دور السياق في تفسير وترجمة القرآن

المترجم : إسلام أحمد
تهتم هذه المقالةُ بتوضيح الدَّور الذي يمثّله السياق في فهم القرآن، سواء في عملية تفسيره أو في ترجمته، فيوضِّح محمد عبد الحليم كيف يُعين فهم السياق على تكوين فهم للقرآن يتخطى أخطاء الوقوف عند الدلالات المعجمية المباشرة ويتناسب مع الملامح المميِّزة للأسلوب القرآني، وهذا عبر قدرة تفعيل السياق على ترجيح إحدى الدلالات التي تحملها الألفاظ المفردة، أو على كشف إيجاز بعض التعابير، يوضِّح الكاتب هذا عبر قراءة تطبيقية لمدى توظيف السياق من عدمه في عدد من التفاسير والترجمات لمعاني القرآن.

دور السياق في تفسير وترجمة القرآن[1][2]

مقدّمة:

  تَطرح هذه الورقةُ فكرةً مفادها أنّ للسياق دورًا محوريًّا على امتداد القرآن، فَهْمًا وتفسيرًا وترجمةً إلى أيّة لغة أخرى[3]. وتُحاجِج أنّ السياقَ لم يَحْظَ بالاهتمام والاعتبار الكافي في معظم ترجمات القرآن إلى اللغة الإنجليزيّة، وفي تفسير القرآن أيضًا، سواء في اللغة الإنجليزيّة أو العربيّة، فضلًا عن اللغات الأخرى؛ وكلّ هذا على حساب الفَهْم الصحيح للقرآن، فدعُونا ابتداءً نضع تعريفًا للمقصود بالسياق. في نقاشنا خلال هذه الورقة نستخدم مصطلحَ «السياق» للإشارة إلى شيئَين:

أ) أجزاء من جملة تسبق أو تتلو كلمةً ما أو عبارةً، وتؤثِّر على معناها؛ ويُشَار إليها في العربيّة باسم «السياق» أو «سياق النصّ».

ب) سياق الموقف: وهو مجموعة من الظّروف أو الحقائق المحيطة بأيّ جملة في القرآن، وهذا ما يُعْرَف في البلاغة العربيّة باسم «المَقام»، وفي الدراسات الحديثة يُشَار إليه أيضًا باسم «سياق الموقف».

سنَرَى أنّ لِلفئتَين تأثيرًا على المعنى، وعلى مدار التاريخ خُصَّت الفئة الثانية (المَقام أو سياق الموقف) بالنقاش في دراسات البلاغة، وتحتاج إلى بعض التفصيل.

على مدى التاريخ، كان علم البلاغة أحد أهمّ العلوم بالنسبة إلى تفسير القرآن، وقد بدأ العلمُ وتطوّر حول السؤالِ المحوريّ المتعلّق بتذوّق الأسلوب القرآنيّ، وإعجازه على وَجه الخصوص؛ كما هو ظاهرٌ في أعمال مثل (دلائل الإعجاز) للإمام عبد القاهر الجرْجانيّ (471هـ/ 1078م). وهناك إقرارٌ عامّ لدى دارسي اللغة العربيّة بأهميّة البلاغة -وخصوصًا[4] علم المعاني وعلم البيان- بالنسبة إلى التفسير عمومًا؛ ونجد أنّ الاهتمامَ الذي أَوْلَاه إيّاها مُفسِّرون كالزمخشريّ (538هـ/ 1143م) والرازيّ (606هـ/ 1209م) يمنَح أعمالَهم ميزةً خاصّة. وقد كانت إحدى أهمّ إسهامات علماء البلاغة القُدَامَى هي إدراكهم مفهومَ «المَقام» ودورَه في تحديد معنى الكلام وتوفير معيارٍ للحكمِ عليه والفصلِ فيه. عُرِّف علمُ المعاني، أوّل الفروع الثلاثة المكوِّنة لعلم البلاغة، بأنّه العلم المَعْنيّ بتناول «مُطابَقة الكلام لِمُقتضَى الحال». ويشرح هذا الأمرَ الخطيبُ القزوينيّ (739هـ/ 1338م)، فيقول[5]:

(مَقاماتُ الكلام مُتفاوِتة)؛ فمَقامُ كلٍّ من التنكيرِ والإطلاقِ والتقديمِ والذِّكرِ يُبايِنُ مَقامَ خلافه، ومَقامُ الفَصْلِ يُبايِنُ مَقامَ الوَصْل، ومَقامُ الإيجاز يُبايِنُ مَقامَ خِلافه. وكذا خِطابُ الذّكِيّ مع خطابِ الغبِيّ. ولِكلِّ كلمةٍ مع صاحبتها مَقامٌ، وارتفاعُ شأنِ الكلامِ في الحُسنِ والقَبول [يكونُ] بمُطابقتِه للاعتبارِ المناسب؛ وانحطاطُه [يكونُ] بعدَمِها.

أشار تمّام حسّان[6] (1918- 2011م) إلى أنّه حين يقول علماء البلاغة: «لِكلِّ مَقامٍ مَقال»، وأنّ «لِكلِّ كلمةٍ مع صاحبتها مَقامٌ»، فإنّهم يُشيرون إلى مبدَأيْن بلاغيَّين مهمَّين، يمكن أنْ يَنطبِقا بنفس القَدْر على دراسة اللغات الأخرى[7]. وبقولِهم هذا، فقد سبقوا عصرَهم بألف سنة، إذا علِمْنا أنّ إدراكَ مفهومَي «المَقام» و«المَقال» كأساسَيْن منفصلَيْن من أُسُس تحليل المعنى، لم يتمّ التوصُّل إليه سوى في وقتٍ متأخّر في التفكير اللغويّ الغربيّ الحديث. فحِين صاغَ برونسيلاف مالينوفسكي[8]مصطلَحه الشهير «سياق الموقف» (the context of the situation) في العام 1923م، لم يكن على علمٍ باستخدام البلاغيّين العرب مصطلحًا شبيهًا قبل ألفِ عام.

جاء هذا الاكتشاف الكبير من قِبَل علماء البلاغة نتيجَةَ تأمّلاتِهم في الأسلوب القرآنيّ وإعجازِه. بل إنّ نقّاد الأدب، مثل ضياء الدين بن الأثير (637هـ/ 1239م)[9]، اعتمدوا كثيرًا على الاستشهاد بآياتِ القرآن للتدليل على التميّز الأسلوبيّ في استخدام اللغة وتوظيفها. فإنّ لغة القرآن وأسلوبه تجعل اعتبارَ السياق والنظرَ فيه أمرًا ضروريًّا؛ نظرًا لاستخدام القرآن نمطًا من التعبير يتّسم بالإيجاز ولا يُفَصِّل كلَّ شيء. على سبيل المثال، فإنّ الإغفال سِمةٌ ظاهرة للعيان في القرآن، وغالبًا ما تأتي لأنّ القرآن نَزَل على مجتمعٍ كان بالفعل على وعي ودراية بالأحداث أو الأفكار التي يُشير القرآن إليها بشكلٍ عابر ودون تقديم شرحٍ مطوَّل حولها. هذا الأمر يعني أنْ تكون عبارةٌ ما أو جملة أو آيَة مكثّفةً للغاية أحيانًا، وبشكلٍ لا يكون من السهل معه التعرّف على السياق وتحديده.

هناك سِمة محوريّة أخرى [في القرآن] تعتمد على تحديد السياق، ألَا وهي سِمة الاشتراك (أو «تعدّد المعاني») في كلماتٍ مُفْرَدة، وإلى حَدّ أقلّ الاشتراك في البِنْيَة المُعْجَميّة. يُعْرَف تعدّد المعاني القرآنيّة بالاصطلاح الشهير «وُجُوه القرآن» (أيْ المعاني المتعدّدة للكلمات الوارِدة في القرآن)، وهو الاسم الذي طُبِّق على مُقارَبة تحليليّة تعود جذورها إلى بدايات القرن الأوّل الهجريّ، وتطوّرَت كثيرًا حتّى نتج عنها عشرات النصوص التي ظهرَتْ على مدى خمسة أو ستّة قرون[10]. ولتقديم مثالٍ واحدٍ على هذا، فإنّ كلمة «كتاب» تَرِد بعشرة معانٍ مختلفة في القرآن. ونظرًا لهذه السِّمة من تعدّديّة المعاني، فإنّ العامل التوجيهيّ الوحيد في تحديد المعني هو السياق. وكما سنَرَى، اعتاد بعضُ المُفسِّرين سَرْدَ قائمةٍ بجميع المعاني المعجميّة الممكنة البديلة للكلمة في نقاشهم حول معناها في آيةٍ ما، قائلين إنّها «قد تعني إمّا كذا أو كذا، أو هذا أو ذاك، أو...»، بدلًا من اختيار المعنى الملائم للسياق ثمّ تجاهُل بقيّة المعاني، كما سنَرَى فيما يأتي[11].

سأتناول الآن بعض الأمثلة على «وُجُوه» القرآن وترجماتِها، مستهلًّا بكلمة «حكيم». هذه الكلمة مثالٌ رائعٌ مُلفِت لظاهرةِ «وُجُوه» القرآن، إِذْ تَرِد في القرآن 97 مرّة. من الجهة الصَّرْفيّة، فهذه الكلمة صِفةٌ مُشبَّهة، وهذا في حدِّ ذاته لا يبدو مصْدرَ إشكال، ولكنّ معناها المعجميّ يمثّل مصْدرًا للإشكال. فالجذر هو «حَكَمَ»، ولكنْ يمكننا افتراض أنّ كلمة «حكيم» مشتقّة من «الحِكمة» أو من «الحُكم» (بمعنى اتّخاذ قرارٍ ما أو رأي وتقدير). جميع مترجمي القرآن إلى اللغة الإنجليزيّة، الذين عُدْتُ إلى ترجماتهم، قد اختاروا باستمرار المعنى الأوّل في جميع المرّات البالغ عددها 97 مرّة، الأمر الذي دفعهم إلى اختيار معنى «الحكمة» عند ترجمة هذا المصطلح. ربّما اعتمد هذا على أوّل معنى يَرِد في المعجم لهذه الكلمة[12]، أو لأنّ المترجمين تأثّروا بتفسير البيضاويّ (691هـ/ 1292م)[المُعَنْوَن: أنوار التنزيل وأسرار التأويل]، الذي كان تاريخيًّا هو التفسير الأكثر تداوُلًا وإتاحةً بالفعل لدى دارسي القرآن الأوروبّيّين والأميركيّين منذ تحريره ونَشْرِه في أوروبّا في وقتٍ مبكّر نسبيًّا[13]. يتبنّى البيضاويّ أوّل ظهورٍ لكلمة «حكيم» في الآية 32 من سورة البقرة[14] للإشارة إلى حكمة الله. ومع ذلك، يُعْرَف عن البيضاويّ، كما سَنَرَى لاحقًا، التفتيتُ في منهجه التفسيريّ، وتركيزُه على الكلمة التي يتناولها بمعزلٍ عن سياقها المحيط. ويبدو أنّ المترجمين، بدءًا من سِيل[15]، قد نَسَخُوا معنى «حكيم» باعتباره مشتقًّا من الحكمة، أيْ wise، من سابِقيهم، دون تساؤلٍ حقيقيّ حول مدى ملاءمة ترجمة «حكيم» بهذا المعنى للسياقات المختلفة. وسنناقش هنا أحد الأمثلة على ذلك. في الآيتَيْن 208 و209 من سورة البقرة[16]، يترجم جميعُ مترجمي القرآن الصفةَ الأخيرة إلى wise.

السياق التي تَرِد فيه صفة «حكيم» هنا هو سياق تهديدٍ بأنّ اللهَ ذو قدرةٍ على أنْ يختار عقابَ المُؤمِنين إذا «زَلّوا». وقد «رُوِيَ أنّ قارِئًا قرأ [عند تلاوة هذه الآية] {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فسَمِعَه أعرابيٌّ فأنْكرَه، ولم يَكُن يقرأ القرآن، وقال: إنْ كان هذا كلام الله، فلا يقولُ كذا؛ الحكيمُ لا يَذكُر الغُفرانَ عند الزَّلَل؛ لأنّه إغراءٌ عليه. (...) حتّى سَمِعَ {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فقال: هكذا ينبغي؛ عزَّ فحَكَمَ»[17]. هكذا، وكما يتّضح من السياق، يجب ترجمة «حكيم» في هذه المناسَبة لتحمل المعنى الضمنيّ لـ«ذي القدرة على الحُكم»، لا بمعنى «ذي الحِكمة». ونظرًا لأنّ «الحكيم» صفةٌ من صفاتِ الله، فمن الجلِيّ أنّ علينا الحرص والاعتناء بتحديد معنى تلك الصفة في العربيّة ابتداءً قبل ترجمتها إلى لغاتٍ أخرى.

مثال آخر من كلمة «الرحمن»، وهي صفةٌ أخرى من صفات الله، وقعَت في ترجمتها أخطاء؛ لأنّ المترجمين لم يُولُوا الاعتبارَ الواجب للسياق الذي ترِد فيه؛ فقد ترجمَ كثيرٌ من المترجمين هذا النعتَ إلى Merciful أو All-Merciful، ولكِنْ من الواضح أنّ هذه الترجمة لا تتناسب مع كثير من المَواضِع. على سبيل المثال، تُقَدَّم الآية 42 من سورة الأنبياء[18] من قِبَل المترجمين بطرقٍ مختلِفة، كما يأتي:

Who shall keep you safe from the All-Merciful by night or day? (Khalidi)[19].

Who will guard you night and day from the Merciful? (Jones)[20].

Who shall guard you by night and in the daytime from the All-merciful? (Arberry)[21].

هذه الترجمات إشكاليّة؛ فمفهوم الخالديّ تحديدًا حول «keeping someone safe from the All-Merciful» يبدو متناقِضًا. في ترجمتي هذه الآيةَ اخترتُ بدلًا من ذلك «Who could protect you night and day from the Lord of Mercy» على أساس أنّ العامل الفعّال والمقصود في هذا السياق هو جانب الربوبيّة والقوّة. فترجمتي هذه تحتفظ بفكرة الرحمة الإلهيّة، ولكنّها تنقل أيضًا معنى الربوبيّة ذات القوّة والسلطة.

يمكننا أنْ نَرَى مثالًا آخرَ على الترجمة غير الملائمة للسياق في ترجمة جونز الآيةَ 45 من سورة مريم، وفيها يقول سيّدنا إبراهيم -عليه السلام-: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}، وترجمها جونز إلى «My father, I fear that somepunishment fromthe Merciful will touch you». فكرة أنْ يأتي العقاب من «الرحمن» لا تبدو ملائمةً تمامًا لهذا السياق أيضًا، الذي يتطلّب مرّة أخرى شيئًا من قَبيل «Lord of Mercy». هذه القراءة للنطاق الدلاليّ الضمنيّ لصفة «الرحمن» تدعمها أيضًا رؤية تمّام حسّان في ورقةٍ له درَس فيها المرّات المختلفة التي ورَدَت فيها صفة «الرحمن» في القرآن، وخَلَصَ إلى أنّها تشمل أيضًا معاني القوّة والسيادة[22].

وهناك كلمة «وَلَد»، وهي مثال آخر على كلمة قد تكون لها آثار مهمّة على كيفيّة قراءة وفَهْم آيةٍ ما [من قِبَل قرّاء القرآن غير العرب] بناءً على كيفيّة ترجمتها ابتداءً. في ترجمته للآيات 88- 92 من سورة مريم أيضًا[23]، يترجم أربري كلمة «وَلَد» إلى son، فتأتِي الآية على هذا النحو:

They say, The All-Mercifulhas taken unto Himself a son.

You have indeed advanced something hideous!

The heavens are wellnigh rent of it, and the earth split asunder, and the mountains wellnigh fall down crashing;

for that they have attributedto the All-Merciful a son.

And itbehoves not the All-Merciful to take a son.

غير أنّ أربري ليس وحيدًا في هذا الصدَد، فقد ترجمَها آلان جونز وطريف الخالدي أيضًا إلى son؛ ولكنّ هذا في الواقع استخدامٌ في اللغة العربيّة الحديثة. أمّا في اللغة العربيّة القديمة فإنّ كلمة «وَلَد» تشير إلى الذرّية، سواء كانت فردًا أو جماعة، ذكرًا أو أنثى[24]. قد يُقال إنّ هؤلاء المترجمين تأثّروا بالتفكير في بدايات السورة حيث ذُكِر عيسى -عليه السلام- وخصوصًا الآية 35: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ}. غير أنّ قصّة عيسى لا ترِد سوى في الجزء الأوّل من السورة. ولاحقًا في الآية 77 وما يتلوها من آيات، تنتقل السورة في موضوعها للإشارة إلى مشرِكي مكّة؛ وفي الآيتَين 81- 82 يقول الله -عزَّ وجلّ-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}. أمّا الآية 88، المُشار إليها سابقًا، فتُشير إلى هذه الفئة من الناس، وبالتالي فهي تُشير إلى «الآلهة» التي اتّخذَها المشركون للعبادة، لا إلى عيسى -عليه السلام-، والسياق الأوسع (سياق النصّ) يوضِّح هذا جيّدًا. لن تعني كلمة «وَلَد» ابنًا، وتترجَم إلى son، إلّا حين نأخذ الآية بمعزلٍ عن سياقها. حين يكون لكلمة وارِدة في القرآن أكثرُ من معنًى (وَجْه)، كما هو الحال هنا؛ فإنّ الطريقة الصحيحة لقراءتها وفَهْمها هو أنْ نراعي السياق عند تحديد معناها الصحيح. إضافةً إلى هذا، ينبغي للمترجمين أيضًا -عند اختيار الكلمات المستخدَمة في ترجماتهم- أنْ ينتبهوا إلى معنى الكلمات العربيّة في وقتِ نزول القرآن.

«وُجُوهٌ» ذاتُ صلةٍ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم:

سأعرض الآن بعضَ الأمثلة للوُجُوه المرتبطة بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-. والمثال الأوّل هو آية قصيرة من سورة المدَّثِّر: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكثِرُ}؛ اختلف المترجمون في ترجمتها كما يأتي:

Give not, thinking to gain greater (Arberry)

Do not show favours seeking gain (Jones)

Give not, hoping to gain more (Khalidi)

فَهِمَ المترجمون الثلاثة فعلَ «تَمْنُن» هنا على أنّه يعني «تُعطي» give أو «تُظْهِر المَنّ والإحسان». ولا مناصَ من الإقرار أنّ هذا هو أوّل معنًى يخطر على البال، ولكنّه غير ملائِم للمَقام أو سياق النصّ في هذه الحالة. فسورة المدَّثِّر سورة مكيّة من أوائل ما نزل من القرآن على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وتبدأ بنداءٍ موجَّه إلى مَقام النبوّة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ...}[1- 6]؛ وقد ترجمها أربري إلى:

«O thou shrouded in thy mantle, arise and warn! Thy Lord magnify, thy robes purify and defilement flee! Give not...».

وحقائقُ التاريخ تُنبِئنا أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الوقت تحديدًا لمّا يكن يملك من حُطام الدنيا شيئًا يُنْفِقه ليحصل على شيءٍ من أثر ذلك الإنفاق. وإنّما يمكننا قراءة هذه الآية في ضوء السياق التاريخيّ، لنَفْهَم من معناها أنّ اللهَ يدعوه إلى ألّا يَضعف ويستعظِم حِمل الرسالة التي اصطفاه الله لها، ومِن ثَمّ تُترجَم الآية إلى «Do not weaken, feeling overwhelmed». وهذا السياق يتجلَّى بصورةٍ أوضح في السورة السابقة (سورة المزمِّل) التي تتناوَل الموقفَ نفسَه، أيْ تلك اللحظة التي اختير فيها سيّدنا محمّد -صلى الله عليه وسلم- لحمل الرسالة والنبوّة، حين طُلِب منه قيامُ الليل، فأمَره الله أنْ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[2- 5]. نجد أنّ الجزءَ المعنيّ بالنقاش هنا قد ترجمه أربري إلى:

«keep vigil at night ... We shall cast upon thee a weighty word (Arberry)»

وترجمتُه إلى: «We shall send a momentous message down to you». فإنّ تناوُل القرآن هذا الأمر يوضِّح تمامًا أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- شعرَ بالفزَع من تلك الأوامر الموجَّهة إليه، ومِن ثَمَّ لزم أنْ يُقال له: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} تلك الأوامر العديدة المطلوب منك تنفيذها. وهذا ما يؤكَّد سياقيًّا في الآية التالية (الآية 7 من سورة المدَّثِّر)، حيث يُقال للنبيّ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (وترجمها آبري إلى Be patient unto thy Lord). الأساس المنطقيّ الذي تقوم عليه هذه القراءة البديلة هو أنّ لفعل {تَمْنُن} وَجْهًا آخرَ، يمكننا رؤيته في تعبير «حَبْلٌ مَنِين» الذي يعني أنّه حبْلٌ «ضَعيفُ الفَتْل»[25]. وعند استخدام كلمة «مهمّة» مع الفعل «مَنَّ»، فإنّه حينها قد يعني أنّ المرء «شَعَرَ بالتّعب والضّعف من ثِقَل تلك المهمّة»[26]. بالتالي فإنّ السياق يُحتِّم علينا في الآية السادسة من سورة المدَّثِّر أنْ نقرأ الفعلَ {تَمْنُنْ} بمعنى «تَضْعُف»، وذلك في ضَوء الدليل النّابع من النصّ في السورة السابقة المتعلّقة بما شَعَرَ به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في بدايات الوحي وتلقّي الرسالة وبدء الدعوة.

هناك مثالان آخران للـ«وُجُوه» مرتبطان بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفيهما أداة التعريف «ال» التي قد تكون إمّا «جنسيّة» (أيْ «عامّة وشاملة»، تشير إلى كلّ ما هو داخل تحت الاسم الذي يتلوها) أو «عَهْدِيّة» (أيْ «خاصّة ومُحدَّدة»، تشير إلى كيانٍ محدَّد سبق ذِكرُه بالفعل أو يعرفه المخاطَب). يمكننا أنْ نَرَى المثال الأوّل في كلمة «الناس» كما ترِد في الآية 94 من سورة الإسراء[27]، ويترجمها پكتال[28] إلى:

And naught prevented mankind (al-nās) from believing when the guidance came unto them save that they said: Hath Allah sent a mortal as [His] messenger?

بدلًا من mankind، يستخدم أربري كلمة men في ترجمته هذه الآيةَ، فيما يستخدم الخالدي وجونز كلمةَ mankind أيضًا. غير أنّني في ترجمتي اخترت القول: «these people» في مقابل كلمة «الناس». في الحقيقة لا يمكن أنْ يكون المقصود بـ«الناس» هنا هو «البشريّة» كلّها؛ لأنّنا نعلم أنّ أُمَمًا كثيرة بُعِث فيها أنبياء، ولأنّه لا يمكن القول إنّ البشريّة جمعاء تجد فكرة إرسال الأنبياء غريبة أو سببًا لعدم الإيمان[29]. عند النظر إليها في سياق الآيات السابقة، ستَظهر لدينا صورة مختلفة. ففي تلك الآيات يتحدّى مُشرِكو مكّة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قائلين إنّهم لن يؤمنوا حتّى: {تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا}. وفي آياتٍ أخرى[30] يُخبرنا القرآن أنّ مشركي مكّة طلبوا أنْ يأتي ملَكٌ من السماء لتأييد النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أرادوا أنْ يأتي رسولٌ من الملائكة لا من البشر. بالتالي، فإنّ السياق المباشر [في سورة الإسراء: الآية 93 وما قبلها] والسياق الأوسع [في القرآن ككلّ] يوضّحان لنا أنّ «الناس» الذين أثاروا هذه التحدّيات في وَجه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية [94 من سورة الإسراء] ليسوا هم البشريّة في عمومِها (men/ mankind)، وإنّما هم «أولئك الناس [من أهل مكّة]» (these people of Mecca). وهكذا، فقد أدّى عدم الانتباه إلى «ال» التعريف «العَهْدِيّة» إلى بروز عدد من النماذج الأخرى في إساءة القراءة والتفسير.

القَسَم وسياقاته:

يمكننا أنْ نَرَى صورةً واضحة توضّح الدور الحاسم للسياق، وذلك في عددٍ من السور التي تبدأ بقَسَم على وزن «والفاعِلات» (كما هو الحال في سوَر: الصافّات، والذارِيات، والمُرسَلات، والنازِعات، والعادِيات). هذا النوع من القَسَم يُبرِز قضيّة مهمّة، في ضوء الإشكاليّات التي تمثّلها في أثناء ترجمة القرآن؛ ولهذا يستحقّ شيئًا من التفصيل. يتكوّن القَسَم في هذه السور من اسم مُقَدَّر يُعْرَف بـ«اسم الفاعل». وهذه تركيبة شائعة في اللغة العربيّة، يكون معنى الصفة بموجبها واضحًا في الثقافة دون أدنى حاجة إلى الاسم المَوصُوف. وهكذا، تبدأ سورة العاديات بالقَسَم {وَالْعَادِيَاتِ}، وهي كلمةٌ جذرُها «عَدو» (وتأتي بمعانٍ، منها: جرَى وأسرَعَ ورَكَضَ وهَرْوَل وكَرَّ)؛ وهكذا يكون المعنى الحرفيّ للقَسَم هو أنّ اللهَ يُقسِم بتلك الكائنات التي تقوم بالكَرِّ. وحتّى دون إضافة اسم، يمكن فَهْمُ هذا القَسَم بسهولة على أنّه يُشير إلى الخيول.

عند التعامُل مع هذه الطائفة من القَسَم في القرآن، كان لدى البيضاويّ وعدد من المُفسِّرين القُدامَى مَيلٌ إلى النظر إلى الكلمات المُفرَدة وبمعزلٍ عن غيرها. وهذا يعني أنّهم مع فَهْمِهم القراءةَ السياقيّة لهذه التعبيرات، كانوا حريصين على تقديم كلّ القراءات البديلة الممكنة لكلّ كلمة مُفرَدة، دون اعتمادٍ على السياق لاستبعاد البدائل غير المناسبة. ففي سورة الذّاريات، ومن مطلعها إلى الآية السادسة منها، يُقْسِم الله تعالَى بأربعة عناصر، فيقول: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}.

في تفسيره للآية الأولى [من سورة الذارِيات]، يقدِّم البيضاويّ مِن ثَمّ ثلاثة تفسيرات بديلة لهذه العبارة: أنّها قد تُشير إلى: «1- الرياح، تَذرُو الترابَ وغيرَه. أو 2- النساء الوَلود؛ فإنّهنّ يَذرِين الأولاد. أو 3- الأسباب التي تَذْرِي الخلائقَ من الملائكة وغيرهم».

أمّا في الآية الثانية: {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا}، فيقدِّم البيضاويّ أربعة تفسيرات ممكنة؛ إِذْ رأى أنّ تلك {الْحَامِلَاتِ وِقْرًا} تصف: «1- السحب الحاملة للأمطار. أو 2- الرياح الحاملة للسّحاب. أو 3- النساء الحوامل. أو 4- أسباب ذلك»؛ لأنّ تلك الأسباب ينتج عنها خَلْق المخلوقات والملائكة وغيرها.

وفي قراءته للآية الثالثة: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}، يسرد البيضاويّ قائمةَ احتمالات، هي: «1- السفن الجارِية في البحر سهلًا. أو 2- الرياح الجارِية في مهابِّها. أو 3- الكواكب التي تجرِي في منازِلها»، بَينما في الآية الرابعة التي تحمل العنصر الأخير المُقْسَم به: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}، فيُشير إلى: «1- الملائكة التي تقسِّم الأمورَ من الأمطار والأرزاق وغيرها. أو 2- ما يَعُمُّهم وغيرَهم من أسباب القِسْمة. أو 3- الرياح يُقسِّمْن الأمطار بتصريف السحاب»[31].

من الواضح أنّ هذا النمط من التفكير يُتيح لنا الاستمرار -بلا نهاية- في اقتراح كلمات يتصادف أنّ لها معنًى محتمَلًا يتّصل بالكلمات المُفرَدة التي جاءت في القَسَم، ولكنْ بمعزلٍ عن سياقاتها. وكما يتّضح من الآيتَيْن التاليتَيْن [أيْ الخامسة والسادسة من سورة الذاريات]، فإنّ السياق هنا هو سياقُ قَسَمٍ لإثبات صحّة القيامة والبعث. إلّا أنّ البيضاويّ في حديثه عن المعاني المختلِفة المحتمَلة للقَسَم لا يربط بين العناصِر التي جاء القَسَم بها (وتُسَمَّى «المُقْسَم به») وبين موضوع القَسَم (ويُسَمَّى «المُقْسَم عليه»). فقد تشتّت من تلك العناصر التي جرى القَسَم بها، فلم يَرَ الهدف من كلّ تلك السلسلة من العناصر، وهو القَسَم بالرياح التي تَذرُو الأمطار، وتحمل السّحب المتراكمة، وتجري بيُسرٍ لِتَصِلَ إلى وِجْهَتِها فتُقسِّمَ الأمطار هنالك. كون القَسَم يشير إلى الرياح هو أمرٌ واضحٌ من آياتٍ قرآنيّة أخرى يُذْكَر فيها هذا المَجاز صراحةً، كالآية 57 من سورة الأعراف[32] والآية 48 من سورة الروم[33] والآية التاسعة من سورة فاطر[34]. وقد كان البيضاويّ نفسُه على درايةٍ بهذه القراءة لسلسلةِ القَسَم[35]، وقد سرَدها في جميع الآيات، ولكنْ ضمن احتمالات أخرى؛ ولهذا لم يَرَ الارتباطَ [بين ما وَرَدَ في الآيات الأربع]، وما تقودنا إليه الآيات الأربع ككلّ. في ورقةٍ سابقة، أشرتُ إلى أنّ هذه الآيات لا يمكن قراءتها سوى بصورة واقعيّة على أنّها قَسَمُ مُحاجَجة[36]، هدفه إثبات القيامة والبعث؛ ولذا ترجمتُ مطلعَ سورة الذاريات كما يأتي:

By those [winds] that scatter far and wide, that are heavily laden, that speed freely, that distribute [rain] as ordained, what you are promised is true: the Judgement will come.

فمقصد القسم إثبات أنّه تمامًا كما تحمل الرياحُ السحبَ والأمطار إلى الأرض الميّتة، فتُخْرِج من كلِّ الثمرات وتُصبح الأرضُ مُخضرَّة، سيُبعَث الناسُ بهذه الطريقة ويُنْشَرون من الأرض يَومَ القيامة: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}[الزخرف: 11]. علاوةً على ذلك، فإنّ مَن أرسل الأمطار هو الذي يُحيي المَوتَى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى...}[الروم: 50]. إنّ إغفال المَقام والسياق ونسيج النصّ في جميع حالات القَسَم الوارِدة في السور الخَمس التي أشرتُ إليها آنِفًا[37] يجعل الفقرات غيرَ واضحة ويَنشأ عنه استنباطٌ خُلْفيّ[38] لا يتوافَق مع هدَف القَسَم؛ مقارَنةً بمواضع أخرى في القرآن تكون واضحة ومُحدَّدة في إشارتها إلى تشبيه إخراج البشر من قبورِهم بعمليّة إخراج النبات من الأرض الميّتة.

الاتّساق والوُجُوه:

قد يدفع الاهتمامُ بالوُجُوه خلال الترجمة البعضَ إلى الاعتقاد أنّ هذا الأمرَ مثالٌ صارخ على عدم الاتّساق حين تُترجَم الكلمة نفسُها بطرق مختلفة. ولكنّ الأمر ليس كذلك، فعند تحديد معنى الكلمة، أو (وَجْهٍ) من وُجُوهِها، على المرء أنْ يكون متّسقًا في استخدام نفس الترجمة للكلمة متى ورَدَت بذلك المعنى (الوَجْه). ومع ذلك، فإنّ فَرْضَ معنًى واحدٍ بصورة تلقائيّة آليّة على الكلمة متعدّدة الوُجُوه يمكنه -كما أرجو أنْ يكون قد اتّضح من النقاش السابق- أنْ يقودنا إلى عدمِ الدقّة أو فَهْمِ معانٍ عبثيّة لا معقولة. لنأخذ مثَلًا كلمة {الْعَالَمِينَ} التي ترِد في القرآن 73 مرّة، في سياقات شديدة التبايُن والاختلاف؛ الأمر الذي يعني أنّ ثبات الترجمة واستخدام كلمة واحدة فقط لترجمتها قد يَنشأ عنه شيءٌ من الفوضى. فكلمة {الْعَالَمِينَ} قد تعني «جميع العوالِم» كما في الآية الثانية من فاتحة الكتاب، أو «جميع النساء» كما في الآية 42 من سورة آل عِمران[39]، أو «جميع البشر الآخَرين» كما في الآية 165 من سورة الشعراء[40]. فمثال الآية من سورة الشعراء تعبيرٌ عن اعتراض سيّدنا لوط على ممارسات قومه؛ وقد ترجمها جونز إلى «?Do you come to the males of created beings»؛ غير أنّ المقصودِين هنا هم الذّكور من البشر، وهذا ما يعترض عليه سيّدنا لوط. ولذا فإنّ ترجمة {الْعَالَمِينَ} باعتبارهم جميع المخلوقات يجعل تلك الممارَسة تتجاوَز الذّكور من البشر. وقد ترجمها أربري على نحوٍ مشابه، فاختار تعبير «male beings».

يمكن أنْ نجد مثالًا آخرَ على تعدّديّة المعاني عند تناوُل كلمة {الْكِتَاب} التي ترِد في القرآن 255 مرّة بعشرة معانٍ مختلفة؛ منها: الكتب المقدَّسة، أو فِعْل الكتابة، أو صحائف الأعمال، أو وثيقة قانونيّة لامتلاك العبيد أو تسجيل الديون. فاستخدام كلمة book في الترجمة باستمرار لن يُفيد في هذه الحالة؛ كما أنّي لا أترجم كلمة {الْكِتَاب} حين تكون إشارةً إلى القرآن إلى book؛ لأنّها تُشير بوضوح إلى نزول مقطعٍ ما أو سورةٍ ما، وكلُّ هذا تنزَّل مُفرَّقًا على مدى 23 عامًا، لا في صورة «كتاب» كما نعرفه بالمعنى الحديث. فلا يجب إذَنْ تطبيق قاعدة الاتّساق الثمينة بشكلٍ آليّ، بل علينا أنْ نتعامل مع القرآن باعتباره نصًّا له مصطلحاته الخاصّة.

ليست (الوُجُوهُ) خاصّةً بالكلماتِ المُفرَدة فحسب، وإنّما يمكننا رؤيتها في بِنًى معجميّة أكثر تعقيدًا، حيث لا يمكن لشيءٍ سوى السياق أنْ يدلّنا أيّ اختيارٍ هو الصواب؛ فعلى سبيل المثال يدلّنا في موقفٍ ما إنْ كانت إحدى الجمل ستكون تامّة في نقطة معيّنة أم ستحتاج إلى وصلها بجملةٍ تالية من أجل فَهْمِ معناها. وهكذا نجد أنّ الآية 97 من سورة المائدة تبدأ بقوله -عزَّ وجلّ-: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ...}. فهذه الجملة تبدو تامّةً، ولكنْ تتلوها عبارة: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}[41]، التي تُرجِمَت بصورٍ شتّى، كما يأتي:

so that you may know that God knows all that is in the heavens and all that is in the earth (Jones).

this is in order that you may know that God knows what is in the heavens and what is on the earth, and that God is Omniscient.(Khalidi)

so that you may know that God has knowledge of all that the heavens and the earth contain (Dawood)[42].

فَهِمَ المُفسِّرون هذه العبارة أيضًا على أنّها جملة غرضيّة، مع وجود «لام التعليل»[43]، بحيث تُقْرَأ: «من أجْلِ أنْ تَعلَموا أنّ اللهَ يعلَم...». ونتيجة إدراك المُفسِّرين أنّ ذلك أمرٌ يقبل النقاش والاختلاف أنْ يكون الله قد جَعَلَ لنا الكعبةَ والأنعام المُقدَّمة للأضاحي والهَدْي من أجْلِ أنْ (نَعْلَمَ أنّه يَعْلَم)، وما إلى ذلك ممّا يرِد في الآية، حاوَلوا تفسير وشرح هذه القراءة بطرق عدّة، منها أنّ عِلْمَ الله أمرٌ حيويّ لتحديد مدى حاجة الناس إلى الكعبة والأشهر الحُرُم وما إلى ذلك. فهُمْ يعتبرون أنّ السياق يبيِّن أنّ الله واسعُ العلم والمعرفة. لكنّي سأحاجِج أنّ هذه ليست الطريقة الصحيحة في قراءة النصّ.

فاقتراحي هو أنّ العبارة ينبغي لها أنْ تُختَتم عند ذِكْر {القَلَائِد}، قبل قوله -عزَّ وجلّ-: {ذَلِكَ}. ثمّ تأتي كلمة {ذَلِكَ} نفسها فتكوِّن جملة تامّة معناها: «قد قضَى اللهُ كلَّ ذلك»، ثم تُخْتَم الجملة، ويتلوها أمرٌ (بـ«لام الأمر» في {لِتعلَموا}) لقرّاء القرآن أنْ يذكروا أنّ الله عليمٌ بكلّ الأمور، بما فيها طاعتهم وعصيانهم، وأنّ لديه القدرة على كلّ شيء ففي استطاعته أنْ يُنزِلَ العِقاب بمَن يعصون أوامره. هذه القراءة للآية 97 [من سورة المائدة] يدعمها أمران؛ أحدهما: أنّ الآية الثانية من السورة نفسها[44] تحوي سردًا للأشياء التي قضاها اللهُ ورَسَم حدودَها وحُرمَتها، وفيها أمرٌ بعدم انتهاكِها، ثمّ تُختَم بعبارة {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. هذه العبارة نفسها تحديدًا ترِد في الآية 98، وهي التي تتلو الآيةَ مَحلَّ النقاش هنا مباشرةً [الآية 97]، ولكنّها تأتي هكذا: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. أمّا كلمة {ذَلِكَ}، التي اقترحتُ أنْ تُفْهَم على أنّها جملة تامّة في الآية 97، فتَرِد -على نحوٍ مشابه- كجملةٍ تامّة في مواضِع أخرى من القرآن؛ ومنها على سبيل المثال الآيتان 30 و60 من سورة الحَجّ[45]. السياق الذي تأتي فيه الآية 97 من سورة المائدة [وهي مَحلُّ النقاش هنا] هو سياق التحذير والتوعيد، لا سياق الإخبار عن واسعِ عِلمِ الله؛ وهذا السياق هو ما يُحدِّد كيفيّةَ تقسيم المادّة المَقروءة والوَجْهَ الصحيحَ لقراءة الكلام وترجمته.

في مثالٍ آخر، وهو الآية 38 من سورة الأنعام، يُكذّب المُشرِكون بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وتعاليمه؛ فيُرشده اللهُ (في الآية 36 من السورة نفسها) ألّا يكون من الجاهلين وألّا يَحزَن عليهم، فـ{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ}، بَينما هؤلاء كالمَوتَى الذين لا يَسْمَعُون. ثمّ تتلوها الآيتَان 37 و38؛ وهنا نقرأ كيفَ ترجمَهما أربري[46]:

They also say, Why has no sign been sent down to him from his

Lord?’ Say ...

No creature is there crawling on the earth,

No bird flying with its wings,

but they are nations like unto yourselves.

We have neglected nothing in the Book (al-kitāb); then to their Lord they shall be mustered.

هنا نجد أنّ عُتاة المُشرِكين قد طالبوا بآيةٍ ودليلٍ [على وجودِ الله]؛ ولذا جاء الوحي ينبّههم إلى النظر في آيةٍ ماثلة بينهم وهي أُمَم الطّيرِ والأنعام. فترجمة أربري هذه الآيةَ تتبَع الفَهْمَ التقليديّ لهذه العبارة تُشير إلى أنّه حتّى الطيور والحيوانات ذُكِرت في القرآن [{الْكِتَاب} كما تقول الآية]، وأنّها ستُجْمَع وتُحْشَر للقاء الله في يوم الحساب. غير أنّ هذا في رأيي فيه إيهام؛ فوَفق قراءة تُراعي السياق نجد أنّ هناك تحوّلًا في موضع التركيز في الآية، يبدأ من عبارة: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، التي لا تُشير إلى الطيور والأنعام وإنّما إلى المُشرِكين المذكورين آنِفًا (في الآية 36)، تحذيرًا لهم من أنّ الله قد أحاط بكلّ شيءٍ وأحصاه في صحائف أعمالِهم وأنّهم سيُحْشَرون أمامه يومَ الحساب. يدعم هذه القراءة حقيقة أنّ في الآية التالية للآية 38 مَحلّ النقاش هنا (أيْ الآية 39): {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ}، صدى للآية 36: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. إذن فسياق العبارة [في الآية 38] هو سياق التحذير للمعانِدين من مُنكري الوحي، لا سياق الإعلام ببعض الطيور والأنعام. أمّا مَن يُغفِلون السياق فيُخطِئون في قراءة الآية ويقومون بتجزئة محتواها بشكلٍ غير صحيح، فيعتبرون {الْكِتَاب} إشارة إلى القرآن لا إلى صحائف الأعمال التي يُحْصِي فيها اللهُ أفعالَ عباده. ولهذه القراءة آثار «كلاميّة»؛ نظرًا لأنّ مَن يَرون أنّ {الْكِتَاب} إشارة إلى القرآن يوظِّفون هذه الآية لتبرير قولهم أنّ علينا الاعتماد على القرآن فحسب، وألّا ننظر في الكتب الأخرى، باعتبار أنّ اللهَ يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.

«آية السيف»:

When the [four] forbidden months are over, wherever you encounter the idolaters, kill them, seize them, besiege them, wait for them at every lookout post; but if they repent, maintain the prayer, and pay the prescribed alms, let them go on their way, for God is most forgiving and merciful. (Abdel Haleem)[47].

ربّما كانت «آية السيف» (وهي الآية الخامسة من سورة التوبة) إحدى أشهر الآيات القرآنيّة، وإحدى أبرز الآيات التي يُساء فَهْمُها ويُساء الاستشهادُ بها من قِبَل آلات الدعاية [ضدّ الإسلام]، ومن قِبَل المتطرّفين، بل حتّى من قِبَل بعض الأكاديميّين في العصر الحديث. على سبيل المثال، نجد أنّ مايكل كوك[48] يترجمها هكذا:

Then, when the sacred months are drawn away, slay the polytheists wherever you find them, and take them, and confine them, and lie in wait for them at every place of ambush. But if they repent, and perform the prayer, and pay the alms, then let them go their way: God is All-Forgiving, All-Compassionate.

ثمّ يفسّر الآية كما يأتي[49]:

In other words, you should kill the polytheists unless they convert. A polytheist (mushrik) is anyone who makes anyone or anything a ‘partner’ (sharīk) with God; the term extends to Jews and Christians, indeed to unbelievers.

بصيغةٍ أخرى، عليكم قتلُ المُشرِكين ما لم يدخلوا في الإسلام. والمُشرِك هو كلّ مَن يتّخذ أيَّ إنسانٍ أو أيَّ شيءٍ آخر شريكًا مع الله؛ والمصطلح يتّسع ليشملَ اليهودَ والنصارى، ويشملَ الكفّارَ بالطبع.

هذا جَزْم مثير للعجب عند تطبيقه على القرآن الذي يحتوي على مصطلحات محدّدة للغاية ومنفصلة لليهود والنصارى والكفّار. علاوةً على ذلك، وكما سيظهر بشكلٍ قاطع في النقاش التالي، فإنّ الآية تُشير إلى مجموعة واحدة فقط من المُشرِكين وليست قرارًا عامًّا؛ والتوجيه بأنْ {اقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} لا يمتدّ قطعًا «ليشملَ اليهودَ والنصارى، ويشملَ الكفّارَ بالطبع».

يوظّف كوك الآية الخامسة من سورة التوبة [آية السيف] في بحثه ليُقارن هذا التفسير للآية القرآنيّة بـ«المجتمع الغربيّ الحديث، حيث يكاد يكون من المسلَّمات إلى حدٍّ كبير أنّ من الواجب التسامح مع المعتقدات الدينيّة للآخرين، بل ربّما احترامها»[50]، وقد انتشر وذاع هذا الانتقاد بعينه للإسلام. على سبيل المثال، في العام 2006م، قال البابا بِنديكت السادس عشر[51] في محاضرته بجامعة ريغنسبورغ [الألمانيّة] إنّ «الآية 256 من سورة البقرة تقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. ووَفق ما يرى بعض العلماء، فهذه على الأرجح إحدى السور التي نزلَت في مرحلة مبكّرة من الدعوة الإسلاميّة، حين كان محمّد ما يزال مغلوبًا على أمره وتحت التهديد. ولكنْ من الطبيعيّ أنّ الإمبراطور[52] كان على علمٍ أيضًا بالتوجيهات [الأخرى] المتّصلة بالحروب المقدَّسة، وهي توجيهات جاءت لاحقًا ومدوَّنة في القرآن»[53]. صحيحٌ أنّ هذه الآية قد فُسِّرَت على نحوٍ مشابه من قِبَل كثير من المسلمين، سواء في الماضي أو في العصر الحديث، واستخدمها المتطرِّفون والجماعات الإرهابيّة الراغبة في تبرير رؤاها وأفعالها؛ إلّا أنّني فيما تبقّى من هذه الورقة سأقدِّم تحليلًا دقيقًا للنصّ، إلى جانب إمعان النظر في آراء اثنين من المؤلِّفين: أحدهما هو الأكاديميّ المعاصر مايكل كوك، الذي اقتبستُ بعض أقواله آنِفًا، والآخر هو المُفسِّر والمُقرِئ البغداديّ هبة الله بن سلامة، من القرن الخامس الهجريّ/ الحادي عشر الميلاديّ[54]. من خلال هذَيْن الكاتبَيْن سأناقش الأساطير التي نشأتْ وتواتَرَتْ حول هذه الآية. وكما لا بدَّ أنْ يتّضِح من النقاش التالي، ليس بإمكاننا فهْمُ الآية الخامسة من سورة التوبة بصورةٍ صحيحة إذا عزلْناها وانتزَعْناها من سياقها؛ فهذه الطريقة مُضلِّلة وتُناقِض المعايير اللغويّة المنطقيّة والممارسات الأكاديميّة السليمة. في الواقع، ينبغي قراءة الآية مع كاملِ القسم الأوّل من السورة (الآيات 1- 28)، وجميع آياته مترابطة وتتناوَل الموضوعَ نفسَه؛ وبالتالي سيُتيح لنا هذا القسم تحليلًا سياقيًّا لـ«آية السيف» في ضوء تلك الآيات كما تأتي في النصّ القرآنيّ. ولهذا الغرض سأقتبِس من ترجمة أربري، التي استخدمَها كوك أيضًا.

تبدأ الآية بعبارة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ}. في بداية السورة، وفي معرِض إعلامِهم بقُرب انتهاء العهود مع أولئك {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، تحدِّد الآيتان الأولى والثانية الجمهورَ المستهدَف بـ{المُشْرِكِينَ}؛ ويُشار إليهم في الآيتين الأولى والرابعة بقوله تعالَى: {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. أمّا الآية الثانية فتُؤذِن المُشرِكين أنْ {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}، ومعناه أنّه حتّى بعد نقض المُشرِكين العهودَ، لم يكُن مُباحًا للمسلمين الدخولُ في حربٍ معهم على الفَور؛ وإنّما هناك مُهلة تمتدّ أربعةَ أشهر، يمكن خلالها أنْ يَمضي المُشرِكون في حياتهم كما اعتادوا من قبل، دون أدنى تشويش، على الرّغم من تذكيرهم أنّ {اللهَ مُخْزِي الْكَافِرينَ}. ويُخبرنا القرآن أنّ هذا {أَذَانٌ مِنَ اللهِ} جاءَ بطريقةٍ تضمن أنْ يصل إلى جميع أنحاء الجزيرة العربيّة، في ذروة مَوسم الحَجّ [يوم عرفة]؛ فتقول الآية الثالثة {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. ولكِنْ، كما معتادٌ في القرآن، هناك دائمًا باب مفتوح للمُشرِكين؛ فينصحهم بالقول: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. أمّا الآية التالية [الرابعة] فتستثني [من البراءةِ والأذانِ] أولئك {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.

نتيجةً لهذا، فإنّ الآية الخامسة من سورة التوبة -حين نقرؤها في سياق الآيات الأربع السابقة لها- تتحدّث بوضوحٍ وبشكلٍ صريح للغاية عن أولئك المُشرِكين الذين نقضوا عهودَهم و«ظاهَروا الآخرين على المسلِمين». بصيغةٍ أخرى، تتحدّث الآية عن أولئك الذين أدخلوا أنفسَهم في حالة حرب [مع المسلمين]، من خلال نقضهم عهود السلام ومساندة الآخرين ضدّ المسلمين. ليست «ال» التعريف في عبارة: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} «جنسيّةً» (أيْ «عامّة وشاملة»)، وإنّما هي «عَهْدِيّة» (أيْ «خاصّة ومحدَّدة»)، لا تُشير سوى إلى المُشرِكين المذكورين في الآيات الأربَع الأُوَل من السورة. وأداةُ التعريف العَهْدِيّة من السِّمات الأساسيّة في النحو العربيّ. يبدو أنّ كوك، في تعليقاته على الآية التي استشهدْنا بها آنِفًا، قد أساء تفسير أداة التعريف هذه لأنّه اعتمد -كما يُقرّ هو في ثنايا حديثه- على ترجمة أربري، لا على النصّ العربيّ للآية[55]. علاوةً على ذلك، يَعزل كوك الآيةَ الخامسة عن كلّ ما يسبقها أو يتلوها من آيات؛ فلو قُرِئت في الأصل العربيّ -أو حتّى في الترجمات- مع ما يُحيط بها من آيات (أي الآيات الرابعة والخامسة والسادسة وما بعدها)، فسيبدو تفسيرها الصحيح واضحًا. أمّا في البحث والنقاش الذي أجراه كوك فقد تمّ تجاهُل كلٍّ من النصّ العربيّ والسياق.

على نحوٍ مشابه، نجد أنّ ترجمة أربري لصيغة الأمر {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} مضلِّلة أيضًا، وينبغي قراءتها في الواقع على أنّها «فيُمكِنكم أنْ تقْتُلوا المُشرِكِين». في اللسانيّات العربيّة والفقه الإسلاميّ، تشمل صيغة الأمر نطاقًا واسعًا من المعاني (وقد استقصى محمّد أديب صالح[56] مؤخّرًا خمسة عشر معنًى مختلِفًا). على سبيل المثال، يمكن استخدام هذه الصيغة لإصدار أوامر، أو الإشارة إلى الإباحة، أو في سياق النُّصْح والتشجيع[57]. واستخدام صيغة الأمر في هذه الحالة بسورة التوبة يستوفي شروط القاعدة الفقهيّة القائلة إنّ «الأمر بعد الحَظْرِ للإباحة» (وهي مستخلَصة من تحليل النصّ القرآنيّ، واتّفقَ عليها معظم الفقهاء)[58]. ولنأخذ مثالًا آخر على ورود «صيغة الأمر للإباحة». في شهر رمضان يصوم المسلمون ويمتنعون عن الطعام والشراب نهارًا. حين يُخبرهم القرآن: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}؛ فإنّه لا يأمرهم بالطعام والشراب، وإنّما يُعيد إرساء حالة الإباحة الأصليّة[59]. واتّساقًا مع هذا، فبعد انتهاء مهلة الأشهر الأربعة -التي لا يُسمَح خلالها للمسلمين بقتال المُشرِكين الذين نقضوا العهود- لا يُؤمرون بالقتال، وإنّما يعودون إلى حالِهم الأصليّ من الإباحة. وتعني ببساطة أنّه لم يَعُد هناك التزام آخر بالامتناع عن قتال المُشرِكين؛ لهذا يقول الفخر الرازيّ بشكلٍ قاطع «إنّه -تعالَى- عند انقضاء هذه الأشْهُر الحُرُم أذِنَ في أربعةِ أشياء...»[60].

كما ذكرتُ آنِفًا، يستخدم كوك -في تعليقه على هذا الجزء من الآية الخامسة من سورة التوبة- العبارة التوضيحيّة «بصيغةٍ أخرى، (عليكم قتلُ المُشرِكين ما لم يدخلوا في الإسلام)». مع ذلك، حين نفحص الآية في سياقها، يتّضح أنّ هذه القراءة لا يمكن أنْ تكون صحيحة؛ لأنّ القتلَ ليس سوى أحد بدائل أربعة مباحة ذُكِرَت في الآية؛ والثلاثة الأخرى، هي: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}.

يقول الله تعالَى في القسم الثاني من «آية السيف»: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}. لا ينبغي أنْ نقرأ هذا على أنّه شرطٌ لعدم القتل؛ لأنّ هذا لا يعني أنّ على المسلمين أنْ يواصلوا قتل المُشرِكين حتّى/ إلى أنْ يتوبوا. حين ينظر المرءُ إلى المصطلح العربيّ المستخدَم هنا، يلحظ استخدام حرف (إنْ) الشَّرْطيّ، وهذا الحرف على نقيض الحرف الآخر (حتّى)، الذي له معنَيان: معنى التعليل الذي يُشير إلى الغرض («لكي»)، ومعنى الغاية الذي يُشير إلى الحدّ والوِجْهة («إلى حدِّ كذا» أو «إلى أنْ»)، والذي يرِد في الآية 193 من سورة البقرة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنةٌ}[61]. ولهذا، فإنّ التوجيه الوارِد في الآية الخامسة من سورة التوبة: {فَإِنْ تَابُوا... فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يعني أنّ «عليكم أيضًا العفو عنهم وعدم الاستمرار في ملاحقتهم». هذا التفسير تؤكّده الآية الحادية عشرة من السورةِ نفسِها، حيث يقول الله -عزَّ وجلّ-: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}؛ وهذه العبارة تفتح أيضًا البابَ أمام أيِّ أحدٍ من المُشرِكين يرغب في هذا الخيار. من الجدير بالملاحظة هذا الانقطاع في الجملة كما يُلاحَظ هنا، وقد برهنّا بالفعل على أنّ الاستثناء جاء في الآية الرابعة، أيْ قبل الآية الخامسة لا فيها، وهذا مثال على الطريقة التي تميِّز القرآن في تقييداته وحذره حين يتعلّق الأمر بالقتال[62]. بإمكاننا أنْ نلحظ هذا المستوى من الحذر في المقطع الذي نناقشه مع تكرار حرف (إنْ) الشرطيّ في الآيات 3 و5 و6 و11 و12[63]. تتكرّر أيضًا أداةُ الاستثناء (إلّا) في الآيتَين الرابعة والسابعة. ويمكننا أنْ نرى تقييدًا أيضًا في نهايات الآيات، إِذْ تحثّ المسلمين بالقول {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[الآية: 4]؛ {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الآية: 5]؛ {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[الآية: 7]؛ {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الآية: 15]؛ {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الآية: 16].

هل من جديد في «آية السيف»؟

من الناحية الزمنيّة، فإنّ سورة التوبة هي آخر سورة ذُكِر فيها القتال. والإذنُ الذي تمنحه بقتالِ وأَسْرِ المُشرِكين الذين نقضوا عهودَهم، وبالتالي دخلوا في حالة حرب مع المسلمين =ليس شيئًا جديدًا. فالآية 39 من سورة الحَجّ، وهي من الناحية الزمنيّة أوّل آية تتعلّق بإباحة القتال والإذْنِ فيه، تقول: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ[64] بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. أمّا الآيات 56- 58 من سورة الأنفال -وعادةً ما يؤرَّخ نزولها بالسنة الثانية بعد الهجرة، بعد غزوة بدر؛ أيْ قبل حوالي سبع سنوات من نزول «آية السيف»- فنصّها كما يأتي:

{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.

تنعكس عبارة: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} من الآية 58 من سورة الأنفال، في الآيتَين السابعة والثامنة من سورة التوبة، حيث يقول اللهُ -عزَّ وجلّ-: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} إضافةً إلى هذا، تشتمل الآية 190 من سورة البقرة -وهي سورة أخرى ممّا نزَل قبل «آية السيف»- توجيهًا للمسلمين أنْ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. فهنا يُحْظَر على المسلمين بوضوح الاعتداء وتجاوُز الحدود؛ فيما تصف الآية العاشرة من سورة التوبة المُشرِكين بأنّهم {هُمُ الْمُعْتَدُونَ}. من جديد نجد الآية 191 من سورة البقرة تقول: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ[65] وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}؛ وهذه لا تختلف عن التوجيه الوارِد في «آية السيف» {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (أيْ: الذين نقضوا العُهود) {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. وعلى نحوٍ مماثِل، يأتي في سورةٍ مَدَنيّة أخرى -سبق نزولُها نزولَ سورة التوبة، وتُشير إلى المنافقين محذِّرةً المسلمين من «اتّخاذهم أولياء»- قولُ الله تعالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[النساء: 89].

آية السيف والنَّسْخ:

ليس علماء العصر الحديث وحدهم مَن ارتكبوا خطأ إساءة قراءة القرآن بناءً على قراءة غير سياقيّة للنصّ. فالمُفسِّر والنَّحْويّ والمُقرِئ هبة الله بن سلامة[66]، مؤلّف كتاب (الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم)، هو مثال بارز على شخصٍ ملتزِم بمفهوم «النَّسْخ»، الذي يعني أنّ بعضَ الآيات تَنْسَخ غيرَها وتُبطِلُ حُكْمَها، بدلًا من التفريق الدقيق بين الآيات ووضع بعضها بعضًا في سياقاتها. ووفقًا لابن سلامة، فإنّ «آية السيف» نَسَخَت في القرآن 124 آيةً[67]، ومن المثير للدهشة أنّه يرى الجملةَ الرئيسة الأولى في الآية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} منسوخة بالتوجيه الأخير {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}[68]. إضافةً إلى ذلك، فإنّه يمضي بعد هذا ليقول إنّ اللهَ قد نَسَخَ العبارة المتعلّقة بالتوبة [في الآية الخامسة] بما وَرَد في الآية السادسة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}.

تكشف لنا مُقاربة ابن سلامة شيئًا مِنْ فَهْمِه لمعنى كلمة «النَّسْخ»، وكيف أنّ هذا الفَهْمَ قادَهُ إلى تقديم ادّعاءات غير دقيقة حول النّسْخ في القرآن، ما زالت للأسف تتكرّر إلى اليوم. وهذا يُعطينا مثالًا كيف أنّ المصنِّفين في التراث الإسلاميّ -كما هو الحال في أيّ عُرْف أكاديميّ- عادةً ما يُخلّدون المزاعم أو الكلام الذي قالَه أسلافُهم دون تمحيص أو تدقيق[69]. ومع أنّ هذه الممارَسة قد تُعتبَر تمثيلًا للنزاهة الأكاديميّة/ العِلميّة، من حيث إنّها تعمل بفعاليّة ضدّ كتمان المعلومات، فإنّ مع الفحص الدقيق لن يصمد كثيرٌ ممّا قاله ابنُ سلامة أمام تحليلٍ لغويّ أو نصِّيّ سليم. في الواقع، يُظْهِر ابن سلامة تجاهُلًا تامًّا للسياق، ويلوي أعناق جملٍ قصيرة عن مواضعها، كما سنرى من خلال قليل من الأمثلة الموضّحة فيما يأتي.

فيما يتّصل بالآية 83 من سورة البقرة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[70]، يعتبر ابن سلامة أنّ الأمرَ في هذه الآيةِ أنْ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} قد نُسِخَ بـ«آية السيف»[71]. ولكن، وعلى أساسٍ منطقيّ بحت، كيف لوصفِ توجيهٍ خُوطِب به بنو إسرائيل في زمن موسى -عليه السلام- حول قضايا السلوك العامّ والتعامُل مع الآخرين أنْ يتمّ نَسْخُه بإذنٍ مُحَدَّد مُنِح للمسلمين في زمن محمّد -صلى الله عليه وسلم- بقتالِ جماعةٍ مُعيَّنة من المُشرِكين الذين نقضوا عُهودَهم؟ هذا المثال وحده يُبرِز بوضوح تجاهُلَ ابن سلامة التامَّ للسياق باعتباره مبدأً وقاعدة منهجيّة.

أمّا في حالة الآيتَين 11 و12 من سورة غافر [المُؤمِن]، فنجد الآية 11 تصف كيف يُقِرّ هؤلاء المُشرِكون في جَهنّم قائلين: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}؛ فيأتيهم الجواب في الآية 12، على لِسان الملائكة: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}. يَجزم ابن سلامة هنا، بشكلٍ صارخ وغامض وخِلافًا للسياق، أنّه قد «نُسِخَ مَعنَى الحُكم في الدُّنيا بآيةِ السيف»[72]؛ وما يراه ابن سلامة منسوخًا في الآية 12 من سورة غافر هو عبارة: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}. العجيب أنْ تُفَسَّر هذه العبارة، التي أُبلِغنا أنّ الملائكة تقولها لمَن يَدخلون جَهنّم في الحياة الآخِرة، على أنّها منسوخة بآيةٍ تأذَن بقتال المُشرِكين الذين نقضُوا صُلْحَ الحُدَيبية.

في المثال الأخير، وهو الآية السادسة من سورة الإنسان، يتحدّث المولَى -عزَّ وجلّ- عن عبادِه {الْأَبْرَار} في يوم الحساب، فيقول: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}. وفي الآية السابعة وما يتلوها، يَطرح القرآنُ سببَ هذا الفضل والنعيم بقولِ الله تعالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ...}. على نحوٍ مشابه للأمثلة التي تناولناها سابقًا، يُخبرُنا ابن سلامة -دون الالتفات إطلاقًا إلى السياق التي تَرِد فيه الآيات- أنّ إطعام الأسرى قد نُسِخَ بآية السيف[73]! وفي نهاية كتابه، يمضي ابن سلامة بعيدًا ليجزم أنّ «كُلّ ما كان في القرآنِ من قولِه تعالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}، وقولِه تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}، وقولِه تعالى: {فتَوَلَّ عَنْهُمْ}، و{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ}، و{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}، و{فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الجَمِيلَ}، فهذا وما شاكَله منسوخٌ بآيةِ السيف»[74].

خاتمة:

في النقاش السابق رَأَيْنَا الأهميّة الحاسمة للسياق في تحديد المعنى والوصول إلى تفسيرٍ وترجمةٍ يتّصفان بالدقّة والفعاليّة. وَرَأَيْنَا أيضًا أنّ سِمَةَ (الوُجُوه)، أيْ تعدّد المعاني التي لا يتطلّب السياق سوى أحدها، هي إلى حدٍّ كبير جزءٌ لا يتجزّأ من الأسلوب القرآنيّ، وأنّ مفهوم السياق -الذي يُعَدّ أحد أبدَع وأدقّ اكتشافات علماء البلاغة العرب- قد جاء نتيجةَ دراساتهم في القرآن. لذلك، فإنّ مراعاةَ السياق أمرٌ حيويّ في أثناء تفسير القرآن وترجمته إلى لغاتٍ أخرى. ولا تنحصر آثار السياق في تحديد معنى الكلمات، وإنّما تنطبق أيضًا على اعتباراتٍ أخرى من قَبِيل ذِكر شيءٍ ما أو إغفاله، وترتيب محتوى الآيات، وحجم المعلومات الوارِدة فيها. على سبيل المثال، في الآية 101 من سورة الإسراء، يخبرنا اللهُ تعالى عن قصّة موسى -عليه السلام- قائلًا: {ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}؛ لفَهْمِ سبب ورود هذا الأمر هنا [في السورة]، علينا قراءة الآيات 90- 93، التي يتحدّى فيها مُشرِكو مكّة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سائلين إيّاه ثماني مُعجزاتٍ؛ فقالوا، على سبيل المثال: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا}. من الطبيعيّ أنّ هذا أَحْزَن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا تُطَمْئِنُه الآية 101 بالقول إنّ موسى -عليه السلام- قد أُعطِيَ {تِسْعَ آيَاتٍ}، وإنّ فرعون استمرّ على رفضه بعد كلّ ذلك؛ ولذا نزل به العقاب الإلهيّ. من الضروريّ، في حالة هذه الآية تحديدًا، معرفة السياق النصّيّ في السورة من أجلِ فَهْم سبب ذِكر الآيات التّسع هنا.

على نحوٍ مماثِل، يمكن لسياقِ السورة في القرآن أنْ يُحدِّد ترتيبَ محتواها وحجمَ مادّتها وكلماتها. فعلى سبيل المثال، تبدأ سورة الشعراء بعرض مدى حُزْن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إِثْر إعراض مُشرِكي مكّة عنه وعدم إيمانهم به؛ ولتثبيت فؤاد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تأتي السورة بأخبار سبعة أنبياء ممّن سبقوه، مع تفاصيل عن كيفيّة استجابة أقوامهم لدعوتهم والعقاب الذي حاقَ بالمُشرِكين. وبشكلٍ ذي دلالة، جاءت قصّة موسى -عليه السلام- في البداية؛ نظرًا لأنّه أيضًا كان خائفًا أنْ يُكذّبه قومُه، قائلًا: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}؛ ليكون عونًا له في حَمْل الرسالة، فتستغرق قصّة موسى -عليه السلام- 58 آيةً من السورة. في المقابل، نجد أنّ سورة القمر، التي يرِد فيها قصص خمسةٍ من الأنبياء، تأتي على قصّة موسى في نهاية تلك القصص، ولا تذكره حتّى باسمه؛ وإنّما تُشير في آيتَين باختصارٍ شديد وتركيز إلى أنّه: {جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ}. فسورة القمر تركِّز على {النُّذُر} التي أُرْسِلَتْ إلى الأقوام المختلفة، وكيف كذّبوا بها {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}، وكلّ القصص في السورة تُحْكَى باختصار. وهكذا فإنّ سردًا مطوَّلًا لقصّة موسى -عليه السلام- لا يتناسب مع سياق السورة.

ينطبِق أيضًا هذا المبدأ -حول سبب ذِكْر أمرٍ ما في نقطة بعَينها- على الآيتَيْن 238 و239 من سورة البقرة، حيث يقول الله تعالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. يأتي هذا التوجيه وسط حديثٍ عن الطلاق، يتناوَل مرحلة ربّما انْخَرَطَ فيها الطرفان في خصومةٍ حادّة؛ فيطلب منهما القرآن أنْ يتوقّفَا ويُقيمَا الصلاة ثمّ يَعُودا إلى النقاش والحوار، رجاءَ أنْ يَرجِعا في مزاجٍ أفضل. ينطبق المبدأ نفسُه على الآية السادسة من سورة المائدة؛ فبَينما يُقدِّم القرآن توجيهات للمُؤمِنين باجتناب غيرِ {الطَّيِّبَات} من الطعام، و«عدم اتّخاذ أخدان»، يوجِّه القرآن مرّة أخرى قُرّاءَهُ إلى «القيام إلى الصلاة»، ولكنْ قبل فعل هذا عليهم أنْ «يغسلوا أعضاءً من أجسادِهم، وأنْ يطَّهَروا»؛ فإنّ الله {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}. وعلى نحوٍ مشابه، تبرز أهميّة الترتيب الذي تُقَدَّم به مادّة الآية ومحتواها في الآية الثانية من سورة الكهف، على سبيل المثال، حيث يُخبرنا الله -عزَّ وجلّ- أنّه: «أَنزَلَ الكِتابَ» على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ فيما تقول عنه سورة فصِّلت أنّه جاء {بَشِيرًا ونَذِيرًا}، في ترتيبٍ عكسيّ، وذلك نتيجةً للسياق.

تعمل زيادة الوعي بأهميّة السياق الذي يشكِّل آياتٍ معيّنة =على مواجهة وتصحيح أيّة تصوّرات تقول بفوضويّة سور القرآن في بنائها أو تقول إنّ القرآن يقدِّم جملًا غير منطقيّة أو مغالَطات تاريخيّة، أو ترى أنّ السجْعَ والقافية في القرآن محضُ زخرفٍ من القول، أو تنظر إلى السور المكّيّة على أنّها محاكاةٌ لسَجْعِ الكُهّان. كذلك فإنّ للسياق آثارًا ودلالاتٍ كَلاميّة على القراءات التي تزعم أنّ تلك التعاليم موجّهة ضدّ غير المسلمين وضدّ التفكير العلميّ الحديث وأساليب العيش الحديثة. كما أوضَحْنا في هذه الورقة، يُرجَّح أنْ يُخْطِئ المترجِمون في ترجمة النصّ القرآنيّ عند اتّباعِهم نهجًا تفتيتيًّا و/ أو حرفيًّا، مُعِيرِين انتباهَهم إلى الكلمات والآيات بمعزلٍ عمّا يحيط بها؛ وذلك غالبًا ما يكون نتيجةَ اقتفائهم أثرَ ترجماتٍ سابقة دون نقدٍ وتمحيص، أو نتيجةَ عدم الالتفات إلى سمة (الوُجُوه) المهمّة المميِّزة للنصّ القرآنيّ[75]؛ لهذا من الضروريّ لكلّ مَنْ يُشارِك في تفسير القرآن وترجمته أنْ يظلّ السياق في أذهانهم، سواء «سياق النصّ» أمْ «سياق الموقف».

المصادر:

Abdel-Haleem, M.A.S., The Quran, English Translation with Parallel Arabic Text (Oxford: Oxford University Press, 2010).

, Exploring the Qur’an: Context and Impact (London: I.B. Tauris, 2017).

, ‘Divine Oaths in the Qur’an’, Journal of Quranic Studies, Occasional Paper 1 (2013).

Cook, Michael, The Koran: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2000).

Pope Benedicts XVI, ‘Faith, Reason and the University: Memories and Reflections’, p. 2. Available at: www.vatican.va/content/benedict-xvi/en/speeches/2006/september/documents/hf_ben-xvi_spe_20060912_university-regensburg.html ـ(accessed 5 April 2016).

Watt, W. Montgomery, and Richard L. Bell, Introduction to the Qur’an (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1970.
 

- ابن الأثير، ضياء الدين، المَثَل السائر في أدب الكاتب والشاعر (القاهرة: مكتبة مصطفى البابيّ الحلبيّ، 1939).

- الأندلسيّ، أبو حيّان، البحر المحيط (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1993).

- البيضاويّ، ناصر الدين، تفسير البيضاويّ [أنوار التنزيل وأسرار التأويل] (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1988).

- حسّان، تمّام، البيان في روائع القرآن (القاهرة: عالَم الكتب، 1993).

—، «السبع المثاني (الآية 87 من سورة الحِجْر)»، مجلّة الدراسات القرآنيّة 6.2 (2004)، ص172- 184.

———، اللغة العربيّة: مَبناها ومَعناها (القاهرة: دار الثقافة، 1973).

- الرازيّ، فخر الدين، التفسير الكبير [مفاتيح الغيب] (بيروت: دار إحياء التراث العربيّ، 1980).

- ابن سلامة، هبة الله، الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم (بيروت: دار اليمامة، 1986).

- صالح، محمّد أديب، تفسير النصوص في الفقه الإسلاميّ (بيروت: المكتب الإسلاميّ، 1993).

- القزوينيّ، جلال الدين، شرح التلخيص في علوم البلاغة (دمشق: دار الحكمة، 1970).

- مجمع اللغة العربيّة، المعجم الوسيط، مجلّدان (القاهرة: مجمع اللغة العربيّة، 1972م).

 

[1] هذه المادة هي ترجمة لمقالة: The Role of Context in Interpreting and Translating the Qur’an، المنشورة في Journal of Qur’anic Studies  في عام 2018.

[2]  ترجم هذه المادة، إسلام أحمد، باحث ومترجم، له عدد من الأعمال المنشورة.

[3] هذه قائمة، من إعداد المترجِم، بأبرز ترجمات القرآن إلى اللغة الإنجليزيّة، مرتَّبة وَفْقَ عام صدورها؛ وبيانات النشر هي للطبعة الأولى منها:

George Sale, The Koran, commonly called The AlCoran of Mohammed (London, Great Britain: C. Ackers Publishers, 1734).

Muhammad Marmaduke Pickthall, The Meaning of the Glorious Koran (New York City, NY: Alfred A. Knopf, Inc., 1930).

Abdullah Yusuf Ali, The Holy Qur’an: Translation and Commentary (Lahore, British Raj: Shaikh Muhammad Ashraf Publishers, 1934).

A. J. Arberry, The Koran Interpreted (London, UK: Allen & Unwin, 1955).

N. J. Dawood, The Koran (London, UK: Penguin Books, 1956).

Muhammad Asad, The Message of the Qur’an (Gibraltar: Dar al-Andalus, 1980).

Muhammad Mahmoud Ghali, Towards Understanding the Ever-Glorious Qur’an (Cairo, Egypt: Publishing House for Universities, 1997).

Muhammad A. S. Abdel-Haleem, The Qur’an (Oxford, UK: Oxford University Press, 2004).

Alan Jones, The Qur’an (Oxford, UK: Gibb Memorial Trust, 2007).

Tarif Khalidi, The Qur’an (London, UK: Penguin Books, 2008).

Seyyed Hossein Nasr et al., The Study Quran (San Francisco, CA: Harper One, 2015).

[4] ينقسم علم البلاغة إلى ثلاثة علوم فرعيّة: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. وقد جاء في (الموسوعة العربيّة) شرحٌ لأقسام علم البلاغة، ملخَّصه: «علم المعاني: هو العلم الذي يتناول أحوالَ الجملة من حيث الخبر والإنشاء، ومن حيث القصر والفصل والوصل، ومن جهة الإيجاز والإطناب والمساواة، وأحوال أجزاء الجملة، والتعريف والتنكير، والحذف والذِّكر، والتقديم والتأخير، والإظهار والإضمار. فالبلاغة تدرسُ الأسرارَ الكامنة وراء هذه الأحوال، أيْ (معنى المعنى) كما سمّاه عبد القاهر الجرجانيّ. أمّا علم البيان فيتناول التشبيهَ والحقيقة، والمَجازَ المفرَد والمركَّب، والاستعارةَ وعلاقاتِها بالمَجاز، والفرقَ بين التشبيه والاستعارة، وأقسامَ الاستعارة وخصائصَها ومزاياها البلاغيّة ووظائفَها الجماليّة، والكِنايةَ وأقسامَها وعلاقاتها، والفرقَ بين الكِناية والتعريض. أمّا علم البديع فهو من فنون البلاغة المختلفة كالاستعارة والتمثيل والتجنيس والحشو؛ وقد سمّاه بعضهم(وُجُوه تحسين الكلام) ولم يُدخِله في البلاغة».[المترجِم]

[5] القزوينيّ، شرح التلخيص، ص14.

[6] تمّام حسّان (1918- 2011م) من أبرز اللغويّين والنحويّين العرب في العصر الحديث. أتمَّ حفظَ القرآن في قريته بصعيد مصر وهو في سنّ الحادية عشرة، والْتَحَقَ بالمعهد الأزهريّ ثمّ كليّة دار العلوم بجامعة القاهرة. سافر إلى بريطانيا عام 1946م في بعثة علميّة، فحصل على الماجستير والدكتوراه في اللهجات العربيّة من جامعة لندن. عاد بعد ذلك إلى مصر، ودرَّس في جامعة القاهرة، ثمّ تولّى عمادة كليّة دار العلوم عام 1972م، وفي العام نفسِه أنشأ الجمعيّة اللغويّة المصريّة. انتُخِب عضوًا بمجمع اللغة العربيّة عام 1980م. حصل على جائزة الملك فيصل في اللغة العربيّة والآداب عام 2006م. فرَّقَ بين الزمن النحويّ والزمن الصرفيّ؛ وأعاد تقسيم الكلام على أساس المبنى والمعنى، لا التقسيم الثلاثيّ المعروف (اسم، وفعل، وحرف)، فكان تقسيمه في سبعة أقسام: الاسم، والصفة، والفعل، والظرف، والضمير، والأدوات، والفواصل. من أهمّ آثاره العلميّة: اللغة العربيّة: معناها ومبناها، وفيه صاغ نظريّاته النحويّة التي خالَف بها سيبويه، واللغة العربيّة بين المعياريّة والوصفيّة، ومناهج البحث في اللغة، والبيان في روائع القرآن والخلاصة النحويّة؛ وله عشرات المقالات والأبحاث المنشورة في الدوريّات العِلميّة. [المترجِم]

[7] حسّان، اللغة العربيّة، ص337، 372.

[8] برونسيلاف كاسپر مالينوفسكي (1884- 1942م) Bronisław Kasper Malinowski أستاذ جامعيّ وعالِم اجتماع إنجليزيّ من أصلٍ بولنديّ. من أبرز علماء الأنثروپولوجيا في القرن العشرين الميلاديّ، ومن علماء اللسانيّات الأنثروپولوجيّة (anthropological linguistics) وهو مؤسّس علم الأنثروپولوجيا الاجتماعيّة (social anthropolgy). درَس علمَ الأعراق (ethnology) في جامعة لايپزيغ الألمانيّة، ثمّ انتقل إلى بريطانيا في العام 1910م ليلتَحِق بمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسيّة LSE التي حصل منها على الدكتوراه في الأنثروپولوجيا. أسهم بشكلٍ كبير في مجال اللسانيّات الأنثروپولوجيّة؛ وقد صاغ المصطلح المُشار إليه هنا في ورقةٍ له نَشَرَها عام 1920م في مجلّة كليّة الدراسات الشرقيّة (Bulletin of the School of Oriental Studies) [وهي اليوم Bulletin of SOAS]، وفيها يقولإنّ «الحقيقة اللسانيّة الخالِصة هي الكلام التامّ في سياق موقفه». [المترجِم]

[9] ابن الأثير، المَثَل السائر، (2/ 4).

[10] كان لابن عبّاس (ت. 68هـ/ 687م) وعليّ بن أبي طالب (ت. 41هـ/ 661م) -رضيَ اللهُ عنهما- آراء وتعليقات على هذه السِّمة في الأسلوب القرآنيّ. ومع تطوّر الدراسات القرآنيّة، صارت هناك دراسات وكتابات منفصلة حولها، تحمل أسماء متنوّعة، من قَبيل الأشْبَاه والنظائر (لمُقاتِل بن سليمان، ت. 150هـ/ 767م) والتصاريف (ليَحيى بن سلام، ت. 200هـ/ 815م) وما اتّفَق لفظُه واختلَفَ معناه من القرآن المجيد (للمُبَرِّد، ت. 285هـ/ 898م) والوُجُوه والنظائر في القرآن (للدامِغانيّ، ت. 478هـ/ 1085م). يُعتبَر كتاب مُقاتِل، الذي اشتُهِر باسم الوُجُوه والنظائر في القرآن [ككتاب الدامِغانيّ]، مثالًا جيّدًا على هذه الدراسات؛ ففيه يتناوَل 185 من تلك الوُجُوه، ويمكن تصنيفُهم تحت 12 عنوانًا، بدءًا بكلمة واحدة تحمل 17 وَجْهًا، وانتهاءً بـ42 كلمةً لكلٍّ منها وَجْهان. وهكذا نجد في كتاب مُقاتِل وما تلاه من تصانيف إشارةً واضحة على مدى اتّساع تلك السِّمة من سِمات الخطاب القرآنيّ، الأمر الذي يجعلها -كما سيتّضح خلال هذه الورقة- قضيّةً مهمّة خلال عمليّة ترجمة القرآن إلى لغاتٍ أخرى.

[11] القول بأن النتاج التفسيري للقرآن يفتقد في تحديده للمعنى إلى مراعاة السياق بهذا التعميم -والذي نقع عليه في كثيرٍ من الدّرس العربي والإسلامي المعاصر- قولٌ فيه مبالغة؛ فالمفسرون اعتبروا السياق في إنتاج التفسير، كما أنّ السياق هو أحد أدوات الترجيح في الموازنة بين المقولات التفسيرية كما هو معلوم لمن يطالع المدونة التفسيرية. إنّ اقتراحَ طرائق تحليل جديدة تُعِين على استثمار السياق وتزيد من فعالية توظيفه كأداة تفسيرية أمرٌ مقبولٌ جدًّا إلا أنّ توسُّلَ تأسيس أهميته بدعوى افتقاد المدونة التفسيرية لاعتبار السياق في التفسير على هذا النحو، هو أمرٌ يفتقد للدِقَّة. (قسم الترجمات).

[12] انظر، على سبيل المثال، الإدخالات ذات الصلة في:

Lane’s Lexicon.

Wehr’s Arabic-English Dictionary.

[13] انظر:

Watt and Bell, Introduction to the Qur’an, p. 169.

[14] {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

[15] جورج سِيل (1697- 1736م) George Sale مُحامٍ ومُستشرِق إنجليزيّ. وُلِد في كانتربيري وتُوفّي في لندن. من أبرز أعماله ترجمة للقرآن إلى اللغة الإنجليزيّة نُشِرَت عام 1734م، وتتضّح في المقدّمة التي كتبها لها معرفتُه بعادات العرب والتقاليد والأخلاق الشرقيّة؛ وهي الترجمة التي امتدحها الكاتب والفيلسوف الفرنسيّ ڤولتير، وما تزال تُطْبَع إلى اليوم. كانت لدى سِيل مكتبة كبيرة فيها من نوادر المخطوطات العربيّة والفارسيّة والتركيّة، منها (وَفَيات الأعيان) لابن خَلِّكان، وهذه النوادر اليوم حازتها مكتبة بُودْلي، أهمّ مكتبات جامعة أكسفورد. وقد كان سِيل من أوائل الأعضاء في (جمعيّة تعزيز المعرفة بالمسيحيّة). [المترجِم]

[16] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

[17] الأندلسيّ، البحر المحيط، (2/ 123).

[18] {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}.

[19] المترجم هنا هو طريف الخالدي (1938م-...) Tarif Khalidi مؤرِّخ فلسطينيّ، وُلِد في القدس. والده هو أحمد سامح الخالدي (1896- 1951م)، الأديب المقدسيّ، وأحد كبار التربويّين العرب في العصر الحديث، ووالدته هي الأديبة والمترجمة اللبنانيّة عنبرة سَلام (1897- 1986م)، أوّل مَن ترجمت الإلياذة إلى اللغة العربيّة إضافة إلى ترجمتها الأوديسّة؛ وطريف هو شقيق المؤرّخ وليد الخالدي، أحد المشارِكين في إنشاء مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة في بيروت. سافر طريف إلى بريطانيا ودرَس في جامعة أكسفورد، ثمّ حصل على الدكتوراه من جامعة شيكاغو الأمريكيّة. اشتغل بالتدريس في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وبعد مدّة رحَل إلى بريطانيا من جديد ودرَّس في جامعة كامبريدج، قبل أنْ يعود مرّة أخرى إلى الجامعة الأمريكيّة في بيروت ليشتغل فيها بالدراسات العربيّة والإسلاميّة. من أبرز كتبه: أنا والكتب، وفكرة التاريخ عند العرب (1994م)  Arabic Historical Thought in the Classical Period، والإنجيل برواية المسلمين (2001م) The Muslim Jesus، وصور النبيّ محمّد (2009م) Images of Muhammad، والجاحظ: إنسانويّ مسلم لعصرنا (2009مal-Jahiz: A Muslim Humanist for our Time؛ لم يترجَم بعد، فكتبه تكون إمّا بالعربيّة ويترجمها هو إلى اللغة الإنجليزيّة أو العكس. وله ترجمة للقرآن إلى اللغة الإنجليزيّة نُشِرَت عام 2008م بعنوان: The Qur’an عن دار Penguin في لندن. [المترجِم]

[20] المترجم هنا هو آلان جونز (1933-...) Alan Jones أستاذ اللغة العربيّة في جامعة أكسفورد البريطانيّة. له إلمامٌ باللغة وبشعر المُوَشَّحات وبالدراسات القرآنيّة. من أبرز أعماله: ترجمة القرآن إلى اللغة الإنجليزيّة، صَدَرَت عام 2007م عن Gibb Memorial Trust بعنوانThe Qur’an. له أيضًا العربيّة من خلال القرآن (2005م) Arabic Through the Qur’an، وفيه سعى إلى تعليم اللغة العربيّة عن طريق الكلمات والتعبيرات الوارِدة في القرآن فقط؛ ومختارات من بواكير الشعر العربيّ (1992) Early Arabic Poetry: Select Poems. [المترجِم]

[21] المترجم هنا هو آرثر جون أربري (1905- 1969م) Arthur John Arberry مستشرق إنجليزيّ متخصّص في التصوّف والأدب الفارسيّ. درَس اللغة العربيّة في جامعة كامبريدج على يد رينولد نيكلسون (1868- 1945م)، المستشرِق الإنجليزيّ المعروف ومترجم أشعار جلال الدين الروميّ. سافر عام 1931م إلى مصر لمواصلة دراسة اللغة العربيّة، وزار بلاد الشام أيضًا. نَشَر في العام 1955م ترجمةً للقرآن إلى اللغة الإنجليزيّة، مصحوبةً بتفسيراته للآيات، بعنوان: The Koran Interpreted. تَرْجَمَ أيضًا إلى اللغة الإنجليزيّة رباعيّات عمر الخيّام وبعضَ أعمال جلال الدين الروميّ والعلّامة الفيلسوف الهنديّ محمّد إقبال. [المترجِم]

[22] حسّان، (السبع المثاني).

[23] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}.

[24] مجمع اللغة العربيّة، المعجم الوسيط، (2/ 1056).

أيْ: إنّ مجموعَ ما يُعقبه المرءُ من بنين وبنات يُطلَق عليهم «وَلَده». وكذلك إنْ كان ذكَرًا واحدًا فهو وَلَدُه، وإنْ كانت أنثى وحيدة فهي وَلَدُه أيضًا؛ والبشرُ جميعًا وَلَدُ آدم. [المترجِم]

[25] الرازيّ، التفسير الكبير، جزء 30، (15/ 194).

[26] وفي لسان العرب: «مَنَّه السيرُ يَمُنُّه مَنًّا: أضعَفَه وأعْيَاه». [المترجِم]

[27] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}.

[28] محمّد مارمادوك پكتال (1875- 1936م) Muhammad Marmaduke Pickthall كاتب وروائيّ وصحافيّ إنجليزيّ؛ وهو من ذرّية وِيليام الفاتح William the Conqueror. حظِيت أعماله باحتفاء كبار الأدباء الإنجليز، مثل هربرت جورج ويلز. أسلَم بصورة مفاجئة عام 1917م، بعد محاضرةٍ ألقاها عن «الإسلام والتقدّم» أمام (الجمعيّة الأدبيّة الإسلاميّة) في لندن؛ وكان يرى نفسه «مسلمًا سنّيًّا على المذهب الحنفيّ». سافر إلى الهند مع زوجته، واشتغل هناك بالصحافة، وزار مملكة حيدر أباد والتقى نِظامَها (أيْ الحاكم فيها)؛ وقد عمل هناك أيضًا على إنجاز ترجمة للقرآن إلى اللغة الإنجليزيّة، وأتمّها في مصر بالتعاون مع بعض العلماء في الجامع الأزهر، ونُشِرَت عام 1930م بعنوان: The Meaning of the Glorious Koran، وهي من أشهر الترجمات المستخدَمة بكثرة في الأوساط الناطقة بالإنجليزيّة، وتمتاز بالشاعريّة والأسلوب الأدبيّ الجَزْل، وقد حازَت موافقة واعتماد الجامع الأزهر. عاد إلى بريطانيا عام 1935م، ثمّ توفّي في العام التالي، ودُفِن في قسم المسلمين بمقبرة بروكوود في مقاطعة سَرِي، وهي المقبرة نفسها التي دُفِن فيها لاحقًا عبد الله يوسف عليّ، مترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزيّة أيضًا. [المترجِم]

[29] هذا هو مغزى التساؤل في الآية: {...إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} فبعيدٌ أنْ يصدُرَ عن كلّ الناس؛ وإنّما هو صادر عن أُناسٍ بعينهم. [المترجِم]

[30] {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الحِجر: 7]؛ {...لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}[الفرقان: 7].

[31] البيضاويّ، تفسير البيضاويّ، (2/ 427).

[32] {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

[33] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}.

[34] {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}.

[35] أنّها كلّها تعني «الرياح»، وأنّ الآيات الأربع توصيف لهذا الشيء «الرياح»، وليست أشياء مختلفة. [المترجِم]

[36] انظر:

Abdel Haleem, Divine Oaths in the Qur’an, p. 49.

[37] أيْ السور التي جاء فيها القَسَم على وزن «والفاعِلات»، وهي سوَر: الصافّات، والذارِيات، والمُرسَلات، والنازِعات، والعادِيات. [المترجِم]

[38] الاستنباط الخُلفيّ: من التقنيات السرديّة، وهو استنباط أو استنتاج لا تتّفق فيه النتيجةُ مع المقدِّمات. [المترجِم]

[39] {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}.

[40] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}.

ترجمة د. عبد الحليم لهذه الآية تجعل تفسير هذا التساؤل يصبح هكذا: أدُون جميع البشر الآخَرين تشتهون الذكور؟/ أَمِنْ [بين] العالَمِين تَأتُونَ الذُّكْرانَ؟ (Must you, unlike [other] people, lust after males ...?)، لا كما يترجمها ويفسّرها آخرون بالقول: أتشتهون ذكورَ هذه العوالِم/ المخلوقات؟ [المترجِم]

[41] الآية بتمامها: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

[42] المترجم هنا هونسيم جوزيف داوود (1927- 2014م) Nessim Joseph Dawood صحافيّ ومترجم عِراقيّ يهوديّ. وُلِد في بغداد، ثمّ هاجر في بعثة دراسيّة إلى لندن عام 1945م، فدرَس في جامعتها الأدبَ الإنجليزيّ واللغةَ العربيّة. أشهر أعماله ترجمتُه القرآنَ إلى اللغة الإنجليزيّة الصادرة بعنوانTheKoran عن دار Penguin عام 1956م؛ وكان قبلها قد ترجم مختاراتٍ من قصص ألف ليلة وليلة وصَدَرَت عام 1954م في احتفاء Penguin بإصدارها رقم 1001، ثمّ ترجم مختاراتٍ أخرى من هذه القصص عام 1957م، وقد صَدَرَ الجزءان معًا في مجلّد واحد عام 1973م بعنوان: Tales from the Thousand and One Nights. ترجم أيضًا مختصَرًا من مقدّمة ابن خلدون بعنوان: The Muqaddimah. وما زالت تلك الترجمات يتوالى طبعها إلى اليوم.[المترجِم]

[43] انظر، على سبيل المثال:

الرازيّ، التفسير الكبير، (12/ 100) وما يتلوها.

البيضاويّ، تفسير البيضاويّ، ص283 وما يتلوها.

[44] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

[45] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ...}[الحَجّ: 30]؛ {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[الحَجّ: 60].

[46] {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.

[47] هذه ترجمة د. عبد الحليم، ونصّ الآية بالعربيّة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

[48] مايكل آلان كوك (1940م-...) Michael Allan Cook مؤرِّخ إنجليزيّ وأستاذ التاريخ الإسلاميّ ودراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون الأميركيّة منذ العام 1986م؛ وهو محرِّر تاريخ الإسلام (الصادر عن مطبعة جامعة كامبريدج) The New Cambridge History of Islam. درَس في جامعة كامبريدج، وحصل على الدكتوراه من كليّة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة بجامعة لندن (SOAS) بإشراف برنارد لويس. درَّس التاريخَ الاقتصاديّ للشرق الأوسط من 1966م إلى 1984م، ثمّ تاريخَ الشرق الأدنى والأوسط مدّة عامَين في الكليّة نفسِها؛ وانتقل بعدها إلى جامعة برنستون التي يعمل فيها إلى اليوم. من أهمّ أعماله: أحفادُ هاجر: دراسة في المرحلة التكوينيّة للإسلام (1977م) Hagarism: The Making of the Islamic World، بالتعاون مع باتريشياكرون؛ والعقيدة الإسلاميّة المبكّرة: دراسة نقديّة للمصادِر (1981م) Early Muslim Dogma: A Source-Critical Study؛ والقرآن: مقدِّمة قصيرة جدًّا (2000م) The Koran: A Very Short Introduction؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلاميّ (2001م) Commanding Right and Forbidding Wrong in Islamic Thought، الذي فاز بـ(جائزة ألبرت حوراني للكتاب)؛ وتاريخ موجَز للعِرق البشريّ (2003م)A Brief History of the Human Race؛ ودراسات في أصول الثقافة والتقاليد الإسلاميّة المبكّرة (2004م) Studies in the Origins of Early Islamic Culture and Tradition؛ وأديان قديمة وسياسات جديدة: الحالة الإسلاميّة من منظور مقارَن (2014م) Ancient Religions, Modern Politics: The Islamic Case in Comparative Perspective. [المترجِم]

[49] Cook, The Koran, p. 34.

سيتّضِح من النقاش في هذه الورقة أنّ كوك يعتمد على التفسير لا على النصّ القرآنيّ. انظر أيضًا الفصلَ الثالث من كتابٍ قمتُ بتحريره حول استكشاف آفاق القرآن، حيث نجد إيلا لانداو تاسرون (Ella Landau-Tasseron) تقوم بالشيء نفسه. عنوان الكتاب: Exploring the Qur’an Context and Impact، وعنوان الفصل الثالث: «الجهاد القرآنيّ» (Qur’anic Jihād).  

[50] Cook, The Koran, p. 33.

[51] البابا بِنديكت السادس عشر (1927م-...) Pope Benedict XVI وُلِد في باڤاريا بألمانيا، وكان اسمه قبل ترسيمه جوزيف راتزنغر. درَس اللاهوت والفلسفة بجامعة ميونخ التي نال منها الدكتوراه في الفكر اللاهوتيّ للقدّيس أغسطين. أصبَح كاهنًا عام 1951م، وتولّي كرسيّ البابويّة في نيسان/ أبريل 2005م، وعمره 78 عامًا، وسُمّي بِنديكت السادس عشر. كان البابا الألمانيّ التاسع، وترتيبه في بابويّة الكنيسة الكاثوليكيّة 265. شملت مناصبه البابويّة رئاسة الكنيسة الكاثوليكيّة حول العالم وأسقفيّة روما ورئاسة دولة الڤاتيكان. استقال في نهاية شباط/ فبراير 2013م لأسبابٍ صحّيّة؛ فكان أوّل بابا يستقيل منذ ستّة قرون. ألقى محاضرةً في جامعة ريغنسبورغ الألمانيّة في 12 أيلول/ سپتمبر 2006م، تناوَل فيها «آيات القتال» في القرآن، وناقشَ فيها أقوال إمبراطور بيزنطيّ حول «نَشْر الإسلام بحدّ السيف»؛ وقد أثارتْ تلك المحاضرة مشاعر الغضب بين المسلمين، لكنّه عاد وألقى خطابًا في الخامس والعشرين من الشهر ذاته، اعتذر فيه أمام سفراء الدول الإسلاميّة في دولة الڤاتيكان، وأنّه يرى الأديان جميعًا ترفض استخدام العنف من أجلِ نَشْر دعوتها. [المترجِم]

[52] يقصد الإمبراطور البيزنطيّ مانويل الثاني آل بالَيولوغوس Manuel II Palaiologos (1350- 1425م، وحَكَم من 1391م إلى وفاته)؛ فقد اقتبَسَ البابا في تلك المحاضرة بعضَ كلامه حول الإسلام خلال نقاش حول «آيات القتال». [المترجِم]

[53] Pope Benedict XVI, ‘Faith, Reason and the University’, p. 2

[54] أبو القاسم هبة الله بن سلامة بن نصر بن عليّ المُقرِي (410هـ/ 1020م) مُفسِّر ومُقرِئٌ ضرير من أهل بغداد، وبها وفاته. كانت له حلقة في جامع المنصور في بغداد؛ وله كتبٌ منها: الناسخ والمنسوخ في القرآن (مطبوع)، والناسخ والمنسوخ من الحديث(مخطوط في المكتبة التيموريّة والمكتبة الأزهريّة)، والمسائل المَنثورة، وهو في النحو. [المترجِم]

[55] Cook, The Koran, p. 33.

[56] محمّد أديب صالح (1926- 2017م) من علماء الشام في القرآن والسنّة وعلومهما وأصول الفقه، وأكاديميّ في مجال الدراسات القرآنيّة والإسلاميّة؛ فهو أستاذ ورئيس قسم القرآن والسنّة بجامعة دمشق، وأستاذ أصول الفقه بكلية الحقوق فيها، ثمّ أستاذ ورئيس قسم السنّة وعلومها بجامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة في الرياض. كان من أصدقاء د. مصطفى السباعيّ في الشام، وتولّى بعده رئاسة تحرير مجلة حضارة الإسلام؛ وهو صِهر الشيخ إبراهيم الغلايينيّ، مفتي قَطنا وإمامها وخطيبها. من أهمّ كتبه: تفسير النصوص في الفقه الإسلاميّ، ومصادر التشريع الإسلاميّ ومناهج الاستنباط، والقيامة: مشاهدها وعظاتها في الحديث النبويّ، ومعالم في الغاية والمنهج. [المترجِم]

[57] صالح، تفسير النصوص، ص239. حسّان، البيان، (1/ 181).

[58] الرازيّ، التفسير الكبير، (5/ 107- 108). وانظر أيضًا قِسم (الأمر) من حاشية أحمد بن عبد الله بن حُمَيد على شرح المَحلِّيّ على الوَرَقات، وهو متاح على موقع www.dr-mahmoud.com. وقد حاجَج آخرون أنّه ينبغي استنتاج الإباحة من السياق.

[59] اتّفق على هذا جميعُ الفقهاء. انظر: صالح، تفسير النصوص، (2/ 237).

[60] الرازيّ، التفسير الكبير، (15/ 225).

[61] يُروَى أيضًا عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّه أنكر على مسلمٍ قَـتْلَه عدوًّا في ساحة المعركة حتّى بعد أنْ نطَقَ الرجلُ بالشهادة، اعتقادًا منه أنّ الرجل إنّما أراد النجاة.

قلتُ: وهي الحادثة التي وقعت مع سيّدنا أسامة بن زَيد -رضي الله عنهما-، وحين برَّر قَتْله الرجلَ بأنّ ذلك الرجلَ: «إنما كان متعوِّذًا» حين نطقَ الشهادة، قال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قولَه الشهير: «أفلا شَقَقْتَ عن قلبه؟» [المترجِم]

[62] انظر:

Abdel Haleem, The Qur’an, Introduction, p. xxiii.

هذه إحدى المساحات القليلة جدًّا التي يُقدِّم فيها القرآن تفاصيل واستثناءات محدَّدة. من المساحات الأخرى الحقوق (كحقوق الإرث) والمحظورات (كالمحرَّمات في النكاح، ومَن لا يجب على المرأة الحجابُ في حضورِهم).

[63] سبق اقتباس الآيتَين 5 و11؛ وفي الآية 3 يقول الله -عزَّ وجلّ-: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}؛ وفي الآية 6 يقول الله تعالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}، وفي الآية 12 يقول -عزَّ وجلّ-: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}. [المترجِم]

[64] هي {أُذِنَ}، بضمّ الألِف إسنادًا للجارّ والمجرور، في قراءة نافع بن عبد الرحمن المَدَنيّ وعاصم بن أبي النَّجود الأسَديّ الكوفيّ وأبي عمرو بن العلاء البَصْريّ وأبي جعفر يزيد بن القَعقاع المَدَنيّ ويعقوب بن إسحاق الحضْرَميّ، وفي رواية إدريس الحدّاد عن خلف بن هشام البَزّار. ولكنّها أيضًا {أَذِنَ}، بفتح الألِف إسنادًا لضمير اسم الله تعالى، في رواية إسحاق الورّاق عن خلف بن هشام البَزّار، وفي قراءة عبد الله بن كثير الدارِيّ المَكّيّ وعبد الله بن عامر اليَحصُبيّ الشاميّ وحمزة بن حبيب الزيّات الكوفيّ وأبي الحسن عليّ بن حمزة الكِسائيّ النحْويّ الكوفيّ.

وهي {يُقاتَلون}، بفتح التاء بناءً للمفعول، في قراءة نافع بن عبد الرحمن المَدَنيّ وعبد الله بن عامر اليَحصُبيّ الشاميّ وأبي جعفر يزيد بن القَعقاع المَدَنيّ، وفي رواية حفص بن سليمان الكوفيّ عن عاصم بن أبي النَّجود الأسَديّ الكوفيّ. ولكنّها أيضًا {يُقاتِلون}، بكسر التاء بناءً للفاعل، في رواية شُعْبة بن عيّاش عن عاصم بن أبي النَّجود الأسَديّ الكوفيّ، وفي قراءة أبي عمرو بن العلاء البَصْريّ وعبد الله بن كثير الدارِيّ المَكّيّ وحمزة بن حبيب الزيّات الكوفيّ وأبي الحسن عليّ بن حمزة الكِسائيّ النحْويّ الكوفيّ وخلف بن هشام البَزّار ويعقوب بن إسحاق الحضْرَميّ.

ولهذه الاختلافات دلالاتٌ في تفسير الآية. [المترجِم]

[65] أيْ: داخل أو خارج الحرَم. انظر:

Abdel Haleem, The Qur’an, p. 21.

[66] انظر: ابن سلامة، الناسخ والمنسوخ، ص9.

[67] ابن سلامة، الناسخ والمنسوخ، ص98.

[68] ابن سلامة، الناسخ والمنسوخ، ص94- 95.

[69] يعني هنا كيف أنّ ابن سلامة يجمع أقوالَ السابقين له، ولا يتعرَّض لها بالنقد والتحليل؟ فبعض الأمثلة التي يطرحها د. عبد الحليم من كتاب (الناسخ والمنسوخ) ليست أقوال ابن سلامة الخاصّة، وإنّما ينقلها عن بعض المتقدِّمين، فيذكر: «وقال فلان» أو «وقال جماعةٌ». [المترجِم]

[70] هذه الآية جزءٌ من قسمٍ طويل في سورة البقرة موجَّه إلى بني إسرائيل، يضمّ حوالي 80 آية، ويبدأ من الآية 40 من السورة.

[71] ابن سلامة، الناسخ والمنسوخ، ص32- 33.

[72] ابن سلامة، الناسخ والمنسوخ، ص152.

[73] ابن سلامة، الناسخ والمنسوخ، ص191.

[74] ابن سلامة، الناسخ والمنسوخ، ص209.

[75] وبالتالي يترجمون، على سبيل المثال، كلمةَ «حكيم» دائمًا إلى wise، وكلمةَ «كتاب» دائمًا إلى book، وكلمةَ «الناس» إلى mankind أو men.

المؤلف

محمد عبد الحليم - Muhammad A. S. Abdel-Haleem

حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج في الأدب، ويعمل أستاذًا للدراسات الإسلاميّة في كليّة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة بجامعة لندن.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))