قراءة في كتاب (التهيئة للمعنى في القرآن الكريم؛ دراسة بلاغية)
للدكتور محمد عبد الفتاح النجار

اعتنى كتاب (التهيئة للمعنى في القرآن الكريم؛ دراسة بلاغية) للدكتور/ محمد عبد الفتاح النجار بتناول موضوعٍ مهمّ جاء في ثنايا كتب البلاغة، ولم يُعْتَنَ بدراسته بصورة كليّة استقلالًا، وهذه القراءة تسلِّط الضوء على هذا الكتاب، وتستعرض أهدافَه ومحتوياته، وأبرز مميّزاته، وأهم الملحوظات حوله.

بيانات الكتاب:

عنوان الكتاب: التهيئة للمعنى في القرآن الكريم؛ دراسة بلاغية.

اسم الكاتب: الدكتور محمد عبد الفتاح النجار[1].

عدد الصفحات: 480.

الناشر: دار الحمد للطباعة والنشر.

سنة النشر: 1437هـ.

رقم الطبعة: الأولى.

تمهيد:

 تقع التهيئة للمعنى في القرآن الكريم موقعًا مهمًّا من الدراسات القرآنية؛ لما فيها من بيانٍ للإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وكشف اللثام عن سرٍّ من أسراره، والقرآن الكريم إذ امتلأ بتوجيه العباد إلى الطريق القويم والنهج الصحيح، فإنه لم يشرّع، أو يأمر وينهى، أو يرغّب ويرهّب؛ إلا باستمالة النفوس إليه وفتح مغاليقها وإيقاظ العقول وتهيئتها لتقبل ما ضُمّن في الكتاب العزيز.

 ومن المعلوم أن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة بين ظروف مختلفة، ومراحل متعددة، منه المكي والمدني، ولكل من المكي والمدني موضوعه وقضاياه، انساقت من خلال أسلوب التهيئة إلى نفوس المتلقين بأفصح الألفاظ وأجزل التراكيب، فما جاء به النظم من التوحيد والبعث وما يتبعه من منازل الآخرة، والتشريع من صلاة وصيام وزكاة، أو أحكام الميراث، وأحكام القتل، إلى آخر ما حواه النظم الكريم، اقترن في معالجته وتقديمه بتهيئة المتلقي وجذب انتباهه وإثارة ذهنه؛ حتى يتمكن الخطاب القرآني من النفوس أشد التمكن وأوثقه، ويبلغ منتهاه في إحداث الأثر وتغيير السلوك.

 والحديث عن تهيئة المعنى جاء في ثنايا كتب البلاغة، إلا أنه لم يحضر بشكل رئيس أو تأسيسيّ يُتصور منه موضوع التهيئة بشكل جلي، إنما جاء على استحياء في البلاغة العربية، تحديدًا في مواضع التأنق من الكلام، فجاء في ظل حسن التقديم، وبراعة الاستهلال، وحسن التخلص، وهذا وإن كان قريبًا من موضوع التهيئة إلا أن المفارقة من حيث التناول والإجراء كما في النظم الكريم تختلف اختلافًا بيّنًا ظاهرًا، فالشعر وإن حسنت تراكيبه وجاد نظمه إلا أن ما في النظم الكريم من قضايا مصيرية كان داعيًا لحضور التهيئة بوضوح في القرآن الكريم، حتى صارت مظهرًا من مظاهر إعجاز النظم الكريم.

 إلّا أن الحديث عن التهيئة في كتب التفسير حضر حضورًا بارزًا لكنه اختبأ تحت المناسبات بين الآيات، فلو فتّشنا عن التهيئة في كتب المفسرين لوجدناها متجلية في التفاسير بعمومها، وعلى وجه الخصوص في تلك التي اعتنت بعلم المناسبات، مثل التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب للفخر الرازي (606هـ)، وتفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي (885هـ)، ثم التفاسير المتأخرة بعد ذلك التي أفادت من هذين التفسيرين وغيرهما، مثل إرشاد العقل السليم لأبي السعود (982هـ)، وروح المعاني للآلوسي (1270هـ)، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (1393هـ).

 وكتاب (التهيئة للمعنى في القرآن الكريم؛ دراسة بلاغية) يسجل انفرادًا وتميزًا في تسليط الضوء على فكرة تهيئة المعنى في القرآن الكريم؛ كونه حصر كثيرًا من القضايا التي وردت في النظم الكريم، وكيف هُيئ لتلك القضايا في تنوّعٍ من الأساليب والتراكيب التي تلائم كل مرحلة من مراحل الدعوة، وظرف من ظروف المخاطبين. وفي ضوء أهمية هذا الكتاب، فقد حاولتُ تقديم قراءة لهذا الكتاب تكشف عن مقاربته لهذا الموضوع المهم وتبين الموقف منه.

محتويات الكتاب:

قسم المؤلف كتابه إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة، جاءت على النحو الآتي:

أمّا المقدمة فقد تحدث فيها عن التهيئة للمعنى في القرآن الكريم، وأهمية الموضوع، وأسباب اختياره، ووضح الخطة التي يسير عليها.

أمّا التمهيد فقد اشتمل على مدخل عام للبحث بيّن فيه: التهيئة عند علماء اللغة، والتهيئة في تراث البلاغيين والنقاد، والتهيئة ومكانتها في القرآن الكريم.

هذا من حيث المقدمة والتمهيد، أمّا الأبواب، فقد افتتح الباب الأول بعنوان: (التهيئةللعقائد)، وقسمه إلى ثلاثة فصول: عنون الفصل الأول بــ: (التهيئة للتوحيد)، ووضع فيه خمسة مباحث؛ الأول: التهيئة بعرض الآيات والمشاهد الكونية. والثاني: التهيئة بالاستفهام. والثالث: التهيئة بالقسم. والرابع: التهيئة بوضع المضمر موضع المظهر. والخامس: التهيئة بالنداء.

واستعرض فيالفصل الثاني: (التهيئة للإيمان بالبعث)، وجعل تحته خمسة مباحث، جاءت على النحو الآتي؛ الأول: التهيئة بالتشبيه. والثاني: التهيئة بالقصص. والثالث: التهيئة بالقسم. والرابع: التهيئة بالنداء. والخامس: التهيئة بأدوات التنبيه.

وخصص الفصل الثالث بــ: (التهيئة للحديث عن القرآن الكريم)، وأدرج فيه ثلاثة مباحث؛ الأول: التهيئة بالحروف المقطعة. والثاني: التهيئة بالقسم. والثالث: التهيئة بالنداء.

أمّا الباب الثاني فجاء بعنوان: (التهيئة للتشريع)، وقد جعل فيه فصلين؛ الأول: (التهيئة للمحرمات) وفيه مبحثان؛ الأول: التهيئة لتحريم الخمر. والثاني: التهيئة لتحريم الزنا.

وعقد الفصل الثاني بعنوان: (التهيئة للفرائض) وقسمه إلى مبحثين؛ الأول: التهيئة لتشريع الميراث. والثاني: التهيئة لتشريع أحكام القتل والحرابة.

أمّا الباب الثالث وهو الأخير فعنونه بــ: (التهيئة للتمسك بمكارم الأخلاق)، وجعل فيه فصلين؛ الأول: التهيئة للإحسان على الفقراء والإنفاق في وجوه الخير.

بينما جاء الفصل الثاني بــ: التهيئة لمكارم الأخلاق الواردة في وصايا لقمان الحكيم.

ثم الخاتمة وذكر فيها أبرز نتائج بحثه في موضوع التهيئة، مع اقتراحه لبعض التوصيات.

هدف الكتاب:

يمكننا أن نستنطق أهداف الكتاب من خلال الإشارات التي ذكرها المؤلف في مقدمة كتابه عن أهمية الموضوع وأسباب اختياره، وبذلك تكون الأهداف على النحو الآتي:

1. كشف وجهٍ من وجوه الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وبيان دقة نظم القرآن.

2. إثراء حقل الدراسات القرآنية والبلاغية بهذا الموضوع، وذلك بإفراد الحديث وبسطه عن موضوع التهيئة في القرآن الكريم.

3. الكشف عن تنوع أساليب التهيئة في القرآن الكريم، وتعدد تراكيبها، ومطابقة ذلك لمقتضى الحال.

4. بيان المقاصد والأسرار من أسلوب التهيئة.

5. الوقوف على الأدب الجمّ الذي ضُمّن في أسلوب التهيئة في النظم الكريم[2].

الإشكالات الرئيسة للكتاب:

يُعَدّ أسلوب التهيئة من الأساليب الرئيسة التي انتهجها القرآن الكريم، وهي مظهر من مظاهر بلاغته، وسرّ من أسرار إعجازه، وعلى الرغم من أهمية هذا الجانب الذي يهيّئ القلوب ويأخذ بألبابها؛ لتلقِّي المنهج الرباني خير تلقٍّ، إلا أنه لم يُطرَق ويُبحَث ويُفرَد في دراسة مستقلة[3]، إنما هو أفكار متفرقة في كتب البلاغيين والمفسرين، سواء على الجانب النظري أو التطبيقي، وهذا ما دفع المؤلف لأن يبحث في موضوع التهيئة، كون النظم الكريم تضمن قضايا كبرى تتمركز حول العقيدة السليمة، والتزكية بالعبادات والحث على التحلي بمكارم الأخلاق، وإصلاح الإنسان لأمور دنياه وأخراه، ولكي تقع تلك التعاليم موقع القبول، اقتضت حكمة الخالق أن يهيئ النفوس، ويُعِدّ القلوب، ويجذب العقول بأساليب متعددة؛ لتتمكن تلك المبادئ في وجدانهم ويسارعوا لامتثالها ويستجيبوا لها. وهذا مما شحذ الهمة عند المؤلف لأن يكشف عن التهيئة في القرآن الكريم، ويلامس سرًّا من أسرار الإعجاز.

واقتضى هذا البحث البكر أن يبحث المؤلّف عن هذا الموضوع في ثلاثة حقول معرفية: حقل البلاغة، وحقل علوم القرآن، وحقل علم النفس[4].

أمّا عند البلاغيين فلم يجد له المؤلف عنوانًا مستقلًّا يقوّم هذا الفن أو يتناوله، إنما وجد ما يمكن أن يقاربه، وهو ما حصّله في مواضيع التأنق في الكلام؛ من حسن تقديم، وبراعة استهلال[5]، وهي من الفنون التي رصدها علم البديع، وهو العلم الثالث من علوم البلاغة، وغايته تحسين الكلام لفظيًّا ومعنويًّا[6]، وقد خرج المؤلف بنتيجة مفادها أن التهيئة أعمّ من حسن التقديم وبراعة الاستهلال، فهذه الفنون إن حضرت في النص فأثرها لحظي أو ضيّق، تكون في حيز الفن نفسه لا يتجاوز أثرها إلى باقي النص، بخلاف التهيئة التي يبقى أثرها إلى بيان الحكم الشرعي أو الغرض المرام تقريره في النظم الكريم، وتلك نتيجة من الطبيعي أن يخرج بها؛ فالشعر أو كلام العرب عمومًا إن جاد نظمه وتراكيبه إلا أنه شتان ما بين المعاني القرآنية والشعرية من حيث ارتباط المعنى القرآني بشؤون الإنسان في دنياه وأخراه. ويمكن أن نَعُدّ هذه إحدى الإشكاليات أو الثغرات التي لحظها المؤلف في علم البلاغة مما دعاه لأن يقارب ويعالج موضوع التهيئة.

أمّا التهيئة عند المفسرين فقد كانت مبثوثةً في ثنايا تفاسيرهم للآيات، مع لحظهم أن التهيئة لا تكون إلا للمعاني الجليلة والأمور العظيمة[7]. وهذا أمر طبيعي كون التفاسير تُعنى بنثر أسرار الإعجاز بحسب تناول الآيات القرآنية، ويمكن تعداد إشكاليات التهيئة المنثورة في كتب المفسرين ما دعا المؤلف إلى أن يفردها في دراسة مستقلة ويبرز الجانب التطبيقي للتهيئة بشكل جلي.

أمّا الإشكالية من الجانب النفسي، فتنطلق من موضوع التهيئة نفسه، كون التهيئة ناموسًا كونيًّا في الأصل، وفطرة إنسانية، وحكمة إلهية، سُلكت في آيات الله تعالى من خلق السماوات والأرض، وتسخير آيات الله للإنسان، فضلًا عن هدي التشريع الرباني، وهذه الحقيقة المُسَلّمة تحتاج إلى مَنْ يُبرزها ويكشف عنها، وهو ما عنى المؤلف؛ إذ كانت منطلقًا رئيسًا لقيام الموضوع ودراسته، ويمكننا القول أنّ المؤلف -ومن خلال بحثه في المظان التي يمكنها أن تلامس موضوعه- قد تشكل عنده الإشكال لما لمسه من فراغ وثغرات في الموضوع تجعله حريًّا بالدرس؛ فالاشتغال التراثي لم يعالج هذه الأمر حق المعالجة، كما أن الجانب النفسي وإن اعتُني به في الأطروحات المعاصرة إلّا أن بيان ما في الذكر الحكيم إزاء هذه القضية يظل مهمًّا جدًّا، بل هو المعيار الذي قد يُقَوّم به الطرح في هذا الجانب.

مقاربة المؤلف لموضوع التهيئة:

قسم المؤلف الآيات أثناء عرضها إلى: آيات التهيئة، والمعاني المهيّأ لها. ثم عالجها من حيث الصبغة البلاغية، فظهر ذلك جليًّا من الفصول التي عنون لها، أو من طريقة تحليله وتناوله، وتركزت معالجته في ضوء البلاغة على البنى الداخلية للمعاني، مما لزمه أن يستحضر بعض الملابسات والسياقات الخارجية، مع الاستعانة ببعض علوم القرآن التي تجلّت وأسهمت في إثراء المعنى، ويمكن ملاحظة مقاربته فيما يأتي بيانه:

أولًا: البنى الخارجية[8]، وفيها:

أ) المكي والمدني:

من المعلوم أن السور المكية هي ما نزلت في مكة، أي: قبل الهجرة، والمدنية ما نزلت في المدينة، أي: بعد الهجرة، وأنّ لكل من المكي والمدني خصائصهما المميزة، وبناءً على ذلك فقد تنبه المؤلف إلى تنوع أساليب التهيئة لكل منهما لما يلائم خصائص الخطاب المكي والمدني. وقبل الولوج إلى كيفية معالجة المؤلف، أُعْطِي نَبْذَة يسيرة عن أبرز خصائص المكي المدني:

أبرز خصائص المكي: الدعوة إلى التوحيد، وإثبات الرسالة، وإثبات اليوم الآخر، وجدال المشركين بالبراهين العقلية والآيات الكونية، وذكر قصص الأنبياء والأمم السالفة، مع قِصَر الفواصل، وجزالة الألفاظ وقوتها، وإيجاز العبارة.

أمّا أبرز خصائص المدني: تفصيل العبادات، والمعاملات، والحدود، والتركيز على دعوة أهل الكتاب، والكشف عن حقيقة النفاق، مع طول الآيات وبسطها[9].

وبناءً على ما تقدم فقد لحظ المؤلف أن التهيئة بالآيات والمشاهد الكونية من سمات القرآن المكي؛ كون القرآن المكي -كما مر معنا- يبني العقيدة ويدعمها في النفوس، ويلزم ذلك استقطاب انتباه الإنسان إلى عجائب صنع ما في الكون[10]، وهذه سنة متبعة في القرآن المكي تناسب نفوس الكفار والمشركين من أهل مكة وعقليتهم، وتتناسب مع جفافهم وغلظتهم، مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[لقمان: 29، 30][11].

وهذا بخلاف عرض الآيات الكونية في السور المدنية على قلّتها، حيث تأتي عقب تقرير الوحدانية، وهذا مناسب مع خصائص الخطاب المدني كون المخاطبين من المشركين وأهل الكتاب على علمٍ بالكتب السماوية، فإقناعهم بأمر التوحيد يعتمد على العقل أكثر مما يعتمد على الوجدان، ويحتاج إلى حوار مبني على أدلة قاطعة وبراهين ساطعة، مثل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة: 163، 164][12].

وعلى ذلك استبان أن التهيئة محدد رئيس لمقام عرض الآيات الكونية بما يتوافق مع خصائص المكي والمدني، وبدون موضوع التهيئة قد لا نلتفت إلى هذا المعنى القرآني، وسياق المكي والمدني من المواضيع الرئيسة التي حضرت في جُلّ سياقات التهيئة.

واستحضار الخصائص كان حاضرًا في جُلّ مواطن التحليل، كون التهيئة تراعي ظروف الْمُنَزَّل عليهم القرآن.

ب) ترتيب النزول:

اتخذ المؤلف من ترتيب نزول السور منهجًا يتوسل فيه طريقًا لتهيئة المعاني القرآنية، والتدرج بالنفس الإنسانية لتهيئتها لقبول الأحكام الشرعية، والتي منها التحريم، ومن ذلك ما ساقه المؤلف عن تحريم الخمر، إذ من المعلوم أن تحريم الخمر مرّ على أربع مراحل؛ فتمثل التدرج أوّلًا أن يُبتدأ بآية النحل في المرحلة الأولى، ثم آية البقرة، فآية النساء، ثم آية المائدة، وعند النظر في ترتيب نزول السور الواردة في تدرج التحريم حسب رأي الجمهور، نجد أنّ ترتيب نزول سورة النحل جاء في الترتيب السبعين (70) من أصل أربع عشرة ومائة سورة، والبقرة في سبع وثمانين (87)، والنساء في اثنتين وتسعين (92)، والمائدة في اثنتي عشرة ومائة (112)[13]. والملاحَظ -إضافةً إلى ترتيب نزولها- أن سورة النحل مكية والأخريات مدنية، فكان التزام تحريم الخمر أحرى بالقبول لا سيما بعد تثبت العقيدة ورسوخها في قلوب المسلمين.

ج) علم النّفس:

يُعَدّ علم النفس من العلوم الحديثة، والذي تطورت فيه الدراسات والأبحاث إلى آفاق بعيدة واتجاهات متعددة، وهو مجال علمي واسع، ومن المعلوم أن الشريعة بأوامرها ونواهيها جاءت لما يأتلف مع النفس الإنسانية، وأنها لا تكلّفها إلا ما تطيق، ومما نحن في سياقه التدرج، فإن التدرج ناموس كوني فطر الله عليه هذا الكون، وما من شيء إلا جاء بالتدرج، وأدنى تأمل يهدي إلى هذه الفطرة الكونية، وتهيئة المعاني القرآنية للوازمها منهج إسلامي أصيل نلامسه في جميع جوانب الشريعة، وهذا المنهج كان أحد الأدوات التي قارب بها المؤلف التهيئة في النظم الكريم، فظهر من أسرار النظم في التهيئة ما يناسب طبائع البشر ويوفي حاجاتهم فيوافق فهم العامة والخاصة، وهذا ما وجدناه في كتاب التهيئة للمعنى في القرآن الكريم، فاستطاع المؤلف أن يصل أن البحث في التهيئة إنما هو بحث في فقه سياسة النفوس، ومعرفة بالأساليب التي تفتح بها مغاليق القلوب وتطوّع النفوس[14].

ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في أحد مباحث الكتاب (التهيئة بالقصص) ومن المعلوم أن القصة بعمومها تؤثر في القارئ والمتلقي، مما يجعله يتصور المعاني والأحداث ويستنتج منها العبر والدلائل، فالقصص القرآني يخاطب الوجدان والمشاعر بما يحوي من أحداث منتظمة ومتسلسلة، مضمنة دلالات مجازية تُعنى بتصوير المعنى وبيانه لإحداث الأثر الانفعالي، وبحسب ما أفادت الدراسات الحديثة فإن المشاعر تشكل جوهرًا وعينًا، وأن الانفعال المحدث من المشاعر قوة جوهرية في الإنسان، فالعواطف تبقى في أدمغتنا مركزة على معلومات حاسمة، فتحفزنا لتشكيل سلوكنا من أجل اكتساب ما نرغب فيه ونتجنبه[15]، وسبحان العليم الخبير الذي جعل من القصص القرآني أداة فاعلة تتمظهر فيها أحكام الشرع الحنيف، ومن الصور التي عرضها المؤلف في هذا الشأن قصة بني إسرائيل عندما أمرهم الله تعالى في سورة البقرة أن يذبحوا بقرة، والغرض منها التهيئة لتقرير الإيمان بالبعث، فالقصة والتهيئة تبدأ من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[البقرة: 67- 73]، والمعنى المهيأ له قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[البقرة: 73][16]، وهكذا فقد هيّأت هذه القصةُ قضيةً من القضايا الكبرى في النظم الكريم وهي الإيمان بالبعث، فبعد أن أصبحت النفوس والمشاعر والعواطف كأنها أوعية مفتوحة يصبّ فيها ما يريد فتتقبله راضية مطمئنة، جاء تقرير البعث والنشور.

ثانيًا: البنى الداخلية:

طبق المؤلف في تحليله منهج البلاغة وأدواتها، متوسلًا في ذلك بنظرية النظم التي تتمظهر في تحليل الآيات، ثم الوحدة السياقية التي تطل على السياق الكلي للسورة، أمّا النظم فلا أجد ما يصفه مثل وصف صاحب النظرية، حيث يقول عبد القاهر الجرجاني (474هـ): «وإذا نَظَرْنا في ذلك، عَلمْنا أنْ لا محصولَ لها غير أنْ تَعْمدَ إلى اسم، فتَجْعلَه فاعلًا لفعلٍ، أو مفعولًا، أو تَعْمَدَ إلى اسمَيْن، فتَجْعلَ أحدَهما خبرًا عن الآخر، أو تُتْبِعَ الاسمَ اسمًا، على أن يكونَ الثاني صفةً للأول، أو تأكيدًا له، أو بدلًا منه، أو تَجِيءَ باسم بَعْد تمامِ كلامكَ، على أن يكون الثاني صفةً، أو حالًا أو تمييزًا، أوْ تتوخَّى في كلام هو لإثبات معنى، أن يصَير نفْيًا أو استفهامًا أو تمنيًا، فتُدخِلَ عليه الحروفَ الموضوعة لذلك، أَوْ تُريد في فعلين أن تَجعل أحدَهما شَرْطًا في الآخر فتجيءَ بهما، بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بَعْد اسمٍ من الأسماء التي ضُمِّنَتْ معنى ذلكَ - الحرفِ وعلى هذا القياس»[17]. أمّا الوحدة السياقية فهي التي تتضمن مقصد السورة وخصائصها وتناسب آياتها، وعلاقة السورة بالسياق الكلي للقرآن[18].

ومن خلال تطبيق نظرية النظم، والوحدة السياقية التي ظهرت جلية عند المؤلف استطاع المؤلف أن يكشف عن موضوع التهيئة ويدلل على براعة توظيفها في النظم الكريم، وأنها سرّ من أسرار إعجازه.

رصد المؤلف بعض الظواهر اللغوية التي وقعت موقعًا رئيسًا في تهيئة المعنى، فمن الظواهر التي ظهرت جلية في التهيئة ما يأتي:

الحروف المقطعة، والاستفهام، والقسم، ووضع المضمر موضع المظهر، والنداء، والتشبيه، والقسم، ونخص الحديث هنا عن الحروف المقطعة كونها شغلت العلماء على مختلف توجهاتهم العلمية، فقد ورد الكلام في الحروف المقطعة في أكثر من حقل معرفي، وتعددت آراء العلماء فيها، وقد أحسن المؤلف حين عنوَن لأحد مباحثه بعنوان: (التهيئة بالحروف المقطعة) ووضعها في سياق التهيئة؛ كون أن ما طبقه في هذا المبحث يلتقي مع ما ذُكر من كلام العلماء في الحروف المقطعة، حيث إن التهيئة بالحروف المقطعة، مع ما فيها من غرابة مقصودة، لا تخلق إلّا الاهتمام والتنبيه وهي وسيلة من وسائل التهيئة، وقد وقعت هذه الوسيلة الموقع الأمثل في النفوس، يقول الفخر الرازي في هذا السياق: «ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يُفهَم معناها تكونُ أتمَّ في إفادة المقصود الذي هو التنبيهُ من تقديم الحروف التي لها معنى... لأن المقدَّم إذا كان كلامًا منظومًا وقولًا مفهومًا، فربما يظن السامع أنه كلُّ المقصود ولا كلامَ بعد ذلك، فيَقطعُ الالتفاتَ عنه، أمَّا إذا سمع صوتًا بلا معنى، فإنه يُقبِل عليه ولا يَقطع نظرَه عنه ما لم يسمع غيره؛ لجزمه بأنّ ما سمعه ليس هو المقصود؛ فإذًا تقديم الحروف التي لا معنى لها في هذا الموضع على الكلام المقصود، فيه حكمة بالغة»[19]. والتنبيه وسيلة من وسائل التهيئة لإعداد المتلقين للمعنى المهيأ له، وفي كلام الرازي للمتأمل غنى عن كثير مما يساق من كلام.

وهذا عرض موجز، لا يغني عن الرجوع لهذا الكتاب القيم، وأدلف الآن إلى أبرز مزايا الكتاب وبعض الملحوظات.

مزايا الكتاب:

1. فَرادة الموضوع وجِدَته، فلم أجد دراسة -بحسب اطلاعي- تناولت هذا الموضع وفصّلت الحديث عنه، ومع سبق المؤلف بهذه الفكرة فقد أحسن صنيعه.

2. حسن التدرج في تبويب البحث؛ حيث بدأ بالتهيئة للعقائد، ثم الإيمان بالبعث، ثم التشريع، ثم الفرائض، ثم الأخلاق، فبدأ بما هو أولى، وما يقوم بعده على ما قبله.

3. وضوح فكرة الكتاب؛ وعمق تناول المؤلف.

4. قدّم المؤلف إضافة علمية قيّمة، من حيث الدراسة والتناول، ومن حيث تصنيف التهيئة في علوم البلاغة، حيث ارتأى أن أبواب البلاغة الثلاثة -من علم المعاني والبيان والبديع- كلها تتآزر من أجل التهيئة، وكلها مُسَخَّرَة لنسج أساليب التهيئة[20].

5. تجلّت أثناء الدراسة كثير من المعاني الإيمانية والأخلاقية التي بيّنت شيئًا من النهج الرباني في هداية البشر.

6. الكشف عن أهمية موضوع التهيئة، وبيان أبعاده، وتقريب أطرافه؛ إذ مزج المؤلف بين علوم البلاغة وعلوم القرآن وعلم النفس مزجًا يلبي حاجة الموضوع ومقتضى حاله.

الملحوظات:

1. جاءت فصول البحث مختلطة بين الظواهر البلاغية وهي البنى الداخلية، وبعض المعاني القرآنية كالآيات الكونية والمحرمات وهي البنى الخارجية، والأولى في فصول البحث أن يكون هناك رابط ونسق واحد يجمعها.

2. لم يُفد المؤلف من الدراساتِ الحديثة وتقدُّمِها في شأن التهيئة وتأثيرِها النفسي على الوجدان والمشاعر، فمع رجوعه إلى عدد من المصادر المعنية بدراسة النفس الإنسانية، والإفادة منها وذكرها في ثنايا التحليل، إلا أنها تُعَدّ من المصادر المتأخرة بالنسبة لتقدُّم العلم والنتائج المتطورة في القرن الحالي.

التوصيات:

1. يحتاج موضوع التهيئة إلى التتبّع في كتب المفسرين، وكشف النقاب عن منهج تناول التهيئة عندهم، ومدى تداخله مع علم المناسبات؛ ليبين لنا الموضوع بشكل جلي وواضح.

2. تحرير المصطلحات التي تتشارك مع التهيئة في كتب التراث.

3. يحسن أن تقدم دراسة علمية عن التهيئة في القرآن الكريم، حيث يتم تناول جميع الظواهر اللغوية من نحو وصرف ودلالة وبلاغة.

4. كما يحسن أن تُقدَّم دراسة أخرى توزِان وتقارِن بين أساليب التهيئة، ومحاولة وضع أُطر علمية تنهض على أثرها الدراسات القرآنية.

الخاتمة:

هذه قراءة موجزة لكتاب (التهيئة للمعنى في القرآن الكريم، دراسة بلاغية)، ويُعَدّ هذا الكتاب إضافة نوعية تضاف إلى الدراسات القرآنية، كونه سدَّ ثغرةً معرفيةً في محيط الدراسات القرآنية، كما أنه فتح آفاقًا جديدة لموضوع التهيئة، إذ إن التهيئة تُظهِر منهاج النظم الكريم الذي سار عليه في طرح قضاياه بعمومها، وتعطي تصورًا كليًّا؛ يكشف عن الأدب الرفيع والتوجيه السديد والنصح الرشيد الذي ظهر بين دفتي الكتاب العزيز، ومع إدراك ذلك فإن في هذا توصية بأن يُتناول موضوع التهيئة من خلال عدد من الحقول المعرفية والعلوم الحديثة التي تسهم بكشف شيء من أسرار النظم الكريم.

 

[1] لم أعثر على مرجع أو جهة تعرّف بالمؤلف، وجُلّ ما وقفتُ عليه أنه عضو هيئة التدريس في كلية اللغة العربية - جامعة الأزهر الشريف.

[2] ينظر: التهيئة للمعنى في القرآن الكريم: ص7 و8.

[3] ينظر: التهيئة للمعنى في القرآن الكريم: ص8.

[4] السابق: ص9.

[5] السابق: ص21.

[6] ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة: للخطيب القزويني (739هـ): (2/ 6/ 4). تحقيق: الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل، الطبعة الثالثة.

[7] التهيئة للمعنى في القرآن الكريم: ص9.

[8] ابتدأت بالبنى الخارجية، كونها الموجه الأول لنظم الكلام والظواهر البلاغية.

[9] ينظر: المقدمات الأساسية في علوم القرآن، للدكتور: عبد الله بن يوسف الجديع: ص56. مؤسسة الريان، الطبعة السادسة، 1437هـ.

[10] ينظر: التهيئة للمعنى في القرآن الكريم: ص32.

[11] السابق: ص34.

[12] السابق: ص36.

[13] ينظر: البرهان في علوم القرآن: للزركشي (794هـ): (1/ 193 و194). تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1376هـ.

[14] ينظر: التهيئة في القرآن الكريم: ص444.

[15] ينظر: الإنسان كائن تلقائي: لإبراهيم البليهي: ص119 وما بعدها (الفصل الثاني: العلم يكتشف الفاعلية الحاسمة للعواطف). دار الروافد الثقافية، وابن النديم، الطبعة الأولى، 2020.

[16] ينظر: التهيئة في القرآن الكريم: ص189 وما بعدها.

[17] دلائل الإعجاز: لعبد القاهر الجرجاني: ص55. تحقيق: محمود شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة، الطبعة الثالثة، 1413هـ.

[18] ينظر: الوحدة السياقية للسورة في الدراسات القرآنية في القرنين الثامن والتاسع الهجريين، دراسة بلاغية في التراث العربي: للدكتور سامي العجلان: ص86.

[19] التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب: للفخر الرازي: (25/ 24). دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1420هـ.

[20] ينظر: التهيئة للمعنى في القرآن الكريم: ص445.

الكاتب

الدكتور محسن بن علي الشهري

حاصل على الدكتوراه من كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية، وله عدد من الأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))