مقاصد الحج في ضوء القرآن الكريم

الكاتب : محمد الخولي
فريضة الحج هي أحد أركان الإسلام، وقد أشار القرآن إلى عددٍ من مقاصد هذه العبادة العظيمة، والتي متى تأملها المتدبّر للقرآن أثمرت في قلبه تعظيمًا وحضورًا، وهذه المقالة تلقي ضوءًا على بعض هذه المقاصد التي أشارت إليها آيات القرآن الكريم.

  تحنُّ القلوبُ وتهفو النفوسُ في كلّ عامٍ في مثل هذه الأوقات إلى حجّ بيت الله العتيق، ويتمنى كلُّ مسلم أن ينال شرف هذه الزيارة، طمعًا في المغفرة، وتلبيةً لنداء إبراهيم -عليه السلام- الذي أمره الله -سبحانه- بتبليغه للناس كافّة، فقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[سورة الحج: 27].

وتُعدّ فريضة الحجّ ركنًا من أعظم أركان الإسلام، وأعلاها منزلة، ودليل ذلك أن الله -سبحانه- تحدّث عن الحج في أكثر من موضع من كتابه العزيز، حيث وردَ ذِكر الحج في: (سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة المائدة، وسورة التوبة، وسورة الحج)، وهي السورة الوحيد التي سميت باسم ركن من أركان الإسلام، وقد فصّل سبحانه في القرآن الحديث عن أعمال الحج ما لم يفصل في غيره من العبادات، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على عناية الله بهذا الركن ومكانته الكبيرة عنده سبحانه. كما يقول ابن عاشور -رحمه الله-: «وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة، إِذْ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها»[1].

والمتدبّر لحديث القرآن عن الحج يلمس عددًا من المقاصد والأسرار التي ينبغي أن يتوقف معها المسلم -لا سيما الحاجّ- ويضعها في عين الاعتبار؛ لأن فهم مقاصد العبادة وأسرارها وحِكمها يساعد بشكلٍ كبيرٍ في تعظيمها وحضور القلب عند القيام بها، وممّا أضعف أثر الحج في نفوس بعض المسلمين هو الانشغال كثيرًا بالجانب الفقهي لأدائها، وعدم الانتباه والتدبر في الجانب المقاصدي لهذه الفريضة العظيمة. فهيا بنا أيها القارئ الكريم نتعرّف على بعض مقاصد الحج في ضوء حديث القرآن الكريم عنه[2].

المقصد الأول: تحقيق التوحيد والإخلاص لله عز وجل:

فالله -عز وجل- لم يأمر إبراهيم -عليه السلام- ببناء البيت إلّا لتحقيق توحيده سبحانه، وذلك يظهر جليًّا من اقتران الأمر ببناء البيت بالنهي عن الشرك والتخلّص من مظاهره، حيث قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج: 26].

وأمّا عن تحقيق الإخلاص فهو أعظم ثمرات التوحيد، وقد نبّه الله -عز وجل- عباده لضرورة تحقيقه في الحج فقال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196].

يقول الشيخ القاسمي -رحمـه الله- في تفسير هذه الآية: «أي: أدّوهما تامَّين بمناسكهما المشروعة لوجه الله تعالى»[3].

ونقل الراغب عن الإمام الشافعي قوله: «وإنما قال في الحج والعمرة {لله} ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة؛ من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى الأصنام، فخصهما بالذّكر لله تعالى حثًّا على الإخلاص فيهما ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور»[4].

ويوصي الإمام الغزالي -رحمـه الله- الحاج بالإخلاص ويحذِّره من الرياء وطلب السمعة، فيقول: «ليجعل عزمه خالصًا لوجه الله -سبحانه- بعيدًا عن شوائب الرياء والسمعة، وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص، وإنّ مِن أفحش الفواحش أنْ يقصد بيت الله وحرمه والمقصود غيره، فليصحّح مع نفسه العزم وتصحيحه بإخلاصه، وإخلاصه باجتناب كلّ ما فيه رياء وسمعة، فليحذَر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير»[5].

المقصد الثاني: تحقيق معنى العبودية والانقياد لله سبحانه:

وهذا يظهر بوضوح عند استجابة الحاج للقيام بهذه الفريضة وارتداء لباس الإحرام والطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة، فهو يقوم بهذا الأعمال منقادًا لأمر الله -عز وجل- ومتأسيًا برسول الله -صلى الله عليه وسلـم- وإن غابت عنه الحكم والمقاصد من القيام بهذا الأفعال إلّا أنه لم يغب عنه أنه عبد منقاد لأمر سيده.

يقول الإمام الغزالي -رحمـه الله- عن أعمال الحج: «بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرِّق والعبودية، فإنّ الزكاة إرفاقٌ ووجهه مفهوم وللعقل إليه مَيل، والصوم كسرٌ للشهوة التي هي آلة عدوّ الله وتفرّغ للعبادة بالكفّ عن الشواغل، والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله -عز وجل- بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أُنْس بتعظيم الله عز وجل؛ فأمّا ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظَّ للنفوس ولا أُنس فيها، ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها باعثٌ إلا الأمر المجرد، وقَصْد الامتثال للأمر من حيث إنه أمرٌ واجبُ الاتِّباع فقط، وفيه عزلٌ للعقل عن تصرّفه، وصرف النفس والطبع عن محل أُنسه؛ فإنّ كلّ ما أدرك العقل معناه مالَ الطبع إليه ميلًا ما، فيكون ذلك الميل مُعِينًا للأمر وباعثًا معه على الفعل، فلا يكاد يظهر به كمال الرِّق والانقياد، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- في الحج على الخصوص: (لبَّيك بحَجَّةٍ حقًّا؛ تعبُّدًا ورِقًّا)، ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها»[6].

المقصد الثالث: تنقية النفس من الأخلاق المذمومة:

فقد نهى اللهُ -سبحانه- الحاج عن الفحش والسباب واللغو والجدال والمماراة، فقال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}[البقرة: 197].

وذلك تعظيمًا لفريضة الحج من جهة، وليعتاد المسلم على الابتعاد عن مثل هذه الأخلاق المذمومة بعد الحج من جهة أخرى؛ لأنها مذمومة في كلّ زمان ومكان.

يقول الشيخ السعدي: «يجب أن تعظّموا الإحرام بالحج، وتصونوه عن كلّ ما يفسده أو ينقصه، من الرفث وهو: الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصًا عند النساء بحضرتهن، والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشرّ وتُوقِع العداوة، والمقصود من الحج الذلّ والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات؛ فإنه بذلك يكون مبرورًا، والمبرور ليس له جزاء إلّا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كلّ مكان وزمان، فإنها يتغلّظ المنع عنها في الحج»[7].

المقصد الرابع: التنبيه على أهمية الاستعداد للآخرة:

فقد نبّه سبحانه الحاج الذي يتزود عند سفره بما يكفيه من زاد الدنيا ليصل إلى وجهته سالمًا ألّا ينسى التزوّد للدار الآخرة، وخير ما يتزود به في سفره للدار الآخرة تقواه سبحانه، وذلك بفعل الطاعات واجتناب المعاصي والسيئات، حيث قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197].

يقول ابن القيم -رحمه الله-: «أمر الحاج بأن يتزودوا لسفرهم، ولا يسافروا بغير زاد، ثم نبههم على زاد سفر الآخرة، وهو التقوى، فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه، فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلّا بزاد من التقوى، فجمع بين الزادَين»[8].

المقصد الخامس: الحثّ على تعظيم شعائر الله سبحانه:

فشعائر الله هي أعلام دينه الظاهرة وأوامره ونواهيه التي تعبدنا بها، وتعظيم هذه الشعائر علامة على قرب العبد من ربه، ودليل ساطع على تقواه، وهي مقصد عظيم من مقاصد الحج؛ فالمسلم عندما يعتاد على تعظيم شعائر الله المتمثلة في أعمال الحج من الطواف والوقوف بعرفة ورمي الجمار وذبح الهدي وغيرها، فإنّ ذلك يربي في نفسه تعظيم أوامر الله وتقواه في كلّ وقت؛ لذلك قال الله -سبحانه- في ذيل الحديث عن أعمال الحج: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج: 32].

المقصد السادس: الموازنة بين المصالح الدنيوية والأخروية:

فالموازنة بين المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية من محاسن الإسلام ومقاصده، وذلك يظهر جليًّا في كثير من الشرائع والعبادات ومن ذلك عبادة الحج، فقد أباح الله -سبحانه- للحاجّ أن يجمع بين أداء المناسك وبين التجارة والتكسّب، بشرط أن لا تؤثِّر على المقصد الأصلي ألَا وهو العبادة، فقال -عز وجل-: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة: 198]، وقال أيضًا: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}[الحج: 28].

يقول السعدي -رحمه الله-: «أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسّب في مواسم الحج وغيره، ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالًا منسوبًا إلى فضل الله، لا منسوبًا إلى حذق العبد، والوقوف مع السبب، ونسيان المسبِّب، فإنّ هذا هو الحرج بعينه»[9].

المقصد السابع: ربط قلب المسلم بذكر الله:

فالذكر مِن أحبّ العبادات إلي الله -سبحانه- وأعظمها أجرًا، وقد ربط الله به كثيرًا من العبادات ومن أبرزها عبادة الحج، ويظهر ذلك واضحًا في ربط القرآن الحديث عن مناسك الحج بذكر الله في كثير من المواضع، حيث قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}[البقرة: 198-200].

وقال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}[الحج: 27، 28].

يقول ابن القيم عن الذِّكر: «بل هو رُوح الحج ولبُّه ومقصوده، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلـم-: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»[10].

فمن اعتاد على ذكر الله في الطواف، وفي السعي، وعند رمي الجمار، وعند الوقوف بعرفة، وعند ذبح الهدي، وفي المشاهد جميعًا فمن الصعب عليه أن يجفّ لسانه عنه بعد الحج، وقد ذاق حلاوة الذِّكْر وتعلّق قلبه بالمذكور سبحانه.

المقصد الثامن: التأكيد على روح المساواة بين الناس:

فالإسلام دين المساواة وهذا يظهر واضحًا في اجتماع الناس للصلاة واجتماعهم للحج حيث يقف الغني بجوار الفقير والعربي بجوار العجمي في صعيد واحد بثياب واحدة بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، فقد قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة: 199].

يقول صاحب (الظلال) في تفسير هذه الآية: «قِفُوا معهم حيث وَقَفوا، وانصرِفوا معهم حيث انصرَفوا، إنّ الإسلام لا يعرف نَسبًا، ولا يعرف طبقةً، إنّ الناس كلّهم أمة واحدة، سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ولقد كلَّفهم الإسلام أن يتجرّدوا في الحج من كلّ ما يميزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت الله إخوانًا متساوِين، فلا يتجرّدوا من الثياب ليتخايلوا بالأنساب، ودعوا عنكم عصبية الجاهلية، وادخلوا في صبغة الإسلام، هكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج، على أساس من التصوّر الذي هدى البشرية إليه، أساس المساواة، وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة، ولا يفرقها جنس، ولا تفرقها لغة، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعًا، وهكذا يردُّهم إلى استغفار الله من كلّ ما يخالف عن هذا التصوّر النظيف الرفيع»[11].

ومن ذلك أيضًا أنه سبحانه أمرهم بالانشغال بذكر الله عن التفاخر بالآباء والأجداد، فقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}[البقرة: 200].

يقول الإمام الطبري -رحمه الله-: «قال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره، وأن يلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره، نظير ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم»[12].

المقصد التاسع: تربية المسلم على الدقّة والانضباط:

وذلك يظهر بتحديد المواقيت الزمانية والمكانية للحج، فالمواقيت الزمانية هي الأشهُر التي حدّدها الله -سبحانه- للذهاب للحج، كما وَقَّت سبحانه وقتًا محددًا للوقوف بعرفة، إذا تجاوزه الحاج بطل حجه، ووقتًا لرمي الجمار، فقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}[البقرة: 197].

يقول الشيخ السعدي: «يخبر تعالى أن الحج واقع في أشهر معلومات عند المخاطبين، مشهورات، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس، وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم، التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم، والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبًا»[13].

أما عن المواقيت المكانية فهي الأماكن التي حددها النبي -صلى الله عليه وسلم- للإحرام، فإذا مرّ بها الحاج يُشرع له أن يرتدي ملابس الإحرام ويمنع من بعض الأشياء التي كانت مباحة قبل الإحرام.

وهذه المواقيت الزمانية والمكانية بمثابة التدريب العملي للمسلم على الدقة والانضباط في جميع أموره بعد الحج.

المقصد العاشر: التأكيد على وحدة الأمة واجتماعها:

فمن مقاصد الحج التأكيد على وحدة الأمة وتماسكها وإحياء معنى الأخوة الإيمانية وهذه من أعظم المنافع التي يجنيها الحاج من موسم الحج، حيث إن اجتماع الأمة بهذه الأعداد الكبيرة مع اختلاف أشكالهم ولغاتهم على توحيد الله وعبادته يترك مردودًا نفسيًّا واجتماعيًّا كبيرًا في قلوب أهل الإيمان إلى جانب الأثر العظيم الذي يتركه في قلوب أعداء الإسلام، ولذلك أمر الله الأمة بالاجتماع على دينه فقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103].

يقول الشيخ السعدي: «أمرهم تعالى بما يُعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإنّ في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم، وبالاجتماع يتمكنون من كلّ أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدّها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختلّ نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كلّ واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدّى إلى الضرر العامّ»[14].

ولا شك أنّ الأمة تعيش حالات من التفكّك والتمزق، لكن مثل هذا النسك يُعيد للأمة وحدتها واعتبارها ويبعث روح الأخوة الإيمانية من جديد كلّ عام، حتى لا ينشغل المسلم بهمومه وبمشكلاته الخاصّة عن هموم الأمة ومشكلاتها وقضاياها الكبرى.

وختامًا أيها القارئ الكريم: هذه بعض المقاصد والأسرار التي أَطْلع اللهُ عليها بعض عباده حول هذه الفريضة العظيمة، وتبقى حكمة الله وأسرار عباداته ومقاصدها بحرًا واسعًا يكشف الله منها ما يشاء ويحجب منها ما يشاء، وفي جميع الأحوال ينبغي أن يظلّ العبد متلبسًا بالعبودية سواء عرف الحكمة أم حُجِبَت عنه؛ لأنه يعبد إلهًا حكيمًا لا يأمر بشيء إلّا وفيه حكمة، ولا ينهى عن شيء إلّا بحكمة.

نسأل الله -سبحانه- أن ييسر لنا الحج والعمرة، وألا يحرمنا زيارة بيته الكريم، وما أحرانا بتدبر هذه المقاصد حتى إن لم يُيسَّر لنا الحج، وصلِّ اللهم وسلّم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

[1]التحرير والتنوير: (2/ 231).

[2] لا يخفى ما ابتُلي العالمُ به هذا العام من انتشار فيروس كورونا، والذي امتدّ أثره إلى شعيرة الحج، ولعل في هذا الأمر دافعًا لنا لشكر نعمة الله -عز وجل- في تيسير هذه الشعيرة من قبل، وللمبادرة إليها حال العافية. نسأل الله أن ييسّر لحجّاج البيت هذا العام، وأن يصرف عنهم السوء.

[3] محاسن التأويل للقاسمي: (2/ 63).

[4] تفسير الراغب الأصفهاني: (1/ 412).

[5] إحياء علوم الدين: (1/ 267).

[6] إحياء علوم الدين: (1/ 266).

[7] تفسير السعدي: (91).

[8] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان: (1/ 58).

[9] تفسير السعدي: (92).

[10] مدارج السالكين: (2/ 399).

[11] في ظلال القرآن: (200).

[12] تفسير الطبري: (4/ 196).

[13] تفسير السعدي: (91).

[14] تفسير السعدي: (ص: 142).

الكاتب

محمد الخولي

باحث دكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وكاتب ومحرر محتوى في عدد من المواقع الإسلامية والدعوية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))