بين التفسير المقاصدي والتفسير الأدبي

من الأساليب التفسيرية التي نالت عنايةً عند المعاصرين التفسيرُ المقاصديّ والتفسيرُ الأدبيّ للقرآن الكريم، وهذه المقالة تحاولُ الكشفَ عن أوجه التشابه والاختلاف بين النوعين، مع محاولة تسليط الضوء على ما يُعِين على تجاوز ثغراتهما، وبنائهما وفق الأصول المعتبرة لتفسير القرآن الكريم.

مدخل:

  يكتسي كلّ من التفسير المقاصدي والتفسير الأدبي أهميةً كبيرةً في ساحة التفسير؛ حيث إنّهما صارَا عَلَمَين بارزين في ممارسة التفسير في العصر الحالي.

ولا يخفى دور التفسير المقاصدي في تجاوز الخلاف بين المفسّرين في دلالات الألفاظ القرآنية؛ كالمتشابه، والمشترك، والحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، والناسخ والمنسوخ...، كما لا يخفى دور التفسير الأدبي في إبراز الإعجاز اللغوي والفنّي للقرآن الكريم؛ لكنّ هذين النوعين من التفسير -مع الأسف- يُستغلّان من طرف الحداثِيِّين لإخراج النصوص القرآنية عن مقاصدها بإقحام المناهج الغربية الفاسدة.

ومن هنا تأتي أهمية هذه المقالة في البحث عن أوجه الاختلاف وأوجه التشابه بين التفسير المقاصدي والتفسير الأدبي؛ قَصْد تجاوز ثغراتهما وبنائهما وفق أصول التفسير المعتبرة من الشرع.

وفي هذا السياق، تمّ تقسيم هذه المقالة إلى قسمين؛ أحدهما لأوجه التشابه، والآخر لأوجه الاختلاف. وذلك بعد تمهيد يُعرِّف بالتفسير المقاصدي، وبالتفسير الأدبي، ويَذْكُر محدِّدات المعالجة. وفي الخاتمة أهم النتائج والخلاصات والتوصيات المنبثقة عن البحث.

التمهيد:

تعريف التفسير المقاصدي:

التفسير لغةً واصطلاحًا:

التفسير في اللغة: «الإيضاح والتبيين. ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان: 33]. والتفسير في الاصطلاح: علم يُبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقَدْر الطّاقة البشرية»[1].

المقاصد لغةً واصطلاحًا:

المقاصد لغة: «القاف والصّاد والدّال أصولٌ ثلاثة، يدلّ أحدُها على إتيان شيء وأَمِّه، والآخر على اكتناز في الشيء (...). والأصل الآخر: قَصَدْتَ الشيءَ: كسرتَه»[2].

وفي الاصطلاح، فإنّ «مقاصد التشريع العامّة هي: المعاني والحِكَم الملحوظة للشّارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها»[3].

التفسير المقاصدي باعتباره مركَّبًا إضافيًّا:

التفسير المقاصدي هو: «لون من ألوان التفسير يَبحث في الكشف عن المعاني والغايات التي يدور حولها القرآن الكريم كليًّا أو جزئيًّا مع بيان كيفية الإفادة منها في تحقيق مصلحة العباد»[4].
أيْ: إنّ التفسير المقاصدي يكشف عن المقاصد العامة للقرآن الكريم من جهة، ومن جهة أخرى عن المقاصد الجزئية التي ربما تكون خاصّة بموضوع أو سورة أو مجموعة من الآيات، أو حتى آية واحدة، وربما لفظة واحدة؛ مع «بيان كيفية استنزال هدايات القرآن للواقع المعاصر، وكيف تفيد منها الدوائر الاجتماعية المختلفة: الفرد، والأسرة، والمجتمع، والدولة، والأمة، والإنسانية جمعاء»[5].

تعريف التفسير الأدبي:

الأدب في اللغة: «الهمزة والدال والباء أصلٌ واحدٌ تتفرّع مسائله وترجع إليه: فالأَدْب أنْ تجمع النّاس إلى طعامك. وهي المأْدَبَة والمأْدُبة. والآدِب: الدّاعي (...). ومن هذا القياس الأَدَبُ أيضًا لأنه مُجْمَعٌ على استحسانه»[6].

والأدَبُ اصطلاحًا: «يقتصر على النّثر الفنّي والشعر الذي تحكمه معايير الامتياز عن الكلام العادي»[7].

والتفسير الأدبي باعتباره مُركَّبًا إضافيًّا: هو «معالجة النصوص القرآنية معالجة تقوم أوّلًا وقبل كلّ شيء على إظهار مواضع الدِّقّة في التّعبير القرآني، ثم بعد ذلك تُصاغ المعاني التي يهدف القرآن إليها في أسلوب شيِّق أخَّاذ، ثم يُطبَّق النصّ القرآني على ما في الكون من سنن الاجتماع ونُظُم العمران»[8].

محدِّدات معالجة الموضوع:

تقتصر معالجة هذا الموضوع في جانبها التطبيقي على تفسير (التحرير والتنوير) لابن عاشور بالنسبة للتفسير المقاصدي، وعلى تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب بالنسبة للتفسير الأدبي؛ نظرًا لشهرتهما في المجال المذكور بالنسبة لكلّ واحد منهما.

فاشتغال سيد قطب بالمجال الأدبي لا يخفى على أحد، ومن ذلك تأليفه لكتاب (التصوير الفني في القرآن)، وكتاب (الظلال) أيضًا إنما هو تطبيق لنظرية التصوير الفني على سور القرآن الكريم؛ فمثلًا في كتاب: «(في ظلال القرآن) يطلعنا المؤلّف منذ السطور الأولى بتطبيق عملي لنظريته التي تتجلى في قيام الكلمة مقام الخط واللون؛ إِذْ سرعان ما ترتسم الصور من خلال الكلمات، ثم سرعان ما تنبض هذه الصور وكأنها تموج بالحياة»[9].

 كما أنّ اهتمام ابن عاشور بالمقاصد العامّة والخاصّة لا يخفى على أحد أيضًا؛ بحكم مجال اشتغاله أوّلًا حيث ألّف كتابًا في المقاصد بعنوان: (مقاصد الشريعة الإسلامية)، وثانيًا: فهو أشار إلى اهتمامه بالمقاصد الخاصّة للسور في مقدمة تفسيره: (التحرير والتنوير) حيث قال: «ولم أغادر سورة إلّا بيّنتُ ما أُحِيطُ به من أغراضها؛ لئلّا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورًا على بيان مفرداته ومعاني جُمَله كأنّها فِقَرٌ متفرّقة تصرفه عن روعة انسجامه، وتحجب عنه روائع جماله»[10].

ولتلمس التشابهات والاختلافات بين التفسير المقاصدي والتفسير الأدبي، أطرح مُقاربتين:

- رصد التشابهات والاختلافات بين هذين النوعين من التفسير، وبين النظريات والأدوات التي يوظفانها، وذلك في أقوال ابن عاشور وسيد قطب وغيرهما.

- إجراء مقارنة عن كثب بين تفسير قصة آدم في سورة البقرة في كتاب (التحرير والتنوير) للطاهر بن عاشور من جهة، وفي كتاب (الظلال) لسيد قطب من جهة أخرى.

العرض

القسم الأول: أوجه التشابه بين التفسير المقاصدي والتفسير الأدبي:

أولًا: الاهتمام بمقاصد القرآن الكريم وأغراضه:

مِنْ أوجه التشابه أنّ التفسير الأدبي يهتمّ أيضًا بالمقاصد وإن كانت تأتي في الدرجة الثانية بعد نَظْم وأسلوب القرآن الكريم. وهذا واضح في أقوال سيد قطب، ومن ذلك مثلًا قوله بأنّ: «التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، وهو القاعدة الأولى فيه للبيان، وهو الطريقة التي يتناول بها جميع الأغراض»[11]. ومصطلح (الأغراض) هو من بين المصطلحات التي تُطلق أيضًا على المقاصد.

فمثلًا عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30]، استنتج سيد قطب بعض مقاصد جَعْل الخليفة في الأرض في قوله: «وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تُسَلِّم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمامَ هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتَكِل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كلّه -بإذن الله- في المهمّة الضخمة التي وكلها الله إليه»[12].

كما خلص ابن عاشور إلى مقاصد إخبار الله تعالى للملائكة بجعل خليفة في الأرض، ومنها: سنّ «الاستشارة في الأمور، ولتنبيه الملائكة على ما دقَّ وخفي من حكمة خلق آدم»[13].

وفي سياق تفسيرهما لقوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة: 30]، قال ابن عاشور: «وقد دلّت آيات كثيرة على أنّ إصلاح العالم مقصد للشّارع»[14].

وقال سيد قطب بأنّ الملائكة «يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له هو وحده الغاية المطلقة للوجود، وهو وحده العلّة الأولى للخلق»[15]؛ حيث «خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا في بناء هذه الأرض وعمارتها، وفي تنمية الحياة وتنويعها، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها، على يد خليفة الله في أرضه»[16].

ثُمّ ذكر بعد ذلك بعض مقاصد القصص القرآني، ومنها: «تركيز قواعد التّصوُّر الإسلامي؛ وإيضاح القِيَم التي يرتكز عليها»[17].

ثانيًا: الاهتمام بفنون اللغة العربية:

مِنْ أوجه التّشابه أيضًا أنّ التفسير المقاصدي يمكنه أيضًا أنْ يستعين بعلوم البلاغة، والآداب، والقصص؛ على غرار التفسير الأدبي للقرآن الكريم؛ حيث يقول ابن عاشور: «إنّ معاني القرآن ومقاصده ذات أفانين كثيرة بعيدة المدى مترامية الأطراف موزّعة على آياته؛ فالأحكام مبيّنة في آيات الأحكام، والآداب في آياتها، والقصص في مواقعها، وربما اشتملت الآية الواحدة على فنَّين من ذلك أو أكثر. وقد نحا كثير من المفسّرين بعض تلك الأفنان، ولكنّ فنًّا من فنون القرآن لا تخلو عن دقائقه ونُكَتِه آيةٌ من آيات القرآن، وهو فنّ دقائق البلاغة»[18].

فمن أوجه التشابه إذن اهتمامهما بالسياق وبإيحاءات علم المعاني؛ فمثلًا عند تناول ابن عاشور وسيد قطب للسياق السابق لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30]، وظَّف ابن عاشور القواعد اللغوية، ليُبَيِّنَ بأنّ المقصد من عَطْفِ «الواو قصةَ خلقِ أوّلِ البشر على قصةِ خلقِ السماوات والأرض»[19] هو «الاستدلال على أنّ الله واحد»[20].

وقال سيد قطب في سياق ربطه لنَظْم الآية 30 من سورة البقرة مع سابقاتها:

«إنّ السياق -فيما سبق- يستعرض موكب الحياة، بل موكب الوجود كلّه. ثم يتحدّث عن الأرض -في معرض آلاء الله على الناس- فيقرّر أنّ اللهَ خلق كلّ ما فيها لهم.. فهنا في هذا الجوّ تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض، ومنحه مقاليدها، على عهدٍ من اللهِ وشرط، وإعطائه المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة. كما أنّها تمهِّد للحديث عن استخلاف بني إسرائيل في الأرض بعهدٍ من الله؛ ثم عزلهم عن هذه الخلافة وتسليم مقاليدها للأمة المسلمة الوافية بعهد الله.. فتتسق القصة مع الجوّ الذي تُساق فيه كُلَّ الاتساق»[21].

كما وظّف ابن عاشور القواعد اللغوية أيضًا ليُبَيِّنَ كَوْن «اسم الفاعل في قوله: {جَاعِلٌ} للزمن المستقبل؛ لأنّ وصف الخليفة لم يكن ثابتًا لآدم ساعتئذ»[22]، وهذا يدلّ على أنّ «قول الله هذا موجّه إلى الملائكة على وجه الإخبار»[23]، وليكون «كالاستشارة لهم تكريمًا لهم فيكون تعليمًا في قالب تكريمٍ، مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب»[24].

واستعمل سيد قطب إيحاءات علم المعاني في قوله: «وإذن فهي منزلة عظيمة، منزلة هذا الإنسان، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة، وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم. هذا كلّه بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}...»[25]، وهو إبراز منزلة الإنسان على الأرض.

يتبيّن ممّا سبق اهتمام كلٍّ من التفسير المقاصدي والتفسير الأدبي بالبحث عن مقاصد القرآن الكريم بالاعتماد على فنون اللغة العربية؛ لكنهما يختلفان من حيث النظريات والأدوات الموظّفة في ذلك.

القسم الثاني: أوجه الاختلاف بين التفسير المقاصدي والتفسير الأدبي:

أولًا: اختلاف النظريات:

النظريات التي يستند إليها التفسير الأدبي:

يستند التفسير الأدبي إلى نظريتين مهمّتين، وهما: نظرية النّظْم عند الجرجاني، ونظرية التصوير الفني عند سيد قطب.

ذهب الجرجاني إلى أنّ النّظْم والاستعارة هما موضع الإعجاز في القرآن، والاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز هي من مقتضيات النَّظْم[26]؛ فمقتضيات النّظْم عند الجرجاني، هي: المجاز، ومعاني النحو، والسياق[27].

أمّا نظرية (التصوير الفني) فهي تهتم بأسلوب القرآن الكريم في عرضه للمشاهد والأحداث أكثر من اهتمامها بالمقاصد، وفي ذلك يقول سيد قطب: «التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن. فهو يُعبِّر بالصورة الـمُحَسَّة المتخيّلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية؛ وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور؛ وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية»[28].

النظريات التي يستند إليها التفسير المقاصدي:

يستند التفسير المقاصدي إلى نظريتين مهمّتين، وهما: نظرية المقاصد، ونظرية التعليل.

نظرية المقاصد عند الشاطبي تعتمد أساسًا على الاستقراء الكُلّي حيث قال: «أسوق من شواهده في مصادر الحُكْمِ وموارده مبيِّنًا لا مجمِلًا، معتمِدًا على الاستقراءات الكُليَّة، غير مقتصِرٍ على الأفراد الجزئية، ومبيِّنًا أصولها النقلية بأطرافٍ من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعةُ والمُنَّة، في بيان مقاصد الكتاب والسنَّة»[29].

والشاطبي طبّق أيضًا نظرية التعليل في كتابه (الموافقات)، وذلك بربطِه العلّة بالحكمة والمصلحة أو المفسدة، حيث يقول: «وأمّا العلّة؛ فالمراد بها: الحِكَم والمصالح التي تَعَلّقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تَعَلَّقت بها النَّواهي»[30].

نظريتا المقاصد والتعليل إذن هما نظريتان عِلْمِيَّتان تنتميان إلى علم الأصول؛ بخلاف نظريتي النظم والتصوير الفني اللّتين هما نظريتان أدبيتان تهتمّان بسياق وأسلوب القرآن الكريم في عرضه للمشاهد والأحداث أكثر من اهتمامها بالمقاصد.

ثانيًا: اختلاف الأدوات:

أدوات التفسير المقاصدي:

التفسير المقاصدي يخضع لأصول التفسير بصفة عامّة من حيث استشهاده بالقرآن والسُّنة وأقوال الصحابة والتابعين، والعلوم المتعلقة بالقرآن الكريم كاللغة والأصول للدلالة على مقاصد القرآن الكريم؛ لذا فإنّه لا يَقْدِر على إدراك مقاصد وكليات الشريعة «إلّا مَن زاوَل ما يُعِينه على ذلك من السُّنة الـمـُـبيِّنة للكتاب، وإلّا؛ فكلام الأئمة السَّابقين والسَّلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشَّريف، والمرتبة المنيفة. وأيضًا؛ فمن حيث كان القرآن معجزًا أفحم الفُصحاء، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله؛ فذلك لا يخرجه عن كونه عربيًّا جاريًا على أساليب كلام العرب، مُيسَّرًا للفهم فيه عن الله ما أمَر به ونهَى، لكن بشرط الدُّربة في اللسان العربي»[31].

يستند التفسير المقاصدي إذن إلى أصول التفسير المصبوغة بالمقاصد، ومن أدواته:

1. استقراء الآيات القرآنية وتعليل الأحكام فيها لاستنباط مقاصد الشرع:

مثل: استعمال ابن عاشور لمسلك استقراء الآيات القرآنية، حين قال: «وقد دلّت آيات كثيرة على أنّ إصلاح العالَم مقصد للشّارع، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ}[محمد: 22، 23]، وقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة: 205]»[32].

ومثل: قول ابن عاشور عن علّة خلق الأرض: «وقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}[البقرة: 30]، دليل على أنّهم علموا أنّ مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها وانتظام أمرها، وإلّا لَمَا كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع»[33].

2. توظيف قواعد اللغة وعلم الأصول لتبيُّن مراد الله تعالى:

مثل: توظيف ابن عاشور لإيحاءات حروف المعاني عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30]؛ ليُبَيِّنَ بأنّ المقصد من عَطْفِ «الواو قصةَ خلقِ أوّلِ البشر على قصةِ خلقِ السماوات والأرض»[34] هو الاستدلال على وحدانية الله تعالى؛ وكذلك وظّف المعاني الكامنة في اسم الفاعل ليُبَيِّنَ كَوْن «اسم الفاعل في قوله: {جَاعِلٌ} للزمن المستقبَل؛ لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتًا لآدم ساعتئذ»[35]، وهذا يدلّ على أنّ قول الله هذا موجّه إلى الملائكة على وجه الإخبار والاستشارة.

أدوات التفسير الأدبي:

يقول سيد قطب: «وهكذا تتكشّف للناظر في القرآن آفاق وراء آفاق، من التّناسق والاتِّساق: فمن نَظْمٍ فصيح، إلى سرْدٍ عذب، إلى معنى مترابط، إلى نسق متسلسل، إلى لفظ مُعَبِّر، إلى تعبير مُصَوِّر، إلى تصوير مُشخِّص، إلى تخييل مُجسِّم، إلى موسيقى منغمة، إلى اتساق في الأجزاء، إلى تناسق في الإطار، إلى توافق في الموسيقى، إلى افتنان في الإخراج... وبهذا كلّه يتم الإبداع، ويتحقّق الإعجاز»[36].

يستند التفسير الأدبي للقرآن الكريم إذن إلى مجموعة من الأدوات، منها:

1. إبراز الاتساق الفنّي بين آيات القرآن الكريم والسّياق الذي تمّ عرضها فيها:

وذلك بدراسة نظم الآيات القرآنية والنكت البلاغية الخفيّة فيها بالاستناد إلى علم البديع والمعاني والبيان.

مثل: بيان سيد قطب من خلال حديثه عن الآية 30 من سورة البقرة الاتِّساقَ الفنّي، والتّناسُقَ المعنوي والنّفسي بين القصص التي يعرضها القرآن والسِّياق الذي يعرضها فيه؛ بحيث تحدَّث القرآن الكريم أوّلًا عن خَلْق السماوات والأرض، وتَهْيِئَتِها للإنسان، ثُمَّ تحدَّث عن قصة استخلاف آدم في الأرض، «فتتسق القصة مع الجوّ الذي تُساق فيه كُلَّ الاتساق»[37].

2. التخييل الحسّي (أو الحركة):

 وذلك باستخلاص الحركة المضمرة أو الظاهرة في أحداث ومشاهد القرآن الكريم.

مثل: توظيف سيد قطب لبعض عناصر التّصوير الفنّي من إحياء المشاهد، حين قال: «ها نحن أولاء -بعين البصيرة في ومضات الاستشراف- في ساحة الملأ الأعلى؛ وها نحن أولاء نسمع ونرى قصّة البشرية الأولى...»[38]، وذلك من أجل استشراف بعض مقاصد جَعْل الخليفة في الأرض.

3. التجسيم (أو التشبيه):

 وذلك بتجسيد المعنويات المجردة، وإبرازها أجسامًا أو محسوسات.

كما في المثال السّابق أيضًا، حين قال سيد قطب: «في ساحة الملأ الأعلى»[39]؛ حيث يُشَبِّه ما فوق السبع سماوات بالساحة[40].

4. توظيف القصّة القرآنية في إحياء المشاهد، وتصوير العواطف والانفعالات، ورسم الشخصيات:

وذلك بانسجام غرض القصّة في سياقها مع الغرض الدّيني والمظهر الفنّي.

مثل: محاولة سيد قطب رسم شخصية الإنسان والملائكة انطلاقًا من إيحاءات قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}[البقرة: 30]، حين قال: «ثم هم -بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصوّر إلّا الخير المطلق، وإلّا السلام الشّامل»[41]؛ لذا فهي تعجّبت مِن استخلاف منْ يُفسد في الأرض ويسفك الدِّماء.

الخاتمة:

قمنا في هذه المقالة بإجراء مقارنة بين التفسير المقاصدي والتفسير الأدبي، فعرضنا لأوجه التشابه وأوجه الاختلاف بينهما.

وبينّا أنّ من أوجه التشابه بين التفسير المقاصدي والتفسير الأدبي اهتمام التفسير الأدبي بالمقاصد أيضًا، وإن كانت تأتي في الدرجة الثانية بعد نَظْم وأسلوب القرآن الكريم؛ كما أنّ التفسير المقاصدي يمكنه أنْ يستعين بفنون البلاغة، والآداب، والقصص على غرار التفسير الأدبي.

وأمّا أوجه الاختلاف فهي أن التفسير المقاصدي يخضع لأصول التفسير بصفة عامّة من حيث استشهاده بالقرآن والسُّنة وأقوال الصحابة والتابعين، والعلوم المتعلقة بالقرآن الكريم كاللغة والأصول للدلالة على مقاصد القرآن الكريم؛ بينما التفسير الأدبي يخضع لمنطلقات أدبية كالبلاغة وفنّ التصوير.

ونظريّـتا المقاصد والتعليل اللّتان يستند إليهما التفسير المقاصدي هما نظريتان عِلْميتان تنتميان إلى علم الأصول؛ بخلاف نظريتي النَّظْم والتصوير الفنّي اللّتين هما نظريتان أدبيتان تهتمان بسياق وأسلوب القرآن الكريم في تصويره للمشاهد والأحداث أكثر من اهتمامها بالمقاصد.

ومن أدوات التفسير المقاصدي: توظيف الاستقراء الكلّي لاستنباط مقاصد الشرع من النصوص القرآنية، وتوظيف مسالك العلّة في الاجتهاد المقاصدي؛ وكذا توظيف قواعد اللغة وعلم الأصول لتبيُّن مراد الله تعالى.

ومن أدوات التفسير الأدبي: إبراز نظم الآيات القرآنية واتِّساقها الفنّي، وتوظيف التخييل الحسّي والتجسيم، وتوظيف القصّة القرآنية في إحياء المشاهد، وتصوير العواطف والانفعالات، ورسم الشخصيات؛ مع انسجام غرض القصّة في سياقها مع الغرض الدّيني والمظهر الفنّي.

وفي الأخير، ومن أجل الاحتراز عن الزّلل وإخراج النصوص القرآنية عن مقاصدها، يمكن أنْ تنبثق عن هذه المقالة توصيات، منها:

أوّلًا: توظيف مسلكَي الاستقراءِ والعلةِ في التفسير المقاصدي منْ أجْلِ تبيُّنٍ أفضل لمقاصد الشارع، وإنْ كان التفسير المقاصدي يخضع لأصول التفسير بصفة عامّة.

ثانيًا: إخضاع التفسير الأدبي لأصول التّفسير، وإنْ كان يعتمد في الغالب على فنون اللغة العربية وآدابها.

وبهذه الطريقة يمكن لكِلا التفسيرين أن يستفيد أحدُهما من الآخر، ويتحصّنا أكثر ضدّ المناهج الحداثية الدّخيلة والفاسدة.

والحمد لله ربّ العالمين

 

 

[1] مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1362هـ-1943م، (2/ 3).

[2] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، مادة: (ق.ص.د)، تحقيق: محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنّشر والتّوزيع، 1399هـ-1979م، (5/ 95).

[3] مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطّاهر بن عاشور، تحقيق: الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- دولة قطر، 1425هـ-2004م، (3/ 165).

[4] «التفسير المقاصدي لسور القرآن الكريم؛ في ظلال القرآن أنموذجًا»، د. وصفي عاشور أبو زيد، ورقة بحثية مقدمة إلى جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، الجزائر- قسنطينة، 2013م-1434هـ، ص7.

[5] يُنظر: «التفسير المقاصدي لسور القرآن الكريم»، لوصفي عاشور، المرجع السابق، ص7.

[6] معجم مقاييس اللغة، مادة: (أ.د.ب)، مرجع سابق، (1/ 74-75).

[7] معجم المصطلحات الأدبية، إبراهيم فتحي، التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، تونس، 1986م.

[8] التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة القاهرة، ط7، 2000م، (2/ 401).

[9] التفسير المقاصدي لسور القرآن الكريم، د. وصفي عاشور، مرجع سابق، ص37، بتصرف.

[10] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر- تونس، 1984م، (1/ 8).

[11] التصوير الفني في القرآن، سَيّد قطب، دار الشروق القاهرة، الطبعة 17، 1425هـ-2004م، ص70.

[12] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق القاهرة، الطبعة 17، 1425هـ-2004م، (1/ 56).

[13] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 400).

[14] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 403).

[15] في ظلال القرآن، مرجع سابق، (1/ 56).

[16] في ظلال القرآن، مرجع سابق، (1/ 57).

[17] في ظلال القرآن، مرجع سابق، (1/ 61).

[18]التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 8).

[19] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 395).

[20] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 395).

[21] في ظلال القرآن، مرجع سابق، (1/ 56).

[22] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 400).

[23] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 400).

[24] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 400).

[25] في ظلال القرآن، مرجع سابق، (1/ 56).

[26] يُنظر: دلائل الإعجاز، عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي- مطبعة المدني، مصر، ص385 وما بعدها.

[27] يُنظر: «نظرية النظم عند الجرجاني: معناها ومبناها»، حياة درويش، جامعة وهران قسم اللغة العربية والآداب، ص5.

[28] التصوير الفني في القرآن، سَيّد قطب، مرجع سابق، ص36.

[29] الموافقات، إبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق: مشهور بن حسن، دار ابن عفان- السعودية، ط1، 1417هـ-1997م، (1/ 9).

[30] الموافقات، للشاطبي، المرجع السابق، (1/ 410-411).

[31] الموافقات، المرجع السابق، (4/ 122).

[32] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 403).

[33] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 403).

[34] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 395).

[35] التحرير والتنوير، مرجع سابق، (1/ 400).

[36] التصوير الفني في القرآن، مرجع سابق، ص142.

[37] في ظلال القرآن، مرجع سابق، (1/ 56).

[38] في ظلال القرآن، مرجع سابق، (1/ 56).

[39] في ظلال القرآن، مرجع سابق، (1/ 56).

[40] أسجّل هُنا تحفُّظ أهل السُّنة والجماعة من التشبيه في المسائل الغيبية؛ لأنها ممّا يُدْرَك بالنقل وليس العقل.

[41] في ظلال القرآن، مرجع سابق، (1/ 56).

الكاتب

إبراهيم بنيحيى

حاصل على شهادة الإجازة تخصص العقيدة والفكر، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))