مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن
ابن عاشور أنموذجًا (2-3)

الكاتب : مصطفى فاتيحي
ضمن سلسلة مقالات مراعاة التركيب وأثره في بيان انسجام نظم القرآن تسلِّط هذه المقالة الضوء على تطبيقات ابن عاشور فيما يتعلّق بقضية الاستئناف البياني، وكيف تمكَّن ابن عاشور من بيان اتساق النظم من خلال تعمُّقه في تحليل هذا التركيب، وتعتني بذكر عدّة أمثلة في هذا الجانب.

  سبق معنا بيان أهمية مراعاة التركيب في التعامل مع النصّ وأنه يفضي لتحقيق انسجام خطاب النصّ وحفظه من الاتهام بالتعارض والانقطاع الدلالي وفساد النّظم واختلال التركيب. وقد مرّ معنا شدّة عناية ابن عاشور بمراعاة التركيب في تفسيره للقرآن الكريم، واعتنائه البالغ بإبراز ذلك في تناوله للقرآن الكريم وبيان اتساق خطابه وحسن نظمه[1]، وفي هذه المقالة سنحاول بيان الأثر العلمي للاهتمام بالتركيب البياني في بيان انسجام الخطاب القرآني، من خلال تسليط الضوء على تطبيقات ابن عاشور له فيما يتعلّق بقضية الاستئناف البياني، وكيف تمكَّن ابن عاشور من بيان اتساق النّظم من خلال تعمُّقه في تحليل هذا التركيب، وبيانه على النحو الآتي:

الاستئناف البياني؛ مدخل عام:

الاستئناف البياني: «هو الذي تنقطع بسببه الصلة الإعرابية بين الجملة المستأنفة والجملة التي قبلها، دون الصلة المعنوية بينهما، فكلتاهما مستقلّة بنفسها في الإعراب وحده، أمّا في المعنى فلا بد بينهما من ارتباط بجعل الثانية -في الغالب- بمنزلة جواب عن سؤال ناشئ من معنى الأُولى. أمّا غير البياني فتنقطع فيه الصلة الإعرابية والمعنوية بين الجملتين، فتكون الجملة المستأنفة مستقلّة بإعرابها وبمعناها الجديد»[2].

ولهذا فإنّ الاستئناف البياني قد يُحدث للوهلة الأولى قدرًا من الانقطاع الدلالي في النصّ ظاهريًّا، وفي ضوء كثرة حضور هذا الأسلوب في القرآن الكريم فإنّ المرء قد يحار في فهم وجه اتصال الكلام في النصّ، وطريقة اتصال نظمه وتركيبه.

ومن هاهنا توجَّهَت عناية العلماء لتأمّل هذا الاستئناف في النصّ القرآني، وبيان كيفية حصول انسجام أجزاء النصّ القرآني مع وجوده.

قال صاحب رسالة (من أسرار الجملة الاستئنافية): «وقد رأيتُ الذين هم أهل ذلك الحديث عن أغراض الجملة الاستئنافية وبيان وظائفها واستكناه أسرارها ودلائل إعجازها، هم أصحاب التفسير وعلماء البيان خاصّة، الذين توجهوا نحو إظهار بلاغة القرآن الكريم بعد أن عكفوا على دراسة دقائق البلاغة العربية وروائع حِكَم العرب في أشعارها ونثرها. وبعد أن أعطوا الأسلوب القرآني -وخاصّة الجملة الاستئنافية- مقادتهم، وألَانُوا لها جانبهم، حتى ظفروا بالدُّر من معدنه، وبالجوهر من أصله»[3].

ويعدُّ ابن عاشور من أبرز من اعتنى بتحليل الاستئناف البياني في القرآن وبيان كيفية تماسك الخطاب القرآني من خلاله، وأن الانتقال من غرض لغرض واستئناف كلام جديد بعد كلام سابق لا يمثّل انقطاعًا دلاليًّا في النصّ، بل تكون له أغراض مهمّة في النصّ وتماسك دلالاته وتناسبها؛ يقول ابن عاشور: «واعلم أن جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة، وإن كان بعضها استئنافًا، وإنما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات»[4].

وفيما يأتي بعض النماذج التي تبرز ذلك:

النموذج الأول: قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 256].

الناظر في السياق القرآني الذي جاءت فيه هذه الآية يجده تكلّم على أمر القتال وأمَر به وحضّ عليه، حيث قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 243، 244]، ثم عالج بعد ذلك قصصًا وقعَت في الأمم السابقة تتعلّق بأمر القتال والجهاد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا...}[البقرة: 246، 247]، وتوسّعت الآيات في بيان قصة طالوت وما كان من أمر قتاله لجالوت، وبعد ذلك بقليل جاء قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة: 256]، وموقع هذه الآيات قد يستغرب في سياق نظم الآيات، ولكن المتأمل في طرح ابن عاشور يجده قد جمع بين تأمُّل تركيب النصّ وسياقه العامّ تأملًا مدققًا، خلص منه إلى اعتبار هذه الآية بمثابة استئناف بياني ناتج عن الأمر بالقتال في بداية الآيات، وهو ما يبرز ما بيّناه قبل من أن العلاقة بين دلالة التركيب والسياق علاقة تلازمية وأن كلًّا منهما يعين على تجلية الآخر.

فقد ذكر ابن عاشور أن هذه الآية: «استئناف بياني ناشئ عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 244]، إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام، فبين في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام»[5]، ثم قال: «وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أن ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأمم من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضح العقيدة، المستقيم الشريعة، باختيارهم دون جبر ولا إكراه، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال: أيُتركون عليه أم يُكرهون على الإسلام، فكانت الجملة استئنافًا بيانيًّا. ونفي الإكراه خبر في معنى النهي، والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام، أي: لا تكرهوا أحدًا على اتّباع الإسلام قسرًا، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصًّا، وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه؛ لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال والتمكن من النظر، وبالاختيار».

لقد بيّن ابن عاشور من خلال تحليله للتركيب أن موقع الآية بديع، وأن الاستئناف لعب دورًا مهمًّا في بيان انسجام الخطاب وتكامله، كما يتضح من تحرير ابن عاشور -من باب الاستطراد- أن القراءة النسقية للآيات القرآنية تعصم من الزلل والخطل الناتجَيْن عن الاستدلالات المفصولة عن المناسبات، وعليه إذا استحضرنا موقع: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} بالنظر إلى ما ورد قبلها من عرضٍ للبراهين الدالة على العقيدة الصحيحة وانبلاج الحقّ وظهور أماراته، كانت قاعدة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} كليّة من الكليات القرآنية تنهج فهمنا وتسدّد طريقة التعامل مع موضوع العقيدة دون إفراط أوتفريط.

وعليه، فإذا كان التفكير المنهجي يعصم من التيه في التفاصيل والجزئيات كانت القراءة النسقية أداة في تسديد الفهم وبناء الفكر السليم، بحيث تردُّ الجزئيات إلى الكليات والمتشابهات إلى المحكمات والمتغيرات إلى الثوابت. لذلك، فإنّ صنيع ابن عاشور هذا على ارتباط وثيق بمباحث أخرى توسل بها لتحقيق الفهم السليم، وليس هنا مجال الحديث عنها؛ من ذلك مقاصد القرآن، ومقاصد السور، وعادات القرآن، ومبتكرات القرآن، والسياق، والمناسبات...، وكلّها مباحث وقضايا تتراص فيما بينها وينبثق بعضها من بعض، والغاية من كلّ ذلك إصابة جودة الفهم الإفهام.

النموذج الثاني: قول الله تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا}[الطلاق:  3].

قال ابن عاشور: «لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض...، فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البياني ناشئ عمّا اشتملت عليه جمل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق: 2]، إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}[الطلاق: 3]؛ لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت؛ فقد يستبعد بعض السامعين تحقّق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحواله، أو يتردد يقينه فيقول: أين أنا من تحصيل هذا، حين يتبع نظره فيرى بَونًا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس، فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد؛ تذكيرًا بأن الله علم مواعيده وهيّأ لها مقادير حصولها، لأنه جعل لكلّ شيء قدرًا.

ولها موقع التعليل لجملة: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}[الطلاق: 1]، فإنّ العِدّة من الأشياء، فلما أمَر الله بإحصاء أمْرِها علّل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله، فلا يسوغ التهاون فيه.

ولهذا موقع التذييل لجملة: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}[الطلاق: 1]، أي: الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكلّ شيء قدرًا لا يعدوه كما جعل الحدود.

ولها موقع التعليل لجملة: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}[الطلاق: 2]؛ لأن المعنى إذا بلغن القَدْر الذي جعله الله لمدة العدّة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}[الطلاق: 1]، فالمعنى: فإن لم يُحدِث اللهُ أمْرَ المراجعة فقد رَفق بكم وحطّ عنكم امتداد العدّة.

ولها موقع التعليل لجملة وأقيموا الشهادة لله فإن الله جعل الشهادة قدرًا لرفع النزاع. فهذه الجملة جزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة»[6].

لقد أبصر ابن عاشور أمر التركيب في الآية من خلال الاستئناف البياني الذي تضمنته جملة: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: 3]، فانتظمت المعاني وتماسكت الدلالات، بعضها يأخذ بحُجَز بعض، فتحقّق بذلك الأداء اللغوي المحكم وانسياب المعاني التربوية، وبهذا يقع الحكم الشرعي الذي يتناول قضية من قضايا الطلاق موقعًا مؤثرًا في النفوس، فتسلم قيادها طائعة مختارة بين منزلة الخوف والرجاء، خصوصًا إذا استحضرنا أن أحكام الأسرة تتسم بالثبات والوضوح والتفصيل والبيان.

وإنه مسلك يكشف عن عظمة كتاب الله، باعتباره معجزة خالدة مفارقة للزمان والمكان، فهل يا ترى هذا النضد والترتيل الجامع بين حسن الأداء وبلاغة التأثير جاء صدفة وعثريًّا، أم وراءه حكمة بالغة وتدبير قاصد؟

ومنه، فقد أبعد النجعة مَنْ رامَ تفسير القرآن مفكِّكًا نظم الآيات، أو من يدّعي عدم وجود ذلك التماسك، كما هو الشأن مع القراءات المعاصرة التي أبانت عن تهافت فظيع كدعوى تفسير القرآن على حسب ترتيب النزول.

النموذج الثالث: قول الله تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}[يوسف: 9].

قال ابن عاشور: جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا؛ لأن الكلام المتقدّم يثير سؤالًا في نفوس السامعين عن غرض القائلين مما قالوه، فهذا المقصود للقائلين. وإنما جعلوا له الكلام السابق كالمقدمة لتتأثر نفوس السامعين، فإذا ألقي إليها المطلوب كانت سريعة الامتثال إليه.

وهذا فنّ من صناعة الخطابة أن يفتتح الخطيب كلامه بتهيئة نفوس السامعين لتتأثر بالغرض المطلوب، فإنّ حالة تأثر النفوس تغني عن الخطيب غناء جمل كثيرة من بيان العلل والفوائد[7].

هنا يتضح الحسّ البيداغوجي الذي يملكه ابن عاشور، حيث يستنبط من التركيب وموقع الجملة المستأنفة الإشارة إلى أسلوب من أساليب الإلقاء من أجل حسن التأثير في السامعين، فذلك أدعى إلى انخراطهم فيما يعرض عليهم. وهو نوع من أنواع التعلم التفاعلي في نظريات التعلم المعاصرة.

النموذج الرابع: قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان: 34].

قال ابن عاشور: «كان من جملة غرورهم في نفي البعث أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقته أمارة على أنه غير واقع، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس: 48]، وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا}[الشورى: 17]، فلما جرى في الآيات قبلها ذكر يوم القيامة أعقبت بأن وقت الساعة لا يعلمه إلّا الله.

فجملة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، لوقوعها جوابًا عن سؤال مقدَّر في نفوس الناس، والجمل الأربع التي بعدها إدماج لجمع نظائرها تعليمًا للأمة[8]

لقد أفاد هذا التركيب كون الخطاب القرآني ينحو منحًى حواريًّا، من خلال تقديم جواب يُفترض بداهة ضرورة طَرْحِه من طرف القارئ المستبصر وطالب المعنى المتأمل، وأن الاستئناف البياني فيه لا يمثّل قطعًا دلاليًّا في النصّ يفضي لاستشكال النظم وانسياب المعنى وإنما هو استئناف يأتي لغرض مهم يكمل الخطاب ويحافظ على تماسكه ويعين على أداء الرسالة المرادة منه.

النموذج الخامس: قول الله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}[الرعد: 26].

يقول ابن عاشور: هذه الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا جوابًا عمّا يهجس في نفوس السامعين من المؤمنين والكافرين من سماع قوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[الرعد: 25] المفيد أنهم مغضوب عليهم، فأمّا المؤمنون فيقولون: كيف بسط الله الرزق لهم في الدنيا فازدادوا به طغيانًا وكفرًا، وهلا عذبهم في الدنيا بالخصاصة كما قدّر تعذيبهم في الآخرة، وذلك مثل قول موسى -عليه السلام-: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}[يونس: 88]. وأمّا الكافرون فيسخرون من الوعيد مُزْدَهِين بما لهم من نعمة، فأجيب الفريقان بأن الله يشاء بَسْطَ الرزق لبعض عباده ونَقْصه لبعضٍ آخر، لحكمة متصلة بأسباب العيش في الدنيا، ولذلك اتصال بحال الكرامة عنده في الآخرة؛ ولذلك جاء التعميم في قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ}[الرعد: 26]، ومشيئته تعالى وأسبابها لا يطلع عليها أحد[9].

هنا أيضًا يبرز ابن عاشور كيف أن الاستئناف البياني شكّل أداة فعّالة في استجلاء معانٍ تربوية، باستحضار ما جُبلت عليه النفوس من استعجال حصول الشيء، وكذا تطلّعها إلى رؤية ثمرات الإيمان في مصالح الدنيا، فيأتي الجواب على وزان طبيعة النفوس، فيحصل الـتأثير المقصود والتفاعل المنشود.

النموذج السادس: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الغاشية: 8-10].

قال ابن عاشور: «يتبادر في بادئ الرأي أن حقّ هذه الجملة أن تعطف على جملة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}[الغاشية: 2] بالواو؛ لأنها مشاركة لها في حكم البيان لحديث الغاشية، كما عطفت جملة: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}[عبس: 40]، على جملة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}[عبس: 38] في سورة عبس، فيتجه أن يسأل عن وجه فصلها عن التي قبلها؛ ووجه الفصل التنبيه على أن المقصود من الاستفهام في: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}[الغاشية: 1] الإعلام بحال المعرض بتهديدهم، وهم أصحاب الوجوه الخاشعة، فلما حصل ذلك الإعلام بجملة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}[الغاشية: 2] إلى آخرها تم المقصود، فجاءت الجملة بعدها مفصولة؛ لأنها جعلت استئنافًا بيانيًّا جوابًا عن سؤال مقدر تثيره الجملة السابقة فيتساءل السامع: هل من حديث الغاشية ما هو مغاير لهذا الهول؟ أي: ما هو أُنْسٌ ونعيم لقوم آخرين.

ولهذا النظم صارت هذه الجملة بمنزلة الاستطراد والتتميم؛ لإظهار الفرق بين حالي الفريقين، ولتعقيب النذارة بالبشارة، فموقع هذه الجملة المستأنفة موقع الاعتراض، ولا تَنافي بين الاستئناف والاعتراض، وذلك موجب لفصلها عمّا قبلها، وفيه جري القرآن على سننه من تعقيب الترهيب والترغيب.

وقد علم من سياق توجيه الخطاب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الوجوه الأولى وجوه المكذبين بالرسول، والوجوه المذكورة بعدها وجوه المؤمنين المصدقين بما جاء به»[10].

عندما نتأمل فيما ذكر ابن عاشور ندرك وظيفة الاستئناف البياني في تحقيق انسجام المعنى؛ حتى لا تُقرأ الآيات ممزوعة الأوصال، ويحصل الانسجام هنا من خلال ذلك التفاعل بين النصّ والقارئ الذي يتأمّل ويتساءل ويفترض، ثم لا يلبث أن يجد الجواب من خلال عرض الصورة المقابلة للمشهد السابق بيانه. وبهذا يكون التفاعل منضبطًا للقواعد اللغوية وللسياق السابق واللاحق، وليس كما هو حاصل في ذاتية التأويلات المنفلتة من كلّ قيد أو شرط، وما يعبر عنه بالنصّ المفتوح.

النموذج السابع: قول الله تعالى: {ثُمَّ أوْرَثْنا الْكِتابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}[فاطر: 32].

جاء قبل هذه الآية قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}[فاطر: 31]، وإن الناظر في وجه اتصال الآيتين قد يستغربه، إذ يتوقع تتابُع الكلام على الوحي وسَرْد براهين تصديقه لما بين يديه، لا أن يكون استئنافًا في الكلام بأن الكتاب سيستمر أمره ويدوم القائمون عليه، وقد مثّل هذا الاستئناف إشكالًا لدي بعض المفسرين؛ حيث حاولوا الفرار منه باعتبار أن (ثم) هاهنا للتراخي حتى يجدوا وجهًا لاتصال الكلام، إلّا أن ابن عاشور بيّن من خلال تأمله للتركيب والاستئناف البياني في هذا الموضع أنه يفضي لانسجام النصّ على نحو بارع، فقال: «(ثم) للترتيب الرتبي كما هو شأنها في عطفها الجمل، فهي هنا لعطف الجمل عطفًا ذكريًّا، فالمتعاطفات بها بمنزلة المستأنفات، فهذه الجملة كالمستأنفة، و(ثم) للترقي في الاستئناف. وهذا ارتقاء في التنويه بالقرآن المتضمن التنويه بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وعروج في مسرّته وتبشيره؛ فبعد أن ذَكّر بفضيلة كتابه -وهو أمر قد تقرّر لديه- زِيد تبشيرًا بدوام كتابه، وإيتائه أمة هم المصطفون من عباد الله تعالى، وتبشيره بأنهم يعملون به ولا يتركونه كما ترك أممٌ من قبله كتبهم ورسلهم، لقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية، فهذه البشارة أهم عند النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإخبار بأن القرآن حقّ مصدق لما بين يديه؛ لأن هذه البشارة لم تكن معلومة عنده، فوَقْعُها أهمُّ. وحمل الزمخشري (ثم) هنا على التراخي الزمني فاحتاج إلى تكلُّف في إقامة المعنى»[11].

لقد بيّن ابن عاشور من خلال تأمّله للاستئناف كيف تحقّق انسجام النصّ على نحوٍ متّسق، وأن هذا الاستئناف لا يشكّل قطعًا دلاليًّا يحول دون وحدة انسجام النصّ وتتابع دلالاته مبينًا العلّة الخفيّة والدقيقة التي كانت وراء هذا الاستئناف حيث جاء كبشارة للنبي، وهي «أهمّ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإخبار بأن القرآن حقّ مصدق لما بين يديه؛ لأن هذه البشارة لم تكن معلومة عنده، فوَقْعُها أهَمُّ».

النموذج الثامن: قول الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}[الحج: 19].

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[الحج: 18]، ثم قال بعد ذلك: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ}[الحج: 19]، وفي بيان اتساق وجه اتصال الآيتين يقول ابن عاشور: «جملة: {هَذَانِ خَصْمَانِ} في موقع الاستئناف البياني؛ لأن قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}[الحج: 18] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك، فهي استئناف بياني. فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}[الحج: 18] من انقسام المذكورين إلى فريقين: أهل توحيد، وأهل شرك. كما يقتضيه قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} مِن كون أولئك فريقين: فريق يسجد لله تعالى، وفريق يسجد لغيره. فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين، ومثلها كثير في الكلام»[12].

نلاحظ هنا أن ابن عاشور من خلال تأمله العميق للاستئناف البياني نجح في الكشف عن وجه انسجام النصّ بصورة متقنة، حيث اعتبره جاء توقعًا لسؤال قد يرِد في سياق الكلام فرضته نهاية الجملة السابقة، والتي قد تثير التساؤل «عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى».

يستفاد من النماذج المسوقة آنفًا أنّ ابن عاشور، وإن لم يكن منفردًا باستثمار الاستئناف البياني في تفسيره، إلّا أنه يعدُّ من المكثرين في تأمّله وتحليله له، فقد أسعفه عمقه في تحليل الاستئناف البياني في الربط المحكم بين الآيات وتحقيق المناسبة، وهو ما يبرز أن ابن عاشور طرح تحليلات مدقّقة للاستئناف البياني في القرآن تبرز أن هذا الاستئناف يأتي متميزًا في القرآن ويلعب دورًا عند التأمل في تحقيق تماسك الخطاب وليس كما يتصوّر، كما أن هذه التحليلات المعمّقة تتيح مجالًا رحبًا للتدبّر والتفاعل مع كلام الله -عز وجل- بتؤدة ورويّة وعدم التسرّع في اتهامه بضَعف التماسك.

كما أن ابن عاشور كشف عن طرائق استثمار النصّ القرآني لهذا الاستئناف في أغراض جذب إثارة السامع والردّ على أسئلة قد تتوقّع وترِد على ذهنه؛ ولذلك نجد ابن عاشور يكرّر هذه العبارة وأمثالها: «لأن مثل هذا مما تشرئبّ إليه الأفهام عند سماع قوله... ويتطلع السائل... ويرِد سؤال في نفوس المؤمنين، وهذا يثير سؤالًا...»، ولا شك أن هذا المسلك القرآني في استعمال الاستئناف يجعل القارئ في تفاعل مع الخطاب بشكلٍ واعٍ، فتنساب المعاني وتتفتّق الدلالات، وفي ذلك الدربة الظاهرة في تقصِّي الاحتمالات الممكنة، مما يجعل الطالب والباحث في ميدان التفسير والدراسات القرآنية على طريق اكتساب المَلَكة والصنعة وجودة القريحة، وهو ما يسمى في حقل التربية والتعليم بالبيداغوجيا والكفاية والمهارة. ومنه نفهم لماذا يلحّ العلماء المبرزون على ضرورة التخرّج على أمهات الكتب ومظانّ العلم المعتبرة.

هذا فضلًا عمّا يتيحه البحث من فوائد وأنظار في سبيل تجويد طرق تدريس التفسير وإصلاح مناهجه.

 يقول أيمن عبد الرزاق الشوا: «والحاصل أنه ترِد الجملة الاستئنافية للتوضيح بعد الإبهام، وفائدتها تكثير لذّة العلم بهذا الإبهام؛ لأن الشيء إذا عرف من وجهٍ ما، تشوّقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتأملت، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه كانت لذّته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة»[13].

وإلى هذا المعنى أشار فريد الأنصاري حين اعتبر فقه اللسان أصلًا من أصول العلوم الشرعية، فهو عنده: «الملَكة البيانية التي يعبر بها المتكلم عمّا يجده من معانٍ وأحاسيس؛ بما يجعل المتلقِّي يشعر بما يشعر به الملقِي، وذلك هو البيان بمعناه القرآني»[14].

ولطالما استند ابن عاشور أيضًا إلى الاستئناف البياني لاستجلاء الدلالات التربوية والتوجيهات القرآنية، مستحضرًا أسلوب القرآن في التربية والتعليم، الذي يقتضي الانتقال من موضوع إلى آخر: من الترغيب إلى الترهيب، ومن البشارة إلى الإنذار، وضرب الأمثلة، ومراعاة حال المتلقي، وتنشيط السامع، والجمع بين إقناع العقل وإمتاع العاطفة كما يعبر محمد عبد الله دراز.

 يقول ابن عاشور: «نرى من أعظمِ الأساليب التي خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين مقصديه؛ وهما: مقصد الموعظة، ومقصد التشريع. فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما يحتاجون أن يعلموه، وهو في هذا النوع يشبه خطبهم، وكان في مطاوي معانيه ما يستخرج منه العالم الخبير أحكامًا كثيرة في التشريع والآداب وغيرها»[15].

 

[1] تراجع المقالة الأولى على هذا الرابط: tafsir.net/article/5268.

[2] النحو الوافي، عباس حسن، دار المعارف مصر، ط3. (4/ 390).

[3] من أسرار الجملة الاستئنافية، دراسة لغوية قرآنية، أيمن عبد الرزاق الشوا، ص20.

[4] التحرير والتنوير، (3/ 188).

[5] التحرير والتنوير، (3/ 26).

[6] التحرير والتنوير، (28/ 314).

[7] التحرير والتنوير، (12/ 222).

[8] التحرير والتنوير، (21/ 126).

[9] التحرير والتنوير، (13/ 134).

[10] التحرير والتنوير، (30/ 298).

[11] التحرير والتنوير، (22/ 311).

[12] التحرير والتنوير، (17/ 227).

[13] من أسرار الجملة الاستئنافية، أيمن عبد الرزاق الشوا. ص94.

[14] مفهوم العالمية، فريد الأنصاري، ص124.

[15] التحرير والتنوير، (1/ 115).

الكاتب

الدكتور مصطفى فاتيحي

حاصل على الدكتوراه من جامعة القاضي عياض بمراكش - المغرب، وأستاذ التعليم التأهيلي الثانوي.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))