الطبري وبيان معاني الأسماء الحسنى في سياقاتها القرآنية
ثانيًا: الأسماء الحسنى المقترنة
ثانيًا: الأسماء الحسنى المقترنة
مقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-، أما بعد؛
فقد تعرَّضتُ في مقالٍ سابقٍ لبيانِ مسلك الإمام ابن جرير الطبري في بيان معاني أسماء الله الحسنى في سياقاتها القرآنية إجمالًا[1]، ثم تعرَّضتُ لنماذج من تفسيره الأسماء الحسنى المفردة التي لا يقارنها غيرها، وفي هذا المقال سوف أتناول -إن شاء الله- مسلك الطبري في التعامل مع الأسماء الحسنى المقترنة، مع طرح نماذج تطبيقية من تفسيره.
ويَحْسُنُ قبل الشروع في ذلك التوطئةُ للأسماء المقترنة ببيانِ معناها ونظرةِ العلماء -إجمالًا- إليها.
توطئة حول الأسماء المقترنة:
أولًا: المراد بالأسماء المقترنة:
(المُقترِنة) اسم فاعل من: (اقترن)، والاقتران ضدّ الانفراد؛ يُقال: (مقترنِين) وهو ضد فُرادَى[2].
وأصل الاقتران: المصاحبة؛ قال ابن منظور: «وقارَنَ الشيءُ الشيءَ مقارنةً وقِرانًا: اقترن به وصاحَبَه. واقترن الشيء بغيره وقارنته قِرانًا: صاحبته، ومنه قران الكوكب... وقرنت البعيرين أَقْرُنُهما قَرْنًا: جمعتهما في حبل واحد»[3].
وعلى هذا، فالأسماء المقترنة: هي التي جاءت في سياق واحد.
وقد يتبادر من إطلاق كلمة (الأسماء المقترنة) الاقتران الالتصاقي؛ كقوله تعالى: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209]، {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]، {الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14]، وليس ذلك هو المقصود فحسب، بل هو جزء منه؛ فالاقتران يشمل -أيضًا- ورود الاسمين في نفس السياق، وإن فُصِل بينهما؛ كقوله تعالى: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7]، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98].
ثانيًا: الأسماء المقترنة والأسماء المزدوجة:
لا يدخل في الأسماء المقترنة ما يُعرف بالأسماء المزدوجة؛ كالضارّ النافع، والمعطي المانع، التي لا يجوز إطلاقها إلا مقترِنة، إلا إذا جاءت في نفس السياق القرآني؛ فهي على حدّ الأسماء المقترنة المرادة هنا[4].
ثالثًا: العلاقة بين الأسماء المقترنة:
إذا نظرنا في العلاقة بين الاسمين المقترنين في القرآن الكريم فسنجد أنهما قد يكونان متقاربَيْنِ في المعنى والدلالة، وقد يكونان متباعدَيْنِ.
والمراد بالتقارب في المعنى، مثل: الرؤوف الرحيم، الغفور الرحيم، ذو القوة المتين. وبالتقارب في الدلالة، نحو: السميع البصير؛ فمع تباعدهما في المعنى إلا أنهما يشتركان في نفس الدلالة على العلم، وينفرد كلّ منهما بدلالة خاصّة. أما التباعد في المعنى، فنحو: الحكيم الخبير.
رابعًا: الأسماء المقترنة ومسالك العلماء إزاءها:
إنّ الناظر في كلام أهل العلم في معاني الأسماء الحسنى -لا سيما المقترنة المتقاربة دلالةً ومعنًى- في سياقاتها القرآنية يلحظ أن مسالكهم تختلف؛ فمنهم من يميل إلى أنهما بمعنى واحد وأن الاقتران للتوكيد، ومنهم من يغاير بينهما ولا ينحو للقول باتحاد المعنى بين الاسمين[5].
يقول أبو حيَّان مبينًا اختلاف هذه المسالك: «الرحمن الرحيم، قيل: دلالتهما واحد، نحو: ندمان ونديم، وقيل: معناهما مختلف، فالرحمن أكثر مبالغة، وكان القياس الترقي، كما تقول: عالم نحرير، وشجاع باسل، لكن أردف (الرحمن) الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بـ(الرحيم) ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دقّ منها ولطف، واختاره الزمخشري.
وقيل: (الرحيم) أكثر مبالغة. والذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة؛ فلذلك جمع بينهما، فلا يكون من باب التوكيد، فمبالغة (فَعْلان) مثل غضبان وسكران من حيث الامتلاء والغلبة، ومبالغة (فَعِيل) من حيث التكرار والوقوع بمحالّ الرحمة؛ ولذلك لا يتعدى فَعْلان، ويتعدى فَعِيل. تقول: زيدٌ رحيم المساكين، كما تعدى فاعلًا، قالوا: زيد حفيظ علمك وعلم غيرك، حكاه ابن سِيده عن العرب.
ومن رأى أنهما بمعنى واحد، ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر، احتاج أنه يخصّ كلّ واحد بشيء، وإن كان أصل الموضوع عنده واحدًا ليخرج بذلك عن التأكيد، فقال مجاهد: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة»[6].
الطبري، والأسماء المقترنة:
ذكرنا أن الاسمين المقترنين في القرآن الكريم قد يكونان متقاربين في المعنى والدلالة، وقد يكونان متباعدين، وسنستعرض تناول الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- للأسماء المقترنة في سياقاتها القرآنية من خلال عرض أمثلة لتناوله لها حال كون الاسمين متقاربَيْنِ، وأمثلة أخرى في الاسمين المتباعدَيْنِ؛ حتى يتجلَّى صنيعه -رحمه الله-، وكيفية تناوله لهذه الأسماء.
وقد يرى الناظر أن الإمام الطبري لم يفرّق كثيرًا بين هذين النوعين، وأن طريقه فيهما متقارب، إلا أن لهذا التقسيم فوائد، منها:
1. أنّ منهجه في الأسماء المقترنة المتباعدة معنى أو دلالة أوضح، ولا يكاد يوجد فيه استثناء، بخلاف منهجه في الأسماء المقترنة المتقاربة كما سيظهر معَنَا.
2. التيسير على الباحث إذا أراد أن يوازن بين منهج الإمام الطبري وغيره من أهل العلم؛ فلا بد أن تتناول الموازنة النوعين.
وسوف نقوم بعرض نماذج من تطبيقات الطبري لكلّ نوع، ثم نتبعها بتعليق وتحليل يبرز مسلك الإمام إزاءها[7].
أولًا: نماذج من تفسير الطبري لاسمين متقاربين في المعنى والدلالة:
1. العليم الخبير:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
قال الطبري: «{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، يقول: إنّ الذي يعلم ذلك كلّه هو الله دون كلّ أحد سواه، إنه ذو علم بكلّ شيء، لا يخفى عليه شيء، خبير بما هو كائن، وما قد كان»[8].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
قال الطبري: «وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، يقول -تعالى ذكره-: إنّ الله -أيها الناس- ذو علم بأتقاكم عند الله وأكرمكم عنده، ذو خبرة بكم وبمصالحكم، وغير ذلك من أموركم، لا تخفى عليه خافية»[9].
وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
قال الطبري: «يعني -جلّ ثناؤه-: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بما أراد الحَكَمان مِن إصلاحٍ بين الزوجين وغيره، {خَبِيرًا} بذلك وبغيره من أمورهما وأمور غيرهما، لا يخفى عليه شيء منه، حافظ عليهم؛ حتى يجازي كلًّا منهم جزاءه، بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة غفرانًا أو عقابًا»[10].
التعقيب:
1. يظهر من استقراء هذه المواضع أن الإمام الطبري -رحمه الله- يفسر الاسم مراعيًا دلالة السياق، وإن كان تفسيره أخصّ من معنى الاسم، وقد سبق تقرير ذلك في المقالة السابقة.
2. لم يجمع -رحمه الله- الاسمين على نفس التفسير؛ كأن يقول: والله عليمٌ خبيرٌ بحالِ الزوجين، بل جعل العِلْمَ متعلقًا بما أراد الحَكَمان من إصلاح أو غيره، والخبرةَ متعلقةً بأحوال الزوجين عمومًا، مع تضمينه الإشارة إلى المجازاة كنتيجة لخبرته -تعالى- بخفايا خلجات النفوس؛ فهو يُجازي بالإحسان إحسانًا وبالسيئات غفرانًا أو عقابًا، وهذه دقة بالغة منه -رحمه الله-[11].
وفي آية لقمان: اسم (العليم) تناول المغيبات المذكورة، واسم (الخبير) تناول ما هو كائن عمومًا وما قد كان.
3. لم ينصّ -رحمه الله- على معنى زائدٍ تحصَّل من مجموع الاسمين، إلا أنه في الآية الأخيرة أشار إلى أنّ كلّ اسم يتناول قدرًا غير ما يتناوله الآخر، إيضاحه: أنه لو كان اسمًا واحدًا كالعليم لتناول علمه بإرادة الحَكَمَيْنِ الإصلاح أو غيره، وتناول أحوال الزوجين، لكن تقصر دلالته عن دلالة الاسمين.
2. السميع العليم:
قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
قال الطبري: «وتأويل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا، من طاعتك في بناء بيتك الذي أمَرْتَنا ببنائه -العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة، والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا»[12].
وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224].
قال الطبري: «يعني -تعالى ذكره- بذلك: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما يقوله الحالف منكم بالله إذا حلف فقال: واللهِ لا أبرّ ولا أتقي ولا أُصلح بين الناس، ولغير ذلك من قِيلكم وأَيْمَانكم، {عَلِيمٌ} بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك، ألخير تريدون أم غيره؟ لأني علام الغيوب وما تُضمره الصدور، لا تخفى عليَّ خافية، ولا يَنْكَتِم عنّي أمرٌ عُلِنَ فظهَر، أو خَفِيَ فبطَن.
وهذا من الله -تعالى ذكره- تهدّد ووعيد. يقول -تعالى ذكره-: واتقونِ أيها الناس أن تُظهروا بألسنتكم من القول، أو بأبدانكم من الفعل، ما نهيتكم عنه، أو تُضمروا في أنفسكم وتَعزموا بقلوبكم من الإرادات والنيّات بفعل ما زجرتكم عنه، فتستحقوا بذلك مني العقوبة التي قد عرَّفْتُكُموها؛ فإني مطّلع على جميع ما تُعلنونه أو تُسرونه»[13].
وقال تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227].
قال الطبري: «{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} فطلقوهن، {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لطلاقهم إذا طلقوا، {عَلِيمٌ} بما أتوا إليهن.
وإنما قلنا ذلك أشبه بتأويل الآية؛ لأن الله -تعالى ذكره- ذكر حين قال: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، ومعلوم أن انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع، وإنما هو معلوم، فلو كان (عَزْم الطلاق) انقضاء الأشهر الأربعة لم تكن الآية مختومة بذكر الله الخبر عن الله -تعالى ذكره- أنه {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}»[14].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 244].
قال الطبري: «ثم قال -تعالى ذكره- لهم: {وَاعْلَمُوا} أيها المؤمنون، أن ربكم {سَمِيعٌ} لقول من يقول من منافقيكم لمن قُتل منكم في سبيلي: لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قُتِلوا، {عَلِيمٌ} بما تُجِنُّه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي.
يقول -تعالى ذكره- لعباده المؤمنين: فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي، وغير ذلك من أمري ونهيي؛ إذ كفر هؤلاء نِعَمِي. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لقولهم، و{عَلِيمٌ} بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، محيطٌ بذلك كلّه؛ حتى أجازي كُلًّا بعمله، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا»[15].
وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 98].
قال الطبري: «{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}، يقول: جعل الله دائرةَ السوء عليهم، ونزولَ المكروه بهم لا عليكم أيها المؤمنون، ولا بكم، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لدعاء الداعين، {عَلِيمٌ} بتدبيرهم وما هو بهم نازل من عقاب الله، وما هم إليه صائرون من أليم عقابه»[16].
التعقيب:
1. يظهر من العرض السابق أنه في كلّ مرة يلتزم المغايرة بين دلالة الاسمين مغايرة تامّة؛ فقد وجه كلّ اسم إلى متعَلَّقٍ مختلف.
2. في هذه الأمثلة لم يظهر لي أن الإمام الطبري ذكر معنى زائدًا دلّ عليه مجموع الاسمين، إلا أنه عاملَ كلَّ اسم على أنه اسم مفرد في القَدْرِ الذي خصّه بتناوله؛ فتناول كلّ اسمٍ قدرًا مختلفًا من الدلالة هو بها أليق.
3. يلاحظ حرص الإمام الطبري على توجيه الموعظة الناشئة عن تدبر الاسمين؛ كما في آية [البقرة: 224][17]، و[التوبة: 98][18].
4. يلاحظ دقّة الإمام الطبري في الترجيح بين الأقوال في الآية من دلالة اسم (السميع)، قال: «ومعلوم أن انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع، وإنما هو معلوم، فلو كان (عَزْم الطلاق) انقضاء الأشهر الأربعة لم تكن الآية مختومة بذكر الله الخبر عن الله -تعالى ذكره- أنه {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}».
3. الرؤُوف الرحيم:
قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
قال الطبري: «ويعني بقوله -جلّ ثناؤه-: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}: أن الله بجميع عباده ذو رأفة، و(الرأفة) أعلى معاني الرحمة، وهي عامّة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة.
وأما (الرحيم): فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، على ما قد بينَّا فيما مضى قبلُ»[19].
وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117].
قال الطبري: «{إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، يقول: إنّ ربكم بالذين خالط قلوبهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدة والمشقة {رَؤُوفٌ} بهم، {رَحِيمٌ} أن يهلكهم، فينزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلَوْا في الله ما أبلَوْا مع رسوله، وصبروا عليه من البأساء والضراء»[20].
وقال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7].
قال الطبري: «وقوله: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، يقول -تعالى ذكره-: إنّ ربكم -أيها الناس- ذو رأفة بكم ورحمة، من رحمته بكم خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم، وخلق السموات والأرض أدلّة لكم على وحدانية ربكم ومعرفة إلهكم؛ لتشكروه على نعمه عليكم، فيزيدكم من فضله»[21].
قال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 45 - 47].
قال الطبري: «وقوله: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، يقول: فإنَّ ربكم إنْ لم يأخذ هؤلاء الذين مكروا السيئات بعذاب معجّل لهم، وأخذهم بموت وتنقص بعضهم في أثر بعض، لرؤوف بخلقه، رحيم بهم، ومن رأفته ورحمته بهم لم يخسف بهم الأرض، ولم يعجّل لهم العذاب، ولكن يخوفهم وينقصهم بموت»[22].
ويُلحظ هنا: أن الإمام الطبري جعل متعلق الاسمين واحدًا، خلافًا لمعهود طريقته.
ويُمكن أن يُقال: لمَّا فسَّر -رحمه الله- السيئات بالشرك[23] كان اسمه -تعالى- الرؤوف؛ لأنه يشمل المسلم والكافر، وهو دالّ على أعلى الرحمة؛ فكأنَّ رحمة عظيمة حجبت عنهم ما استحقّوه من العذاب بشركهم بالله، ويكون قوله: {رَحِيمٌ} دعوةً إلى الإيمان؛ فقد رأف بكم فلم يعذبكم، ورحم من رحم منكم فهداه بعدها إلى الإيمان.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 9].
قال الطبري: «وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، يقول -تعالى ذكره-: وإنّ الله بإنزاله على عبده ما أنزل عليه من الآيات البينات لهدايتكم، وتبصيركم الرشاد، لذو رأفة بكم ورحمة، فمن رأفته ورحمته بكم فعل ذلك»[24].
ويلحظ هنا أيضًا: أنّ الإمام الطبري جعل متعلقَ الاسمين واحدًا، خلافًا لمعهود طريقته.
ويمكن أن يقال -على معهود طريقته-: تعلق اسم الرؤوف بالتبصير، واسم الرحيم بالهداية والإخراج من الظلمات إلى النور؛ إذ الأول رحمة عامّة، والثاني رحمة بالمؤمنين.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
قال الطبري: «قوله: {إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، يقول: إنك ذو رأفة بخلقك، وذو رحمة بمن تاب واستغفر من ذنوبه»[25].
التعقيب:
1. اعتنى -رحمه الله- بذكر المعنى العام لاسم (الرؤوف) في أول موضع؛ حيث قال: «و(الرأفة) أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة»، وقدّمنا في المقال الأول أن هذا مطَّرِد في منهجه في تفسير الأسماء.
2. جعل -رحمه الله- في آية النحل والحديد متعلق الرأفة والرحمة واحدًا، كما نبَّهْنا عليه في موضعه خلافًا لمعهوده، وقد ذكرتُ ثَمَّ توجيهًا لذلك.
3. في سائر المواضع التزم -رحمه الله- طريقته في قسمة دلالة الاسمين على ما جاء في الآية.
4. العلي العظيم:
قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
قال الطبري: «وأما تأويل قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} فإنه يعني: واللهُ العليّ.
والعليّ: (الفعيل)، من قولك: عَلَا يعلو علوًّا، إذا ارتفع، فهو عالٍ وعَلِيّ، و(العليّ) ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته.
وكذلك قوله: (العظيم): ذو العظمة، الذي كلّ شيء دونه، فلا شيء أعظم منه. كما... عن ابن عباس: (العظيم): الذي قد كمل في عظمته»[26].
وقال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4].
قال الطبري: «{وَهُوَ الْعَلِيُّ}، يقول: وهو ذو علوّ وارتفاع على كلّ شيء، والأشياء كلها دونه؛ لأنهم في سلطانه، جارية عليهم قدرته، ماضية فيهم مشيئته، {العَظِيمُ} الذي له العظمة والكبرياء والجبرية»[27].
التعقيب:
1. في آية الكرسي؛ استفاض -رحمه الله- في بيان معنى (العليّ)، و(العظيم)؛ لأنه أول موضع لورود هذين الاسمين الشريفين.
2. تناوَل -رحمه الله- مسألتين عقَديتين متعلقتين بالاسمين في هذا الموضع.
3. ربطَ -رحمه الله- بين تفسيره لاسم الله العظيم، وبين ما جاء عن ابن عباس في ذلك، وهذا قد يكون مفيدًا في بيان طريقه -رحمه الله- في استمداد معاني الأسماء، وإن كان غرضه تقرير العظمة لا تفسير اسم العظيم، كما قدَّمْتُ.
4. اكتفى الإمام الطبري بتعريف الاسمين دون أن يوزع دلالتهما على الآية، أو يجعل متعلقيهما واحدًا.
ثانيًا: نماذج من تفسيره اسمين مختلفين في المعنى والدلالة:
1. الحكيم الخبير:
قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].
قال الطبري: «يعني -تعالى ذكره- بقوله: {وَهُوَ} نفْسَه، يقول: والله الظاهر فوق عباده، ويعني بقوله: {الْقَاهِرُ} المذلِّل المستعبِد خلقَهُ، العالي عليهم. وإنما قال: {فَوْقَ عِبَادِهِ}؛ لأنه وصف نفسه -تعالى ذكره- بقهره إياهم، ومن صفة كلّ قاهرٍ شيئًا أن يكون مستعليًا عليه.
فمعنى الكلام إذًا: والله الغالب عباده، المذلِّلهم، العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم، فهو فوقهم بقهره إياهم، وهم دونه، {وَهُوَ الْحَكِيمُ}، يقول: والله الحكيم في علوِّه على عباده، وقهره إياهم بقدرته، وفي سائر تدبيره، {الْخَبِيرُ} بمصالح الأشياء ومضارِّها، الذي لا يخفى عليه عواقب الأمور وبواديها، ولا يقع في تدبيره خلل، ولا يدخل حكمه دَخَل»[28].
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73].
قال الطبري: «ويعني بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، عالم ما تعاينون أيها الناس، فتشاهدونه، وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه، {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم، ثم من حال العدم والفناء إلى الوجود، ثم في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثواب أو عقاب، {الْخَبِيرُ} بكلّ ما يعملونه ويكسبونه من حَسَن وسيئ، حافظ ذلك عليهم ليجازيهم على كلّ ذلك. يقول -تعالى ذكره-: فاحذروا -أيها العادلون بربكم- عقابَه؛ فإنه عليم بكلّ ما تأتون وتذَرُون، وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعملون»[29].
وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].
قال الطبري: «وَهُوَ الْحَكِيمُ في تدبيره خلقه وصرفه إياهم في تقديره، خَبِيرٌ بهم وبما يصلحهم، وبما عملوا وما هم عاملون، محيط بجميع ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذِكر مَن قال ذلك:... عن قتادة: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}: حكيم في أمره، خبير بخلقه»[30].
التعقيب:
1. يظهر توزيع الطبري -رحمه الله- دلالة الاسمين على الآية، وجعل متعلقيهما مختلفين، وقد سبق التنبيه على هذا، لكنه أكثر وضوحًا في الأسماء المختلفة المعنى والدلالة عن الأسماء المتشابهة في المعنى والدلالة.
2. ظهر في الموضع الثاني ما نبهتُ عليه آنفًا في استعماله الموعظة أخذًا من ختم الآية بأسماء الله.
3. ظهر في الموضع الأخير مأخذ الطبري في تفسير الاسمين أو أحد مآخذه، وهو قول قتادة[31].
2. اللطيف الخبير:
قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].
قال الطبري: «وأما قوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، فإنه يقول: والله -تعالى ذكره- المتيسر له من إدراك الأبصار، والمتأتي له من الإحاطة بها رؤية ما يعسر على الأبصار من إدراكها إياه وإحاطتها به ويتعذر عليها، {الْخَبِيرُ}، يقول: العليم بخلقِهِ وأبصارِهم والسببِ الذي له تعذّر عليها إدراكه، فلطف بقدرته فهيَّأ أبصار خلقه هيئة لا تدركه، وخبَرَ بعلمه كيف تدبيرها وشؤونها وما هو أصلح بخلقه،... عن أبي العالية في قوله: {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، قال: {اللَّطِيفُ} باستخراجها، {الْخَبِيرُ} بمكانها»[32].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63].
قال الطبري: «يقول -تعالى ذكره-: {أَلَمْ تَرَ} يا محمد {أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، يعني: مطرًا، {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} بما ينبت فيها من النبات، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} باستخراج النبات من الأرض بذلك الماء وغير ذلك من ابتداع ما شاء أن يبتدعه، {خَبِيرٌ} بما يحدث عن ذلك النبت من الحَبّ»[33].
وقال تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
قال الطبري: «وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}، يقول: إن الله {لَطِيفٌ} باستخراج الحبة من موضعها حيث كانت، {خَبِيرٌ} بموضعها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:... عن قتادة: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}، أي: {لَطِيفٌ} باستخراجها، {خَبِيرٌ} بمستقرّها»[34].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].
قال الطبري: «وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}، يقول -تعالى ذكره-: إنّ الله كان ذا لطف بكنَّ؛ إذ جعلكنَّ في البيوت التي تتلى فيها آياته والحكمة، {خَبِيرًا} بكنَّ إذ اختاركنَّ لرسوله أزواجًا»[35].
وقال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
قال الطبري: «يقول -تعالى ذكره-: {أَلَا يَعْلَمُ} الربُّ -جلّ ثناؤه- {مَنْ خَلَقَ} من خلقه؟! يقول: كيف يخفي عليه خلقه الذي خلق؟! {وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده، {الْخَبِيرُ} بهم وبأعمالهم»[36].
التعقيب:
1. التزم -رحمه الله- طريقه في توزيع دلالة الاسمين الشريفين على أمرين مختلفين.
2. في الآية الثانية عزا هذا التفسير إلى قتادة، وهذا مما قد يساعد على معرفة بعض موارده -رحمه الله- في مسلكه في تفسير الأسماء.
3. في الآية الأولى (آية الأنعام) عزا تفسيره لأبي العالية.
4. لم يفرّق -رحمه الله- بين دلالة الاسم في حال كونه نكرة وحال كونه معرفة، وإنما عنايته بتفسير الاسم في سياقه.
3. العفوّ القدير:
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].
قال الطبري: «{فإنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا}، يقول: لم يزل ذا عَفْوٍ عن خلقه، يصفح عمَّن عصاه وخالف أمره، {قَدِيرًا}، يقول: ذا قدرة على الانتقام منهم.
وإنما يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عَفْوٍ عن عباده، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه.
يقول: فاعفوا أنتم -أيضًا- أيها الناس، عمَّن أتى إليكم ظُلْمًا، ولا تجهروا له بالسوء من القول وإن قدرتم على الإساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم وأنتم تعصونه وتخالفون أمره»[37].
التعقيب:
1. التزم -رحمه الله- مسلكه في توزيع دلالة الاسمين على متعلقين مختلفين.
2. كأنه نبَّه على استنباط معنى زائد نشأ عن مجموع الاسمين، وهو العَفْو في حال القُدْرة.
3. نبَّه على فائدة عملية مسلكية رأى أن الآية أشارت إليها، وهي الترغيب في العَفْو عند المقدرة.
4. قدير، غفور، رحيم:
قال تعالى: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7].
قال الطبري: «وقوله: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ}، يقول: والله ذو قدرة على أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم من المشركين مودة، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، يقول: والله غفور لخطيئة من ألقى إلى المشركين بالمودة إذا تاب منها، رحيم بهم أن يعذبهم بعد توبتهم منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل... عن قتادة، قوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على ذلك، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر الذنوب الكثيرة، رحيم بعباده»[38].
التعقيب:
1. عامل -رحمه الله- مع اسم الله (قدير) في هذه الآية على أنه مستقلّ؛ كونه مقرونًا بـ(غفور رحيم).
2. التزم الإمام الطبري -رحمه الله- مسلكه في توزيع دلالة الأسماء الثلاثة على متعلقات مختلفة؛ فاسم (القدير) تعلق بالقدرة على أن يجعل بين المؤمنين وبين أعدائهم من المشركين مودة، واسم (الغفور) تعلق بمغفرة خطيئة من ألقى بالمودة إلى الكفار، واسم (الرحيم) تعلق بمنع تعذيبهم بعد التوبة.
3. ذكر -رحمه الله- أن هذا قول قتادة، ويُلحظ هنا تكرّر النقل عن قتادة -رحمه الله- في باب الأسماء المقترنة[39]؛ فلعله أحد موارد الطبري في هذا الباب.
خاتمة:
بعد هذا التطواف المختصر في حدائق (جامع البيان) لإمامنا الطبري -رحمه الله- نخلص إلى جملة من الفوائد منها:
1. أنّ في كلام أئمتنا من الدّرر ما يُحتاج إلى التنقيب عنه، والانتفاع به.
2. أنّ مرجع معرفة الدلالات العامة للاسم في تفسير الطبري هو أول مواضع وروده في القرآن الكريم.
3. حرص الإمام الطبري على توجيه الموعظة للقارئ من خلال دلالة أسماء الله تعالى.
4. أنّ تدبّر أسماء الله الحسنى في سياقاتها القرآنية مفردة كانت أو مقترنة لها كبيرُ أثرٍ في التعبد لله بهذا الاسم بصورة صحيحة.
وقد كانت هذه وقفات حاولت فيها أن أبين مسلك الطبري في التعامل مع الأسماء الحسنى، لا سيما وأنه جانب لا يُلتفَت إليه كثيرًا في تفسير الطبري من قِبَل الكَتَبة والباحثين، عسى أن يكون ذلك فتحًا لباب الدرس في هذا المجال وتعميقه، واللهَ أسأل أن يرحم الإمام الطبري، ويجزل له المثوبة.
[1] مقالة: (الطبري وبيان معاني الأسماء الحسنى في سياقاتها القرآنية، أولًا: الأسماء الحسنى المفردة): https://tafsir.net/article/5121.
وحاصلها إجمالًا أن الطبري:
1 . يفسر الاسم حيث ورد، ولا يكتفي بإيراده أول مرة.
2. يفسر الاسم بالمعنى المناسب للسياق، والغالب أنه أخص من المعنى العام، وقد ينبِّه على المعنى العام أيضًا.
3 . يبيّن أصل معنى الاسم ومعناه العام في أول مواضع وروده، ثم يكون دأبه تفسيره بحسب السياق في المواضع التالية.
[2] تاج العروس (35/ 551).
[3] لسان العرب (13/ 336-337).
[4] وقد تُسمى (مقترنة) باعتبار اقترانها معًا في عدِّ الأسماء الحسنى لا باعتبار الاقتران في السياق القرآني، وسيأتي في كلام ابن القيم عدّها من المقترنة في سياق كلامه على التعبد لله بالأسماء المقترنة؛ قال ابن القيم: «السابع عشر: أن أسماءه -تعالى- منها ما يطلق عليه مفردًا ومقترنًا بغيره، وهو غالب الأسماء؛ كالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم، وهذا يسوغ أن يُدعى به مفردًا ومقترنًا بغيره فتقول: يا عزيز يا حليم يا غفور يا رحيم، وأن يفرد كلّ اسم، وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد والجمع، ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقرونًا بمقابله كالمانع والضار والمنتقم، فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله؛ فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفوّ، فهو المعطي المانع الضار النافع المنتقم العفوّ المعزّ المذلّ؛ لأن الكمال في اقتران كلّ اسم من هذه بما يقابله». اهـ من بدائع الفوائد (1/ 167).
[5] جدير بالنظر هاهنا أن كلامنا سينصبّ على المقترنة المتقاربة؛ كونها الأكثر تجاذبًا بين العلماء في نظرهم في علّة الاقتران مع تقارب الدلالة والمعنى وغير ذلك، خلافًا للأسماء المقترنة المتباعدة في دلالاتها، فلا إشكال فيها.
[6] البحر المحيط في التفسير (1/ 31).
[7] جدير بالنظر أنني -بفضل الله- قد تتبعتُ جميع مواطن الأسماء المقترنة في القرآن ونظرتُ في تعامل الطبري معها، إلا أنني سأكتفي -نظرًا لطبيعة العرض المقالي- بذكر بعض النماذج التي تُبرز مسلك الطبري وتبيّن منهجيته بصورة عامّة.
[8] تفسير الطبري (20/ 159).
[9] تفسير الطبري (22/ 313).
[10] تفسير الطبري (8/ 333).
[11] وهي -واللهِ- موعظة عظيمة لو صادفت قلبًا، وكم غفل عنها الحَكَمان، والمصلحون، والزوجان! فسبحان من هذا كلامه! وهو المسؤول أن ينفعنا به، وأن يُجزِل المثوبة للإمام الطبري على بيانه.
[12] تفسير الطبري (3/ 73).
[13] تفسير الطبري (4/ 427).
[14] تفسير الطبري (4/ 498).
[15] تفسير الطبري (5/ 281).
[16] تفسير الطبري (14/ 430). وينظر من أمثلة (سميع عليم): تفسير الطبري (3/ 399)،(19/ 135)، (22/ 277).
[17] تفسير الطبري (4/ 427).
[18] تفسير الطبري (14/ 430).
[19] تفسير الطبري (3/ 170-171). وليس في إحالته -رحمه الله- على كلامه السابق في اسم الله (الرحيم) عدول عن مسلكه في تفسير الاسم حيث ورد؛ فقد فسَّر الاسم بدلالته الخاصة في هذا الموضع بقوله: «وأما (الرحيم): فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة»، وإنما أحال على أصل معناه؛ فانظره في تفسير الطبري (1/ 126).
[20] تفسير الطبري (14/ 539). وفي هذه الآية -على ما فسره الطبري- إشارة عظيمة إلى أن من حفظ إيمانه في البأساء والضراء؛ فهو خليق برأفة الله به في بلائه، وبرحمته في حفظه إيمان العبد عليه، فطوبى لمن قدَّم إيمانًا في البأساء والضراء يكون له زادًا في أزمنة الفتن.
[21] تفسير الطبري (17/ 171-172).
[22] تفسير الطبري (17/ 215).
[23] تفسير الطبري (17/ 212).
[24] تفسير الطبري (23/ 173).
[25] تفسير الطبري (23/ 289).
[26] تفسير الطبري (5/ 405-407). والنقل بتمامه طويل؛ لأنه أول موضع لذكر هذين الاسمين الشريفين؛ ومنهجه -رحمه الله- بيان معنى الاسم في أول مواضع وروده؛ فكذا فعل هنا، وقد استدلّ بالاسمين على مسألة عقدية؛ فراجِعْه بتمامه إن شئتَ.
تنبيه: عبد الله بن عباس لم يقل ذلك في تعريف اسم الله العظيم، وإنما في تعريف اسمه الصمد، وإنما أراد الطبري إثبات كمال العظمة لا تعريف ابن عباس للاسم؛ ينظر: تفسير الطبري (24/ 692)، حيث قال في تفسير (الصمد): «عن ابن عباس، في قوله: {الصَّمَدُ} يقول: السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد عظم في عظمته...».
[27] تفسير الطبري (21/ 500).
[28] تفسير الطبري (11/ 288).
[29] تفسير الطبري (11/ 464-465).
[30] تفسير الطبري (20/ 346).
[31] هذه إشارة عابرة، وإلا فيحتاج الأمر إلى استقراء واسع لمقارنة ما فسَّر به ابن جرير الأسماء بما فسَّره به السلف، وإن كانت موافقته لـ(قتادة) تكررت في عدة مواضع.
[32] تفسير الطبري (12/ 22-23).
[33] تفسير الطبري (18/ 676).
[34] تفسير الطبري (20/ 142).
[35] تفسير الطبري (20/ 268).
[36] تفسير الطبري (23/ 511).
[37] تفسير الطبري (9/ 350-351).
[38] تفسير الطبري (23/ 321).
[39] ينظر أيضًا: تفسير الطبري (20/ 142)، وقد نقل نحو ذلك عن أبي العالية. ينظر: تفسير الطبري (12/ 22-23).
مواد تهمك
- الطبري وبيان معاني الأسماء الحسنى في سياقاتها القرآنية (1): الأسماء الحسنى المفردة
- رُقوق أندلسية عتيقة من تفسير الطبري؛ قراءةٌ لسماعاتها ونظرٌ في صحتها
- هل يُعَدُّ تفسير الطبري تفسيرًا بالمأثور؟
- {فَقَد صَغَت قُلوبُكُما} تفسير الآية الرابعة من سورة التحريم عند الفراهي وإصلاحي
- دور السياق في تفسير وترجمة القرآن
- منطلقات دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف؛ تحرير وتأصيل (1-3)