قراءة في دلالة لفظة (الذَّوْق) في القرآن الكريم
%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85.jpg)
تَحْمِل اللغةُ في طيّاتها التصوّرات التي تمدّ الفكر والمعتقَد، ويتمثّل ذلك بطريق استخدام الألفاظ، فالألفاظ ليستْ أداة للتواصل فحسب، إنما هناك معتقدات وتصوّرات ثاوية تكمن خلفها، فاللّغة إحدى مؤسّسات العقل وطريقة النّظر. والقرآن الكريم كتاب هداية وتزكية، وتقوم فكرة هذا المقال على ذِكْر أبرز معاني لفظة (الذَّوْق) في كلام العرب ثم عرضها في القرآن الكريم؛ لنهتدي إلى سموّ ألفاظ القرآن الكريم وبديع معانيه من تصحيح وتوجيه الإدراكات الناجمة من الذَّوْق، وتوسيع استعمالاته استثمارًا لقوّة الإدراك في هذه الحاسّة، وهذا من شأنه أن يفتح آفاقًا للتدبّر، ويهدينا إلى سُبُل تزكية النفوس. وهذه الطريقة لم تكن بدعًا بل ألمح إليها عبد القاهر الجرجاني؛ ليبين طريق الإعجاز ويرسم معالمه، فيقول: «أردته -أي: الشِّعْر- لأعرف به مكان البلاغة، وأجعله مثالًا في براعة...، وأنظر إلى نَظْمِه ونَظْم القرآن، فأرى موضع الإعجاز، وأقف على الجهة التي منها كان، وأتبيّن الفصل والفرقان»[1].
ما ينشده هذا المقال هو تسليط الضوء على شيء من الدلالة الشمولية للذَّوْق في القرآن الكريم، والتي يمكن من خلالها لَحْظ المعاني المكتنزة التي حملها إلينا النَّظْم الكريم عبر سياقات مختلفة، وأحوال متعدّدة تضمّنت هدايات ربانية، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢]، والتزكية تطهير النفس من نزعات الشرّ والإثم، وتنمية فطرة الخير فيها؛ مما يؤدّي إلى استقامتها، وبلوغها درجة الإحسان[2]. وكلّ ذلك يؤخذ من ألفاظ القرآن الكريم الذي لا تنضب معانيه وأسراره، يقول الطاهر بن عاشور في المقدمة التاسعة من مقدماته العشر: «فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودعها البلغاء في كلامهم، وهو لكونه كتاب تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقًا بأنْ يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ في أقلّ ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة»[3]. والآن نلج إلى استعمالات العرب للذَّوْق.
المعنى اللغوي:
يأتي أصل الكلمة مِن تذوّقِ الطعام باللِّسان، ومعرفة وَقْعِه على الحسّ، وقد عرّفها الجرجاني بـ: «قوة منبثّة في العصب المفروش على جرم اللسان، تدرك بها الطعام، بمخالطة الرطوبة اللعابية في الفم بالمطعوم، ووصولها إلى العصب»[4]. وهذا المعنى الأصلي للذَّوْق، إلا أنّ العرب توسّعوا في استخدام الذَّوْق.
استعمالات العرب للذَّوْق:
1. الاستعمال الحسّي للذوق:
وقد تمثّل التذوّق هنا في تذوّق الخمر، ومما جاء في ذلك قول عدي بن زيد العبّادي:
مُزَّةً قَبْل َمَزْجِهَا فَإِذَا مَا ** مُزِجَتْ لَذَّ طَعْمَهَا مَنْ يَـذُوقُ
وكذلك قول الأعشى بن ميمون:
وَلاَ تَدْفِنَنِّي بِالفَلَاةِ فَإِنَّنِي ** أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقهَا
2. معرفة الشيء بالابتلاء والاختبار:
جاء في مقاييس اللغة: «ذقت ما عند فلان، أي: اختبرته»[5]، ويوضّح صاحب الكلّيات كيف انتقل المعنى إلى المجاز بقوله: «ثم كَثُرَ حتى جُعِل عبارة عن كلّ تجربة، يُقَال: ذقت فلانًا»[6]، وفي بيان ذلك أكثر يقول الزمخشري: «ومنه قولهم: ذقت الناس، وأكلتهم ووزنتهم، وكِلْتهم فما استطبت طعومهم، ولا استرجحت حلومهم»[7]، ويقول: «فلان مستذاق: مجرّب»، وينقل كذلك: «تذاوق التجار السلعة؛ إذا خبروها ونظروا فيها نظرة تدقيق وتمحيص»[8].
3. حلاوة الشيء أو مراراته:
وقد أورد هذا المعنى الطبري، حيث يقول: «العرب تقول للرجل ينال السلاح فيقتل به: قد ذاق فلان فلانًا الموت، وأذاقه بأسه، وأصل ذلك: من ذوق الطعام، وهو يطعمه، ثم استعمل في كلّ ما وصل إليه الرجل من لذّة وحلاوة، أو مرارة ومكروه وألم»[9]، ومن ذلك قول الشاعر:
هُمُ النّارُ تحرقُ مَنْ مَسَّها ** فإِنْ شِئْتُما فاصليَاها فَذُوقا
وقد تكون هناك معانٍ متعدّدة لاستعمال الذَّوْق غير ما سبق لكنها في الغالب لا تبعد عن هذه المعاني السابقة المذكورة.
خلاصة ونتيجة:
يعدّ العرب أساطين الفصاحة والبلاغة، ويعدّ تصرّفهم في اللغة أحد أوجه براعتهم الذهنية وتقدّمهم على غيرهم من الأُمم، ومن ذلك توسّعهم في استخدام الألفاظ والعدول عن حقيقتها إلى معنى يلامس وصف الانفعال بالمعنى، ومما ذُكِر في دواعي استعمال المجاز إظهار الخفيّ وإيضاح الظاهر الذي ليس بجليّ أو بحصول المبالغة أو للمجموع[10]، ومن ذلك لفظة (الذَّوْق)، فخلاصة استعمال الذَّوْق عند العرب -بحسب ما وقفتُ عليه- هو ذلك الأثر الذي يبدأ من الملابسة المحسوسة انتهاءً إلى الباطن، لإعطاء قيمة وتصوّر للأشياء، فالمعاني التي تدخل عن طريق الذَّوْق تكون باقية الأثر؛ كونها مبنية على القدرة والمعرفة والخبرة، وبناء على هذا الأثر يُبنى معنى مستقرّ باقٍ، يقول أبو هلال العسكري: «حسّ الذائق أقوى لإدراك ما يذوقه، وللذَّوْق فضل على غيره من الحواس؛ ألا ترى أنّ الإنسان إذا رأى شيئًا شمّه، فإنْ عرفه وإلا ذاقه؛ لما يعلم أنّ للذَّوْق فضلًا في تبيين الأشياء»[11]. فإذن تطوّر استعمال الذَّوْق عند العرب من المعنى الحسّي المرتبط بالطعام والشراب إلى معرفة كُنه الأشياء والحُكم عليها حتى تكون كالمستذاق ويُبنى عليها حكم موثوق، وهذا يشير إلى ذكاء وفراسة توصل إلى بناء الحكم، وتفنّن في الوسائل، فلا يكون الحكم على الأشياء سطحيًّا بل من خلال ملابسة الشيء واختباره، فالذَّوْق بحسب ما ورَدَ في كلام العرب يبدأ عبر خطوات متعدّدة لينتهي إلى بناء حُكْم على الشيء من الملابسة والتأمّل والتجريب، ولعلّ هذا النظر هو أظهر المسوِّغات التي دعتْ إلى التوسّع والاستعانة بالمجاز.
بديع الذَّوْق في القرآن الكريم:
نزل القرآن الكريم واضحًا مبينًا، يقول تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر: ١]، ومن الإبانة تصويره للمعاني وتجسيدها؛ تقريبًا للأذهان وتأثيرًا على الوجدان، يقول الزمخشري في سياق أهمية الأمثال وهي ضرب من التصوير: «ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفيّ في إبراز خبيّات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيّل في صورة المحقّق، والمتوهّم في معرض المتيقّن، والغائب كأنه مشاهد»[12]. وللذَّوْق -كما مرّ معنا- فضل على غيره من الحواسّ؛ لِمَا يعلم أنّ للذَّوْق فضلًا في تبيين الأشياء، ومن بديع النَّظْم القرآني استعارة لفظ الذَّوْق لأكثر من غرض؛ منها:
1- استعارة لفظة الذَّوْق للتعبير عن الامتنان وملابسة الرحمة[13]:
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٣- ٣٤]، استُعير لفظ الذَّوْق في هذه الآية في حصول الرحمة؛ وكأنّ الرحمة شيء يُذاق ويُحسّ طعمها، والإذاقة أقوى أنواع الإدراك، وجاءت هذه الآية في سياق الإشارة إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، ففي حال الضّرّاء يعود الإنسان إلى فِطْرته حتى أولئك الذين أفسدوا فطرتهم بالكفر والضلال تجده يلوذ ويلجأ إلى ربّه على غير وعي أو إدراك، لكن سرعان ما يخبو هذا النور ويطغى عليه ظلامٌ كثيفٌ ويعود إلى ما كان عليه من الكُفْر والضلال[14]، والشاهد هو قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً﴾، فيها دلالة على أنّ إذاقة الرحمة من الله -عزّ وجلّ- لا غيره؛ إِذْ إنّ تقديم الجار والمجرور ﴿مِنْهُ﴾ على المفعول به الثاني ﴿رَحْمَةً﴾ للقصر، والأصل في غير القرآن أن يكون السياق: (ثمّ إذا أذاقَهم رحمةً مِنه)، والتعبير بـ﴿إِذَا﴾ الشرطية دون (إِنْ) لتحقّق وقوع الرحمة وكثرتها، ومجيء الفعل (أذاق) بالماضي؛ للدلالة على الوقوع والحصول قطعًا، وجاءت ﴿رَحْمَةً﴾ نكرة للعموم، والتعبير بالمسّ جانِب السيئة، والإذاقة جانِب الرحمة؛ للدلالة على أنّ الأُولى من العدل، والثانية من التفضُّل[15]، وهذا من ناحية الصنعة البلاغية التي تؤكّد على أنّ هذه الرحمة من صحةٍ وسعةٍ ونعمةٍ هي من الله وحده، مما يجب أن تكون بها المعرفة معرفة يقينية مستذاقة، فتنفعل معها النفسُ وتتبيّنه كما يستبان كلّ متذوّق من طعام أو شراب، وجانب التزكية هنا صرف كلّ تصوّر للرحمة وما تتضمّنه من النّعم الحسّية والمعنوية أنها منه سبحانه، ويكون العبد على استشعار يتذوّق بها هذه الرحمات، فيترتب عليها -لمن هداه الله- عدم جحود هذه الرحمة والنعمة منه سبحانه والقيام بشكرها فضلًا عن الإيمان به سبحانه.
2- استعارة الذَّوْق للتعبير بها عن ملابسة العذاب:
يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢]، استعير لفظ الذَّوْق لِمَا أصابهم من ألم الجوع والخوف، يقول الزمخشري: «شبّه ما يُدرك من أثر الضَّرَر والألم بما يدرك من طعم المرّ البشع»[16]، وجاءت هذه الآية في ضرب المثل لجزاء جحود نِعَم الله؛ إِذْ شبّه مجموعة من الناس يعيشون في مكان واحد تأتيهم أرزاق الله الواسعة فلم يؤدّوا حقّ هذه النعم من فعل الأوامر وترك النواهي، بقرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها واسعًا من كلّ مكان فكفرتْ بنعمة الله، فبدّل اللهُ حالهم من الرّغد والأمن إلى لباس الجوع والخوف، وقيل: إنها نزلت في أهل مكة؛ إِذْ كانوا آمنين لا يُغار عليهم، مطمئنّين، فأبدلهم اللهُ بالأمن الخوف، وبالكفاية الجوع[17]، ويرى ابن عاشور أنّ في الآية تعريضًا لمشركي قريش في مكة ليعتبر بهم مَن بعدهم[18]، وهذا هو موطن الشاهد؛ إِذْ ينبغي على من ينعم الله عليهم أن يشكروا نعمة الله ويعرفوا حقّها، ويدركوا أنّ كفران النِّعم وجحودها يؤول إلى الجوع والخوف، وعُبّر عن إحساس الجوع والخوف بأقوى سُبُل الإدراك وهو الذَّوْق، فكأنّ العمل على شكر النعمة هو طلب استدامتها لئلّا يُستذاق الجوع والخوف. والتعبير باللباس؛ للملازمة والإحاطة، فالنَّظْم القرآني ساق ضرب هذا المثل في صورة الذَّوْق جزاءً لمن كفر بنعمة الله؛ لتكون المعرفة مترقية واصلة إلى مستوى الاستذاقة، ومِن شأن هذا الإدراك أن يحمل متذوِّقه على الخشية والخوف.
3- التعبير الحقيقي الذَّوْق لبيان أول الأثر:
يقول تعالى: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: ١٩- ٢٢]، عُبّر عن الذَّوْق في هذه الآية تعبيرًا حقيقيًّا؛ كونهما ذاقَا الشجرة التي حذّرهما اللهُ تعالى منها، إلا أنّ آدم وحواء لم يزالَا ممتثلين لأمر الله حتى وسوس الشيطان لهما وأغواهما فذاقَا، أي: طَعِمَا الشجرة، فظهرت عورة كلٍّ منهما، وطفقا يخصفان عليها من ورقة الجنة، والخصفُ أن تأتي بشيء وتلزقه لتداري شيئًا، وموطن الشاهد أنّ ذَوْق الشيء المنهيّ عنه سببٌ في انكشاف العورة، ووسوسة الشيطان كانت غواية وطريق إلى كشف العورة، ومن لطائف التعبير بالذَّوْق هنا هو الإشارة إلى أنّ التناول كان جزءًا يسيرًا من الشجرة وليس الأكل، وفرقٌ بين الذَّوْق والأكل[19]، كما أنَّ بُدُوَّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراكهما لطعم الشجرة، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل مخالفة[20]، ومن اللّطائف كذلك أنه لمّا كانت الوسوسة في غاية الخفاء تجسّد التوجيه الرباني في كشف نتائج هذه الوسوسة بأقوى سُبُل الإدراك للإنسان (الذَّوْق) في صورة تجلّي اتّباع كيد الشيطان، وبهذا التوجيه الكريم يصل المتفطّن إلى تذوّق وسوسة الشيطان، فتتجسّد النتائج تذوقًا وانفعالًا وإحساسًا فتكوّن حاجزًا منيعًا -بتوفيق الله- بأن يتنبّه الإنسان من وسوسة الشيطان.
ومن اللّفتات في هذه الآية الكريمة أنّ الإنسان عند وقوعه في الذنب عليه أن يسارع إلى الرجوع، وأن لا يوغل في المعاصي ويغترّ بالذَّوْق الـمُوهم باللّذة أول الأمر، ولنا في هذه القصة قدوة حسنة، وما أحسن ما ذكره ابن تيمية حين يقول: «وصاحب الخمر يطلب الراحة ولا يزيده إلا تعبًا وغمًّا، وإن كانت تفيده مقدارًا من السرور فما يعقبه من المضارّ ويفوته من المسارّ أضعاف ذلك، كما جرَّب ذلك مَن جرّبه، وهكذا سائر المحرَّمات»[21].
موازنة ومقارنة:
اشتهر استعمال الذَّوْق الحسّي عند العرب في شُرب الخمر وهي أطيب ما كانوا يطلبونه من الشراب، وفي الابتلاء والاختبار لأجل معرفة الرجال كما في العدول إلى المجاز، فكانت هذه الاستعمالات ضيّقة لا تتجاوز الارتكاز على الغريزة أو العقل الدنيوي، ولمّا كان الذَّوْق أقوى وسيلة للإدراك جاء النَّظْم الكريم ليوجّه المعرفة الإنسانية من ضِيق النظر في الحياة الدنيا إلى امتداد الحياة في الآخرة، فكثر لَفْظ الذَّوْق للتعبير عن ملابسة العذاب الشديد في الآخرة كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٦]، ومثلها من الآيات، وذلك في أغلب مواضع الذَّوْق، وكثيرًا ما كان يَرِد ذلك في القرآن المكّي[22]؛ نظرًا لِمَا اقتضاه مقام أحوال أهل مكة من الكفر والعناد، وهذا من شأنه أن يستنفر قوّة الإدراك، ليكون التفكير في المآلات الغيبية بأقوى سُبُل الإدراك، وفي هذا رحمة من الله لعباده أن يرشدهم ويدلّهم على الحقائق بما يثير وجدانهم ويحرِّك شعورهم، ويحذِّرهم وينفِّرهم من عاقبة الكفر والإشراك، وأن يرشدهم بالألفاظ التي يعرفونها، يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ [طه: ١١٣]، ومن بديع استعمالات الذَّوْق في القرآن الكريم ما جاء في ذَوْق الرحمة والنعمة كما في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ [هود: ١٠]، ومثلها من الآيات التي كثيرًا ما تشير إلى إيقاظ الإدراك وتقويمه عن طريق الذَّوْق، والتنويه بطبيعة النفس الإنسانية حال إصابتها السراء والضراء[23]، فجدير بمن يذوق هذه الرحمة الربانية أن يُسْلِم وجهَه لله وهو محسِن، وغالبًا ما يأتي لفظ الذَّوْق في جانب الرحمة بالفعل الماضي (أذقنا)؛ نظرًا لتحقّق هذه الرحمة وكثرة وقوعها، في حين يأتي الذَّوْق بالفعل الأمر (ذوقوا) في سياق العذاب؛ وهو المناسب لهذا المقام الذي فيه آمِر ومأمور، وهذا من شأنه أن يوسِّع معاني الذَّوْق ويجعل من الذَّوْق معنًى معتبرًا، لا سيّما أنّ أكثر وروده في القرآن كان للأمور المعنوية، إلا ما جاء في سياق قصة آدم -عليه السلام- من ذوقٍ للشجرة، وفي هذا العدول استثمار لهذه الحاسّة نحو توجيه أولوياتها وتقويم الإدراك ليس وفق الحسّ الإنساني الضيّق بل وفق القرآن الحكيم، وتنزيل تلك المعرفة منزلة التذوّق كون التذوّق من أقوى الإدراكات، ولا يخفى ما فيه من إيجاز وتكثيف وتجسيد للمعاني مما يقرّب المعاني إلى الحسّ الإنساني، وأنّ العبرة ليست بالذَّوْق المبنيّ على الحواس، بل بالذَّوْق التقويمي المسوق في آيات الذِّكْر الحكيم.
خاتمة:
تطرّقت المقالة إلى دلالة لفظة (الذَّوْق) في القرآن الكريم، والمعاني المكثّفة التي تكتنزها هذه اللفظة، وظهر ذلك جليًّا بمقارنتها في كلام العرب والقرآن الكريم، فظهر أن استعمال العرب للذَّوْق اتسع من المعنى الحِسّي إلى أغراض معنوية، ومع تفنّنهم في هذا الاتساع إلا أنّ مقارنتها بما جاء في القرآن الكريم يُظْهِر ضِيق استعمالها عند العرب؛ لحدود المعرفة الإنسانية، ولمّا كان الذَّوْق أقوى سُبل الإدراك عند البشر أبصرنا كيف أنّ القرآن الكريم استثمر هذه اللفظة في سياقات متعددة تقوِّم من الإدراك الإنساني نحو صلاح دينه ودنياه، وإن كانت هذه المقالة قد درستْ عددًا من الآيات إلا أنّ تسليط الضوء على ما ورد في القرآن الكريم يفتح آفاقًا جديدة من التدبّر والوقوف على شيء من أسرار لفظة (الذَّوْق) في النَّظْم الكريم. والله أجلُّ وأعلم.
[1] دلائل الإعجاز، للجرجاني، ص26.
[2] منهج الإسلام في تزكية النفس، للدكتور أحمد كرزون (5/ 1).
[3] التحرير والتنوير (1/ 93).
[4] التعريفات، للجرجاني، ص107.
[5] مقاييس اللغة، لابن فارس (2/ 364).
[6] الكليات، للكفوي، ص462.
[7] أساس البلاغة، للزمخشري (1/ 320).
[8] أساس البلاغة، للزمخشري (1/ 320).
[9] جامع البيان، للطبري (6/ 136).
[10] ينظر: البرهان، للزركشي (3/ 433).
[11] الصناعتين، ص281.
[12] الكشاف، للزمخشري (3/ 207).
[13] ومن الآيات الدالة على ذلك ما جاء في: سورة هود: 9، والشورى: 48، وفصلت: 50.
[14] ينظر: التفسير القرآني للقرآن، لعبد الكريم الخطيب (11/ 519).
[15] ينظر: روح المعاني، للآلوسي (20/ 458).
[16] الكشاف (2/ 431).
[17] ينظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي (2/ 456).
[18] ينظر: التحرير والتنوير (14/ 304).
[19] ينظر: الكشاف (2/ 73).
[20] التحرير والتنوير (8/ 62).
[21] الفتاوى الكبرى (4/ 466).
[22] جاءت هذه النتيجة في دراسة بعنوان: (مادة الذَّوْق ومقاماتها في القرآن الكريم؛ دراسة بيانية)، للدكتور عبد العزيز العمار، فقد جمع كلّ ما ورد في القرآن وأحصى عدد 64 آية، جلّها كان في العهد المكي، وخلصت الدراسة إلى نتائج، من أهمها: أكثر المقامات التي وردت فيها لفظة الذَّوْق هو مقام الحديث عن عذاب الآخرة؛ إِذْ بلغ عدد الآيات في هذا المقام 33 آية جلّها في العهد المكي، وأن أكثر ورودها في مقام الشّر وعذاب الدنيا والآخرة.
[23] مادة الذَّوْق ومقاماتها في القرآن الكريم؛ دراسة بيانية، ص80.