مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن
ابن عاشور أنموذجًا (3-3)

الكاتب : مصطفى فاتيحي
يهتم هذا المقالُ الثالث والأخير ضمن سلسلة مراعاة التركيب بالكشفِ عن بيان الأثر العلمي للاهتمام بالتركيب البياني عند ابن عاشور وأثره في بيان تماسك الخطاب في النصّ القرآني؛ من خلال تسليط الضوء على تحليلاته للجملة المعترضة وتوظيفها في هذا الصدد.

  سبق معنا بيان أهمية مراعاة التركيب في فهم انسجام خطاب النصّ وحفظه من التعارض والانقطاع الدلالي. وقد مرّ معنا فرط عناية ابن عاشور بمراعاة التركيب في تفسيره للقرآن الكريم واعتنائه البالغ بتحليل الاستئناف البياني وإثبات تحقّق تماسك النصّ والدلالات من خلاله[1]، وفي هذه المقالة سنحاول بيان الأثر العلمي للاهتمام بالتركيب البياني عند ابن عاشور في بيان تماسك الخطاب في النصّ القرآني من خلال تسليط الضوء على تحليلاته للجملة المعترضة وتوظيفها في هذا الصدد، وبيانه على النحو الآتي:

الجملة المعترضة؛ مدخل عامّ:

قال الشيخ خالد بن عبد الله الأزهري في شرحه المسمَّى (موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب) -والشرح ممزوج بالمتن المشروح-: «الجملة الثالثة: المعترضة بين شيئين متلازمين، وهي إمّا للتسديد (بالسين المهملة)، أي: التقوية، أو التبيين وهو الإيضاح. ولا يعترض بها إلّا بين الأجزاء المنفصل بعضها من بعض، المقتضي كلّ منهما الآخر: فتقع بين الفعل وفاعله...، أو مفعوله...، وبين المبتدأ والخبر...، أو ما هما أصلُه...، وبين الشرط وجوابه...، وبين أجزاء الصلة...، وبين المجرور وجارّه...، وبين الحرف وتوكيده...، وبين قد والفعل...، وبين الحرف ومَنْفِيِّه...، وبين القسَم وجوابه، والموصوف وصفته...» إلخ.

ثم قال: «ويجوز الاعتراض بأكثر من جملة، خلافًا لأبي عليّ الفارسي في منعه من ذلك. ومن الاعتراض بأكثر من جملة قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}[آل عمران: 36]، فالجملة الاسمية هي: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} بإسكان التاء، والفعلية هي: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} معترضتان بين الجملتين المصدَّرتين بإني...» إلخ.

ولذلك فما قيل عن الاستئناف البياني من ضبط للمعنى وتحقيق تناسقه، يقال عن الجملة الاعتراضية، ذلك أن «النظر الوظيفي في التركيب يستدعي استحضار فكرة الأصل والفرع في النحو العربي، تلك الفكرة التي أسهمت إسهامًا واضحًا في ردّ الأداءات اللغوية، ذلك لتقعيد اللغة وضبط تطوّراتها، وبالنسبة للتركيب المعترض خصوصًا، فدخوله على الرسالة اللغوية فاصلًا بين ما حقّه الارتباط يعدّ مظهرًا من مظاهر الفرع الناتج عن الأصل؛ إذ الأصل اكتمال أركان الجملة، ثم الانتقال إلى جملة أخرى، بينما يأتي التركيب المعترض ليخرج بفرع من ذلك الأصل، وما نتج هذا الفرع إلّا لوظيفة تواصلية قادت المبدع إلى إنتاج أداءات خالفت الأصل، لتصبح أصلًا مستقلًّا بذاته»[2].

وللاعتراض وظيفة بلاغية، هي: المبادرة بإبلاغ معنى قد يرِد على الكلام بدونه مما لا يرِد عليه في وجوده[3].

يقول ابن عاشور: «إنّ الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها، فإصلاح كفّارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة الضالة واتباع الإيمان والإسلام، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طرق النجاح وتزكية نفوسهم؛ ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدّة الدعوة، فكانت آيات القرآن مستقلًّا بعضها عن بعض؛ لأن كلّ آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه، وتكميله وتخليصه من تسرّب الضلالات إليه، فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرّق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها، وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة؛ ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك، فإن كلّ جملة تشتمل على حكمة وإرشاد، أو تقويم معوجّ، كقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}[آل عمران: 72، 73]. فقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} جملة معترضة»[4].

إذن، ينبّه ابن عاشور إلى ضرورة أخذ طبيعة تنزل القرآن، ومراميه التربوية ومعالجته للواقع، في بيان سبب إكثار النصّ من استعمال الجمل الاعتراضية من ناحية، وكذلك من أجل تحديد الجمل الاعتراضية لتلمس المعاني والتوجيهات والإرشادات القرآنية، وتحقيق القصد التربوي من ناحية أخرى. فمنهج القرآن في الإصلاح والتربية والتغيير ومعالجة قضايا الواقع والتفاعل معها يستوجب هذا التنقل من معنى إلى آخر، والجمع في الآية الواحدة بين أغراض متعدّدة، وأساليب متنوعة يقتضيها المقام وأحوال المتلقِّين.

ومنه ينبغي أن لا نغفل عن دور الجملة المعترضة في التأثير على دلالة النصّ، فهي جزء من النصّ الذي هو عبارة عن مجموعة جمل ترتبط وتشترك فيما بينها في أمرين: أمر السبك وهو الربط اللغوي، وأمر الحبك وهو الربط الدلالي والانسجام[5].

وفيما يلي نبيّن كيف تعمّق ابن عاشور في تحليل الجملة الاعتراضية في القرآن وبيان كيفية انسجام النظم من خلالها.

النموذج الأول: قول الله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل: 88].

 يقول ابن عاشور: «الذي قاله جمهور المفسرين أن الآية حكت حادثًا يحصل يوم يُنفخ في الصور، فجعلوا قوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} عطفًا على: {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}[النمل: 87]،أي: ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة...إلخ. وجعلوا الرؤية بصرية، و{مَرَّ السَّحَابِ} تشبيهًا لتنقُّلِها بمر السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصودًا منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها، فيكون من معنى قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}[القارعة: 5]، وجعلوا الخطاب في قوله: (وترى) لغير معيّن، ليعمَّ كلَّ مَن يَرى، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}[الكهف: 47]، فلما أشكل أن هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر؛ لأنّ الآيات التي ورَد فيها ذِكْرُ دكِّ الجبال ونسفِها تشير إلى أن ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قُبيلها، فأجابوا بأنها تندكُّ حينئذ ثم تُسيَّر يوم الحشر... ولا يخفى على الناقد البصير بُعد هذه التأويلات[6].

وبعد أن عرض ابن عاشور مجمل أقوال المفسرين توسع في تَعقُّبها بقوله: «وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأنّ الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب، ولا توجيه التذييل بقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل: 88]؛ فلذلك كان لهذه الآية وضعٌ دقيقٌ، ومعنًى بالتأمل خليقٌ، فوَضْعُها أنها وقعَتْ موقع الجملة المعترضة بين المجمَل وبيانه من قوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}[النمل: 87]، إلى قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}[النمل: 89]، بأن يكون مِن تَخلُّلِ دليلٍ على دقيقِ صنعِ الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد؛ إدماجًا وجمعًا بين استدعاءٍ للنظر، وبين الزواجر والنُّذُر...، وجملة: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}[النمل: 87] معترضة بينهما؛ لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجّه أنظارهم إلى ما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة.

وهذا من العلم الذي أُودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي.

وجملة: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل: 88]، تذييل أو اعتراض في آخر الكلام، للتذكير والوعظ والتحذير، عقب قوله: {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل: 88]؛ لأن إتقان الصنع أثر من آثار سعة العلم، فالذي بعلمه أتقن كلّ شيء هو خبير بما يفعل الخلق، فليحذروا أن يخالفوا عن أمره»[7].

وإذا كان شأن الاستئناف البياني عند ابن عاشور كما وصفنا وبينَّا، فإنّ شأن الجملة المعترضة كذلك أيضًا، ويتضح الأمر عند التأمل في الآية المذكورة. وحاصله أن الآية وإن جاءت بعد الحديث عن النفخ في الصور، إلّا أن استحضار كونها جملة معترضة، جعل ابن عاشور ينصرف إلى مضامين أكثر اتساعًا، كالذي عبر عنه «بما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة»، ومثل ذلك كثير في القرآن الكريم عند الحديث عن أحوال اليوم الآخر، فتُذكر بعض الظواهر الطبيعة في سياق بيان قدرة الله.

ورغم وجاهة استدراك ابن عاشور، إلّا أنه يمكن تسجيل ملحوظة تتعلّق بأنه ما كان هو نفسه أن يستنتج ذلك المعنى لولا أنه كان على دراية بما أصبح في الوقت الراهن من البديهيات هو دوران الأرض. ولذلك، «فإن النصّ القرآني كتاب الزمن كلّه والمكان كلّه، والمفسر ابن عصره، فهو ليس بنصِّ عصرٍ أو جيلٍ أو مصرٍ ثم ينتهي بانتهائه، وهو غير قابل للتأقيت؛ لأنه يتضمّن كلمات الله الباقية وهدايته المستمرة»[8].

وكلمات الله جاءت على سنن العربية وأساليبها وأفانين القول فيها، ولا ريب أن الجملة المعترضة من ذلك الباب، وهي التي سمحت بالتقاط هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن عاشور، فلم يَنْبُ عنه اللفظ أو السياق أو المعطى العلمي، بل كلّها عناصر تتضافر وتتكامل لإفادة المعنى وانسجام الدلالات، كما بينّا قبلُ مِن تلازُم العلاقة بين فهم التركيب والسياق، وأنّ كلًّا منهما يفضي لحسن الفهم للآخر.

النموذج الثاني: قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل: 14].

قال ابن عاشور: «وجملة: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} معترضة بين الجمل المتعاطفة مع إمكان العطف لقصد مخالفة الأسلوب للتعجيب من تسخير السير في البحر، باستحضار الحالة العجيبة بواسطة فعل الرؤية. وهو يستعمل في التعجيب كثيرًا بصيغ كثيرة، نحو: ولو ترى! وأرأيت! وماذا تَرى! واجتلاب فعل الرؤية في أمثاله يفيد الحثّ على معرفة ذلك، فهذا النظم للكلام لإفادة هذا المعنى، ولولاها لكان الكلام هكذا: وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتبتغوا من فضله في فُلْكٍ مَواخِرَ»[9].

يُستفاد مما ذكَر ابن عاشور أن وقوع جملة: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} معترضة من شأنه أن يدفع إلى ضرورة إعمال النظر وإجالة الفكر في صنع الله ونِعمه العظيمة؛ لأن ذلك الاعتراض يوقف القارئ لبرهة ليرى بعمق وينظر برويَّة، فهو بمثابة المنبّه الذي يأخذ بتلابيب المتدبر لكي لا تكون قراءته عابرة ومروره عاديًّا. وما كان لهذا أن يحصل لولا الجملة الاعتراضية، التي تضفي على تتابع الجمل وتركيبها معاني ثـرَّة ودلالات جمَّة.

النموذج الثالث: قول الله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[النحل: 32-34].

كان سياق الكلام قبلُ عن أحوال المتقين وما أعدّ الله لهم في جناته، حيث قال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}[النحل: 30، 31]، وبعد ذلك ختَم بأن هؤلاء المؤمنين {طَيِّبِينَ} وأنّ جزاءهم هو دخول الجنة بخلاف مَن سبق الحديث عنهم من الكافرين في سياق الآيات. ومن هاهنا فإن انتقال الحديث بعد ذلك لـ{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[النحل: 33، 34]، قد يمثل إشكالًا في اتساق النظم.

وقد حلّل ابن عاشور هذا التركيب مبينًا اتساق الكلام به، حيث بيّن أولًا أن {هَلْ يَنْظُرُونَ...} عبارة عن «استئناف بياني ناشئ عن جملة: قد مكر الذين من قبلهم [سورة الرعد: 42]؛ لأنها تثير سؤالَ من يسأل عن إبّانِ حُلول العذاب على هؤلاء كما حلّ بالذين من قبلهم، فقيل: ما ينظرون إلّا أحد أمرين؛ هما مجيء الملائكة لقبض أرواحهم فيحقّ عليهم الوعيد المتقدِّم، أو أن يأتي أمرُ الله. والمراد به الاستئصال المعرَّض بالتهديد في قوله: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}[سورة النحل: 26]. والاستفهام إنكاري في معنى النفي؛ ولذلك جاء بعده الاستثناء»[10].

وأمّا بقية الآية بعدها فقد بيّنَ اتساق نظمها كالتالي: «{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: هذه جملة معترضة بين جملة: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[النحل: 33]، وجملة: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}. ووجه هذا الاعتراض أن التعرُّض إلى ما فعله الذين من قبلهم يشير إلى ما كان مِن عاقبتهم وهو استئصالهم، فعُقِّب بقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، أي: فيما أصابهم»، ثم قال بعد ذلك: «ولمّا كان هذا الاعتراض مشتملًا على أنهم ظلموا أنفسهم صار تفريع {فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا} عليه أو على ما قبله. وهو أسلوب من نظم الكلام عزيز، وتقديرُ أصله: (كذلك فعل الذين من قبلهم وظلموا أنفسهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله). ففي تغيير الأسلوب المتعارَف تشويقٌ إلى الخبر، وتهويل له بأنهم ظلموا أنفسهم، وأن الله لم يظلمهم، فيتَرقَّب السامع خبرًا مُفظِعًا، وهو: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}».

وهكذا استطاع ابن عاشور ببراعة أن يبين اتساق النظم، وذلك من خلال الاستئناف البياني والذي عالجناه في مقالتنا السابقة، وكذا من خلال الجملة المعترضة وتحليل وضعيتها في الجملة.

ونلاحظ أنه عندما يستنتج ابن عاشور إرادة التشويق والتهويل بالنظر إلى موقع الجملة المعترضة، نفهم أن من أغراض الاعتراض العناية بالأساليب المؤثرة في المتلقي، من خلال مراعاة مستويات الخطاب من حيث التنوّع والتدرّج وحال المخاطَبِين. وأنّ تركيب الجمل يتضمّن أبعادًا نفسية تأتي على مقتضى عمق المعنى المراد إيصاله، والذي لا يمكن أن يُحْدِث التأثير المنشود ويقع في النفس موقعًا بليغًا لو أُلْقِي بطريق تقريري مباشر.

النموذج الرابع: قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة: 238].

 إدراكًا من ابن عاشور أنَّ تطلُّب المناسبة أمرٌ نسبي تختلف فيه الأنظار حاوَل الفرش من بعيد حتى يصل إلى المبتغَى في هذا الموضع، فقال: «الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن، لا تلزم له قوة ارتباط؛ لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتَّب بالتبويب وتفريعِ المسائل بعضها على بعض، ولكنه كتاب تذكير وموعظة، فهو مجموع ما نزَل من الوحي في هَدْي الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها، فقد يُجْمَع فيه الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرُّع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأمورًا بإلحاقها بموضع معيّن من إحدى سور القرآن، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام، فلعلّ آية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} نزلت عقب آيات تشريع العِدّة والطلاق؛ لسبب اقتضى ذلك: من غفلةٍ عن الصلاة الوسطى، أو استشعار مشقّة في المحافظة عليها؛ فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد...، فالظاهر أنه لمّا طال تبيان أحكام كثيرة متوالية؛ ابتداء من قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ}[البقرة: 215]، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذُيِّلَت به الآية السابقة، وهو قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}[البقرة: 237]، فإن الله دعانا إلى خُلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولمّا كان ذلك الخُلق قد يعسُر على النفس، لِما فيه مِن تركِ ما تحبه من الملائم، من مال وغيره؛ كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشُّح، علَّمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين: أحدهما: دنيوي عقلي، وهو قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} المذكِّر بأنّ العفو يقرِّب إليك البعيد، ويصير العدوّ صديقًا، وإنك إنْ عفوتَ فيوشك أن تقترف ذنبًا فيُعفى عنك إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحقّ. الدواء الثاني: أخروي روحاني، وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت مُعِينة على التقوى ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها.

ولك أن تقول: لمّا طال تعاقُب الآيات المبيِّنة تشريعاتٍ تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلَّفين، عُقِّبَت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر»[11].

 نفيد مما ذكَر ابن عاشور أن الجملة المعترضة هنا تعدّ جملة مؤسسة لارتباط الأحكام الشرعية بالتربية القيمية والخلقية، وأن داعي الوازع الديني يجعل النفوس تنقاد لِما يُطْلَب منها، وتسارع إلى العمل به دون تلكُّؤ.

وفي ضوء ذلك يمكن أن نصحّح كثيرًا من المناهج التربوية التي يطغى فيها جانب على آخر فتختلّ الموازين، وكذا بعض الأقوال الفقهية أو الاختيارات المذهبية التي تقدَّم بشكل جاف يفتقد للندَى الإيماني والحسّ القِيَمِي والبناء الفكري؛ لأن تعديل السلوك الإنساني عملية معقدة ومركبة.

قال الشيخ رشيد رضا: «لأن المقصد الأول من القرآن هو الهداية بأن تكون تلاوته عظة وذكرى وعِبرة ينمَّى بها الإيمان والمعرفة بالله -عز وجل-، وبسُنّته في خلقه، وحكمته في عبادته، ويقوَّى بها شعور التعظيم والحب له، وتزيد الرغبة في الخير والحرص على التزام الحقّ، ولو طال سردُ الآيات في موضع واحد -ولا سيما موضوع أحكام المعاملات البشرية- لملَّ القارئ لها في الصلاة وغير الصلاة، أو غلب على قلبه التفكر في جزئياتها ووقائعها، فيفوت بذلك المقصد الأول، والمطلوب الذي عليه المعوَّل، وحَسْبُ طُلّاب الأحكام المفصَّلة فيه أن يرجعوا إليها عند الحاجة في الآيات المتفرقة والسور المتعددة، ولا يجعلوها هي الأصل المقصود من التلاوة في الصلاة وللتعبد في غير الصلاة، فإن الأصل الأول هو ما علمْتَ»[12].

النموذج الخامس: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 29-31].

تكلّم السياق على ذنبين كبيرين، وهما: قَتْل النفس، وأَكْل أموال الناس بالباطل. وأبرزَ عاقبة ذلك، ثم انتقل بعد ذلك انتقالًا آخر، حيث انتقل بعد ذلك لبيان موعظة عامة، فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 31]. وأتْبَعها كذلك بقوله: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[النساء: 32].

ويبيّن ابن عاشور هاهنا علّة هذا الانتقال المفاجئ فيقول: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه... اعتراض ناسَب ذِكره بعد ذِكر ذنبَيْن كبيَرين: وهما قَتْل النفس، وأَكْل المال بالباطل. على عادة القرآن في التفنُّن من أسلوب إلى أسلوب، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه»[13].

ونلاحظ هاهنا أنه إذا كان الحقّ -سبحانه وتعالى- يقدِّم أوامره العليا بما يراعِي أحوال المخاطَبِين وطبائع النفوس، فإنه في المنطق البشري أَولى، ولكن للأسف نجد نوعًا من الغِلظة في الخطاب والتقرير في الوصف عوض البناء المستوعب، بل يصل أحيانًا بحسن نية عند بعضٍ إلى أن يحصل الالتباس بين الوعيد الإلهي في الآخرة وإصدار الأحكام دون مراعاةٍ للمآلات.

النموذج السادس: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران: 154].

 قال ابن عاشور: «وجملة: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، رَدَّ عليهم هذا العذر الباطل، أي أنّ الله ورسوله غير محتاجَيْن إلى أمركم. والجملة معترضة... لقَّن الله رسوله الجواب عن قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}. والجواب إبطالٌ لقولهم، وتعليمٌ للمؤمنين لدفعِ ما عسى أن يقع في نفوسهم من الرَّيب إذا سمعوا كلام المنافقين، أو هو جوابٌ للمنافقين ويحصل به علمٌ للمؤمنين؛ وفُصِلَت الجملة جريًا على حكاية المقاولة...

وهذا الجواب جارٍ على الحقيقة، وهي جريان الأشياء على قدَرٍ من الله والتسليم لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتضٍ تَرْك الأسباب؛ لأنّ قدَر الله تعالى وقضاءه غير معلومَين لنا إلّا بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفًا عن مصادفة قدَرِ الله لمأمولنا، فإِنِ استفرَغْنا جهودَنا وحُرِمْنا المأمول، علِمْنا أنّ قدر الله جرى من قبلُ على خلاف مرادنا. فأمّا تركُ الأسباب فليس من شأننا، وهو مخالف لما أراد الله منا، وإعراضٌ عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القَدَر. 

والمعنى: لو لم تكونوا هاهنا وكنتم في بيوتكم لخرج الذين كَتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقُتِلوا في مضاجعهم التي اضطجعوا فيها يوم أحُد، أي: مصارعهم، فالمراد بقوله: {كُتِبَ}: قُدِّر، ومعنى {لَبَرَزَ}: خرَج إلى البَراز، وهو الأرض»[14].

ولننظر إلى هذه اللفتة التربوية من ابن عاشور وهذا التوجيه المنهجي الذي يجعل من عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر عامِلَ طمأنينة نفسية وراحة قلبية وباعثًا على العمل، وليس مقبولًا أن يُبرِّر الإنسان عجزه أو يُنيط تقصيره بأقدار الله؛ بل مطلوب منه العمل واتخاذ الأسباب واستفراغ الوُسع. ويندرج هذا ضمن اهتمامات الطاهر ابن عاشور بالفكر السُّنَني وقوانين الله الكونية والاجتماعية. يقول ابن عاشور في هذا السياق أيضًا: «فالرضا بالقضاء والقدر أدب إسلامي موقعه عند الأحوال التي يُغْلَب المسلم فيها على سعيه فيخيب فيه، أو عند الحوادث الخارجة عن مقدرة الإنسان، فمن الأدب الديني أن يرضى بذلك ولا يجزع، وهو ضربٌ من الصبر معلَّلٌ باعتقاد أن قدرة الله أكبر من كلّ مقدرة، فعدم تيسُّر المسبَّب مع السعي في الأسباب بدون تقصير يدلّ على أن الله لم تتعلّق إرادته بحصوله؛ لأنه عَلِم أنه غير كائن، فذلك معنى قوله في الحديث: (كلّ شيء بقضاء وقدر)، ونِعْم هو للرجل المسلم في حياته بحيث يكون مطمئنَّ البال عند المصائب، متأدِّبًا مع ربه، ملتفتًا إلى ما عسى أن يأتي من اليُسْر بعد العُسْر والفرج بعد الشدّة، فالرضا بالقضاء والقدر سلوة وعزاء للمؤمن لكي يذهب حرج نفسه عقب الخيبة أو عند حلول المصيبة، فهو أدبٌ خاصّ بنفس المؤمن، وليس هو عذر يعتذر به المقصر عند تقصيره، أو المستسلم في فشله»[15].

وما أحوجنا إلى استنبات هذه المعاني والدلالات في أُفق تحقيق الوعي الرشيد والمتوازن.

النموذج السابع: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}[البقرة: 233].

قال ابن عاشور: «وجُمَل: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} إلى قوله: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} معترضات بين جملة: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ}، وجملة: {وَعَلَى الْوَارِثِ}، فموقع جملة: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} تعليل لقوله: {بِالْمَعْرُوفِ}، وموقع جملة: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} إلى آخرها موقع التعليل أيضًا، وهو اعتراض يفيد أصولًا عظيمة للتشريع ونظام الاجتماع»[16].

قال الشيخ رشيد رضا:«ولو عمل المسلمون بهذه القواعد وأمثالها من أحكام الكتاب والسُّنة لكانوا أسعد الأمم في بيوتهم، ولَمَا وُجِد من أعدائهم ولا من زنادقتهم مَن يهذِي بإسناد ظلمِ النساء إلى الإسلام، أو حاجة المسلمين إلى تقليد غيرهم في شيء من إصلاح البيوت (العائلات)»[17].

النموذج الثامن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 50].

قال ابن عاشور: «وقوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} جملة معترضة بين جملة: {إِنْ وَهَبَتْ} وبين: {خَالِصَةً}، وليس مسوقًا للتقييد؛ إذ لا حاجة إلى ذِكر إرادته نكاحها، فإن هذا معلوم من معنى الإباحة، وإنما جيء بهذا الشرط لدفعِ توهُّم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجبًا عليه كما كان عُرْف أهل الجاهلية. وجوابه محذوف دلّ عليه ما قبله، والتقدير: (إنْ أراد أن يستنكحها فهي حلال له)، فهذا شرط مستقلّ وليس شرطًا في الشرط الذي قبله.والعُدول عن الإضمار في قوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} بأن يقال: (إن أراد أن يستنكحها)؛ لِما في إظهار لفظ النبيّ من التفخيم والتكريم.وفائدةُ الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطالُ عادة العرب في الجاهلية، وهي أنهم كانوا إذا وهَبَت المرأة نفسها للرجل تعيَّن عليه نكاحُها ولم يَجُزْ له ردُّها، فأبطل الله هذا الالتزام بتخيير النبي -عليه الصلاة والسلام- في قبول هبة المرأة نفسها له وعدمه، وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأنّ الردَّ مأذونٌ به»[18].

يظهر مما استنبطه ابن عاشور أن الجملة المعترضة الواردة في سياق الحديث عن حكم شرعي يمكن الاستناد إليها لترجيح دلالة حكم شرعي -الإباحة أو الندب أو الكراهة أو التحريم-، خصوصًا إذا استحضَرْنا احتمال خروج هذه الأحكام من معانيها الأصلية إلى معانٍ ثانوية.

النموذج الثامن:{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص: 16، 17].

 قال ابن عاشور: «إن قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} قد أوردَت للمخاطب حيرة عن سبب هذا الذّكر الذي صِيغ في صورة الأمر، فأزال حيرته بالتركيب الاعتراضي: {إِنَّهُ أَوَّابٌ}، فالاعتراض بجملة: (إنَّ ومعموليها) إنما يكون مستفادًا من موقعها في السياق، واعلم أن هذا الاعتراض له فائدتان؛ أولهما: التوكيد، والثانية: الربط. حيث ترتبط جملتها بسابقتها فتأتلفان، ولو أُسقطت من الكلام لَـنَبا ما بعدها عمّا قبلها، فشتان الفارق بين وجود الجملة الاعتراضية: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} في هذا النظم القرآني المحكم، وعدم وجودها[19].

نلاحظ هنا أن ابن عاشور في هذا المثال وهو يتحدّث عن الجملة الاعتراضية، استعمل كلمة: (السياق)، واستعمل: (النظم)، واستعمل: (الائتلاف والإحكام)، وهي مصطلحات لها دلالاتها في تحقيق انسجام الخطاب القرآني؛ لذلك ختمتُ بها النماذج المستعرضة.

نستشف من النماذج والأمثلة المسوقة أن الاعتراض ينطوي في كتاب الله على دلالات عظيمة ومكنونات نفيسة وهو ما سماه حبنكة الميداني: (التربية المعترضة)، وإن استحضار ذلك يجعل المعاني وإن تعدَّدت تصبّ في نفس الغاية وتستهدف نفس المقصد؛ لذا ينبغي للمتدبّر أن يكتشف الروابط الفكرية بين الجمل المقترنة ولو كان كلّ منها يتحدّث عن حقيقة من الحقائق منفصلة في الظاهر عن الحقيقة الأخرى التي جاءت مقترنة بها في اللفظ... ولا يخفى ارتباط الجملة أو الجمل القرآنية بسائر عناصر النصّ التي هي جزء منه إلّا في نحو (التربية المعترضة)... كما يربِّي المعلم الطالب ضمن درس من العلم فينهاه أو يأمره، حول واجب من واجبات المتعلم، أو طريقة من طرق التعلم، ثم يستمر معه في متابعة درسه الذي يُلقيه عليه[20].

خاتمة:

نتوصل من خلال ما تم تحريره آنفًا إلى أن مراعاة التركيب عند ابن عاشور مكَّنته من التماس الانسجام في الخطاب القرآني، موظفًا الاستئناف البياني والجملة المعترضة باعتبارهما أدوات ناجعة في نَيل تلك الطلبة، وتحقيق تلك البغية، وهو مسلك مهم في بيان اتساق النظم القرآني وتماسك خطابه، يحتاج لدراسات موسّعة عند ابن عاشور لبيان كيف استثمره وكيف وظَّفه، وطبيعة الإلمحات التي خرج بها من هذا التوظيف في بيان روعة التركيب في الخطاب القرآني.

 كما أن هذا المسلك -كما رأينا في ثنايا كلام ابن عاشور- يسهم كذلك في تملُّك الصنعة في ميدان التفسير، ويسعف في تجديد الفهم بضوابط مكينة، ويساعد على النقد الرصين والاستدراك المسؤول على ما سلف أو جدَّ من أقوال، بحيث توزن بميزان العلم وقواعده المنهجية.

ومنه، فإنّ الباحث في العلوم الشرعية لا بد له من تحصيل مادة لغوية واسعة، ويحصل ذلك من خلال التمرس على الأساليب المختلفة مع الشواهد والتطبيقات؛ لأن المباحث اللغوية خصوصًا جانب البيان لا يطاوِع إلّا مَن وصل إلى مرتبة تذوُّقه، مما يجعل المعاني تنساب والدلالات تشفُّ عمّا تنطوي عليه الآيات من أسرار ودقائق.

كما نستنتج أن العكوف على المظان العلمية المؤسّسة من شأنه أن يسهم أيضًا في اكتساب الملَكة التي تعدُّ أهم ما يفضي إلى الإنتاجية، بدل اجترار ما تم تحصيله دون إضافة نوعية، ومن هذه المظان المعتبرة: (التحرير والتنوير) الذي وإن كان مؤلِّفُه معاصرًا، لكن أسلوبه بالمناهج القديمة ألصقُ؛ باعتبار الرصانة في العبارة، والعمق في التحقيق، والنّفَس الطويل، والشخصية العلميّة البارزة.

 

[1] تُراجَع المقالتان الأولى والثانية على هذين الرابطين:
- الأولى: tafsir.net/article/5268
- الثانية: tafsir.net/article/5270.

[2] الوظائف التركيبية للجملة المعترضة بين لفظين مفردين في القرآن الكريم، نور الدين عبد الجليل العواودة (تحليل لساني). بحث مرقون. ص268.

[3] مفاهيم ومواقف في اللغة والقرآن، تمام حسان، ص336.

[4] التحرير والتنوير، (1/ 81، 82).

[5] نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيف، ص63.

[6] التحرير والتنوير، (20/ 48).

[7] التحرير والتنوير، (20/ 48) وما بعدها.

[8] الخطاب القرآني ومناهج التأويل، عبد الرحمن بودرع، ص24.

[9] التحرير والتنوير، (14/ 119).

[10] التحرير والتنوير، (14/ 145).

[11] التحرير والتنوير، (2/ 456).

[12] تفسير المنار، (5/ 361).

[13] التحرير والتنوير، (5/ 26).

[14] التحرير والتنوير، (4/ 138).

[15] أصول النظام الاجتماعي، (ص126).

[16] التحرير والتنوير، (2/ 432).

[17] تفسير المنار، (1/ 100).

[18] التحرير والتنوير، (70/ 22).

[19] الجملة الاعتراضية في سورة (ص) بين الموقع والدلالة، مخزوم عليّ الفرجاني، مجلة الجامعة الأسمرية (عدد 26/ سنة 13).

[20] قواعد التدبر الأمثل، (ص15، 16).

الكاتب

الدكتور مصطفى فاتيحي

حاصل على الدكتوراه من جامعة القاضي عياض بمراكش - المغرب، وأستاذ التعليم التأهيلي الثانوي.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))