دراسة لمخطوط مصحف (نور العثمانية) برقم (17) - المكتبة السُّليمانية بإستانبول

للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بإحدى المخطوطات المحفوظة بمكتبة (نور العثمانية) بالمكتبة السُّليمانية بإستانبول، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعلمية المتعلقة بها.

  كتاب الله العظيم هو خير ما اعتنَتْ به الأمة منذ أن كان في الصدورِ إلى أن انتقل إلى السطور، مُفَرَّقًا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم جمعًا في عهد الصدِّيق، ونسخًا ونشرًا بين الأقطار في عهد ذي النورين -رضوان الله عليهما-، ثمَّ إنَّ أيدي النُّسّاخ على امتداد العهود قد أكثرت من خطِّه ونسخه، فاختلفت بين الأقلام مظاهر فنِّ كتابته، إلى أن ظهر المطبوع فظنَّ ظانٌّ أنَّ في ذلك غُنْيةً، وما دَرَى أنَّ النُّسَخَ المخطوطة كلّ واحدة منها تمثِّل وثيقةً تاريخيةً تُتَرجِم للزَّمن المكتوبة فيه، وباستقصائها تتشكّل لدينا دراسةٌ كاملةٌ لمراحل تطوُّر الخطِّ العربيِّ وفنون الكتابة وتاريخ الرَّقْم والإعجام وغير ذلك من فوائد شتَّى.

توطئة:

ولقد توزّعت النُّسَخ الخَطِّية من المصاحف على مكتبات العالم الخاصّة والعامّة حتَّى ما تكاد تخلو مكتبةٌ من نسخٍ عديدةٍ منها، وأكثرُها حِفْظًا إلى الآن ما خُطَّ في العهد العثماني، ومنها ما سنتناوله للمعالجة، نسخةٌ محفوظةٌ في إحدى المكتبات التُّركية الشَّهيرة من جوانبها المادِّية والأدبيَّة والعلميَّة.

أولًا: الجانب المادِّي:

1- بيانات الحفظ والحجم والخط:

هذه النُّسخة محفوظة في مكتبة «نور عثمانية» التي انضمَّت فيما بعد إلى المكتبة «السُّليمانية» بإستانبول تحت رقم (17). وهي نسخة مكتوبة على ثلاثمائة وخمسين ورقة، مرقمةٌ بترقيم عشري، انتهت كلُّ صفحة بتعقيبة للدّلالة على اتِّصال النَّص، في كلِّ صفحة اثنا عشر سطرًا، بمقاسٍ خارجي (370×235مم)، و(190×115مم) للمقاس الداخلي، بخَطِّ نسخٍ مُجوَّدٍ واضحٍ، تامَّةُ علاماتِ النَّقطِ والإعجام، مع وقوفات السَّجَاونديِّ المُشار إليها بالحُمرة في كامل النُّسخة.

2- الزَّخرفة والتَّذهيب:

وقد زُخرِفت الورقة الأولى منها -المكتوب عليها سورة الفاتحة والأول من البقرة- بلوحةٍ استهلاليةٍ، مُزركشة بالزَّهر، والأشكال النَّباتيَّة المُتداخلة بتيجان هندسية، على شكل إطارات تحيط بالآيات ملوَّنة بالذَّهب والزُّرقة والحُمرة، مكتوب بأعلاها بخطِّ ثُلث جليٍّ بلون أبيض على أرضية بُنيَّةٍ منقَّطة اسم السورة وبأسفلها عدد آياتها ضمن كتيبة مؤطَّرةٍ بالزَّيتي.

وفي الهوامش أشار إلى الأجزاء، والأحزاب وأنصافها، والعُشور، والخُموس، والسَّجدات داخل قلادات مذيَّلةٍ بديعةٍ، مختلفةِ الصُّور، مزركشةٍ بشكلٍ نباتيٍّ بديعٍ، ملوَّنة بالزُّرقة والذَّهب، مكتوبة بخطِّ ثلثٍ أبيض جليّ.           

وقد أُطِّرتِ الأوراقُ بإطارٍ ذهبيٍّ ثخين، وكُتبت أسماءُ السّور وعددُ آياتها على رأس كلِّ سورة بكتيبة مزخرفة بزخرفات مختلفة بين كلِّ كتيبةٍ وأخرى ملونة بالذَّهب والزُّرقة ومؤطَّرة بالحُمرة.

ورؤوسُ الآياتِ دائرةٌ مطموسةٌ مُذهّبةٌ يظهرُ منها خمسةُ خطوطٍ.

 

3- حالة النُّسخة.

ولقد تميَّزت هذه النُّسخة بأنَّها خاليةٌ عن الآفات، سليمة عمَّا يعيبها ممَّا يصيب النُّسخ القديمة عادة من تفكُّكٍ وتمزُّقٍ وأرَضَة أو رطوبة تؤثّر على حِبرها أو ورقها.

4- بيانات النَّسخ:

وقد كتبت هذه النُّسخة الشَّريفة بقلم «محمود ابن عبد الودود» أحد كتبة الدِّيوان العالي للسَّلطنة العثمانية في زمن السُّلطان مراد خان الثالث، في تاريخ يوم الأربعاء في تسع وعشرين مضَين من رجب بعد الهجرة المشرَّفة بتسع مئين وإحدى وتسعين.

 

ثانيًا: الجانب الأدبي:

1- قيمة النُّسخة:

هذه النُّسخة تعدُّ من النُّسخ القيِّمة لاعتباراتها الفنِّية؛ حيث كُتبت في دارٍ سُلطانية بيد خدمٍ سلطاني في خزانة سلطانية، فتمَّ الاعتناء بها من ناحية الزَّخرفة والخطِّ والتَّذهيب، أمَّا من ناحيتها التَّاريخيَّة فهي من النُّسخ المتأخِّرة مما كُتب في القرن العاشر.

2- الوقفيَّات والتَّمَلُّكات:

دخلت هذه النُّسخة بحيازة بعض الواقفين والمُتملِّكين من الذين يعتنون بنسخ المصاحف وغيرها، فدخلت بعد النَّسخ في خزانة السُّلطان مراد الثَّالث بن السُّلطان سليم الثَّاني[1] في السَّنة الأولى بعد العشر التَّاسع من المائة التَّاسعة من الهجرة الشَّريفة.

  وعليها وقف السُّلطان عثمان، ونصّه: «قد وقفَ هذا المصحفَ الجميل والزّبر الجليل سلطان السَّلاطين الإسلامية وآية من آيات مصاحف العثمانية، السُّلطان ابن السُّلطان، السُّلطان غياث الدين أبو المحامد عثمان خان ابن السُّلطان مصطفى خان عظّم الله شأنه الباهر، خلَّد الله ملكه الفاخر، وأنا الداعي لدولته العليَّة السَّنية الحاج إبراهيم حنيف المفتش بالحرس غفر له». يتلوه خاتم نُقِشَ بداخله اسم ناظر الوقف. وخُتِمَ بأعلاه بخاتَمِ السُّلطان وبه «الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله».

 

وعليها تملُّك الحاج محمد باشا بعد ستين ومائة وألف:

 

3- رحلة المخطوط:

ولقد انتقلت هذه النُّسخة الشَّريفة بين أيدي أصحاب الشَّرف والرُّتب العليَّة، فأُهديت بعد مَشْقِهَا إلى الخزانة السُّلطانية لحضرة الباب العالي السُّلطان مراد خان قبل ختم الألف بتسع سنين.

ثمَّ انتقلت إلى وقف السُّلطان عثمان الثالث بن مصطفى الثاني[2] الذي تربّع على العرش في ألف ومائة وثمانية وستين، ثم انتقلت إلى خزانة الصدر السابق الحاج محمد باشا في عام ألف ومائة وستين.

ثالثًا: الجانب العلمي:

1- أعداد الآي في السور:

بعد استقراء أعداد الآيات المنصوص عليها في فواتح السور من هذه النُّسخة نجد أنَّ الناسخ قد اعتمد العدَّ الكوفي، اللَّهمَّ إلَّا بعض السُّور، ومن ذلك:

  • سورة النِّساء: فعدَّها مائة وثلاثًا وسبعين آية، مخالفًا بذلك الكوفي وغيره، حيث إنها دائرة بين مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعين على خلاف بينهم، ثمَّ بعد أن عدَدْنا رؤوس الآيات المرسومة وجدناها تخالف بمجموعها ما كتب؛ حيث بلغت مائة وخمسًا وثمانين آية، واختلفت بترتيبها ومكانها عمّا هو متّفق عليه:

- عدّ البَسملة آية.

- {ألَّا تقسطوا في اليتامى} جعلها رأس آية، ووصل {ألَّا تعولوا}.

- {ومن كان غنيًا فليستعفف} جعلها رأس آية.

- {وهم كفار أولئك} جعلها رأس آية، وهو ممَّا يُستغرب.

- {بعضكم من بعض} جعلها رأس آية.

- {ويريدون أن تضلوا السبيل} جعلها رأس آية، ووصل {لوجدوا الله توابًا رحيمًا}.

- {فانفروا ثبات} جعلها رأس آية.

- {من الرجال والنساء والولدان} جعلها رأس آية.

- {إن كان للكافرين نصيب} جعلها رأس آية.

- {فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله...} رسم رأس آية، وهو غريب أيضًا.

- {ولا الملائكة المقربون} جعلها رأسًا، ووضع إشارة المطلق (ط) وهو مما يحسن الابتداء بما بعده.

- {فيعذبهم عذابًا أليمًا} جعلها رأس آية.

  • سورة المائدة: وقد خالف فيها جميع الأقوال حيث كتب على فاتحتها -ولعله سها- أنها مائتان وعشر آيات، ومجموع رؤوس الآيات أيضًا يخالف بترتيبها ومجموعها فبلغت مائة وأربعًا وعشرين آية، وهي عند الكوفي مائة وعشرون وآيتان أو ثلاث عند غيره، فاختلف بالزِّيادة والنُّقصان والتَّرتيب، ومواضعها:

- عدَّ البسملة آية.

- {فإنكم غالبون} جعلها رأس آية موافقًا البصري فقط.

- {سمَّاعون لقوم آخرين} جعلها رأس آية مخالفًا بذلك الجميع، وهي مما تشبه الفواصل وليس معدودًا بإجماع[3].

- {أعِزَّة على الكافرين} جعلها رأس آية، وأشار بعلامة (ز) إلى الوقف المجوَّز، وهي كسابقتها مما تشبه الفواصل.

- {طغيانًا وكفرًا} جعلها رأس آية.

- {وما تكتمون} وصلها وهي رأس آية.

  • سورة الأنعام: وهي مائتان وإحدى عشرة آية كما كتب في فاتحتها، وهو مخالف لعددها ولكافة الأقوال، حيث إنَّها مائة وتسع وستون بمجموعها، وخمس عند الكوفي، وستّ في البصري والشامي، وسبع في المدنيّين والمكِّي.

- عدَّ البسملة آية.

- {النور} جعلها رأس آية كما هي عند المكِّي والمدنيّين دون الباقين.

- {عليكم بوكيل} جعلها رأس آية، وهي كذلك عند الكوفي دون الباقين.

ثمَّ جعل يفعل ذلك في كثير من السور، يكتب في فاتحتها شيئًا، والأقوالُ المعتمدة شيءٌ آخر، ومجموع رؤوس الآيات عدد مخالف لما كتب، ثمَّ يتَّفق أو يختلف مع الأقوال إلا بعض السور كالكهف.

2- أسماء السور المختلفة:

اعتمد النَّاسخ في هذه النُّسخة على تسمية السّور بما اشتهرت به، إلّا بعض السّور فقد اعتمد أسماء أخرى غير المشتهرة، مثل: {المائدة} سماها {العقود}، و{فاطر} سماها {الملائكة}، و{غافر} سماها {المؤمن}، و{محمد} سماها {القتال}، و{المطففين} سماها {التطفيف}، و{الزلزلة} سماها {الزلزال}، و{المسد} سماها سورة {أبي لهب}.

3- المذكور من المدنيِّ والمكِّي في هذه النُّسخة:

في بعض السّور من هذه النُّسخة نصَّ على مدنيِّها من مكيِّها، وأهمل ذكر ذلك في باقيها، وقد خالف المشهور في بعض السور، فمن ذلك: سورة {آل عمران} حيث جعلها مكية مع أنَّ الاتِّفاق على مدنيّتها[4].

خاتمة:

وبعد النهاية من الملاحظات على هذه النُّسخة الشريفة فإنها وبالمجمل قد علت شأوًا وارتفعت عزًّا وشأنًا؛ لما قد ذكرناه آنفًا، حتى حازت أنظار الملوك والوزراء فتناولتها أيديهم بالعناية، حتى انتهت محفوظة في هذه المكتبة وقفًا، طُلبَةً للمثوبة والخير.

 

[1] السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني: هو السلطان الثاني عشر من سلاطين الدولة العثمانية، ولد عام 953هـ، وتولى الخلافة عام 982هـ. كان مهتمًّا بفنون العلم والأدب والشعر، وكان يتقن اللُّغات الثلاث: التركية والعربية والفارسية، وحاول منع الخمور إلا أن الإنكشاريين اضطروه لرفع أمره، وتوفي 1003هـ. انظر: الدولة العثمانية؛ عوامل النهوض وأسباب السقوط (1/ 292، 546)، علي محمد الصلابي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر - الطبعة الأولى، 1421هـ -2001م.

[2] السلطان عثمان الثالث (1168- 1171هـ/ 1758- 1761م): تولى الحكم وعمره 58 سنة، وبويع في جامع أبي أيوب الأنصاري، وهنّأه سفراء أوروبا، وحكم ثلاث سنوات فقط لم يحدث فيها حروب ولا نزاعات خارجية، واهتمّ بالإصلاحات الداخلية، وأصدر أوامر بمنع كلّ ما يخالف الشرع الشريف، وقضى على الثورات والانتفاضات التي قامت في أنحاء الدولة وخاصّة ثورات الأكراد، ويذكر عنه أنه كان يتحسّس أحوال الرعية ليلًا متنكرًا. انظر: الدولة العثمانية؛ عوامل النهوض وأسباب السقوط (1/ 313، 314).

[3] ينظر: «البيان في عدِّ آي القرآن» (149)، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث - الكويت، الطبعة: الأولى، 1414هـ- 1994م.

[4] ينظر: «جمال القراء وكمال الإقراء» (1/ 119) لعلم الدين السخاوي، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى، و«الإتقان في علوم القرآن» (1/ 41)، و«البيان في عدِّ آي القرآن» (143).

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))