مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن
ابن عاشور أنموذجًا (1-3)

الكاتب : مصطفى فاتيحي
تسعى هذه السلسلة من المقالات إلى الكشف عن أثر مراعاة التركيب في انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه؛ وذلك من خلال النظر في تفسير ابن عاشور وتطبيقاته، وهذه المقالة الأولى منها تُبيِّن أهمية مراعاة التركيب في تحقيق الانسجام والتسلسل الدلالي للنصوص.

  درَج القرآن الكريم على استعمال الأساليب والتراكيب العربية؛ كونه نزل على لغة العرب، وقد تبارت أقلام العلماء قديمًا وحديثًا في تفسير القرآن وفهمه وتناوُل ما يكتنزه كتاب الله من أسرار لغوية ومكنونات دلالية، وكذلك ما يحمله من مناسبات وارتباطات بين أجزاء تراكيبه، وقد تباينت نتائجهم وتقريراتهم أحيانًا في بيان وجوه الارتباط بين أجزاء النَّظْم وتأمّل المناسبات بينها بحسب أدوات البحث والتنقيب المستعملة، وحسب تفاوت القرائح والملَكات ودرجات العمق في تأمّل النظم وطرائق التراكيب العربية التي استخدمها النصّ، وتحليل هذه التراكيب ووجوه التعالق بينها.

ولا شك أنّ العمق في فهم التراكيب العربية له أثرٌ بارزٌ جدًّا في فهم انسجام النصّ ذاته، ومسالك اتساق خطابه، وكيفيات انتقاله من حال لآخر، وبيان أسباب استعماله لأسلوب معيّن في موطن معين، وأن هذا الأسلوب لا يمثل قطعًا دلاليًّا بقدر ما يطرح ثراءً في المعنى يتحقّق به انسجام النصّ على صورة بديعة، ويفضي لتكامله واتساق نظمه؛ ومن هاهنا فإننا سنحاول في هذه المقالات أن نعالج هذه القضية، ونبرز أثر التعمق في فهم التراكيب القرآنية في عملية الفهم للخطاب القرآني، وبيان درجة الانسجام الحاصلة في هذا الخطاب.

إنّ أساليب التركيب التي استعملها القرآن تشمل الكثير من الأمور، ويندرج في طيّاتها العديد من المسائل النحوية والبيانية التي يمكن أن يتأتّى عليها نسق بناء الجمل والعبارات في النصّ، غير أننا سنُعنى في معالجتنا بالتراكيب والأساليب البيانية فقط. كما أن اشتغالنا سيكون مأطورًا بقضيتي (الاستئناف البياني، والجملة المعترضة في القرآن) بشكلٍ خاصّ لأمور سيأتي ذكر مسوغاتها، بحيث نبيّن أثر التعمّق في تحليلهما في بيان اتساق النصّ وانسجام نظمه، وذلك من خلال النظر في تفسير ابن عاشور وتطبيقاته لكثرة عنايته بهذا الأمر في التفسير على ما سيأتي توضيحه.

وقبل الشروع في ذلك الغرض فإننا سنحاول أولًا أن نسلِّط الضوء على أهمية مراعاة التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، وبيانه على النحو الآتي:

مراعاة التركيب وأهميته في فهم انسجام الخطاب القرآني:

التركيب يعني: الجملة المركبة من عدد من الألفاظ وفق نسق معيّن، ويلزم أن يؤدي هذا التركيب معنى مفيدًا أو مقصودًا، وفي اللغة العربية نسميه الجملة، التي تنقسم إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ولها استخدامات عديدة حسب القصد المراد منها، مثل: الجملة الابتدائية، والجملة الإخبارية، والجملة البسيطة، والجملة المركّبة، وجملة الحال، وجملة الصلة، وغيرها.

والتركيب اللغوي «لا يستقيم أمره إلّا وفق قواعد وأسس خاصّة، هي التي نطلق عليها القواعد النحوية، التي تضبط تكوين الجملة في اللغة العربية وغيرها من اللغات»[1].

ومن البديهي أن يكون «أساس التركيب في كلّ كلام هو أساس التعبير، لكن عندما تكون التراكيب على تنوّع موادها راجعة إلى منوال واحد أو منوالات متعدّدة بتعدّد أساليب التعبير الغالبة... فإن لُحمة مقالية مخصوصة تحدث بين التركيب والتعبير، فتتحوّل بمقتضاها العلاقة بينهما من علاقة عضوية اعتباطية إلى علاقة طبيعية مبرّرة، تعكس لُحمة مقامية وترقى بالكلام»[2].

لذلك يقول الجرجاني: «فليس الغرض بنظم الكلم أنْ توالت ألفاظها في النطق، بل أنْ تناسقَت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل»[3].

ويقول أيضًا: «فينبغي أن يُنظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا وأمرًا ونهيًا واستخبارًا وتعجبًا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلّا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة...، وهل يقع في وهمٍ وإنْ جُهِد أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم؟... وهل تجد أحدًا يقول: (هذه اللفظة فصيحة)، إلّا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها؟»[4]، ثم يضيف: «فالألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، إن الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك مما لا تعلُّق له بصريح اللفظ».

ومن هاهنا فإن النظم في جوهره «يقوم على التلازم والانسجام بين الأجزاء وائتلافها على نحوٍ يوفّر التماسك التركيبي، ويجعل أيّ تغيير في بناء النصّ يؤدي إلى تداعيه أو إلى تغيير معانيه وسماته»[5].

يقول الجرجاني في موضع آخر وهو يرافع عن أهمية نظم الكلام وتركيبه: «واعلم أنك إذا رجعتَ إلى نفسك علمتَ علمًا لا يعترضه شك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضُها ببعض، وينبني بعضها على بعض وتُجعَل هذه بسبب تلك؛ هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس... إن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وإن الكلمة تترتَّب في النطق بسبب ترتُّب معانيها في النفس»[6].

ومن هنا لا يصحّ في التفسير أن يؤخذ اللفظ وحده معزولًا عن سياقه الخاصّ والعام، والسياق الخاصّ هو تعليقه في جملته وعلاقته التبادلية مع ما يكون معه جملة، والسياق العام هو النص كلّه فالكلمة في نصّ يكون لها دلالة تختلف عن دلالتها في نصّ آخر، وبهذا ينبني المعنى ويتكامل[7].

لا يترك الجرجاني الأمر مبهمًا بل يسرد مجموعة من الوجوه التي يقوم عليها النظم وتركيب الجمل في الكلام، فيقول: «وذلك أنّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كلّ باب وفروقه، فينظر في (الخبر) إلى الوجوه التي تراها في قولك: (زيد منطلق) و(زيد ينطلق)، و(ينطلق زيد) و(منطلق زيد)، و(زيد المنطلق) و(المنطلق زيد) و(زيد هو المنطلق)، و(زيد هو منطلق). وفي (الشرط والجزاء)...، وينظر في الجمل التي تُسرَد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل؛ ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع (الواو) من موضع (الفاء)، وموضع (الفاء) من موضع (ثُم)، وموضع (أو) من موضع (أَمْ)، وموضع (لكنْ) من موضع (بل). ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيصيب من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له»[8].

ولذلك نجد الدكتور تمام حسان يقول: «لقد كانت مبادرة العلّامة عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق من أكبر الجهود التي بذلتها الثقافة العربية قيمةً في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي في السياق والتركيب»[9].

ويقول عبد الرحمن إكيدر: «إنّ تحليل النصّ ودراسة اتساقه حسب قرائن التعليق المعنوية تسمح بربط الصلة وإقامة العلاقة بين كلّ جزء من أجزاء السياق، ليس فقط في رصد إطار علاقة كلمة بأخرى داخل الجملة، بل أيضًا تتبع علاقة جملة بأخرى في إطار استمرارية خطيّة نصيّة، تجعل من النصّ نسيجًا من الكلمات والجمل تتعلَّق بعضها ببعض»[10].

وبذلك يظهر أننا عندما نراعي التركيب وطريقته في فهم النصّ فإننا بذلك نكون قد سعينا إلى القراءة النسقية التي تستحضر مجموعة من المعطيات اللغوية (النحو والبلاغة) والعلاقات السياقية بين أجزاء النصّ، من أجل تحقيق الفهم المتكامل المفضي إلى الانسجام والبنائية، حيث نجد تعالقًا كبيرًا وترابطًا وشيجًا بين التركيب والسياق والنظم والمناسبة والتي هي أمور رئيسة يجب مراعاتها في الوصول لانسجام الخطاب في النصّ:

التركيب والسياق:

تستمد دلالة السياق القرآني أهميتها من كونها تفسيرًا للقرآن بالقرآن نفسه، حيث إنها بيان المعنى من خلال تتابع المفردات والجمل والتراكيب القرآنية المترابطة، بل إنّ سياق الآية وسياق المقطع من أعلى تفسير القرآن بالقرآن، لأنه في محلّ واحد[11].

 تكمن علاقة التركيب بالسياق باعتبار السياق إطارًا عامًّا تنتظم فيه عناصر النصّ ووحداته اللغوية، ومقياسًا تتصل بواسطته الجمل فيما بينها وتترابط، وبيئة لغوية وتداولية ترعى مجموع العناصر المعرفية التي يقدمها النصّ للقارئ.

ويضبط السياق «حركات الإحالة بين عناصر النصّ، فلا يفهم معنى كلمة أو جملة إلّا بوصلها بالتي قبلها أو بعدها داخل إطار السياق...، وإن التحليل بالسياق يعدُّ وسيلة من بين وسائل تصنيف المدلولات؛ لذلك يتعين عرض اللفظ القرآني على موقعه لفهم معناه ودفع المعاني غير المرادة»[12]، وبهذا المعنى فإن السياق «يتسع ليشمل ما هو مكاني زمني وموضوعي ومقاصدي وتاريخي، لكن الألصق بالتركيب هو اللغوي، وهو دراسة النصّ القرآني من خلال علاقات ألفاظه بعضها ببعض والأدوات المستعملة للربط بين هذه الألفاظ، وما يترتب على تلك العلائق من دلالات جزئية وكلية»[13].

فالسياق متّجه إذن إلى المعنى بالكلية، «والنظم متّجه إلى كيفية صياغته في الجملة، ولماذا جيء به على نحوٍ دون غيره. فمعرفة نظم الآية وأسراره البيانية، مساعدة على معرفة سياقها. كما أن سياقها مساعد على معرفة دقائق نظمها، فلأن تدرك نكتة التعريف والتنكير والمجاز من الحقيقة في نظم قرآني لا بد من معرفة سياق الآية الذي هو موضوعها والمراد من الخطاب بها، كما أن تحليل نظمها والعلاقات بين مفردات جملها مساعد على معرفة سياقها، فالعلاقة إذن تلازمية»[14].

التركيب والمناسبة:

تكمن أيضًا علاقة التركيب بالمناسبة؛ «لأن المناسبة ترتبط بكلّ المباحث اللغوية والنحوية والبلاغية التي تعنى بالعلاقات الكبرى بين أجزاء النصّ، ومن شأن الدراسة النصيّة أنْ تُجنِّب النصّ القرآني القراءة التجزيئية، وتقدِّم قراءة جامعة تنتظم فيها الكلمات والآيات والسور في سلك واحد، وتنتظم فيه المعاني والدلالات والمقاصد في أصلٍ واحد، فيبدو النصّ القرآني كله قطعة واحدة يكون فيها الكلام متحدرًا تحدُّر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ وجمع معانٍ»[15].

التركيب والنظم:

وذلك من خلال ما أشار إليه الجرجاني قائلًا: «وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيبٌ في شيء حتى يكون هناك قصدٌ إلى صورة وصفة، إن لم يُقَدَّم فيه ما قُدِّم، ولو يؤخَّر ما أُخِّر، وبُدِئ بالذي ثُنِّي به، أو ثُنِّي بالذي ثُلِّث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضعُ الكلام أن يحصل له من الصورة والصفة»[16].

وفي ضوء هذه الأهمية المنهجية لأمر مراعاة التركيب في فهم النصوص وبيان اتساقها نجد أن العلماء اعتنوا بالتنبيه عليها في فهم النصّ القرآني وتفسيره، فقد سجّلوا تقريراتٍ نفيسة وأنظارًا معتبرة في هذا السياق، وضرورة العناية بتأمّل طرائق التراكيب القرآنية في فهم انسجام الخطاب القرآني واتساق نظمه، من ذلك:

قول الزركشي: «والذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أول كلّ شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟»[17]، وقال أيضًا: «فنقول: النظر في التفسير هو بحسب أفراد الألفاظ وتراكيبها، وأمّا بحسب التركيب فمن وجوه أربعة:

الأول: باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدّية أصل المعنى، وهو ما دلّ عليه المركّب بحسب الوضع، وذلك متعلّق بعلم النحو.

الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى، أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البُلَغاء، وهو الذي يتكلَّف بإبراز محاسنه علم المعاني.

الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها، وباعتبار الحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية والتشبيه، وهو ما يتعلق بعلم البيان.

والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله، وهو يتعلّق بعلم البديع»[18].

مستلهمًا هذه الرؤية وناسجًا على هذا المنوال، يقدّم الشيخ حسن حبنكة الميداني جهدًا معتبرًا في بيان كثير من القواعد المحققة للقراءة النسقية للخطاب القرآني، من ذلك عنايته بقضية التركيب تحقيقًا واستدلالًا، فيقول: «إنّ مثل الجمل القرآنية وما تحمل من معانٍ ودلالات كمثل حبّات نفيسات الجوهر، نُظِمَت في عِقد متكامل تمثله السورة القرآنية... والتوزيع في الحبّات أو الجواهر النفيسة توزيع فني بديع. والسلك الناظم لها أو الأرضية الجامعة لها أمر يُدْرَك بالفكر الثاقب، وقد لا يلاحظ في اللفظ ما يدلّ عليه. وذلك كما ندرِك التناسق والترابط في الأشكال الهندسية التي تنضّد على وفقها مجموعة من أنفَس الحجارة الكريمة في قطعة من الحُلِيّ، نادرة الصياغة، بديعة التنضيد. وعلى المتدبِّر العميق التفكير أن يكتشف ويحلّل ويُبرِز عناصر الترابط، ويضع أسهم التناسق والترابط بين النفائس الموزعة أبدع توزيع. ويتأكّد على المتدبِّر أن يكتشف الروابط الفكرية بين الجمل المقترنة، ولو كان كلّ منها يتحدّث عن حقيقة من الحقائق منفصلة في الظاهر عن الحقيقة الأخرى التي جاءت مقترنة بها في اللفظ»[19].

ويقول ابن عاشور: «إنّ بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدّى بها تلك التراكيب؛ فإنّ سكوت المتكلّم البليغ في جملة سكوتًا خفيفًا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه، ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإنّ السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، مثاله قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[النازعات: 15، 16]، فإنّ الوقف على قوله: {مُوسَى} يُحدِث في نفس السامع ترقُّبًا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ}...إلخ، حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة :{مُوسَى} من قرينة من قرائن الكلام»[20].

وكذا قال في موضع آخر: «إنّ القرآن الكريم يتضمّن من المعاني ما يحتاج إليه الناس في كلّ زمان ومكان، وإنّ بلاغة التركيب التي تعدُّ من أبرز سماته لهي ميدان خصب لاستمرارية عطاء القرآن دون نفاد، ومن دون شكّ فإن اللسان العربي يطاوع بشكلٍ كبيرٍ في تحقيق هذه المهمّة، من حيث القدرة الهائلة على تكثيف المغازي ورصد الدروس والعبر...، وإذ قد كان القرآن وحيًا من العلّام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدَّى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه...، فقد نسج نظمه نسجًا بالغًا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف -لفظًا ومعنى- بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم، فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب...، فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودِعها البلغاء في كلامهم؛ وهو لكونه كتابَ تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقًا بأن يودَع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ، في أقلّ ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها، التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات؛ ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى...، والقرآن ينبغي أن يودَع من المعاني كلَّ ما يحتاج السامعون إلى عِلْمه، وكلَّ ما له حظ في البلاغة، سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودًا وكان ما هو أدنى منه مرادًا معه لا مرادًا دونه، سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور، أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض، ولو أنْ تبلغ حدَّ التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح»[21].

نخلص مما سبق بيانه وتحريره ومن التأمّل العميق في النقول والاقتباسات المذكورة أنّ مراعاة التركيب الذي يستخدمه النصّ أمر بالغ الأهمية وضرورة علمية وحاجة منهجية؛ لأنه يسهم في تحقيق:

- بيان اتساق الدلالات في النصّ وتساوقها في الخطاب، والذي يبرز تماسُك النصّ واتساق نظمه.

- ثراء المعنى، ولكن بضوابط علميّة وليس على طريقة النصّ المفتوح عند أصحاب القراءات الحداثية الخالية من كلّ قيد أو ضابط.

كما أنه يمكن أن يسهم وأن يكون عاملًا مساعدًا في:

- ردّ التأويلات المتعسفة التي ينبو عنها التركيب وتجافيها قواعد اللغة؛ لأن عند مراعاة التركيب نأخذ كلّ المباحث اللغوية التي يستدعيها المقام، فيفضي ذلك إلى تلمّس المعنى على هدى وبصيرة.

- تجنب الاستدلالات المبتورة والممزوعة الأوصال عن المعاني السابقة واللاحقة، فذلك مدعاة إلى اطّراح توهُّم وإيهام مناقضة النصوص الشرعية بعضها لبعض.

- المفاضلة والترجيح بين المعاني ليس بناء على الذوق والتشهِّي، ولكن بقواعد العلم المعتبرة.

وإذا كان ما يعنينا هاهنا بقوة هو أهمية مراعاة التركيب وفهمه، وكيف أنه يُعِين بقوة على تحقيق الانسجام في الخطاب القرآني، فإننا سنحاول تتبُّع هذا بصورة تطبيقية في المقالتين التاليتين، بحيث نعمِّق النظر لأهمية مراعاة استحضار نسق التركيب في فهم انسجام الخطاب القرآني.

وسوف نجعل اشتغالنا التطبيقي مأطورًا بتفسير ابن عاشور (التحرير والتنوير) كونه من أبرز من اعتنى بتتبُّع أمر التركيب في تناول التفسير، وحلّ إشكالات النظم والإجابة عنها بصورة علميّة من خلال تحليلات التراكيب التي يستخدمها النصّ، ويظهر ذلك من إلحاحه على تلك القضية (كما مرّ في النقول التي أوردناها عنه قبل، وكذلك يظهر من بيان خطته في التفسير، والتي أوضح أن قوامها على أمرين):

- تفسير التراكيب القرآنية جريًا على تبيُّن معاني الكلمات بحسب استعمال اللغة العربية، ثم أخذ المعاني من دلالات الألفاظ والتراكيب وخواص البلاغة.

- استخلاص المعاني المدلولة منها بدلالات المطابقة والتضمُّن والالتزام، مما يسمح به النظم البليغ، ولو تعددت المحامل والاحتمالات[22].

وإنّ الناظر في هذين الأمرين يجد أن التحليل عند ابن عاشور للنصّ القرآني يأتي تركيبيًّا، أي: إنه يقوم على دراسةِ البنيات المتحكمة في إنتاج المعنى، وتفكيكِ أنساق الجملة، ثم ربطِ الأجزاء بعضها ببعض، وكشفِ العلاقة بين الكلمات والمركبات، وذلك بمراعاة مجموعة من صيغ الكلام ومحدّداته من تقديم وتأخير وحذف وعطف واستئناف واعتراض، والتدقيق في القرائن والسياق السابق واللاحق، لإدراك دلالات كلّ من الأمر والنهي والاستفهام وما يفيد العموم والخصوص وشبه ذلك، وهو الأمر الذي جعله من أبرز التفاسير التي تهتم بحلّ إشكالات النظم وتبيُّن كيفيات اتساقه من خلال التعمُّق في تحليل التراكيب العربية التي توسلها النصّ في إنتاج خطابه.

ونظرًا لاتساع أمر الأساليب والتراكيب العربية التي استخدمها القرآن فإننا سوف نتناول في هذه المحاولة الاستئناف البياني والجملة المعترضة؛ وإنّ من موجبات اختيارهما والاقتصار عليهما ما يأتي:

أولًا: تعذُّر الإحاطة هنا بكلّ قضايا وزوايا الأساليب التي استخدمها القرآن.

ثانيًا: حجم حضور عناية ابن عاشور ببيان اتساق النظم في القرآن من خلال هذين الأسلوبين في القرآن إذا ما قورن بغيره كما هو بيِّن لمن يطالِع تفسيره.

ثالثًا: أن ظاهرة الفصل والوصل في القرآن الكريم من أكثر الظواهر التي قد يستشكل معها أمر النظم وترتيب التناسق الدلالي في النصّ، ومن ثم يكون لحسن فهمها أثر مهم في بيان دلالة النصّ القرآني بدقّة وبكلّ أبعاده، فقد يربط بين جملتين أو يفصل بينهما؛ وذلك من أجلِ الإحاطة بجزئيات النصّ كلّها وعرضها في نسق لافت وبأشكال متعدّدة، من دون فوات في الدلالة، وفي هذا مراعاة لإثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة نفوسهم ونزعاتهم من أجل الامتثال للخالق[23]، ويعدُّ هذا المبحث «من المسائل الدقيقة في علم التراكيب، بل من أعقدها... فهو في عرف البلاغيين: العلم بمواضع العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها أو تركها عند عدم الحاجة إليها»[24].

كما أننا ومن خلال الاستئناف البياني والجملة المعترضة نستطيع أن ندلّل كذلك على أن الدراسة البيانية ليست فقط من أجل الكشف عن الجوانب الفنية في القرآن الكريم، أو المظاهر الإعجازية، وإنما لها تعلُّق وثيق بتلمُّس المعنى والمفاضلة بين الدلالات.

خاتمة:

ظهر لنا من خلال ما سبق أهمية أمر مراعاة التركيب في تحقيق الانسجام والتسلسل الدلالي للنصوص، وأن عناية العلماء بالتنبيه على مراعاة التركيب في التعاطي مع القرآن الكريم وبيان انسجام أجزائه كانت عناية كبيرة وموغلة في القدم في التراث الإسلامي، وذلك لعميق أثر مراعاة التركيب وطريقته في التعامل مع النصّ القرآني وتحقيق انسجامه وتتابعه الدلالي، وهو ما سنحاول أن نتتبعه بصورة تطبيقية في المقالين التاليين مع مسألتي الاستئناف البياني والجملة المعترضة في القرآن؛ لنتأمل كيف عالج ابن عاشور في تفسيره انسجام النصّ وبيّنه من خلال تعمُّقه في تحليل هذين التركيبين، وكيف استطاع كذلك من خلال تحليلاته أن يبرز أغراضًا لهما في الاستعمال تكشف عن روعة التركيب في ساحة النصّ القرآني.

 

 

[1] خصائص تراكيب اللغة العربية، د/ عبد الله علي علي الثوري.

[2] تحاليل أسلوبية، محمد الهادي الطرابلسي، ص128.

[3] دلائل الإعجاز، ص49-50.

[4] دلائل الإعجاز، ص44-46.

[5] الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي، ابتسام أحمد حمدان، ص71.

[6] دلائل الاعجاز، ص53.

[7] النحو والدلالة، ص16.

[8] دلائل الإعجاز، ص81-82.

[9] اللغة العربية معناها ومبناها، ص18.

[10] دور التعليق في تحديد السياق النصي عند عبد القاهر الجرجاني، مجلة جيل للدراسات الأدبية والفكرية، عدد 38.

[11] أثر السياق القرآني في الترجيح عند المفسرين، ص20.

[12] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص181.

[13] الخطاب القرآني، ص182.

[14] نظرية النظم عند الجرجاني وأثرها في تفسير القرآن الكريم، بحث ضمن المؤتمر العالمي الثالث للباحثين في القرآن وعلومه، الطيب الشطاب، ص801.

[15] الخطاب القرآني، عبد الرحمن بودرع، ص134.

[16] دلائل الإعجاز، ص364.

[17] البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي (المتوفى: 794هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1376هـ-1957م، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، ج1، ص37.

[18] البرهان، الزركشي، ج2، ص174.

[19] قواعد التدبّر الأمثل للميداني.

[20] التحرير والتنوير، (1/ 117).

[21] التحرير والتنوير، (1/ 93).

[22] أليس الصبح بقريب، التعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، محمد الطاهر بن عاشور، دار السلام- القاهرة، ط1، 2006م، ص164.

[23] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299.

[24] الدلالة التركيبية في كتابي (معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، ومعاني القرآن للفراء)، ص299.

الكاتب

الدكتور مصطفى فاتيحي

حاصل على الدكتوراه من جامعة القاضي عياض بمراكش - المغرب، وأستاذ التعليم التأهيلي الثانوي.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))