اختلاف السلف في التفسير؛ نماذج تطبيقية (4)
قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[ البقرة: 2][1]
أولًا: ما ورد في قوله تعالى: {هُدًى}:
الأقوال الواردة في المقصود بقوله تعالى: {هُدًى}:
- هُدًى من الضلالة. عن الشعبي.
- نور للمتقين. عن ابن عباس، وابن مسعود، والسُّدِّي.
- تِبيان للمتقين. عن سعيد بن جبير.
التعليق:
الهدى في لغة العرب: الإرشاد والدلالة والبيان، ومن ثَمَّ قيل لكلّ مرشد للحق: هادٍ.
بيان نوع الاختلاف:
الخلاف المذكور في الهُدَى اختلاف تنوع يرجع إلى معنى واحد، وهو: الإرشاد.
سبب الخلاف:
التعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة.
الجمع بين الأقوال:
الأقوال الواردة عن السلف في تفسير الهدَى لا تخرج عن المعاني التي ذكرها اللغويون، بل بينها علاقة وارتباط؛ فقول الشعبي تفسير للفظ بمقابله وضده، وقول ابن عباس وسعيد بن جبير كلاهما تفسير باللازم؛ إذ من لوازم الهدى التبيان والنور، فالسالك طريقًا ما لا بد من مُعَرِّف يعرِّفه بهذا الطريق، كما أنه لا بد له من نور يرى به ما في الطريق من عقبات ومخاطر حتى يتم له سيره ويصل إلى بُغيته، فكذلك سالك طريق الهدى لا يتم له سيره ولا يتحقق له هذا الهدى بدون بيان ونور، وهذا البيان والنور هو القرآن، فمن اتّبعه اهتدى، ومن أعرض عنه حُرِم الهُدَى.
وتوضيح ذلك في أن تُقَارِن بين ما أثبته القرآن للمُعرِض عنه من العمى، وما يلازم العمى من ظلام وحيرة واضطراب وجهل بالطريق، وبين كون القرآن نورًا وبيانًا لِمُتَّبِعيه، وما يحتفّ بالنور من إبصار بالطريق وإدراك لمعالمه ومعرفة بما فيه؛ ليتضح لك صحة هذه التفسيرات وأنها متلازمة ولا ينفكّ بعضها عن بعض.
وتأمَّلْ آيات القرآن تجد أن أكثر المواضع التي وصف الله القرآن فيها بكونه نورًا جاءت مقترنة بلفظ الهدى، وكذلك اقتران لفظ الهدى بالبيان والتبيان في الموضعَين اللذَين وُصِف القرآن فيهما بكونه بيانًا وتبيانًا، مما يفيد أن الهُدَى لا يتم بغير نور وبيان، وهو عين ما قاله السلف.
فالأقوال الواردة عنهم أشار كلُّ قولٍ منها إلى جزئية من جزئيات الهُدَى، أو لازم من لوازمه، وبجَمْع عباراتهم في هذه الأقوال يتم المعنى وتجتمع جوانبه، فالقرآن نور وبيان وهدى.
ثانيًا: ما ورد في قوله تعالى: {لِّلْمُتَّقِينَ}:
الأقوال الواردة في المقصود بقوله تعالى: {لِّلْمُتَّقِينَ}:
- الذين يَحْذَرُونَ من الله -عز وجل- عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به. عن ابن عباس من طريق سعيد أو عكرمة، وبمعناه عن الحسن.
- هم المؤمنون. عن ابن عباس من طريق أبي صالح، وعن ابن مسعود، والسُّدِّي.
- نَعَتَهم ووَصَفَهم فأَثْبَتَ صفتهم، فقال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[ البقرة: 3]. عن قتادة.
- المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي. عن ابن عباس من طريق الضحاك، وعن معاذ بن جبل بمعناه.
- الذين يتجنبون كبائر الإثم. عن الكلبي.
التعليق:
التقوى في اللغة: الحذر والصيانة والتستر[2]، وهي مشتقة من الفعل (وَقَى)، الذي يدل على دفع شيء عن شيء بغيره[3]. وسُمِّي المتقي بذلك لأنه يدفع العذاب عن نفسه بالعمل الصالح ووجوه البرّ.
بيان نوع الاختلاف:
الاختلاف بين الأقوال السابقة اختلاف تنوع؛ يرجع إلى معنى واحد، وهو: اتقاء سخط الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
سبب الخلاف:
التعبير عن المعنى المتقارب بألفاظ متقاربة.
الجمع بين الأقوال:
مما هو ظاهر أن الأقوال الواردة في بيان المقصود بالمتقين مرتبطة ببعضها ارتباطًا تامًّا، بل بعض هذه الأقوال اشتركت في لفظ بعينه، فمنهم من اقتصر عليه، ومنهم من زاده بيانًا؛ كما تلمح ذلك في قولَين مرويّين عن ابن عباس والقول المروي عن قتادة؛ حيث فسَّرَا المتقين بالمؤمنين؛ لكن اقتصر ابن عباس في أحد قوليه على لفظة «المؤمنين»، وزاده إيضاحًا في الرواية الأخرى بأنهم «المؤمنون الذين اتقوا الشرك وعملوا بطاعة الله»، وأشار قتادة إلى الآية التي تدلّ على أن المراد بالمتقين المؤمنون، كما تجد تقاربًا بين القول الأول في أنهم «الذين يحذرون عقوبة الله»، وبين قول الكلبي أنهم «الذين اجتنبوا كبائر الإثم»؛ لأن حَذَرَهم من العقوبة لا يكون إلا باجتنابهم كبائر الإثم، وترى تقاربًا بينهما من ناحية أخرى، وهي: أن كِلَا القولَين لمح المعنى اللغوي لكلمة التقوى وأضافها إلى التفسير، ففي الأول: يحذرون، وفي الأخير: يجتنبون، وهذا هو معنى التقوى لغةً كما سلف.
على أنك تجد بعد ذلك تلازمًا واضحًا بين هذه الأقوال كلها؛ إذ الخائفون من الله، المجتنبون الشرك وكبائر الإثم، العاملون بطاعته، هم المؤمنون الذين أوصلهم إيمانُهم وحَذَرُهم إلى التقوى فاستحقوا بذلك وصف المتقين.
وتفسير المتقين بالمؤمنين تفسيرٌ بالمصدرِ الموصِّل إلى التقوى؛ «فلا يكون العمل قربة وطاعة حتى يكون مصدره عن الإيمان»[4]، وتعبير ابن عباس بأنهم من اتقوا الشرك، وكذلك تعبير الكلبي بأنهم من اجتنبوا كبائر الإثم، ليس المراد منه حصر أوصاف المتقين فيما ذَكَرَاه، لكن لما كان الشرك وكبائر الإثم أهمّ ما يجتنب للوصول إلى التقوى، عَبَّرَا به على سبيل التمثيل، واستغناء بالأهمِّ عما دونه إِذْ هو تابع له، وهذا لا يُخَصِّص العموم الوارد في لفظة (المتقين).
وقد رجَّح الطبريُّ العمومَ في لفظ (المتقين)، وأنه غير محصور في وصف معيّن، وهذا مما لا يُخَالَفُ فيه، لكنه قد يُخَالَفُ في قوله: «فقد تبين إذن بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق[5]؛ لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين»[6]اهـ؛ لأن قائل هذا لا يريد حصر وصف المتقين فيما ذكر، لكن لما كان اتقاء الشرك والنفاق أهم ما يوصل إلى التقوى، وكان وجودهما لا تتحقق معه التقوى بحالٍ؛ نَبَّه عليهما بأنهما أولى ما يُتَّقَى؛ لذلك ترى الإمام الطبري كأنه حاول الرجوع عن إبطاله لهذا القول، فقال: «إلَّا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفاق: ركوب الفواحش التي حرمها الله -جلّ ثناؤه- وتضييع فرائضه التي فرضها عليه؛ فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقًا؛ فيكون -وإن كان مخالفًا في تسميته مَن كان كذلك بهذا الاسم- مصيبًا تأويل قول الله -عَزَّ وجَلَّ-: {لِّلْمُتَّقِينَ}»[7]اهـ.
[1] اختلاف السلف في التفسير بين التنظير والتطبيق (ص: 317)، ويلاحظ أننا قمنا باختصار المادة التي عرضها الكتاب في هذا الموطن، واكتفينا فقط بعرض الأقوال التفسيرية الواردة في المقصود بالآية، وذكر سبب الخلاف بينها ونوعه، والراجح منها، وكذا ما أورده من اجتهادات أخرى في غير أقوال السلف ومناقشتها.
[2] ينظر: لسان العرب، مادة (وقى) (6/ 4901).
[3] مقاييس اللغة، مادة (وقى) (6/ 131).
[4] بدائع التفسير (2/ 96).
[5] لم نقف على نسبة هذا القول بنصّه لقائل معيّن وإن كان بعضه واردًا فيما ذكر من أقوال؛ لكن وقفنا على قول للحسن قريب منه في قوله تعالى: {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ}[التوبة: 112]، حيث قال: «تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق». تفسير الطبري (7/ 37).
[6] تفسير الطبري (1/ 100).
[7] تفسير الطبري (1/ 100).