آيات الحج والقتال؛ دلالات الاجتماع ودروس الاقتران

لا يخفى على متأملٍ لحديث القرآن عن الحج هذا الاقترانُ الواضح بين آيات الحج وآيات القتال في سورتي البقرة والحج، وهو أمرٌ لا يخلو من دلالة، ويشي بوجود علاقة ما بين الحج والقتال. وهذه المقالة تسلِّط الضوء على بعض دلالات هذا الاقتران، وتكشف طرفًا من وجوه المناسبات بين آيات الحج والقتال.

  عادت الأيامُ بعد أن قضت رحلتها في موكبِ الزمان؛ لتحمل لنا حدثَ الحج العظيم، تلكم الشعيرة التي يتوق إليها الموحِّدون، ويشتاق إليها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. فالحج ركنٌ عظيمٌ تتطلع إليه القلوب، وتهفو إليه النفوس في كلّ عام؛ رغبة في تأديته والوفاء به.

ومن عظيم شأن هذا الركن أنَّ القرآن تحدَّث عنه في آيات كثيرة، كما أنه صار اسمًا وعلَمًا لسورة كاملة من سور القرآن وهي سورة الحج، وفي ذلك دلالة لا تخفى على أهمية هذا الركن، وما له من أثرٍ كبيرٍ يمتد ليشمل حياة المسلمين جميعًا، لا مَن يذهبون لتأديته فقط.

ولا شك أنَّ اهتمام القرآن بالحديث المتتابع عن ركنِ الحج في غير ما موضعٍ حريّ بحفز الإنسان لتأمل هذا الحديث وتتبعه لاستنباط المنازع الدقيقة التي يريد القرآن لفت الأنظار إليها، وتبيّن الجوانب الخفيّة التي يرغب في تسليط الضوء عليها في هذه الفريضة الجليلة؛ لكي نُحسن استثمارها وفهم أبعادها، والوقوف على مراميها ومعرفة مغازيها على الوجه الأكمل والنحو الأمثل.

وإنّ المتأمل للخطاب القرآني عن الحج والمتتبع له بصورة عامّة تستوقفه أمورٌ عديدة ولفتات كثيرة تستدعي إطالة البيان فيها حتى تتضح، وكثرة الدراسة لها حتى تنكشف، وهو ما سنجتهد في إماطة اللثام عن شيء منه في مقالتنا هذه، حيث نسلط الضوء على إحدى أبرز الإشارات التي يمكن للمتتبع للخطاب القرآني عن الحج أن يلحظها، ونرصد ما تحويه من دروس وما تكتنزه من عبر ودلالات؛ وهي: اقتران آيات الحج بآيات القتال، فإنَّ الناظر لحديث القرآن عن الحج لا تخطئ عينه لحظ هذا الاقتران والاجتماع بين آيات الحج وآيات القتال في ذات الوقت، وكيف أن آيات القتال تقترن بصورة ظاهرة بآيات الحج؛ فتارة تتوسطها وأخرى تأتي بعدها مباشرة.

ففي بداية الحديث عن الحج في سورة البقرة، يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].

والمرء قد يتوقع هاهنا أن يتابع القرآن حديثه عن الحج ويتسلسل في معالجته له وتعليقه عليه، إلا أن سياق الآيات لا يستمر مع الحج، وإنما يتحول ليتحدث عن القتال في عددٍ من الآيات، حيث يقول القرآن بعد ذلك مباشرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِين (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 190-195].

وبعد هذه الآيات يعود القرآن مرة أخرى للحديث عن للحج، فيقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ...} [البقرة: 196]، ويستمر في متابعة الحديث عن هذا الركن في عددٍ من الآيات.

وهذا الاقتران بين آيات الحج وآيات القتال نلحظه أيضًا في سورة الحج ذاتها؛ فبعد أن تكلمت الآيات عن الحج وكيف أن الله بوّأ لإبراهيم مكان البيت وأمَره بالنداء في الناس بالحج... إلخ، تحدثت بعد ذلك مباشرة عن القتال، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 38، 40] الآيات.

علاقة الحج بالقتال:

وغير خافٍ أن هذا الاقتران والحديث عن القتال في ثنايا الحديث عن الحج أو بعده مباشرة أمرٌ لا يخلو من دلالة، وَيَشِي -بلا أدنى شك- بوجود علاقة ما بين الحج والقتال.

إنّ هذه العلاقة بين الحج والقتال تبدو ظاهرة جدًّا، لا سيما عند تأملنا للأصل الجامع بينها؛ فالمنطق الذي يقوم عليه فعْل الحج هو ذاته الذي يقوم عليه أصل فعل القتال، وهو التضحية والبذل على أصعدة كثيرة، وفي مناحٍ شتى من أجل إقامة المبدأ، وتحمّل سائر الصعاب من أجل ذلك؛ فالحاجّ لكي يؤدي فريضة الحج فإنَّ عليه أن يضحي بجزءٍ كبيرٍ من المال والوقت، وينسلخ عن العشراء، ويفارق الأهل والأحباب، ويتكبَّد الكثير من المشاقّ والصعاب إبّان سفره وفي أثناء رحلته وصولًا للمناسك وفي أثناء تأديتها، ويبتعد عن الوطن والبلد ليهاجر صوب بلادٍ أخرى لا يدري هل يعود منها ثانية أم تناله المنيّة، إلى غير ذلك من الأمور.

وذات الأمر نلحظه مع المقاتل، والذي يتوجب عليه -للقيام بمهمته- أن يفارق أهله وأحبابه ويغترب عن دياره، ويتحمّل الكثير من الأعباء، ويركب متن الخطر، ويُهدف صدره ونحره للرماح، ويجازف بنفسه في سبيل تأدية واجبه، إلى آخر تلك التضحيات التي تتشابه مع فعل الحاج بصورة بيِّنة.

إنَّ أفواج الحجيج الآتية من كلّ حدب وصوب لِتقيم نسك الحج تشارك أفواج المقاتلين في مطلق التضحية الكبيرة للرسالة، والصبر والعزم على بلوغ الهدف وتحمل المشاقِّ في سبيل تحصيله مهما بلغت قوتها واشتدت وطأتها؛ ولذا نلحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل عبادة الحج بديلًا عن الجهاد في حقّ النساء؛ فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها قالت: «يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكنَّ أفضل الجهاد حج مبرور»[1].

إنَّ العلاقة قوية جدًّا بين الحج والقتال، ومن ثَمَّ كان الربط بينهما يكتنز في طياته دلالات عديدة وإشارات كثيرة يمكن أن تفيد بصورة ظاهرة في تغيير نظرتنا لركنِ الحج، وتفعيل هذا الركن في حياتنا على نحوٍ أرشد، وهو ما نبينه في السطور التالية.

الربط القرآني بين الحج والقتال؛ إشارات ودلالات:

إنَّ ربط القرآن بين الحج والقتال يذكِّرنا بصورة رئيسة بهذا الجانب المهمّ في الحج، والذي كثيرًا ما نغفل عنه وننساه، وكيف أنّ الحج يمثّل صورة عظيمة جدًّا للتضحية الكبيرة وسبيلًا ومهيعًا بالغ السعة للبذل المتعدد في سبيل ما يعتقده المرء ويؤمن به؛ ذلك أن صورة التضحية قائمة أشدّ ما يكون القيام في القتال والذي هو ربما أعلى ما يرد في خواطرنا عن صور التضحية في سبيل المبدأ؛ ومن ثَمَّ فإن إدراجها والتذكير بها في وسط آي الحج أو بعدها يُعين بلا شك على تذكّر مشهد التضحية والبذل كذلك في سبيل القضية والمبدأ في ركنِ الحج والاهتمام بلحظه وإدراكه، وهو الأمر الذي لو تأملناه حقّ تأمله لوجدنا الحج بهذه الصورة بمثابة تدريبٍ عظيمٍ للأمة والمجتمع على التضحية في سبيل رسالتها، وهو أمرٌ لا تخفى أهميته في سبيل حفظ الدين والعمل على توطيد دعائمه وترسيخ أركانه في مختلف الميادين.

إنّ أداء الحج يستلزم تضحية وبذلًا وجهدًا كبيرًا كما مرَّ، وهو ما يوطِّد شعور التضحية عند الحاجّ بشكلٍ عامّ ويركزه في أعماقه ليحيا به بقية حياته، ويستأنف به ما بقي من رحلته في الحياة. ولا يتوقف هذا الأمر وتجديد حسّ الجندية والتضحية لخدمة الرسالة عند الحجيج فحسب؛ بل إنه أمر يتعلق بالعالم الإسلامي بأسره، فالحجّ حدثٌ عامٌّ يشغل سائر البلاد كما نعلم؛ ولذا فإن مجرد رؤية المسلمين ممن لم يشاركوا في الحج لهذه الجموع الغفيرة القادمة من كلّ حدب وصوب والتي تضحي بكلّ ما نعلمه من تضحيات لإقامة أحد أركان الدين يعدُّ داعية كبيرة لتذكيرهم وحفز الشعور بوجوب التضحية لنصرة الرسالة في نفوسهم وحثّهم على المشاركة في ذلك والانخراط فيه، كلٌّ بحسب ما أوتي من وسائل وأسباب، وما تيسّر له من إمكانات وطاقات.

إنَّ الحج بهذه المثابة مدرسة كبيرة تُعين على صناعة المجتمع والإنسان الذي يحيا لدينه، وينفعل برسالته، ويجاهد من أجل إقامتها، ويبذل في سبيل رفعتها الغالي والثمين، ويجود من أجل ازدهارها بالنفس والنفيس، إنه مختبرٌ كبيرٌ لتفريخ الشعور بالمسؤولية عن الرسالة في نفوس المسلمين وبثّ ضرورة حمل همّها في عقولهم وقلوبهم، إنه أداة عظيمة لحفز الهمّة في القلوب ودفعها نحو فعلٍ وحركةٍ تنعكس بالإيجاب على خدمة الرسالة ونفعها.

ولا شك أنّ توطيد الحج لحسّ التضحية في نفوس المسلمين بهذه الصورة يبيِّن لنا إلى أي مدى يُمكن لهذا الركن أن يكون أداة عظيمة في تحريك المجتمع بأسره نحو النهوض برسالته، وذلك من خلال ما يبثه في الأفراد من رغبة صادقة في التضحية والبذل لخدمة ما يعتقدون، وكذا ما يستثيره في نفوسهم من كونهم أجنادًا حقيقيين لما يؤمنون به، وكيف أنّ عليهم أن يكونوا حرّاسًا له وسدنة لقِيَمِه وخُدّامًا لوصاياه وتعاليمه.

إنّ المبدأ لكي يحيا وتنداح دائرته، والقضية لكي تستمر ويتسع مداها فلا بد لمعتنقيها أن يكونوا في رباطٍ دائمٍ وجهدٍ دائبٍ لخدمتها ونصرتها في مختلف الميادين وشتى الساحات، وهو ما لا يتيسر إلا بالحفز الدائم لحسّ التضحية في النفوس من أجل إعلاء هذه القضية وذلكم المبدأ؛ ولذا فإنّ الحج عبر ما يثيره في النفوس وما يؤججه في الصدور من مشاعرِ ضرورة التضحية في سبيل الرسالة فإنه يكون بذلك أداة فاعلة وناجعة ومؤثرة بصورة مذهلة في الدفع الدائم بالمجتمع نحو النهوض برسالته والسعي لرفعتها.

إنّ الإنسان كثيرًا ما يَنْشَغِلُ بواقعه وهمومه الخاصّة ويذهل عن مسؤوليته عن الرسالة التي ينتمي إليها وما تحتاجه من بذلٍ كبيرٍ وتضحيةٍ عظيمةٍ حتى تقام بين العالمين وتعلو رايتها في دنيا الناس، فيأتي الحج بذلك التصوّر لينتشله من وهدته وينبهه من غفوته ويذكره بضرورة تجديد الارتباط بالرسالة والحياة في سبيلها عبر ما يستثيره في النفوس من رغبة في التضحية من أجلها وحبّ في تقديم عمل نافع من أجل نصرتها ورفع لوائها.

وغير خاف أن توليد الحج لهذا الشعور وتصنيعه لحسّ الجندية في نفوس المسلمين وحفزهم نحو خدمة رسالتهم ومبادئهم أمرٌ شديد الأهمية وله انعكاسات كبيرة على واقعهم لو أُحسن استثماره والتنبّه له، والدعوة إليه والتوعية به، والتخطيط للإفادة منه عبر بيان الآفاق التي يمكن أن تتوجه إليها الجهود، ورسم الخطط والمسارات التي تفضي إلى تكاملها واستمرارها ونضجها وتطوّرها.

وجدير بالنظر أن تَغَيُّر طرائق السفر الحالية عن صورتها في الزمن الماضي وقدر الراحة والرفاهية التي يحظى بها الحاجّ في رحلته ربما كان لها بالغُ الأثر في فقد إحساسنا بجانب التضحية في ركنِ الحج، والتي كانت قديمًا قد تَصِلُ حرفيًّا للتضحية بالنفس ذاتها في ضوء مشقّات السفر في الصحاري والقفار والتعرض لقطاع الطرق وغير ذلك، إلا أنه وبالرغم من ذلك فإن الحج يظلُّ فعله حاويًا لمشقات وصعاب ومستلزمًا لتضحيات مادية ومعنوية تجاوز المألوف في الحياة، كما أنه يبقى على كلّ حالٍ حاملًا للمعنى الأعمق للتضحية، والذي يتمثل في قطع العلائق مع كثيرٍ من المتع والمباحات المعتادة والخروج عن نسق الحياة وأعرافها التي يستغرق فيها الإنسان ويعتادها بوجه عامٍّ.

إنّ هذا الحديث القرآني العجيب عن آيات القتال في أثناء الحديث عن الحج يذكِّرنا بهذا المعنى وحسّ الجندية والتضحية في سبيل الرسالة وإقامتها الذي يجب أن يحدِثه الحج في نفوسنا؛ فالحج بالنسبة للحاجّ ليس رحلة أو نزهة يقطعُ فيها المسافات ليروّح عن نفسه ثم يعود منها ليقصّ على الناس أقاصيصها وما رآه فيها، ولكنها صقل للذات وتجديد لارتباطها بالرسالة وتدريب لها على الجندية في سبيل نصرة رسالتها، كما أنَّ الحج بالنسبة لعموم المسلمين ليس مجرد مشهد يتابعونه كغيره من الأحداث ثم ينفضّ سوقه وينتهي أمره، ولكنه انفعال وتأمل وتذكر لِكَمٍّ هائل من التضحيات المبذولة في سبيل خدمة الرسالة وإقامة أركانها وسؤال للذات عن دورها في تلك الخدمة وما يمكن أن تقدمه في هذا الباب.

إنّ إشارة القرآن للقتال في ثنايا الحديث عن الحج تفتح لنا آفاقًا عظيمة للنظر لركنِ الحج، وتطرح لنا أبعادًا غاية في العمق لفهمه وفهم الدوافع التي تكمن خلفه والدور العظيم الذي يمكن أن يؤديه في تربية المجتمعات المسلمة والنهوض بها نحو واقع أفضل، وكيف أنه يعيد إخراج الإنسان من شرنقته وخندقه وعالمه الخاصّ ليدفع به نحو الشأن العام والرسالة الكبيرة التي ينتمي إليها مع جموع المسلمين، والتي يجب أن تنال حظًّا من جهده وقدرًا من طاقاته في سبيل خدمتها كالذي يبذله في سبيل خاصة نفسه وأسرته أو يزيد، وغير ذلك من الأمور التي يمكن لحظها لمن أنعم النظر في مقارنة الحج بالقتال، وحاول تتبع وجوه العلاقات الكامنة بينهما.

وهذه لعمري إشارات عظيمة لو أحسنَّا فهمها وتدبرها ومعايشتها لكان لنا مع هذا الركن العظيم شأن آخر، ولكان له في حياتنا ومجتمعاتنا عظيم الأثر والبركة، وهو ما يعود بنا إلى القرآن الكريم وضرورة تتبُّع خطاباته عن الشعائر الإسلامية وأهمية تحليله؛ حتى ننفض عن أكتافنا غبار الفهم الخاطئ لها والمقزّم لأبعادها، ونفتح أعيننا على التبصر بآفاقها الواسعة التي رسمها القرآن ونبني أفهامنا لها في ضوء ذلك؛ ومن ثَمَّ نحسن تجديد الدعوة إليها في الواقع، ونتمكن من جني ثمراتها في نفوسنا، وحسن الإفادة من بركاتها ونفعها في إصلاح المجتمع والخطو به إلى العلياء والدفع به نحو الخير والرشاد، لا سيما وأن المجتمع يرتبط أشد الارتباط بهذه الشعائر ويؤديها ليل نهار وصباح مساء؛ ولذا فإن تجديد معانيها ومضامينها في النفوس وتكبير مرآة النظر إليها وفتح الأذهان على طاقاتها الخلاقة وإمكاناتها المذهلة في النهوض بالمجتمع -في ضوء ما نلتقطه من مثل هذه الإشارات القرآنية وغير ذلك- هو تجديدٌ عظيمٌ للدين وتفعيلٌ كبيرٌ لآثاره في النفوس وإحياءٌ ضخمٌ للمجتمع بأسره، والذي يمكن الخطو إليه بسهولة ويسر؛ كونه لا يتأتى عبر تنظير مجرد يستعصي هضمه على شرائح عديدة، وإنما يمرّ من خلال بوابة الطقوس والشعائر والممارسات التعبدية التي لا ينفك عنها كلّ مسلم.

 

[1] رواه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور.

الكاتب

خليل محمود اليماني

باحث في الدراسات القرآنية، عضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر، له عدد من الكتابات والبحوث المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))