فهم القرآن عند حاج حمد؛ رؤية في مرتكزاته المنهجية والمعرفية

الكاتب : الحسن حما
يُعدُّ المفكر السوداني حاج حمد من الدارسين الذين عملوا على إعادة النظر في آليات فهم القرآن الكريم وتأويله، وهذه المقالة تسلِّط الضوء على مرتكزاته المنهجية والمعرفية، وتتعرَّض للمداخل المنهجية لقراءة فكره، وبعض الملاحظات على مشروعه الفكري.

مقدمة:

  يُعَدُّ المفكّر السوداني محمد أبو القاسم محمد حاج حمد من الدارسين الذين عملوا على إعادة النظر في آليات فهم وتأويل القرآن الكريم والسنة النبوية، والسعي إلى بلورة رؤية جديدة في قضايا الفكر الإسلامي والتعامل مع التراث الإسلامي. وبهذا يمكن اعتبار مشروعه الفكري ضمن المشاريع التي تروم تقديم إجابة جديدة لإشكالات العقل المسلم في علاقته مع الوحي، الذي يوجِّه علاقة الإنسان بالله وبالعالم وبالآخر.

قدَّم حاج حمد منذ سبعينيات القرن الماضي مشروعه الفكري، من خلال عدد من مؤلفاته، أهمها: (العالمية الإسلامية الثانية؛ جدلية الغيب والإنسان والطبيعة)، (منهجية القرآن المعرفية)، (إبستيمولوجيا المعرفة الكونية إسلامية المعرفة والمنهج)، (الحاكمية)، (تشريعات العائلة في الإسلام)، ...إلخ. إضافة إلى عدد من المقالات والدراسات والمحاضرات والمؤتمرات التي شارك فيها في بلدان مختلفة في العالم العربي والإسلامي.

ويتأسّس الإطار المنهجي لمشروع حاج حمد على التكامل المعرفي بين العلوم الطبيعة والاجتماعية والإنسانية في قراءة القرآن الكريم ضمن وحدته البنائية، وقد بلور هذا إبستيمولوجيًّا في ما يصطلح عليه بـ«إسلامية المعرفة».

وتقدّم هذه المقالة قراءة مركّبة في النواظم المنهجية والفلسفية التي يستند إليها حاج حمد في مشروعه الفكري بروح نقدية، من خلال مقتربين منهجيّين:

الأول: محاولة فهم اصطلاحاته ومفاهيمه للاقتراب ما أمكن من آليات اشتغاله المنهجي والفلسفي.

والثاني: مقترب لغوي، أي: فهم استعمالاته اللغوية ودورها في فهم القرآن، وكيف قارب بها عددًا من القضايا الشرعية والدينية؟ وأبعادها الدلالية؟

المداخل المنهجيّة لقراءة فكر حاج حمد:

يتطلّب النفاذ إلى المشروع الفكري لأبي القاسم حاج حمد، الانطلاق من المداخل الإبستيمولوجية التي يؤسّس عليها طرحه الفلسفي، وبدونها قد يستعصي علينا فهم حاج حمد ومراده المنهجي والمعرفي من خلال القول بــ(العالمية الإسلامية الثانية)، الأمر الذي أغفلته بعض الدراسات في تقويمها لكتاباته، وترى فيه معولًا هدّامًا لليقينيات الموروثة، وصاحب عرفانية فلسفية.

لهذا من الضرورة المنهجية التقديم لقراءة فكر حاج حمد بمداخل أحسبها منطلقات معرفية، يتأسس عليها مشروعه لإعادة فهم وتأويل القرآن الكريم.

1. ضبط استعمالاته الاصطلاحية والمفاهيمية:

إنّ النفاذ إلى أطروحة حاج حمد يقتضي الإلمام بمفاهيمه ومصطلحاته التي يوظّفها ويستعملها في تحليله لقراءة القرآن الكريم، أو في نقده للموروث الديني عمومًا؛ لأن المصطلح والمفهوم عنده قضية أساسية، وبشكلٍ خاصّ في قراءته للقرآن، ويظهر هذا جليًّا في استعماله للمفردة القرآنية بحيث ينظر إليها من زاوية كونها كمواقع النجوم؛ إذا أزيحت المفردة من موقعها يختلّ التوازن كلّه. ومن جهة ثانية تبرز قضية المفاهيم وأهميتها المنهجية والمعرفية عند حاج حمد من خلال توظيف مناهج وآليات العلوم الإنسانية والاجتماعية، لكن عبر مجهود معرفي وفكري مُضْنٍ لجعلها تتناسب وخصوصية الكتاب الخاتم؛ لهذا يكون من الضرورة المنهجية عند قراءة المشروع الفكري للمفكر السوداني أن نقدّم له بتوطئة مفاهيمية، ونوضّح استعمالاته الاصطلاحية.

  1. 1.1. المعرفية:

حينما يستخدم حاج حمد كلمة (معرفية)، فإنه يقصد بها إرجاع المفردات اللغوية والأفكار والاتجاهات ومحتوى الثقافات إلى أصولها البنائية التي تحدّد دلالاتها، فعندما يستعمل عبارة (المعرفية القرآنية)، فإنه يقصد بها استرجاع الأصول التي يحدد بها القرآن فهم ظاهرةٍ ما أو أمرٍ ما، ولا يتم الاسترجاع إلّا بتفكيك المفهوم وتحليله، ثمّ سحبه على الاستخدامات الشاملة له في الإطار نفسه. ومنطق الحاج حمد في القول بالمعرفية يأخذ بالبحث في «قضايا المطلق والجوهر، وما يماثل هذه المفردات عبر الربط بين فلسفة العلوم الطبيعية بوصفها فلسفة (التشيؤ الوظيفي) ومنهجية الخلق، وعبر هذا الربط تتخذ المعرفية القرآنية معناها العلمي، فيكون أمام القرآن أن يكشف بهذه المعرفية عن دلالات الألفاظ ومعانيها السيميائية خارج الشائع عنها في استخدامات اللغة، وخارج التقليد العقلي في بناء المعرفة، أو مفاهيم التعامل العامّة»[1].

إنّ استخدام حاج حمد لكلمة «المعرفية» ليست مجرد نقد لظواهر الثقافة والمجتمع وللظّواهر شتى المجالات، إنها قبل هذا حفرٌ في الجذور؛ بحيث تردّ كلّ إنجاز ثقافي إلى تاريخيته، وتحاول تفكيك النظم والمفاهيم ودلالات اللغة ووسائط الاتصال بين الذهن والعالم، فالمعرفية «إما أن تحقق في النهاية قطيعة عدمية مع الخلفيات الموروثة، وإما أن تعيد توظيفها على نحو معاصر ومن منطلق نقدي تحليلي، فالمعرفية ترتبط دومًا ببناء مشروع حضاري في إطار ثقافي عالمي معاصر ودون نزعة أيديولوجية، بل إنّ المعرفية في أقصى حالاتها الوضعية تعتبر خصمًا للشمولية الماركسية»[2].

  1. 1.2. المنهجية:

إنّ الحديث عن المنهج والمنهجية يستدعي إيجاد طرائق البحث في الأمور، لتنتهي إلى إيجاد ضوابط لها، وهذا الأمر العامّ الذي يؤطّر المنهج والمنهجية، غير أن استخدام أبي القاسم لهذا المصطلح له دلالة اصطلاحية ترتبط بالوحدة العضوية للوجود الكوني وحركته، فنقرأ الكون كلّه بمنهجية واحدة تعتمد على «الجمع بين القراءتين» وفق مراتب مختلفة، ولكنها متراتبة: تبدأ بفهم علاقة «ثنائية جدلية» هي «الخالق- الخلق»، ثم تبحث في «جدلية» الخالق والخلق؛ في إطار التأليف بين القراءتين (المشيئة)، والتوحيد بين القراءتين (الإرادة)، والدمج بين القراءتين (الأمر). وهي مراتب متداخلة من الأدنى إلى الأعلى[3].

يأخذ حاج حمد من القرآن مصدره الأساسي لهذه المنهجية، إذ هو وحده الذي يطابق في بنائيته العضوية المنهجية شمولية البنائية الكونية؛ لأنه الوعي المعادل للوجود وحركته، فحين يستخدم مصطلح (منهجية) في مشروعه الفكري وفي كتاباته، ينبغي على القارئ أن يستدعي في ذهنه هذه المحدّدات بالذات، فالمنهجية التي يقصدها هي التي يحددها بقوله: «هي النظام الشمولي للكون في وحدة مظاهره المتكاثرة، والتي لا تَقبل أشكالًا جزئية من المعرفة المادية أو الوضعية أو اللاهوتية، ولا تجزِّئ بين نظرات القوانين بتقيُّد استخدامها في مجالات دون أخرى؛ ما وراء الطبيعة، وعلوم الإنسان، وعلوم الطبيعة، وإنما تضع الحركة الكونية كلّها، ما يفهم أنه وراء الطبيعة (الغيب) وما يفهم أنه خاصّ بالإنسان (علم النفس والاجتماع) وما يفهم أنه خاص بالطبيعة المادية (علوم الطبيعة التجريبية والتطبيقية)، تضع ذلك في كلٍّ واحد متحرك بجدلية الغيب والإنسان والطبيعة، وضمن صيرورة خلق وتشيؤ بتطورية غائية، فتصنيفنا الإسلامي المنهجي للعلوم الكونية الشمولية، يقوم على أخذ الكون في وحدته وتوزيع موضوعاته على مراتب المعرفة الثلاث وتفرعاتها الأحد عشر، وبهذه المنهجية الإسلامية نحيط بالعلوم جميعًا، خلافًا لتصنيفات العلوم الوضعية الراهنة والمنبثقة من الجهد الحضاري الإنساني المحدود، فالقرآن هنا هو الذي يحيط ويصنف وضعه المعادل بالوعي للوجود الكوني وحركته وغاياته»[4].

1.3. الغيب:

يعطي أبو القاسم -رحمه الله- «للغيب» مدلولًا آخر غير غيب الله المطلق، يقول في ذلك: «وليس المقصود به -قطعًا وجزمًا- في منهجنا غيب الله المطلق، فتلك مداخل ومفاتيح لا يعلمها إلا هو سبحانه»، واستدلّ على حديثه بقول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام: 69].

ويقسم العلم بالغيب إلى قسمين؛ الأول: علم غيب مطلق (لا يعلمه إلا الله). والثاني: علم بما هو متشيِّئ، يستدل عليه بقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، وعبر هذا الغيب المطلق يصدر الغيب المتشيِّئ، وهو عالمنا الكوني. والغيب المتشيئ، وهو استحواذ منهجية الخلق على منهجية التشيؤ الوظيفي والتحكّم في صيرورتها الجدلية باتجاه غاية تتطور نحوها. وللتعبير عن هذا استدلّ أبو القاسم (بخطاب الله للملائكة الأبرار حين استفسروا عن قدرة البشر على القيام بمهمّة الاستخلاف في الأرض، فردّ الله تعالى إلى ذاته المنزهة عِلم ما سيأتي، ويتضح في غيبٍ آخذ بالتشكُّل يتكشّف عن ميلاد الخليفة الذي لا يفسد في الأرض ولا يسفك الدماء، أي: (الغيب المتشيئ) في تعبير الحاج حمد، وفي تأكيده على هذا المعنى يقول: «إذن نحدّد هنا مصطلحنا للغيب الذي نعنيه بوصفه الغيب الكامن في منهجية الخلق المتشيِّئة، وليس المطلق، وهذا هو أساس الخطاب الإلهي للملائكة: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: 33]. فالملائكة كانت تعلم ما تبديه وما تكتمه ولكنها لم تعلم ما ينطوي عليه الغيب في الصيرورة الإرادية للخلق، فكشف الله -سبحانه- لها من ذلك حين أظهر آدم بخلافته وبالأسماء وتشريع الزوجية.

لهذا فإنّ أبا القاسم حين يطلق جدلية الغيب والإنسان والطبيعة فالمصطلح يتحدّد بالغيب المتشيِّئ من عالم الأمر إلى عالم الواقع، ضمن منهجية الخلق وغاياتها المستحوذة على منهجية التشيُّؤ، ولا ينصرف هذا المعنى قط إلى المفاهيم اللاهوتية وأفكار ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)[5].

2. التمييز بين التوظيف الإلهي للُّغة والاستخدام العربي البشري لها:

هذا الفارق الذي يقول به أبو القاسم ضروري وأساسي لفهم أطروحاته الفلسفية؛ إِذْ «ينطلق من ضوابط الاستخدام اللغوي في القرآن، وتحديد العائد المعرفي في معنى المفردات بطريقة ألسنية معاصرة تختلف عن الاستخدام الكلامي الشائع في اللسان العربي القديم، فالاستخدام الإلهي للمادة اللغوية، ولأيّ مادة في الكون يختلف نوعيًّا عن الاستخدام البشري، مع وحدة خصائص المادة، فحين يستخدم اللهُ اللغةَ العربية في التنزيل فإنه يستخدمها وفق مستوى إلهيّ يقوم على الإحكام المطلق، فلا يكون في القرآن مترادفان توظيفًا ضمن جناس وطباق»[6]. لهذا فإن الأمر يتطلب عند أبي القاسم في الدراسات القرآنية أو ما يعرف بعلم القرآن قاموسًا (ألْسُنًا معرفية)، يستند في تحديد دلالات ألفاظ القرآن المنهجية والمعرفية إلى نظرية (العائد) المعرفي أو المرجع أو الوسيط. ويضع لذلك ثلاثة أمور في عملية توصيل الدلالات المفردة، وهي:

الكلمة، وهناك الأمر الذي تشير إليه، وهناك التصور العقلي المتشكّل عن هذا الأمر في الذّهن، وذلك خلافًا للتصوّر التقليدي لفقه اللغة والمعاني؛ فخصائص اللغة دائمًا ما تأتي مرتبطة بخصائص الأمة التي تتكلمها من زاوية الوسيط الذهني للتصوّر، فكلّ أمّة تتكلّم كما تفكّر، ونحن نعلم بأنّ لغة القرآن هي الوسيط الذهني للتصوّر؛ فالكلمة تستدعي تصورًا معيّنًا مقيّدًا في دلالاته إلى بيئة تاريخية وثقافية معيّنة، والقرآن ينحو في دلالات المفاهيم إلى الضبط والمنهجية، على غير ما هو شائع وسائد ومتغير في ذهنية العائد المتصور.

إنّ الاستخدام القرآني للمفردة اللغوية -بناء على ما قدّمه أبو القاسم حاج حمد- يعطيها الطابع المرجعي المرتبط بدلالة المفردة أينما استخدمت في القرآن، فحين نتعرف إلى دلالة المفردة اللغوية القرآنية، فإننا نرجع في ذلك إلى كلّ استخداماتها في كلّ الكتاب.

3. تفسير وفهم الألفاظ القرآنية على غير المعهود اللغوي والشرعي منها:

- الفرق بين (لَمَسَ) و(مَسّ):

بناء على التميز اللغوي الذي وضّحناه، يميز أبو القاسم بين (لَمَسَ) حيث تعني قرآنيًّا التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسي، و(مسّ) حيث تعني التفاعل العقلي والوجداني، فلم يمنع الله (لَمْس) المصحف، هو للبشر أجمعين وكيفما كانت حالاتهم، فلهم أن يتناولوه، أما (مسّ) القرآن بما يعني التفاعل مع مكنوناته وأعماقه، فيتطلب في نظره حالة من الاستعداد[7]، ويستدلّ بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة: 77-79].

لذلك فإن القرآن لا يورِد (مسّ) بمعنى (لمس) إطلاقًا، فحين قال الله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فقد قصد (النَّفْس) الطاهرة ليس (البدن)، فالبدن (يلمس) ولا يمسّ، والبدن (يلامس) النساء في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء: 43]، وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الأنعام: 7]، أما (المسّ) فيتجه إلى المعرفة والإدراك والإحساس والشعور، في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف: 201]، وكذلك: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[آل عمران: 120]. فمَسُّ القرآن إدراكُه والشعور به، وهو مَسٌّ لا يتأتَّى إلا للمطهرين نفسًا وليس للمتطهرين بدنًا فقط.

- الأُمِّي غير الكتابيِّين وليس غير الكاتبِين:

تعرَّض حاج حمد لمسألة [النبي الأُمّيّ]، وحاول أن يضع فارقًا بين [أمية الكتاب] و[أمية الخط والرسم]، فالأمّيّ الذي عُرف في التراث الإسلامي، أي: (الرسول الذي لا يحسن القراءة والكتابة)، ليس هو مقصود حاج حمد، فالنبي عنده لا يقرأ الرسوم ولا يكتب، ولكن ليس بمعنى (أُمّي)، ولكن بالمعنى الذي أورده القرآن: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت: 48]. فالنبي (غير كاتب) لأنه لا يخطُّ بيمينه، وهذه مسألة قطعية واضحة، وهذا المعنى لا علاقة له بالأميّة قطعًا وجزمًا، فالأمّية تعني أنه غير كتابِيّ وليس غير كَاتبٍ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ}، وكذلك يرى حاج أن العرب (أميون-غير كتابيِّين) لم يتداولوا الإيمان بالكتب السماوية بينهم، ولكنهم يكتبون ويخطُّون بيمينهم، وليست جاهليتهم بمعنى عدم المعرفة بالقراءة والخط، ولكنها جاهليةُ حَمِيّةٍ وتفلُّتٍ من قيود العقل[8].

إنّ ما انتهى إليه حاج حمد في مسألة (أمّية النبي-صلى الله عليه وسلم-) أمر مهم على درجة كبيرة من الخطورة؛ لارتباطها بصفة من صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تُثبت صدقيته، ولفهم هذه المسألة من المفيد إلقاء الضوء فيما ورد في التراث الإسلامي حتى يتبيّن القارئ مدى صحة وصدقية تأويل حاج حمد أو إمكان التفكير فيه من جديد، فقد تعرّض لها الأصوليون واللغويون والفقهاء بشكلٍ كبيرٍ.

يَقصر جمهور الأصوليين دلالة كلمة (أُمّيّ) على الذي لا يقرأ ولا يكتب، فترى المرادف للكلمة (الجهل) بالقراءة والكتابة، وهو المعنى نفسه الذي نجده عند علماء الفقه والمفسرين، في حين أن اللفظة في كتب اللغة يرجع اشتقاقها أحيانًا إلى كلمة (أُمّة)، وأحيانًا إلى كلمة (أُمّ)، وأحيانًا إلى كلمة (أُمَم)، ولكن الجمهور قرّر أن دلالة (أميّ) تعني الجهل المعرفي بالقراءة والكتابة ليؤكد على الصفة الإلهية للقرآن[9].

ومن هنا فإنّ التفسير الأكثر اعتبارًا لدى المفسرين واللغويين، هو ما جاء في لسان العرب في تعريفه للفظة (أُمّيّ): «محمد نبيّ اللهِ وُصِف بأنه أُمّي؛ لأن الأمة العربية لم تكن تعرف القراءة والكتابة، فأرسل اللهُ لهم رسولًا من أنفسهم لا يقرأ ولا يكتب، وكانت هذه إحدى معجزاته، حيث كان يتلو عليهم الكتب مباشرة من الوحي الذي يبلغه عن الله -عز وجل- دون تغيير أو تبديل كلماته»[10].

وتقترن (أمية النبي) بمعجزة القرآن، حتى لا يُتّهم بأنه يأتي بالقرآن من عنده؛ ولهذا فإن الرازي (606هـ) في تفسيره الكبير، في تأويله لمعنى (الأميّ) يجعل أمية محمد نوعَ معجزةٍ من معجزاته، ووجه الإعجاز في ذلك[11]:

  • أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظومًا مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته.
  • أنه لو كان يُحسن الخط والقراءة لصار مُتّهَمًا بأنه ربما طالع كتب الأولين فحصّل هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات، هذا هو المراد من قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}.
  • أن تعلُّم الخط شيء سهل، فإنّ أقلَّ الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخطّ بأدنى سعي، فعدم تعلُّمه يدل على نقصان عظيم في الفهم، ثم إنه -تعالى- آتاه علوم الأولين والآخرين، وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه البشر.

من خلال ما تقدّم يتضح المقصود بـ(أمية النبيّ)، أي: الذي لا يعرف الخط والرسم والقراءة، وهذا غير التأويل الذي ذهب إليه حاج حمد الذي ميَّز بين (الكتابيّ) أي: الذي ليست له معرفة بالكتب السماوية، و(الأميّ) الذي لا يحسن الخط والقراءة، بخلاف ما تقدم عند أهل اللغة والتفسير والأصوليين، وهو ما تفيده الدلالة اللغوية للفظة (أميّ) وأكده أهل التفسير.

- الفارق بين الخمار والحجاب:

يعطي حاج حمد مدلولًا خاصًّا للحجاب غير المقصود به شرعًا وعرفًا واجتماعيًّا، من خلال تأويل لدلالة الآيات التي جاءت فيها الإشارة إلى الحجاب في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}[الأحزاب: 53]. فالحجاب المشار إليه في هذه الآية عند حاج حمد «يأتي بعد منعِ المسلمين من دخول البيت، حتى ولو كان السائل لأمهات المسلمين متاعًا فلا يحقّ لهم السؤال إلا من وراء الحجاب، أي: الحجاب الموضوع من وراء الباب. وتدلّ سورة الشورى على المعنى المقصود بالحجاب ذاته في الآية السابقة بقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}[الشورى: 51]. والحجاب في هذه الآية وما سبقتها من آيات -عند حاج حمد- هو غير الجلباب، كما أنَّه ليس بالخمار، فضلًا عن أنه لم يقصد به الثوب أو الخباء؛ الحائط حجاب والدار المغلقة حجاب، وليس ثمَّة حجاب للمرأة في الإسلام وفي القرآن الكريم إلّا على وفق الموضوع الموصوف أعلاه»[12].

ففي القرآن عند أبي القاسم يوجد (حجاب) ولم يقل الله (الخمار والجلباب) بمعنى الحائط؛ لذلك تساءل: «هل لَبِس الله وغطّى رأسه وبَرْقَع ليتحدث مع موسى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}؟ وهل مريم -صلى الله عليها وسلم نفسًا وروحًا وعلى سيدنا المسيح- حين {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} هل هذا ستار من الستائر أم عازل مانع؟ حتى إنها فوجئت حين تجسّد جبريل في الرسول الذي جاء لينفخ فيها كلمة الله: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} إن كنت تخشى الله، فهل كانت تلبس حجابًا وبرقعًا بالمنطق الإيراني والمنطق السعودي؟ -لا، الحجاب في القرآن شُغل النجّارين والبنّائين والحدّادين؛ لذلك خاطبوهن من وراء حجاب لأمهاتنا زوجات الرسول -عليه الصلاة والسلام»[13].

أما (الخمار) عنده فهو الثوب المسدل على جسد المرأة، وحدد المواضع بالجيوب الجسدية، وهي: ما بين النهدين والإبطين والصلبين والفخذين، ويستدل بقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}[النور: 31]. وقد ربط حاج حمد بين هذه المسألة وقضية مخاطبة موسى -عليه السلام- لكي يسلك يده في جيبه حيث الإبط، ويُعرَف أيضًا بالجناح لتماثل اليدين بجناحي الطائر من جسده، في قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[النمل: 12]، وكذلك في قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[القصص: 32].

وبهذا يستنتج حاج حمد أن الخمار لا يشمل الرقبة ولا الرأس ولا الشعر ولا الساعدين ولا الساقين، فهذه ليست جيوبًا، وهذه كلّها مواضع للوضوء تكشف عنها المرأة في (الحج والعمرة) وأمام الناس، وطلب الله في الخمار المسدل على جسد المرأة ألّا يحجب معالمها الجسدية بما يميزها كامرأة عن رجل[14] يكون قد تخفَّى بزِيِّ المرأة، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 59]. ويعتبر أبو القاسم أن «الخطأ اللغوي الشائع ما بين (الخمار) و(الحجاب) أوقعَنا في متاهات كبرى، خصوصًا حين أصَّلوا (الحِجَاج) بمنحول الحديث، فهيمنوا بالتقاليد والعُرف على نصّ القرآن، بل نسخوا القرآن بالعرف»[15].

إنّ ما قدّمه حاج حمد حول الحجاب وتأويله إلى دلالات أخرى غير الدلالة الاجتماعية والعرفية، يحتاج إلى نقاش في أسسه التأويلية ومرتكزاته المنهجية في فهم الآيات التي استدل بها؛ منها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} الواردة في [سورة الأحزاب الآية 53]، التي استنبط منها أن (الحجاب) يعني الحائط؛ حيث يوجد عند أكثر المفسرين ما يناقض هذا التأويل، ولا يمكن فهم المراد منه دون الآيات الأخرى، في قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[النور: 60]، فالحجاب في الآية يراد به تغطية الوجه، أما الجلباب فهو ما يوضع على الرأس، فإذا أُدْنِيَ سَتَر الوجه. وقيل: الجلباب ما يستر جميع البدن، وهو ما اعتبره الإمامُ القرطبي.

وأما معنى الجيوب وعلاقة ذلك بالحجاب، فقد قال الشوكاني: الجيوب جمع جيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، مأخوذ من الجوب وهو القطع. قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كنّ يسدلن خمرهنّ من خلفهنّ، وكانت جيوبهنّ من قُدّام واسعة، فكان تنكشف نحورهنّ وقلائدهنّ، فأُمِرْنَ أن يَضرِبْن مقانعهنّ على الجيوب لتستر بذلك ما كان يبدو، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق[16]. وقال سعيد بن جبير: {وَلْيَضْرِبْن}: وليشددن، {بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يعني: على النحر والصدر، فلا يُرى منه شيء، وقال ابن الجوزي: المعنى: ولْيُلْقِين مَقانِعَهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن. وقال الجلال السيوطي: أي: يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع[17].

وهذا الفهم للآية السابقة هو ما اعتمده أكثر أهل الفقه في المذاهب الأربعة؛ فمن الحنفية ذهب شمس الأئمة السرخسي إلى أن «حرمة النظر لخوف الفتنة، وخوف الفتنة في النظر إلى وجهها، وعامة محاسنها في وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء» (المبسوط 10/ 152). ومن الشافعية فإن الجويني قال -فيما نقل عنه النوويّ-: «اتفق المسلمون على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه» (روضة الطالبين 7/ 24). وقال أبو بكر بن العربي، والقرطبي -رحمهما الله- (من المالكية): «المرأة كلّها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلّا لضرورة أو لحاجة»[18].

خاتمة في أفق استئناف النظر:

استطاع حاج حمد -رحمه الله- أن يؤسّس لمنهج خاصّ به في تعاطيه مع القرآن الكريم، وقد استفاد بشكلٍ جيدٍ من المناهج الجديدة المعاصرة، وبخاصّة المدرسة الروسية الشكلانية، وإن كان لا يصرِّح بالمناهج التي يأخذ بها إلّا أنها تظهر للدارس من خلال تحليله الذي يأخذ بالأبعاد الإبستيمولوجية التفكيكية، التي حاول من خلالها -رحمه الله- الوصول إلى كُنه القرآن (المنهجي) و(المعرفي).

مما سبق نسجل خمس ملاحظات على المشروع الفكري للحاج حمد، وهي:

الأولى؛ تعدّد المناهج الموظفة في المشروع:

إنّ الدارس لفكر وكتابات محمد أبي القاسم سوف يلاحظ التعدّد المنهجي الذي يأخذ به -رحمه الله- إذ يُعمل في تحليله المنهج الإبستيمولوجي التفكيكي، ويأخذ بالمدرسة الروسية الشكلانية في التحليل اللغوي الألسني، كما أنه في بعض الأحيان تحضر لديه البنيوية الأنتربولوجية التي أصّل لها كولد ليفي ستراوش، بشكلٍ استطاع أن يفرغها من محتواها ويوظفها بشكلٍ يخدم منهجه، لكن يبقى السؤال الأساس في هذا التوظيف: هل يمكن لتعددٍ منهجي أغلبيته أجنبية وافدة جديدة ومتنوعة، لم تنبت في أرض المعرفة الإسلامية وثقافتها الخصبة أن تستنطق النصّ القرآني بما يفضي إلى الاقتراب من كُنهه وتؤدي إلى استعادة عالميته والشهود على الناس؟

الثانية: غياب المعيارية في التعاطي مع النصّ:

ما يلاحظ كذلك على حاج حمد هو: ما هي معياريته في التعامل مع النصّ القرآني؟ إِذْ يتعامل مع القرآن الكريم بانتقائية معيارية، فلم يتبع -رحمه الله- القرآن بشكلٍ كاملٍ على مستوى استخراج المحدّدات المنهجية والمعرفية التي يقول بها، ليعطي لنا منهجًا متكاملًا، وإنما في غالب الأحيان ينطلق من بعض الآيات ويعالج بها قضية معينة، ثمّ يؤسّس بها لمنهج، لكي يصل إلى القول بأنها محدّد منهجي ومعرفي كما هو الشأن في تعامله فيما أسماه بالتجربة الموسوية في التعاطي مع جدلية الغيب والإنسان والطبيعية على مستوى الإرادة النسبية، أو عند تمييز بين اصطلاحات المفاهيم (الحجاب والخمر).

الثالثة: حضور العمق الصوفي الفلسفي في التحليل:

يتّضح كذلك في كتابات حاج حمد طغيان البُعد الصوفي، ولكن صوفيته تختلف عن الصوفية العرفانية؛ لأنها تصوف فلسفي، وإن كان كثيرًا ما ينكر ذلك بل يضع فروقًا جوهرية بينه وبين الصوفية، إلا أن تعامله مع الألفاظ القرآنية وآياته يعكس حضور البُعد الصوفي لديه؛ فكثيرًا ما نجده يعطي دلالات لألفاظ القرآن ويحملها على معاني قد تصرح بها المفردات اللغوية بشكلٍ واضحٍ في سياقها أو لا تصرح بها، لكنه يمتلك قدرة وشجاعة للوصول إلى ذلك، انطلاقًا من تفاعله الذاتي الصوفي/ الفلسفي مع النصّ ليصل إلى الأبعاد الروحانية والوجدانية للمفردة القرآنية.

الرابعة: التكاملية المعرفية:

وهذه المسألة من القضايا الأساسية التي نجح فيها أبو القاسم؛ إذ مشروعه كلّه مبنيّ على هذا الأساس؛ لذلك جاء كتابه: (جدل الغيب والإنسان والطبيعة العالمية الإسلامية الثانية) يضم الغيب بما هو وحي والإنسان والطبيعة الواقع أو الكون، فسمّاها جدلًا إشارة إلى التفاعل والتكامل؛ لهذا ينظر إلى القرآن الكريم على أنه مصدر كلي للمعرفة الكونية المطلقة، باعتباره معادلًا موضوعيًّا للكون. كما ينظر إلى الإنسان باعتباره معادلَ الكون أيضًا، ويعتقد أنّ إدراك خصائص القرآن المنهجية والمعرفية تتطلّب البحث في علاقة الغيب المدروسة والمحقّقة بحركة الواقع البشري، وهو هنا يبحث في كيفية التعامل مع القرآن للكشف عن أول الطريق المنهجي المؤدي إلى التعامل الصحيح مع القرآن الكريم؛ حيث تميز بقدرته على التحليل والتتبع، ما يكشف عن عمق استيعابه وفهمه لآيات القرآن الكريم.

الخامسة: دقة المفاهيم وقوّتها في الطرح:

إنّ أبا القاسم له تعامل دقيق مع المصطلحات والمفاهيم إلى درجة يجد معها القارئ صعوبة في التعاطي والتعامل مع هذه المفاهيم التي يعطيها حاج حمد حمولته الفلسفية والفكرية، وهذا الأمر يغلب على كتاباته؛ إذ نجد لديه قدرة على توليد المفاهيم (التشيُّؤ الوظيفي، التوسطات الجدلية، منهجية التشيؤ...)، والمشكل لا يكمن في توليد المفاهيم، وإنما في استعمالها على نحو غير مطرد؛ إذ نلاحظ لديه أنه في بعض الأحيان يستعمل مفهومَين في قضية واحدة، وهذا ما يتطلب من القارئ والدارس استيعابًا لجُلّ المفاهيم التي يوظفها، مع الانتباه إلى منطق توليد المفاهيم التي يأخذ بها أبو القاسم، وهذا قد يبدو صعبًا؛ إِذْ على الكاتب أن يضع معيارًا في تعاطيه مع المفاهيم التي يوظفها في مشروعه الفكري.

 

[1] منهجية القرآن المعرفية؛ أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية، حاج حمد، محمد أبو القاسم، دار الهادي، ط1، سنة 1424هـ-2003م، ص221-222.

[2] نفسه، ص37.

[3] نفسه، ص236.

[4] نفسه، ص237-238.

[5] نفسه، ص238-241.

[6] نفسه، ص97.

[7] العالمية الإسلامية الثانية، ص52-53.

[8] المنهجية القرآنية المعرفية، ص213-214.

[9] أمية النبي، خالد محمد عبده، سباستيان غونتر، ط1، 2016م، ص37-38.

[10] لسان العرب، ابن منظور، تحقيق: عامر أحمد حيدر، دار الكتب العلمية، طبعة جديدة، سنة 2009م، (12/ 38).

[11] مفاتيح الغيب، الرازي، (19/ 200) وما بعدها.

[12] تشريعات العائلة في الإسلام، حاج حمد، دار الساقي، بيروت، ط1، سنة 2011م، ص208.

[13] مجلة ألوان مغربية، عدد مزدوج 4-5، صيف 2005م، ص5.

[14] إبستيمولوجية المعرفة الكونية إسلامية المعرفة والمنهج، محمد أبو القاسم حاج حمد، دار الهادي، ط1، 1425هـ/ 2004م، بيروت - لبنان، ص104-105.

[15] نفسه، ص104-105.

[16] فتح القدير، الشوكاني، ضبطه وصحّحه: أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، سنة 1971م، ط1، (2/ 207).

[17] نفسه، (2/ 208).

[18] انظر: أحكام القرآن (3/1578)، والجامع لأحكام القرآن (14/ 277).

الكاتب

الدكتور الحسن حما

حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، وأستاذ مشارك بجامعة محمد الخامس بالرباط - المغرب.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))