، بغضّ النظر عن مختلف العرضيات، قصد إيجاد أو التمهيد لحلول مُثلى لمختلف مشاكل ومشكلات الإنسانية، ما دام أنه الأمل الوحيد المتبقّي لها في العالم كله، بعد أن تحقق فشل كلّ الأنظمة الإنسانية المجرّبة؛ وذلك يعدّ أحد أهمّ متعاليات نصّ القرآن، وأهم ما يشكّل إنّيته أو خصوصيته الذاتية من المنظور اليعربي[5].
يتبيّن للمتتبع أن في العقدين الماضيين من القرن الواحد والعشرين تكاثرت قراءات تَتْرَا لنصوص القرآن كلها أو بعضها، وتنوعت ما بين المقاربات اللغوية-الألسنية، والعلاماتية-السيميائية، والتاريخية-الحصرية، والحقوقية-الإنسانية، والحُكمية-الفقهية، والمقاصدية-الحكمية، والإعجازية ونحو ذلك[6]. وغابت في الغالب المقاربة أو المنظور الفلسفي في التفسير، الذي هو في عمقه ينحو منحى «التأويل العقلي» الموضوعي، أو قل: المجرد المنضبط -حسب الاستعمال أو التوظيف-، ذي الآفاق البعيدة، الذي يبحث عن مراتب الدلالات العالية[7]. فإلى أيّ حدٍّ يتمكن اجتهاد أبي يعرب المرزوقي في التفسير الفلسفي لنصّ القرآن أن يحقّق المعاني الفلسفية لنصوص القرآن، بالنظر إلى العدة المنهجية التي تسلّح بها أو سار على هديها في مختلف ما يقدمه؛ سواء كان الموضوع مطروقًا من قِبَل المقاربات التراثية أو الحداثية المعاصرة، أو كان الموضوع لم يطرق بعد، أو طَرَقَه بمنظوره الخاصّ، فضلًا عن مدى تمكّنه من تحقيق الطموح الذي يقصده أبو يعرب المرزوقي؛ سواء على مستوى المقاصد الكبرى التي يقصد تحقيقها، أو على مستوى الآفاق التي يمهّد أو يطور أو يكمل البحث فيها؟[8]
إنّ المقالات القادمة ستبيّن مدى تحقق ذلك فعليًّا؛ إذ ليس كلّ منشود يتحقق، كما أنه ليس كلّ متحقق منشودًا. وفي هذا السياق الكلي يأتي الاجتهاد التفسيري الفلسفي المعاصر لأبي يعرب المرزوقي، الذي وسمه بـ«الجلي في التفسير»[9]، أو «التفسير الفلسفي» للقرآن[10].
اجتهادات أبي يعرب المرزوقي ليست من صنف الاجتهادات التي تنضوي تحت ألوية المشاريع الفكرية العربية أو الإسلامية النظرية أو العملية، نظير مشروع «نقد العقل الإسلامي» لمحمد أركون، أو مشروع «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري، أو مشروع طه عبد الرحمن، أو مشروع عبد الله العروي، أو مشروع جورج طرابيشي، أو مشروع الطيب التيزيني، أو مشروع حسن حنفي، أو مشروع نصر حامد أبو زيد، أو غيرهم من أصحاب المشاريع البحثية في الوطن العربي تحديدًا؛ فهي وإن كانت عسيرة على التصنيف ضمن مشروع بحث مستقلّ قائم الموضوع والمنهج[11]، إلا أنها وردت في الغالب متعلقة بمجالات بحثية منهجية ومعرفية يمكن حصرها في:
1. فضاء الفكر الإسلامي الكلاسيكي التأسيسي في مختلف مراحله، خصوصًا ما تعلّق بـعلم الكلام والفلسفة والتصوّف وما له بذلك علاقة[12].
2. فضاء الفكر الإسلامي المعاصر ومختلف متجلياته ومتعلقاته الحديثة والآنية وما له بذلك صلة[13].
3. فضاء الفكر والفلسفة بشتى متعلقاتها الموضوعية؛ سواء كانت يونانية أو عربية كلاسيكية، أو عربية أو غربية معاصرة وما له بذلك وشيجة[14].
4. فضاء دراسة النصّ الشرعي تفسيرًا فلسفيًّا معاصرًا وما له بذلك ناظم رابط[15]، ومختلف فضاءات اجتهادات أبي يعرب المرزوقي[16]؛ سواء في أبعادها النقدية أو التطويرية أو التأسيسية[17]؛ تجد أنه قد اهتمّ من خلالها رأسًا بـ«قوانين الإنشاء الإبداعي»، درءًا لأيّ ذاتوية مفرطة، أو تحيّز قبلي، تاريخاني أو مذهبي أو قومي[18].
إنّ التفسير الفلسفي المعاصر لنصّ القرآن، الذي قدمه أبو يعرب المرزوقي، والذي يهمنا أساسًا في هذه المقالات، ينتظم في النواظم الآتية:
1. إنّ مختلف السياقات النصية المتعلقة بفضاء تفسير النصّ القرآني؛ سواء تعلق بما هو منهجي أو معرفي، يوظف فيها أبو يعرب المرزوقي مختلف المعارف المكتسبة أو الحاصلة، من باب الاستئناس، قصد إضاءات ساحاتِ ونَسَبِ دلالات النصّ القرآني؛ سواء تعلقت بما هو علمي أو فلسفي أو لغوي أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو نفسي أو عمراني ونحو ذلك، وفق منظور استعماله الخاصّ، الساعي في سبيل فكّ أواصر الارتباط العضوي بالتقليد والتبعية[19]، وأن المقالات الآتية ستبين مدى تحقق ذلك فعليًّا؛ إذ ليس كلّ منشود يتحقق، كما أنه ليس كلّ متحقق منشودًا.
2. يقوم منهج التفسير الفلسفي المعاصر الذي يقدمه أبو يعرب المرزوقي على منهج ليس من جنس منهج التفاسير التراثية، ولا من جنس مناهج أهل القراءات الحداثية أو المعاصرة أو الجديدية من مُجَايلِيه منهجيًّا ومعرفيًّا[20]؛ بل هو نظر تفسيري خاصّ، يعكس خصوصية منظور رؤية التفسير الذي اجترحه، كما سيتضح لك ذلك جليًّا فيما يأتي من المقالات النظرية والتطبيقية؛ لذلك تراه عمل على بيان الأعطاب الجوهرية التي تخللت منهج التفسير التراثي ومناهج القراءات[21]الجديدة لنصّ القرآن[22].
3. إنّ التفسير الفلسفي اليعربي تجده يتأسس على عدة نصوص قرآنية في مختلف سياقات التفسير في مصنفاته، إلا أنه لا ينظر إليها وفق سياقاتها النصيّة في القرآن، بل يقدّمها ضمن منظور كلي، يقدم من خلاله علاجًا لمشكلة من المشاكل الإنسانية العويصة في السياق التاريخي المعاصر؛ بالنظر إلى كون القرآن هو الأمل الوحيد المتبقي للإنسانية جمعاء[23]، أو يبرهن من خلاله على عالمية القرآن التي تقتضي راهنيته الدائمة ونحو ذلك[24]، أو يؤسس من خلالها نظرية قرآنية إنسانية[25].
4. إنّ تفسير أبي يعرب المرزوقي للقرآن، تجده يحمل في مختلف تجلياته همّ الإبداع المعاصر، الذي يصل أو يحقق نسبة الأنموذج الأمثل في الوجود الإمكاني، بغضّ النظر عن تعلقه، منهجيًّا كان أو معرفيًّا أو غيرهما؛ لذلك تجده يقدّم الكثير مما هو متداول في سياق ومعهود الفكر والتراث الإسلامي والإنساني تقديمًا غير متداول، تارة باستثمار إشارات وإيماءات نصوص القرآن، وتارة بتأويل استعمالات نصوص القرآن؛ سواء على مستوى المفاهيم أو المفردات والتراكيب ونحو ذلك.
5. إنّ التفسير المعاصر الذي يقدّمه أبو يعرب المرزوقي، فهو وإن سماه فلسفيًّا، إلا أنه لم يعتمد في تأسيسه على «المنقول» أو «المأصول» الفلسفي تراثيًّا كان أو حداثيًّا[26]، بل أسسه وفق فلسفته الخاصّة، التي يستلهم في بناءاتها إشارات وإيماءات نصوص القرآن.
6. إنّ من أهم ما اعتنى بهالتفسير الفلسفي المعاصر للمتن اليعربي، تجد الاهتمام بقضية المفاهيم؛ سواء كانت شرعية نصيّة قرآنية أساسًا، أو كانت تراثية عربية إسلامية، أو كانت متداولة إنسانيًّا عمومًا[27]؛ بحيث إنه يبني دلالاتها وفق المنظور الكلي لاستراتيجية القرآن التوحيدية لأمة الإسلامية بداية وللإنسانية غاية، الذي يسير على هديه[28].
7. إنّ من أهم ما أولاه اجتهاد أبي يعرب المرزوقي التفسيري الفلسفي عناية مخصوصة، تجد الاهتمام بقضية تصحيح المفاهيم المستعملة، خصوصًا تلك المتصلة بالنصّ الشرعي قرآنًا وسنة[29].
8. إنّ التفسير الفلسفي للمتن اليعربي بقدرِ ما كان تأسيسيًّا للعديد من متعلقات النصّ الشرعي، القرآن (تحديدًا) والسنة منهجيًّا ومعرفيًّا، ومما يدل على ذلك تمثيلًا:
أ. تأسيس مفهوم «مقام الخلافة الراشدة للرسول -عليه الصلاة والسلام-».
ب. تأسيس مفهوم «الجمهورية الديموقراطية الشورية القرآنية».
ج. تأسيسمفهوم «الإعجاز النظامي الانتظامي».
د. تأسيس مفهوم «حنيفية الإسلام المحدثة».
هـ. تأسيس مفهوم «تشريع تشريع القرآن»...[30]
تجده أيضًا ينهج إعادة التأصيل لما أسسته النصوص التراثية الإسلامية[31]، من ذلك إعادة تأصيله للأصول والمسائل الآتية على سبيل التمثيل الجزئي، وليس من باب الحصر المستغرق:
أ. إعادة تأصيل دلالات «الحدود الشرعية النصية»[32].
ب. إعادة تأصيل دلالة مفهوم «الضرورات الخمس-المقاصد الشرعية»[33].
ج. إعادة تأصيل حكم «إمامة المرأة»[34].
د. إعادة تأصيل دلالة مفهوم «الجهاد» و«السلف» و«الوسطية» و«السنة والجماعة» ونحو ذلك[35].
فضلًا عن ولع أبي يعرب المرزوقي بـ«التأويل الرمزي»، القائم على إعطاء الكثير مما ورد في نصّ القرآن معاني رمزية، مثل تأويل «رمز نوح» و«رمز سفينة نوح» و«رمز ناقة صالح» و«رمز خطيئة آدم» و «رمز السماوات والأرض» و«رمز الخلفاء الراشدين الأربعة واغتيالهم» ونحو ذلك[36].
خاتمة
إنّ اجتهاد أبي يعرب المرزوقي المتصل بفضاء التفسير الفلسفي المعاصر لنصّ القرآن، يكون به قد فتح إمكانًا من جملة إمكانات أخرى للنظر في النصّ القرآني تفسيرًا، وجاء اجتهاد المتن اليَعرُبي المتعلق بذلك الفضاء مُسَيّجًا على العموم بناء على سالف القول، بناظم كلي، يتفرع إلى فرعين اثنين؛ أولهما: الاهتمام بضرورات الوجود الجمعي للأمة الإسلامية بداية والإنسانية غاية. ثانيهما: العناية بناظم التأسيس وإعادة التأصيل؛ سواء كان المؤسس مطروقًا من قبل أو ليس مطروقًا؛ إذ أبو يعرب المرزوقي يركّز على منهج «الطرق الجديد» وفق ناظمين؛ أولهما: ناظم السياق الجديد بمختلف ما يحتف به. ثانيهما: ناظم الخصوصية المنهجية التي تنتمي إليه، والتي يتوسل بها لتحقيق «الطّرق الجديد».
الكلمات المفتاحية للمقالة
وردت في المقالة الأولى مجموعة من الكلمات-المفاهيم الأساسية، التي هي عبارة عن مفتاح لقراءة نص المقالة، ونذكر أهمها فيما يأتي:
- مفهوم «الفضاء»، ويقصد به: مجمل اجتهادات أبي يعرب المرزوقي النصيّة، التي تتصل بتفسير نصّ من نصوص القرآن؛ سواء بالقصد الأول الأصلي، أو بالقصد التبعي اللاحق.
- مفهوم «أزمنة التأويل»، ويقصد به: كلّ المراحل التاريخية التي تم فيها تفسير وإعادة تفسير نصوص القرآن، منذ أن اكتمل تنجيم نزول القرآن، بانتهاء «زمن النزول» بموته -عليه الصلاة والسلام- وإلى اليوم.
- مفهوم «معنى المعنى»، ويقصد به: المعنى الثاني أو الثالث أو غيرهما من المعاني المتوالية، الذي مهد لبنائه معنى سابق، ثاني أو ثالث أو رابع، وهلمّ جرًّا.
- مفهوم «القطيعة المطلقة»، ويقصد به: أن اللاحق أو المتأخر يقطع كلية مع السابق أو المتقدم على مستوى الزمن، منهجيًّا أو معرفيًّا أو غيرهما.
- مفهوم «المنقول»، ويقصد به: ما يؤخذ من الآخر المخالف في السياق والتاريخ، وفي الغالب ما يتحدد في الفكر الغربي الكلاسيكي والحديث والمعاصر. ويستعمل مفهوم «المترجم» أو «الوافد» أو «المستورد» أو «المقترض» بدلًا عن «المنقول».
- مفهوم «المأصول»، ويقصد به: ما تم تأسيسه في سياق تاريخ الفكر الإسلامي؛ بالنظر إلى علاقة المرحلة المتأخرة بالمتقدمة على مستوى الزمن، أو في علاقة الخلف بالسلف.
- مفهوم «إعادة التأصيل»، ويقصد به: إعادة النظر في النصوص الشرعية المتعلقة بأصل أو مسألة من الأصول أو المسائل النصية، قصد إعادة بنائها دلاليًّا أو حكميًّا من جديد، على الرغم من أن مَن سلف نظر فأصّل.
- مفهوم «الطرق الجديد»، ويقصد به: الوسيلة أو الأداة التي يتم من خلالها تحقيق إعادة التأصيل؛ بوصفها متعلقة بمنهج النظر، حتى فيما أجمع عليه تأصيلًا.
[1] أبو يعرب المرزوقي، فيلسوف ومفكر تونسي، من مواليد 1947 ببنزرت. التخصص المعرفي لأبي يعرب المرزوقي هو «الفلسفة اليونانية والعربية الكلاسيكية والألمانية الحديثة والمعاصرة»، حصل على الإجازة في الفلسفة بتونس، والدراسة المعمقة بالسربون، بموضوع «مفهوم السببية عند الغزالي»، ودكتوراه في الفلسفة بموضوع «منزلة الرياضيات في القول العلمي الأرسطي»، ودكتوراه ثانية في الفلسفة بموضوع «منزلة الكلي في الفلسفة العربية»، وشهادة في القانون من جامعة آساس باريس الرابعة، وشهادة في الفلسفة الألمانية من القصر الصغير باريس الأولى. درس الفلسفة على يدِ مجموعة من الفلاسفة الغربيين؛ سواء في الجامعة التونسية أو في جامعة السربون، منهم مثلًا: الفيلسوف الفرنسي مشيل فوكو [1926-1984]، وبول ريكور [1913-2005]. ودرّس الفلسفة بعد ذلك في جامعات عربية كجامعة تونس الأولى، الفلسفة اليونانية والعربية، وفي جامعات عالمية كالجامعة الإسلامية العالمية-كوالالمبور الماليزية، فلسفة التاريخ وفلسفة الدين، وفي معهد الدوحة، قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الفلسفة السياسية، وفي المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس، الفلسفة العربية. وقد مارس أيضًا العمل السياسي؛ حيث كان عضوًا في الحزب الاشتراكي الدستوري بزعامة بورقيبة سابقًا، وفي حزب النهضة التونسي أيضًا، إلا أنه استقال منهما كليّة؛ ليمارس مهمة النقد والتقويم من خارجهما. والناظم العام الذي ينتظم فلسفة أبي يعرب المرزوقي أنها لم تناصب الدين العداء، بل تتفيؤ ظلاله. لذلك، تجد اجتهاد أبي يعرب المرزوقي لا يخلو من الاستناد تصريحًا أو تلميحًا على النصّ القرآني والسنة النبوية، فضلًا عن السيرة النبوية وعموم التراث الإسلامي والإنساني دينيًّا أو غيره. وقد تأثر أبو يعرب المرزوقي كثيرًا بابن تيمية [ت: 728] وابن خلدون [ت: 808]. المواضيع التي يتناولها أبو يعرب المرزوقي -خصوصًا في العقدين الماضيين- لا تقتصر على الفلسفة المنقولة؛ بل يمهد لتأسيس نسق فلسفي خاصّ به، وإن خالف به الفلاسفة قديمًا وحديثًا، بل تجده يؤسس نظريًّا وعمليًّا لمواضيع أخرى غير الفلسفية، وإن كانت بنفحة فلسفة، من ذلك: التفسير الفلسفي المعاصر لنصّ القرآن، الذي سنعرضه في هذه المقالات تباعًا.
[2] سواء كان التعريف يتعلق بالمسائل المنهجية أو المعرفية.
[3] الجلي في التفسير، استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية، ج1، مقومات الاستراتيجية والسياسة المحمدية، أبو يعرب المرزوقي، تونس، الدار المتوسطية للنشر، 2010، ص193.
[4] أمارة ذلك، كثرة الكتابات واللقاءات المتعلقة رأسًا بالقرآن؛ سواء من منظور الفكر الإسلامي أو الغربي أو مناظير أخرى.
[5] تلك من بين أهمّ المحاور الأساسية التي يتأسّس عليها الاجتهاد التفسيري الفلسفي المعاصر لأبي يعرب المرزوقي، كما يتضح لك جليًّا في لاحق المقالات، خصوصًا المقالات المتعلّقة بالتعريف بالقرآن.
[6] انبثق نتيجة ذلك تيار أهل القراءات الجديدة أو المعاصرة أو الحداثية للنصّ القرآني، من المفكرين المعاصرين من فضاءات معرفية وعلمية مختلفة. وكلّ قراءة غلّبت مقاربة معينة أو أكثر، فمثلًا محمد أركون غلّب القراءة السيميائية الألسنية، ومحمد عابد الجابري [1936-2010] ونصر حامد أبو زيد [1943-2010] ويوسف صديق [ولد سنة: 1943] غلّبوا القراءة التاريخية، أو قل: التاريخانية، ومحمد شحرور [ولد سنة: 1938] وعدنان الرفاعي [ولد سنة: 1939] وعلي منصور الكيالي [ولد سنة: 1953] غلّبوا القراءة الإعجازية، وهكذا عموم ما بقي. أما أهل العلماء من أهل العلوم الشرعية فقد ساروا في الغالب على منهج التفسير التراثي.
[7] من باب تثوير النصّ، ما دام أنه لا يخلَقُ على كثرة الرّد، ولا تنقضي عجائبه في مختلف أزمنة التأويل.
[8] تلك من بين أهمّ المحاور الأساسية التي يتأسّس عليها الاجتهاد التفسيري الفلسفي المعاصر لأبي يعرب المرزوقي، كما يتضح لك جليًّا في لاحقِ المقالات الآتية.
[9]- «الجليّ في التفسير، استراتيجية القرآن التّوحيدية ومنطق السياسة المحمدية»، الجزء الأول: «مقوّمات الاستراتيجية والسياسة المحمدية»، الجزء الثاني: «الثمرات المعرفية، نظرية غايات الفعل الاستراتيجي والسياسي وأدواتهما»، الجزء الثالث: «الثمرات الوجودية، الحصانة الروحية ودور النّخب».
[10] يتردد مفهوم «التفسير الفلسفي» في كثير من مصنفات أبي يعرب المرزوقي، منها على سبيل المثال: الجلي في التفسير استراتيجية القرآن التّوحيدية ومنطق السياسة المحمدية، ج1، مقوّمات الاستراتيجية والسياسة المحمدية، ص 9، 190؛ والجلي في التفسير استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية، ج2، الثمرات المعرفية نظرية غايات الفعل الاستراتيجي والسياسي وأدواتهما، تونس، الدار المتوسطية للنشر، ط2010، ص129؛ وفلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي، بيروت، لبنان، دار الهادي، ط1، 2006، ص 302.
[11] مع العلم بإمكان خضوعها لمنهج التصنيف ضمن مواضيع فكرية عامة أو خاصة، كما سنرى بعض ذلك في المقالات اللاحقة.
[12] من مصنفات أبي يعرب المرزوقي التي تدرج ضمن هذا الفضاء نذكر: تجليات الفلسفة العربية منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي، والعلاقة بين السلطان الروحي والسلطان السياسي عند ابن خلدون، والاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر، ومفهوم السببية عند الغزالي، وتحقيق كتاب شفاء السائل لتهذيب المسائل لابن خلدون.
[13] أغلب مصنفات المرزوقي تدرج ضمن هذا الفضاء، ومنها: شروط نهضة العرب والمسلمين، وفي وحدة الفكرين الديني والفلسفي، والوعي العربي في قضايا الأمة، وآفاق النهضة العربية، وأشياء من النقد والترجمة، وتحديات وفرص، والنخب العربية وعطالة الإبداع في منظور الفلسفة القرآنية.
[14] من مصنفاته في هذا الفضاء نذكر: إصلاح العقل في الفلسفة العربية من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى اسمية ابن تيمية وابن خلدون، وإبستمولوجيا أرسطو من خلال منزلة الرياضيات في علمه، والإبستمولوجيا البديل محاولة في فقه العلم ومراسمه.
[15] الفضاء الأخير هو موضوع المقالات الآتية، إلا أن نصّ القرآن كان حاضرًا في مختلف مجالات بحث أبي يعرب المرزوقي، وإن كان مجال البحث يتصل بمواضيع يظنها أهل بادي الرأي لا تتصل بالقرآن، كموضوع السياسة والاقتصاد ونحوهما. ومن مصنفاته التي تدرج ضمن هذا الفضاء نذكر: الجلي في التفسير بأجزائه الثلاثة، وفلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي، وفي العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني، وحرية الضمير والمعتقد في القرآن والسنة، والثورة القرآنية وأزمة التعليم الديني.
[16] بالإضافة إلى فضاء الترجمة، ومن مصنفاته فيه نورد: الفلسفة الألمانية- هنس زند كولر، 3ج، وتكوينية الوعي الإنساني والديني من دروس فلسفة الدين لهيجل، ومصادر الفلسفة العربية- هوسرل، وبسيط المنطق الحديث- كواين، وأفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهرياتية- إدموند هوسرل.
[17] هذه هي أهم المناظير الكلية، التي تحكم كلية اجتهادات أبي يعرب المرزوقي في مختلف الفضاءات التي صنف فيها، وبالتحديد فضاء تفسير النصّ القرآني.
[18] من أهم ما يشدّد عليه أبو يعرب المرزوقي أن يكون «الإبداع» في أي مجال معرفي رهين منطق التفكير الخاضع للقوانين الموضوعية المجردة النسقية، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال «آلية الاجتهاد المؤسسي-الإجماعي». انظر: دلالة مفهوم «الاجتهاد» في لاحق المقالات.
[19] بل إنّ أبا يعرب المرزوقي تجده يعتد باجتهاداته الشخصية، فيبدع مناظير خاصّة به، ويخالف بها كبار العلماء والفلاسفة والمفكرين عربيًّا وإسلاميًّا وغربيًّا؛ لذلك تجده في كثير من السياق قد اعتمد لتحقيق ذلك ناظم «القطيعة المطلقة»، مع بعض فروع النظام المعرفي التراثي والمعاصر على حدٍّ سواء، كما سيظهر لاحقًا. بالنظر إلى أنَّ كلّ قراءة من منظور أبي يعرب المرزوقي تعدّ حدثًا جديدًا. تحديات وفرص محاورات في أحوال الفكر والسياسة عند العرب والمسلمين، أبو يعرب المرزوقي، دمشق، سوريا، دار فرقد، ط1، 2008، ص108، 110، والجلي في التفسير، ج1، أبو يعرب المرزوقي، ص228. للتفصيل أكثر، انظر المقالة الرابعة الآتية.
[20] مثل مسلك محمد أركون [1928-2010]، أو محمد عابد الجابري، أو محمد شحرور، أو نصر حامد أبو زيد، أو عدنان الرفاعي، أو عبد الكريم شروس [ولد سنة: 1945] أو غيرهم.
[21]مفهوم «القراءة» المستعمل في هذا السياق، تتقاطع دلالته مع دلالة مفهوم «التفسير» و«التأويل» و«الفهم» ولا تتطابق، ولا علاقة لها ألبتة بـ«كيفيات التلفظ بآيات القرآن الحكيم»؛ أي «القراءات» بالمعنى التراثي في مصنفات السنة النبوية والتفسير وعلوم القرآن.
[22] تتولى مقالة آتية تفصيل الأعطاب الأساسية أو الكلية التي تخللت منهج التفسير التراثي ومناهج القراءات الحداثية.
[23] فمن خلال الآية الأولى من سورة النساء تناول معالجة داء الفرقة وتأسيس لبنات التلاحم بين الناس. والآية 35 من سورة الشورى قد عالج من خلالها آفة الاستبداد أو الطغيان الطاغوتي، وتأسيس سلطان الشورى الجماعي الإجماعي المعصوم، كما نرى تفصيل ذلك في المقالات الآتية.
[24] فمن خلال آيتي 105، 106 من سورة الإسراء أبطل القول بتاريخية نصّ القرآن، وأسس القول بتعالي وإطلاق دلالات وأحكام نصّ القرآن.
[25] نحو ما أسسه في تفسيره لقصة يوسف -عليه السلام- في سورة يوسف، كما نذكر ذلك في حينه.
[26] مفهوم «المأصول» و«المنقول» من المفاهيم الطهائية -نسبة إلى طه عبد الرحمن [ولد سنة: 1944]-، الذي أسسهما مع غيرهما من المفاهيم في مختلف مصنفاته التأسيسية، ومن ذلك: روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، طه عبد الرحمن، الدار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي، ط1، 2006، ص13، 14، وتجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن، الدار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي، ط2، 2005، ص270.
[27] نخصص لقضية المفاهيم المستعملة في المتن اليعربي بمتجلياتها الثلاثة خمسَ مقالات من مقالات هذه السلسة.
[28] نتناول تفصيلًا مفهوم «إستراتيجية القرآن التوحيدية» في مقالة آتية مستقلّة.
[29] من ذلك ما سماه بـ«وهَم العلم اللدني»، و«وهم وراثة النبي -صلى الله عليه وسلم- مطلقًا»، و«وهم عصمة الاجتهاد عن الخطأ» ونحو ذلك. ونفصل القول في هذه «الأوهام الاعتبارية» من منظور أبي يعرب المرزوقي في المقالات الآتية.
[30] نخصص لهذه التأسيسات مقالات أو فصولًا خاصّة لتناولها تفصيلًا من منظور التأسيس اليعربي.
[31] أو حسب تسمية مشروع محمد أركون بـ«العقل الإسلامي»، أو حسب تسمية مشروع محمد عابد الجابري «العقل العربي».
[32] انظر مثلًا إعادة تأصيله لـ«حد الردة»، القائم على أن لا عقوبة على المرتد في الدنيا، وأن العقوبة لا تتعلق بالمرتد، بل بالرّاد؛ في: الجلي في التفسير، ج1، أبو يعرب المرزوقي، ص149، 150، 293، 294، وأيضًا: «حد السرقة» و«الحرابة» و«الرجم»؛ الجلي في التفسير، ج3، أبو يعرب المرزوقي، ص186.
[33] فبعد أن نفى أبو يعرب المرزوقي بدواعي عديدة جدوى «نظرية المقاصد»، كما سنبيّن دواعي منظوره لاحقًا اجتهد في سبيل تحديد دلالة مفهوم «المقاصد الضرورية» أو «الضروريات الخمس» -علمًا أن جوهر «نظرية المقاصد» هو «الضروريات الخمس» وفق التأصيل التراثي السائد-، فاعتبرها عبارة عن الأصول الأساسية للدين الكلي، التي تبيّن الصفات الخمس الجوهرية للإله؛ من حيث هو مثال الإنسان الأعلى بأبعاده النظرية والعملية، والتي تتساوى فيها المرأة مع الرجل، وهي حقوق طبيعية تمثل من المنظور الفلسفي الواجبات الروحية، وهي: أ. «مقصد العقل» (ويقابل حقوق حرية الفكر)، وهو شرط التكليف، أو حرية الفكر الحر باعتباره شرطًا في المسؤولية، أو هو مصدر المعرفة النظرية والعملية وشروطهما وأدواتهما. ب. «مقصد المال» (ويقابل حقوق حرية الملكية)، وهو شرط في القدرة على التعاون التعاوني، أو حق الملكية باعتباره شرطًا ماديًّا للوجود المستقل، أو الشروط المادية لقيام الشخص واستقلاله، أو الوسائل التي تنتج عن تطبيقها المعرفة النظرية. ج. «مقصد العرض» (ويقابل الحرية الخُلقية)، وهو شرط الكرامة أو حق الإرادة الحرة باعتباره شرطًا خلقيًّا للوجود المستقل، أو هو الشروط الخلقية لكرامة الشخص، كرامته التي ينتجها تطبيق المعرفة العلمية ويحميها بالتربية والتنشئة السوية. د. «مقصد الدين» (يقابل حرية العقيدة)، وهو شرط التعالي عن الفاني، أو حق المعتقد باعتباره شرطًا في الاستقلال الوجودي، أو هو الحياة السامية التي تستند إلى العبادة، من حيث هي نتاج المعرفة النظرية والعملية لآيات الخلق لا بديلًا منها. هـ. «مقصد النفس» التي تتصف بتلك الصفات السابقة عقلًا ومالًا وعرضًا ودينًا (يقابل كرامة النفس البشرية)، وهو شرط المنعة أو حق الحياة باعتباره شرطًا في قدسيتها؛ بوصفها الحامل للصفات السابقة وغاية الحقوق، أو هو إتمام المقاصد السابقة؛ من حيث هي شروط الحياة الروحية التي تقتضي الممارسة التامة للاجتهاد والجهاد. تحديات وفرص، أبو يعرب المرزوقي، ص90، 175، 176، 206، 207، 220، والنخب العربية وعطالة الإبداع في منظور الفلسفة القرآنية، أبو يعرب المرزوقي، تونس، الدار المتوسطية للنشر، ط1، 2007، ص206.
[34] انظر تصوره في إمامة المرأة بالمعنى الديني في: النخب العربية وعطالة الإبداع في منظور الفلسفة القرآنية، أبو يعرب المرزوقي، ص44.
[35] يتم تناول دلالات هذه المفاهيم بالتفصيل في المقالات الآتية؛ إما بشكل مستقل، أو مدرج مع غيرها في سياقات التفسير الفلسفي المعاصر لأبي يعرب المرزوقي.
[36] نتناول ما يتعلق بذلك تفصيلًا في مقالات «التأويل».
مواد تهمك
- سلسلة التفسير الفلسفي للقرآن (3): «التفسير الفلسفي» لنصّ القرآن عند المرزوقي، الدلالة والمفهوم
- التفسير الفلسفي للقرآن (6)، تفسير آيتي سورة الإسراء، من منظور التفسير الفلسفي المعاصر لأبي يعرب المرزوقي
- سلسة التفسير الفلسفي للقرآن (2): «التفسير الفلسفي للقرآن» بين تاريخ الفكر الإسلامي وتأسيس المرزوقي
- التفسير الفلسفي للقرآن (4) منهج التفسير الفلسفي عند أبي يعرب المرزوقي؛ الضوابط والأبعاد
- التفسير الفلسفي للقرآن (5)؛ المداخل المنهجية الرئيسة لتفسير القرآن في التراث التفسيري، وموقف المرزوقي منها
- في إمكان توظيف الإبستمولوجيا المعاصرة لفهم القرآن