القرآن الكريم
أثره في التغيير، مفاهيم في تدبُّره، سبل معايشته في رمضان

ضيف الحوار : أحمد عبد المنعم
كان للقرآن الكريم عظيمُ الأثر في تغيير النفوس، وقد أمر اللهُ بتدبُّره والعمل به، وهذا الحوار مع د/ أحمد عبد المنعم يدور فيه الحديث حول أثر القرآن في التغيير، وعدد من المفاهيم في تدبُّره، ومعالجة لبعض الإشكالات المتعلقة به، وكيفية معايشته في شهر رمضان.

  أنزل اللهُ -عزَّ وجلَّ- القرآنَ هدًى للناس، وشفاءً لما في الصدور، وَأَمَرَ عباده المؤمنين بتدبُّره والعمل بما فيه، ورغَّبهم في ذلك بذِكْر ما يترتّب عليه من فلاحٍ في الدنيا والآخرة، كما حذَّرهم من الإعراض عنه، وأخبرهم في أكثر من موضع عن أثر هذا القرآن العزيز في تزكية النفوس وتغييرها.

ويأتي حوارنا مع د. أحمد عبد المنعم -المشرف العام على موقع «إنه القرآن»- في استقبالنا لشهر رمضان المبارك حول أثر القرآن في تغيير النفوس، وبعض القضايا حول تدبُّره والإشكالات المتعلقة بذلك، وكذلك بعض الجوانب المهمّة في معايشة القرآن في رمضان، وضيف الحوار مدرس بكلية الطب - جامعة المنصورة بمصر، ومعروف باهتمامه بقضايا تدبُّر القرآن، وله عدد من المحاضرات والمساقات العلميّة والفعاليات المتنوعة في هذا الجانب.

وقد جاء هذا الحوار على أربعة محاور؛ المحور الأول حول أثر القرآن في تغيير المسلم؛ حيث دار الحديث فيه حول أهم ملامح هذا التغيير الذي أحدثه القرآنُ في نفوس الصحابة -رضي الله عنهم-، وأثر تواجد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم في هذا التغيير، ومدى إمكان حدوث هذا التغيير في الأزمنة اللاحقة، والعوائق دون الوصول لهذه الغاية.

ثم جاء المحور الثاني حول: مفاهيم في تدبُّر القرآن؛ حيث دار الحديث في هذا المحور حول مفهوم التدبُّر، ومساحات الاتفاق والافتراق بينه وبين التفسير، وهل يختصّ بطائفة من الناس، مع بعض التوجيهات في آليات التدبّر وكيفية تحقيقه.

ثم كان موضوع المحور الثالث حول معايشة القرآن الكريم في شهر رمضان؛ حيث دار فيه الحديث حول اختصاص شهر رمضان بالقرآن، وكيفية انتفاع المسلم بالقرآن في هذا الشهر، سواء مَنْ كان قريبًا من القرآن في عَامِهِ مصاحبًا له، ومَن كان بعيدًا هاجرًا للقرآن خلال العام.

كما كان للظرف الاستثنائي الذي يمرُّ به العالم هذا العام 1441هـ/ 2020م من الظروف التي تسبَّبَ فيها انتشار فيروس كورونا، وما أدَّى به إلى عدم إمكان عقد الجماعات في المساجد في كثير من بلاد العالم =حضورٌ في هذا المحور، حيث تعرَّض لكيفية اغتنام الشهر الكريم في هذه الظروف، خاصّة في العلاقة مع القرآن.

ثم كان المحور الرابع والأخير في أسئلة متفرقة، كان الحديث فيها حول مشروع «إنه القرآن» الذي يُشرف عليه ضيف الحوار، والتعريف به وبأهم أنشطته، وكذلك طرح بعض الموضوعات البحثيّة حول التدبُّر، مع بعض النصائح العامّة النافعة في العلاقة بالقرآن التي توجّه بها الضيف.

نصّ الحوار

المحور الأول: أثر القرآن في تغيير المسلم:

س1: يمثِّل القرآن الكريم المعجزةَ الكبرى للنبي محمد صلوات الله عليه وسلامه، وعَبْر هذا القرآن استطاع النبيُّ صلى الله عليه وسلم -كما هو معلوم- أن يُحْدِث حركةَ تغييرٍ كبرى، وأن ينتقل بصحابته ومجتمعه من حالٍ إلى حال آخر. فلو تُطَوِّفون بنا حول أهم ملامح هذا التغيير وأبرزها من وجهة نظركم.

د/ أحمد عبد المنعم:

الحقيقة؛ إن قضية التغيير قضية معقّدة، وذلك لأن الإنسان نفسه كائن معقَّد، وأبعاد جوانب النفس الإنسانية وتحليلاتها كثيرة ومتغيِّرة وعميقة[1]، وهذا التعقيد ممَّا يجعل تغيير الإنسان نفسه أمرًا معقَّدًا.

والإنسان لديه احتياجات، منها ما هو حسيّ وما هو معنوي، وفي كلٍّ منهما يحتاج الإنسان إلى غذاء يسدُّ هذا الاحتياج، والقرآن الكريم كما أنه قد أُنْزِل شفاءً ونورًا وهدًى وبصائرَ للناس؛ فقد أُنزل سدًّا لاحتياج الإنسان، ولذلك كان تغييره للإنسان عجيبًا وغريبًا وفريدًا.

إنّ القرآن لم يغيِّر في جانب واحد من الإنسان أو بعض الجوانب المحدودة، سواء على مستوى الجوانب السلوكية أو الإيمانية أو غيرها؛ بل كان تغييره شاملًا وجذريًّا؛ لأن القرآن خاطب الإنسان بكلِّه، ولم يخاطب جزءًا واحدًا أو جانبًا مفردًا فيه.

لقد قدّم القرآنُ قضايا كثيرة، ولكن من أهمِّها -في نظري- أنه قدّمَ نظَّارةً جديدةً نرى بها الحياة، وقدّم معجمًا وقاموسًا جديدًا لكثير من المصطلحات والمفاهيم؛ قام القرآنُ بتغييرٍ وتصحيحٍ للتصوّرات الكليَّة للحياة؛ وهذه هي النظَّارة، وأعاد تعريف كثير من المفاهيم من حولنا؛ وهذا هو القاموس أو المعجم الجديد.

وإذا انتقلنا للكلام عن صحابة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فإنّ القرآن قد صحَّح نظرتهم الكليَّة للحياة، صحّح نظرتهم للكون؛ للسماء والأرض والبشر، وصحّح نظرتهم للحياة من حولهم، وقدّم لهم رؤية كليّة جديدة، وكسر حواجز الزمان والمكان، فحدّثهم عن لحظات عجيبة؛ فحدّثهم عن لحظة نفخ الروح، وكلّمهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود: 7]، إلى غير ذلك من اللحظات القديمة والجديدة، الماضية والمستقبلية.

وقد طاف بهم القرآن في المستقبل الدنيويّ والأخرويّ، ودخل بهم في تفاصيل الجنة والنار، وبصّرهم بندم المشركين السابقين، وأراهم صرخات الهالكين في الجحيم، وأشار إلى قدرة الله في كلّ شيء، وإلى عبودية الكائنات، إلى غير ذلك مما طاف بهم القرآن حوله، وقدَّم لهم فيه الرؤية الجديدة.

وكما أنه قد قدّم نظرة كليّة للحياة؛ فقد أعاد تعريفَ كثيرٍ من المصطلحات والمفاهيم؛ فكلّمهم عن الإيمان، وأعاد تعريفه، وتعريف الكفر والفسق، وكلّمهم عن الربّ والعبد، وحدّثهم عن الفوز والسعادة، والرُّشد والسَّفه، والعلم والجهل، والحكمة والضلال، وقدّم تعريفات خاصّة به لهذه المصطلحات والمفاهيم.

فإذا تأملنا سنجد أنّ القرآن قد أعطى لكلّ شيء حجمه الطبيعي، فرأى الصحابةُ -بعد قراءتهم القرآن- البشرَ كلَّ البشر مِنْ عَلَق، ضعفاء لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، وأيقنوا بقدرة الله المطلقة، وعلِموا حقارة الدنيا، واستعدُّوا للدار الآخرة، فغيّر في نظرة الصحابة للحياة قبل أن يُغَيِّر في جوانبهم السلوكية.

والناظر للحياة بنظَّارة القرآن يراها مختلفة تمامًا، ومن نُزعت منه هذه النظارة، أو خلعها، أو امتنع منها، أو أعرض عنها؛ فَقَدَ الأوصاف التي جاءت في القرآن؛ ففَقَدَ النورَ، وفَقَدَ الروحَ، وفَقَدَ البصائر والبيِّنات، والهدى والشفاء والتفصيل؛ ولك أن تتخيّل متى نظر الإنسان إلى الحياة بغير هذه الأوصاف كيف يكون حاله!

وحال الناس قبل نزول القرآن إنما يُعرف بتصوُّر نزع هذه النظَّارة التي احتوت على كلّ هذه الأوصاف، والتي متى نُزِعت لن ترى إلا عالمًا ماديًّا حاله أشبه بحال الأنعام.

س2: ربما يقول قائلٌ: إنَّ اعتبارَ هذا التغيير الحادث في جيل الصحابة ناشئًا عن القرآن فيه نوعٌ من التكلُّف أو التعسُّف؛ باعتبار أنّ القرآنَ كتابٌ دينيٌّ يُتعبَّد بتلاوته وتُقام به بعض الشعائر التعبديَّة المحضة كالصلوات ونحو ذلك، أما اعتبار أنَّ كلامًا -وإن كان مقدَّسًا- له مثل هذا الأثر البالغ فقد يكون فيه شيء من المبالغة، لا سيما وأن التغيير لا يُفَسَّر بعامل أحادي؛ وإنما تكون له جملة أسباب متضافرة. فما تعليقكم على ذلك؟

د/ أحمد عبد المنعم:

هذا سؤال جيد، وأبدأ -أولًا- من نهاية السؤال: «لا سيما وأن التغيير لا يُفسَّر بعامل أحادي».

نعم؛ القرآن ليس العامل الأوحد، ولكنه هو العامل الرئيس، والدليل على ذلك: أن كثيرًا من العوامل كانت موجودة قبل نزول الوحي، ولكن العالم تغيّر وتغيَّرت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحياة أصحابه في لحظة فارقة، هي لحظة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: 1]، والتي كانت لحظة محوريَّة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- أولًا، فكان قبلها هو الصادق الأمين الذي ينعزل الليالي ذوات العدد في الغار، فانتقل من وصف الصادق الأمين إلى وصفه أنه رسول الله، أي حامل هذه الرسالة الخاتمة التي جاءته من الله -سبحانه وتعالى- إلى البشرية، وكانت أيضًا لحظة محوريَّة في حياة الصحابة، فكانوا قبلها مجموعة من البشر لا تختلف حياتهم عن الحياة التي يعيشها الجاهليُّون في ذلك الزمان، ثم حدث هذا التغيير فصاروا أئمة للإيمان والهدى، وبذلُوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله -عز وجل-، ووضعوا مساوئ الجاهلية تحت أقدامهم، وصاروا سادات للدنيا.

كذلك أيضًا فإنَّ هذا القرآن نزل من عند الله -تبارك وتعالى- الذي خلق الإنسان، ويعلم طبيعته واحتياجاته، ولهذا الأمر أعظم الأثر في تأثير القرآن في الإنسان.

وأضرب لذلك مثالًا يقرِّب تصوُّرَ هذا الأمر من واقع تخصّصي الطبيِّ: عندما يبحث العلماء المتخصِّصون عن الدواء المناسب لعلاج مرضٍ ما؛ فإنهم يبحثون في الجسد عن مستقبِلٍ حسّيٍّ يرتبط به الدواء، فإذا نجح الدواء في الارتباط بهذا المستقبِل ارتباطًا جيدًا؛ كان لهذا الدواء أثره الجيد في علاج المرض، وعلى قدر معرفتهم بهذا المستقبِل وضبطهم للدواء ليرتبط به =يكون الأثر الناتج الفعَّال لهذا الدواء.

ولله المثل الأعلى، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}؟!

أنزل الله -سبحانه وتعالى- هذا الكلام خِصِّيصًا للإنسان، فنزل القرآنُ ليهديَه ويغيّره ويبصّره، ولمَّا كان الله تعالى هو العليم بالإنسان واحتياجاته؛ فقد حقَّقَ القرآنُ هذا الأثر لمن استجاب له، ولمن دار معه حيث دار، فكان تغييرُ القرآن يختلف عن أي كلام آخر.

والذي يريد أن يقارن بين أيّ تغيير لأي كلام وبين تغيير القرآن؛ فلينظر إلى كلام الفلاسفة وأثره على أتباعهم، ولينظر إلى كلام القرآن وأثره على أتباعه، فإنّ القرآن نزل مشتبِكًا مع الواقع، ونزل ليغيِّر في المشاعر العميقة التي تدفع الإنسانَ للعمل، ولم يكن مجرد كلامٍ يُتلى، بل هو الذي دفع الصحابة لأن يسكبوا الخمر، ويتركوا الأرض، ويبذلوا النفس، ويهجروا مضاجعهم، وتتورّم أقدامهم، ويقوموا ويستغفروا لذنوبهم، فتمثَّل فيهم الوصفُ الذي ذكره الله -سبحانه وتعالى- في أثر هذا القرآن: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}[الأنعام: 122]، فتلقَّوا هذا النور، ومشوا به في الناس، وتحرَّكوا به في شتّى مناحي حياتهم.

ولا شكَّ أن هذا الأمر يطول شرحه، وقد أوجزتُ فيه بما يناسب المقام، وللاستفاضة فيه يمكن مراجعة محاضرة منشورة بعنوان: «مميزات الخطاب القرآني»[2].

س3: هل لوجود النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مع الصحابة ومعايشة الصحابة لسياقات نزول القرآن أثر في عمق استشعارهم للنصّ القرآني وانفعالهم به، وبالتالي تغيُّرهم به؟ وهل ثمة أثر لافتقاد مَن تلا عصر الصحابة لمثل هذه الظروف التي تهيَّأت للصحابة على وجه الخصوص في حُسْن الاتصال بالقرآن والانفعال به؟

د/ أحمد عبد المنعم:

هذا السؤال جميل، ومتعلِّق بالسؤال الذي قبله، مسألة: هل لوجود -النبي صلى الله عليه وسلم- مع الصحابة أثر؟ نعم؛ بلا شك، لأن هناك قاعدة: "إنَّ الفكرة المطبَّقة أعظم أثرًا من الفكرة المجرَّدة وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أول مَن طبَّق القرآن، فكان القرآنُ خُلُقَه وزادَه، بل كان يحزن -صلى الله عليه وسلم- لفتور الوحي عنه، وكان الصحابة يرون التطبيق العملي للقرآن، وكان لذلك أثر عظيم في استفادتهم من كتاب الله تعالى، ثم حاولوا إكمال هذا الأمر مِن بعده -صلى الله عليه وسلم-، فكان القرآنُ مطبَّقًا واقعيًّا على الأرض.

لذلك من الأحاديث العجيبة والجميلة، ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يَأْتِي على النَّاسِ زَمَانٌ، فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النّاسِ، فيقولون: فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون: نعم، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ»[3]، فانظر في هذا الحديث كيف حدث ربط بين الفتح والمصاحبة التي كان لها أثر في التطبيق والواقع التغييري للقرآن في حياتهم.

ونحن حينما افتقدنا هذا التطبيق العملي من بعد عصور الصحابة والتابعين، وقلَّ هذا الأمر مع تأخُّر الزمان؛ تناقصَ أثرُ القرآن والانفعالُ به في النفوس، لأنّ الإنسان -كما ذكرت- يتأثّر بالكلام المطبَّق أكثر من تأثّره بالكلام المجرَّد.

س4: هناك سؤال عام ومشتهر يكثر ترداده دومًا في مسألة التغيُّر بالقرآن والتأثُّر به، وهو أن القرآن الكريم ما دام محفوظًا كما أخبر الله تعالى، وكذلك ما دام هو المؤثِّر الفاعل في نفوس الصحابة؛ فلماذا لا يقع له مثل هذا الأثر في نفوس كثيرٍ من المسلمين، رغم وحدة المؤثِّر وعدم تغيُّره؟ ثم هل وقوع مثل هذا التغيير ممكنٌ في مثل هذه الأزمنة المتأخّرة التي لابسها الكثير من التغييرات الجوهرية التي لم تكن في أزمنة سالفة؟

د/ أحمد عبد المنعم:

أبدأ من الفقرة الأخيرة من السؤال: «هل وقوع مثل هذا التغيير ممكنٌ؟» فأقول: نعم -إن شاء الله-، وإلا فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- أراد أن يحفظ هذا الدّين، وهذا الحفظ إما بأن يُبْقِيَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أو أن يَحْفَظَ لنا الوحي، فاختار الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة أن يحفظ لها الوحي.

والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا بلَّغ الوحي وما أنزله الله إليه، وبيّنه ووضّحه وطبّقه؛ توفاه الله -تبارك وتعالى-، وقد أخبره الله -سبحانه وتعالى- بذلك فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر: 30]، ولكنَّ اللهَ -سبحانه وتعالى- طمأننا بشأن حفظ الوحي، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، فأبقى اللهُ لنا هذا المنهج وحثَّنا على تطبيقه، وحفظُ المناهج كفيلٌ ببقائها في الحياة.

وفي ختام سورة البروج بعد أن ذكر اللهُ -عز وجل- قصةَ أصحاب الأخدود وما وقع من تقتيل أولئك الظَّلَمة لعباد الله المؤمنين وتحريقهم أخبرنا أنّ قتل المؤمنين لن يؤثِّرَ في بقاء المنهج؛ لأن هذا الوحي محفوظ، فقال -تبارك وتعالى-: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21، 22]فهذا القرآن محفوظ، وحفظُ القرآن كفيلٌ أن يُخرج لنا رجالًا يطبّقون هذا المنهج.

وقد قال اللهُ لنبيه في سورة الفرقان: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا}[الفرقان: 50]، قيل: صرّفناه، أي المطر أو القرآن، ثم قال الله -تبارك وتعالى-: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}[الفرقان: 51]، فعلى القول بأن المُصَّرف هو المطر، فالمعنى: أنه لو شئنا لأرسلنا النذير في كلّ مكان كما نرسل المطر ويصل المطر في كلّ مكان، إذًا كيف يتصرّف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في نشر هذا الدين؟ كيف يستطيع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- المكلَّف بهذه الرسالة العالمية كما جاء في أول السورة{تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان: 1] أن يصل إلى العالمين؟ أخبره الله -عز وجل- عن الطريقة، فقال: {فلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان: 52]، أي: أن يجاهدهم بهذا القرآن؛ فإنّ هذا القرآن يستطيع بفضل الله أن يصنع كثيرًا من النماذج التي تحمل همّ هذا الدِّين، وهذا الصنع لن يتوقّف إلى يوم القيامة.

ولكن القضية ليست في: هل يستطيع القرآن ذلك أم لا؟ بل القضية: هل نتفاعل نحن أم لا؟ هل نتلقى نحن القرآن بطريقة صحيحة أم لا؟ نحن أشبه بمَن وجد الكنز أو وجد الخريطة، لكنه لا يُحسن استعمالها، فاللهُ -عز وجل- قد حفظ لنا الوحي، ولكنَّنا قد لا نُحسن التعامل معه.

وحقيقةً؛ فإنّ التعامل مع القرآن يحتاج إلى وقت ومجهود، ويحتاج إلى حبٍّ وإقبال[4]، ولا يتحقَّق التغيير -كما قد يريد البعض- دون بذل الجهد، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من أهل القرآن.

س5: يطرح كثيرٌ من الدعاة للجماهير وَصْفات شتّى للتأثّر بالقرآن والانفعال به، ويأتي ذلك كما لو كان الأمر أشبه بوصفة طبيّة يمكنها أن تأتي بنتائجها بمجرّد أن يلتزمها المرء، فما تقييمكم لهذه التعدُّدية والطريقة التي تُطرح بها؟ لا سيما وأن البعض يصاب بالإحباط جرّاء عدم ظهور النتائج رغم الالتزام بهذه الوصفات.

د/ أحمد عبد المنعم:

الذي أراه أن هذه التعدُّدِيَّة تُقدّم -في المجمل- شيئًا إيجابيًّا، وهذا من جانبَيْن:

الأول: أنّ الثراء في التنوُّع يؤدِّي إلى تجديد التصوّرات وتطويرها وتنقيحها وتصحيحها، فتأتي وصفةٌ بنقدِ أخرى سابقة أو إثرائها أو تجديدها أو تنقيحها أو الإضافة إليها.

والثاني: أن التعدُّدية تُقَدِّم لنا نماذج مختلفة تناسب أنواعًا مختلفة من الناس، فليس كلُّ الناس بنفس العقول أو الاهتمامات أو لهم نفس الوقت، ولما كان القرآن قد نزل للجميع فهذه التعدُّدية تأتي بأثرٍ إيجابي في إفادة أنواع كثيرة من الناس.

لكنّ الإحباط الذي يحدث من خلال التعامل مع هذه الوصفات عادةً ما يرجع إلى خطأ؛ إمَّا في طريقة الوصفة ذاتها، وإمَّا في طريقة التعامل معها، وهناك بعض الإشكاليات في التعامل مع هذه الوصفات، وأذكر منها اثنتين على سبيل التمثيل:

الإشكالية الأولى: التعامل مع هذه الوصفات باعتبارها وصفات توقيفيَّة، فربَّما يُتعامل معها على أنَّها أشبه بلغزٍ إن جرى على خطواتِ حلِّه انفكّ اللّغز، ووجد نفسه فجأةً قد شعر بالقرآن!

ويحسن التنبُّه هنا إلى أن ثمَّة أشياء منصوص عليها في القرآن والسنّة تساعدنا في تعاملنا مع القرآن، وثمَّة ما هو زائد على ذلك من الأفكار والمقترحات، وأرى أنَّ هناك أشياء ثلاثة جاء النصُّ عليها في التعامل مع الوحي بعد الآيات الكثيرة في أهمية الاستماع والإنصات ونحوهما:

أولًا: أهمية التعلّم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»[5].

ثانيًا: أهمية المدارسة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ...» الحديث[6].

ثالثًا: أهمية قيام الليل بالقرآن: قال الله -عزَّ وجل-: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمّل: 6].

فهذه الثلاثة: التعلّم، والمدارسة، والقيام؛ منصوصٌ عليها، وهناك بعض الوصفات الزائدة والأفكار الجميلة...إلخ، هي من المقترحات والإضافات، والتعامل معها بصورة توقيفيَّة قد يؤدي إلى نوع من الانتظار المتحقَّق للأثر المباشر.

الإشكالية الثانية: استعجال الثمرة، فهذه الوصفات أو المقترحات ليست زِرًّا يضغط عليه الإنسان فتُغيِّر فيه؛ بل طريق التعامل مع القرآن هو طريق يسيرُ فيه الإنسان وينبغي عليه فيه ألَّا يتعجَّل ثمرته.

هذه الوصفات هي اجتهادات يقوم بها بعض الناس، فيقدِّمون هذه الخبرة لغيرهم، والتعامل معها دون استحضار قلبٍ، أو دون تركيز، أو دون مجاهدةٍ، أو باعتقاد أنَّها ملعقة دواء سيشربها الإنسان ثم يُفاجأ أنَّ القرآن يسري في دمه =تعاملٌ خاطئٌ، لا يستقيم مع كتاب الله تعالى، فإن هذا القرآن نزل ثقيلًا: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلًا}[المزمّل: 5]، ولا بد من بذل مجهودٍ في التعامل مع هذا القول الثقيل والانفعال به.

ثم ما كان من هذه الوصفات ناشئًا عن أُناسٍ مرتبطين حقًّا بكتاب الله -سبحانه وتعالى- خاصّةً، كما نسمع وصفة أو طريقة من د. فريد الأنصاري -رحمه الله- على سبيل المثال، وهو رجلٌ له أثرٌ قرآني كبير =فلا بد متى طبَّقنا هذه الوصفة ثم لم نجد أثرًا في حياتنا أن ننظر في المعوِّقات التي منعتنا، ولعلَّنا لم نقدِّم المجهود المطلوب، أو لم نستحضر القلب، أو لم نَسِرْ في الطريق حقّ السير، ولكننا تعجَّلنا الثمرة.

المحور الثاني: مفاهيم في تدبُّر القرآن:

س6: أنزل اللهُ كتابَه وأمَر بتدبّره في غير ما موضع، وهناك حالة من الاهتمام بقضية التدبُّر في الوقت المعاصر، فما هو التدبُّر، وما هي رؤيتكم في تعريفه؟

د/ أحمد عبد المنعم:

التدبُّر -كما تفضلتم- هو أمرٌ مطلوبٌ حثَّنَا الله -سبحانه وتعالى- عليه، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ}[ص: ٢٧-٢٩]، بل جاء العتاب على تركه، فقال -سبحانه وتعالى-: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}[النساء: 82، محمد: 24]، في موضعين من القرآن.

ثم ننتقل إلى الكلام عن التدبُّر، والحقيقة أن النقاش في قضية التدبّر نقاش طويل جدًّا؛ وتنوّعت الأقوال التي كُتِبَت في هذه المسألة تحريرًا وضبطًا وتفسيرًا لهذه الكلمة، سواء من المتقدّمين أو المتأخّرين أو المعاصِرين، وكُتِبَ فيها الكثير في ثنايا كلام المفسّرين في تفسير الآيات التي تناولت كلمة التدبر، أو ما أُفْرِدَ فيها من قِبَلِ المعاصرين، سواء كتبوا في علوم القرآن، أو أفردوا فيها؛ ككتاب: «قواعد التدبُّر الأمثل» لحبنَّكة الميداني، و«مفهوم التدبر» لمحمد زيلعي هندي، و«مبادئ التدبّر» للدكتور المُطيري، وغيرهم كثير ممَّن كتب في هذا المجال، وقد تنوّعت عباراتهم في مفهوم التدبّر: هل هو التَّفهم، أم التأمّل، أم إعمال العقل، أم غير ذلك؟

لكنني -حقيقةً- أرى ببساطة أن التدبّر هو: «ألَّا يخرج الإنسانُ من الآية كما دخل فيها»، أو كما قالت أمُّنا عائشة -رضي الله عنها- حينما سُئلت عمَّن يقرأ القرآن مرّة أو مرتين في ليلة: «أُولَئِكَ قَرَءُوا، وَلَمْ يَقْرَءُوا»[7].

فالمقصد: ألا يقرأ الإنسان الآية ويخرج منها صِفرًا، وألا نكون قيعان كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نمسك ماءً ولا ننبت كلأً[8]، وإلا فإذا حدث ذلك كان علامةً على وجود القفل الذي أخبرَ الله -تعالى- عنه فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: 24].

والتدبّر أيضًا: أن يُعْمِلَ الإنسان عقله وقلبه في الآية. لماذا قلنا: عقله وقلبه؟ لأننا عند النظر في الآيتين اللتين جاء فيهما العتاب على ترك التدبّر نجد في الآية الأولى في سورة النساء: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء: 82]، فالأمر هنا بالتدبّر أعقبه -سبحانه وتعالى- أن لو كان تدبرٌ لعلموا أنه من عند الله تعالى؛ إذ لو كان من كلام غيره -سبحانه وتعالى- لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، وهذا الأمر يحتاج إلى عقل حتى يكتشف الإنسان إعجاز القرآن، وأن كلام البشر لا يقارب كلام ربّ البشر.

أما في الآية الثانية في سورة محمد، قال ربنا سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: 24]، فهذا متعلِّق بالقلب.

فبالتالي هذه عملية عقلية قلبيّة يدخل الإنسان فيها إلى الآية بكلّ عقله وكلّ قلبه، ويستعمل كلَّ الأدوات التي يمتلكها للتعامل مع الآية، فإذا أحسن الإنسان استعمال كلّ الأدوات والمعلومات والمشاعر فحينئذٍ يخرج منها بالثمرة، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ}[ص: 29]؛ فالذين أعملوا قلوبهم وعقولهم في الآية يخرجون بثمرة التذكُّر والاعتبار، وبالتالي يكون التدبّر عند كلّ إنسان بحسب الأدوات التي يمتلكها ويفعِّلها في قراءته للآيات.

س7: يعرض هنا سؤال مهم: هل الأمر بتدبُّر القرآن خاصّ بالعلماء أو المتخصِّصين أو طلَّاب العلم المشتغلين بالقرآن وعلومه، أم أن دائرته أوسع من ذلك؟

د/ أحمد عبد المنعم:

دائرة التدبُّر واسعةٌ جدًّا، بل هي تَسَعُ العالَم، فالقرآن نزل بدعوة للعالم أجمع، لينهلَ من هذا النور وهذا الشفاء، ويستفيد من هذه البصائر والبيّنات.

فالتدبر جسرٌ يدخل العالَم من خلاله إلى داخل الآية، ويحاول أن يصاحبها، ثم يكون مِن أهلها ويتخلَّق بها، وقد قال ربنا -سبحانه وتعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان: 1]، فالقرآن رسالة عالمية، بل إنّ الآيات التي نزلت بالعتاب على عدم التدبّر جاءت في سياق خطاب المشركين والمنافقين، فهذه الآيات جاءت تخاطب -أصالةً- غير المؤمنين، فكيف نقول إنَّ التدبر خاصٌّ بطائفة معيّنة أو بطلاب العلم المشتغلين بالقرآن؟! بل دائرة التدبّر أوسع من ذلك بكثير، وإلا حَرَمْنا كثيرًا من البشر من هذا النور العظيم وهذا الروح الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى- على عبده محمد -صلى الله عليه وسلم-.

س8: إذا كان الأمر كذلك؛ فكيف يُفهم المنع من الكلام في كتاب اللهِ بغير علم والذي وردت به نصوص القرآن والسنّة وأقوال أهل العلم؟ وكيف يُطَالَب عموم المسلمين بالتدبُّر في ضوء ذلك؟

د/ أحمد عبد المنعم:

هذا سؤال جيّد يفتح مسألة مهمّة جدًّا، وهي: حدود التدبّر، ويعالج قضيةً في غاية الأهمية وهي: هل هذا النصّ الذي نزل مفتوح، وبالتالي يكون نصًّا سائلًا يتصرَّف فيه البشر كما يريدون، أم أن هناك ضوابط تضبط هذا النصّ؟

والإجابة: أن هذا النصّ له ضوابط وله قيود وله قواعد للتعامل معه، ولكن حتى نربط هذه القضية بقضية التدبّر، نحتاج أن نفرِّق بين التفسير والتدبُّر، وهي مسألة طويلة أيضًا تكلّم فيها الكثير، فالتفسير عملية خاصّة يقوم بها أهل العلم بامتلاك أدوات خاصّة، أما التدبّر فهو مفتوح للجميع، ونُمثِّل بمثال حتى نبيِّن هذه القضية ببساطة:

تخيَّل أنَّنا طالبْنا أعجميًّا بتدبّر نصٍّ من كتاب الله -سبحانه وتعالى-، وقلنا له: هذا نصٌّ مقدَّس، غيَّرَ في كثيرٍ من البشر، وأعطاهم النور والوصايا والبيِّنات؛ فنطلب منك أن تتدبّر هذا النصّ لتتغير كما تغيَّروا، وإلا كان العيب فيك.

لا شك أنّ جواب الرجل سيكون: أنا لا أفقه هذا النصّ، فأريد أن تبيِّنوا لي معاني كلماته، ثم دلالات تراكيبه. وكلّما سأل هذا الرجل الأعجمي وأجبناه امتلك من الأدوات ما يستطيع به أن يتدبَّر هذا النصّ.

إذًا فالتدبّر يأتي فرعًا على العلم بالآيات، وكلما كان الإنسانُ صاحبَ علم بالآيات استطاع أن يتدبّر أكثر في كتاب الله تعالى.

ولكن هنا نقطة مهمّة؛ قد يقول البعض: ولكننا نرى بعض عوام الناس قد يُفتح عليه في تدبّر القرآن ما لم يُفتح على بعض طلبة العلم. وهنا نؤكّد على القضية التي ذكرناها في البداية: كما أن التدبّر عملية عقلية وهي تحتاج إلى امتلاك هذه الأدوات، فهو أيضًا عملية قلبية؛ فقد يُفتح للإنسان على قدر مشاعره تجاه هذه الآية، وعلى قدر احتياجه واحتياج قلبه إليها، وربما يكون صاحب علم محدود فيها، وفهمه للآية يقتصر على بعض معاني كلماتها ومعرفة مجمل معناها، ثم يُفْتَح عليه في تدبُّر هذه الآية والانتفاع بها، وكثير من آي القرآن لا تحتاج إلى تفسير وقد يُكتفى فيها بالمعنى الإجمالي العام خاصّة لمن كان عربيًّا.

لكن إذا أراد الإنسان أن يستنبط من هذه الآية عقيدةً أو وفقهًا، وأن ينزِّلها على واقعِه وواقع الأمة الإسلامية؛ فإنّ هذا يحتاج إلى امتلاك الأدوات، من خلال فهم الآثار الواردة في الآية وأسباب النزول، ويكون عنده علم باللغة وامتلاك هذه الأدوات كلّها، فكلّما امتلك هذه الأدوات فُتِحَ له في العملية العقليّة لفهم كتاب الله -تعالى-، كما يُفتح عليه أيضًا في العملية القلبيّة.

س9: كيف يستفيد عموم المسلمين من كتب التفسير للتعرُّف على معاني القرآن قبل تدبّرهم، خاصّة مع صعوبة لغة كثير من هذه الكتب، وكونها كُتبت بلغة فيها نوع من الاختصاص؟ وهل هناك مِن مقترح للمسلم غير المتخصّص في علوم الشريعة في كيفية الاستفادة من كتب التفسير التي تُعينه على معرفة معاني القرآن بسهولة؟

د/ أحمد عبد المنعم:

هذا السؤال يُعَدُّ فرعًا عن السؤال السابق؛ فإذا فرَّقنا بين التدبّر والتفسير، وذكرنا أن التدبّر يحتاج إلى خطوة سابقة من فهم الآية، فهنا يَسأل الإنسان: كيف أفهم الآية حتى أمارس عملية التدبُّر بانضباط؟

فنقول: أول خطوة في بدء فهم الآية أن يفهم الإنسان مفردات الآية، فيبدأ في معرفة غريب القرآن، ويصطحب في فترة من حياته مصحفًا على هامشه معاني الكلمات، وينظر فيها كلّما طالعته مفردة لا يعرف معناها.

ثم المرحلة الثانية: أن يفهم المعنى الإجمالي للآية، وهناك كتب مبسَّطة تحقِّق هذا الغرض؛ كالتفسير الميسر -الصادر عن مجمع الملك فهد-، أو المختصر في تفسير القرآن الكريم -الصادر عن مركز تفسير للدراسات القرآنية-، أو أيسر التفاسير للشيخ أبي بكر الجزائري، ثم إذا أراد أن يصعد قليلًا وكانت له بعض الحصيلة الشرعية يقرأ تفسير الشيخ السعدي، وهذه التفاسير المعاصرة كُتبت بلغة أقرب إلى الواقع وتصلح للجميع، أما كتب المتقدّمين فتحتاج إلى مرحلة من العلم الشرعي -كلّ كتاب بحسبه- حتى يفقه الإنسان كلامهم.

وكذلك مما يفيد في هذه المرحلة أن يتابع دروس بعض المعاصرين في التفسير ممَّن يراعون تقريب تفسير القرآن للعامّة وربطه بالواقع، وهذا يكون أعون على الفهم.

وبعد هذه المراحل من معرفة معاني المفردات الغريبة في الآية، ثم المعنى الإجمالي؛ يمكن للقارئ الارتقاء إلى أحد مختصرات تفسير ابن كثير؛ ليطالع آثار السلف وكلامهم المبارك، وما جاء زائدًا على المعنى الإجمالي كبعض ما جاء في أسباب النزول، مما يجعل الإنسان يعايش واقع نزول الآيات، ويتعمَّق في فهمه للقرآن.

س10: هناك كثير من المواد العلمية المقروءة والمسموعة حول تدبُّر القرآن، والتي تلقى إقبالًا من المحبّين للقرآن الكريم والراغبين في تدبُّره، ولكن يشكو الكثيرون بعد الاطلاع عليها أنهم لم يستطيعوا أن يفعِّلوا ما قرأوه أو تعلَّموه، وأن يعايشوا آيات القرآن الكريم، فكيف يُمكن الانتقال من التعرُّف على تدبُّر القرآن والكلام عنه إلى الولوج فيه ومعايشته على الحقيقة؟

د/ أحمد عبد المنعم:

هذه المقترحات التي قد تُقال للإنسان من القراءة في بعض التفاسير أو مشاهدة بعض الدروس قد يخرج منها الإنسان ويظنّ أنه قد ارتبط بالقرآن، ثم يُفاجأ أنه لم يصل إلى الدرجة التي كان يحلم بها أو كان يرجوها في علاقته بكتاب الله -سبحانه وتعالى-، وقد تكلَّمنا على ذلك في إجابة سؤال عن قضية التغيير، وأن هذا التعامل مع القرآن ليس تعاملًا شكليًّا بتطبيق بعض الأشياء أو الضغط على زرٍّ، فيصل الإنسان إلى حالة معيّنة، ولكن الأمر يحتاج إلى مجاهدة وإلى بَذْلٍ من الوقت.

وأزيد هنا أيضًا أن الإنسان يحتاج إلى أن يُطيل القيام بالقرآن، وأن يقرأ أيضًا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، فإنّ هذه الكتب تفتح له آفاقًا؛ لأنّ هذه السيرة هي الواقع العملي التي نزل عليها القرآن وغيَّر فيها.

كذلك أيضًا من المهم أن ينتقل الإنسان من القراءة والسماع "عن القرآن" إلى القراءة والسماع "في القرآن"؛ فهناك كثير من الكتب والدروس تتحدّث عن القرآن وأهميته، ودور هذه الكتب والدروس هو تحقيق التشويق، فإذا حقَّق الإنسان هذا التشويق فلينتقل إلى التطبيق.

ولا شكَّ أنّ القراءة والسماع في مثل ذلك مهم جدًّا، لكنه إذا زاد عن حدِّه ولم يُتبعه الإنسان بشيء من التطبيق فقد يصل إلى حالة من التشبُّع، ثم بعد ذلك إلى حالة من الزُّهد، ويتحوَّل الأمر عنده إلى مجرد كلام، لذا فلا بد أن ينتقل الأمر عنده إلى القراءة في القرآن، وأن يعطي القرآن وقتًا، وأن يقرأ في التفاسير ويسمع الدروس التي تتحدّث في شرح الآيات نفسها، ولا يقتصر على الكتب والدروس التي تتحدّث عن القرآن.

المحور الثالث: رمضان والقرآن:

س11: لشهر رمضان خصوصية بالقرآن العظيم، ما يجعله يمثِّل فرصة عظيمة في حُسْن الإقبال على القرآن. كيف ترون علاقة هذا الشهر بالقرآن؟ وأثر هذه العلاقة على حُسْن اتصال المسلم بالقرآن بصفة عامّة وتغيّره به؟

د/ أحمد عبد المنعم:

الارتباط بين هذا الشهر والقرآن ليس اجتهادًا أو استنباطًا من العلماء أو رؤية لبعض الدعاة؛ ولكن هذا الارتباط نصَّ اللهُ -سبحانه وتعالى- عليه حينما أراد أن يُعَرِّفَ شهر رمضان، فقال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة: 185]، {الَّذِي} هذا الاسم الموصول جاء ليُعرِّفَ لنا الشهر؛ {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.

وذكر ربُّنا -سبحانه وتعالى- أن القرآن نزل في ليلة خاصّة من ليالي هذا الشهر، وقد رُفِع به قدرُ هذه الليلة، وكلُّ ما ارتبط بالقرآن ارتفع، قال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: 1].

وكما أن العلاقة بين هذا الشهر والقرآن ليست اجتهادًا من أحد؛ فكذلك الإقبال على الارتباط بالقرآن في هذا الشهر ليس استنباطًا من أحد؛ بل كان ذلك فعل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فكان جبريل يأتيه ويدارسه القرآن، وكان أثر هذه المدارسة يظهر عليه -صلى الله عليه وسلم- كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النّاسِ، وكان أَجْوَدُ ما يكون في رمضان حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكان يَلْقَاهُ في كُلِّ ليلةٍ من رمضان فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»[9]، وكذلك كان السلف يتركون كلّ شيء ويُقبِلون على القرآن في رمضان.

ثم ننتقل بعد ذلك إلى الكلام عن العلاقة بين المسلم والقرآن في هذا الشهر الكريم، وهذه العلاقة علاقة عجيبة، وحتى يتبيّن هذا الأمر نحتاج أن ننظر نظرة إلى حياة الإنسان؛ نظرة مصغَّرة في يومه وليلته، ثم نظرة كليّة في عامِه:

أما النظرة المصغَّرة: فإنّ يوم الإنسان يبدأ من الليل، فإذا استطاع الإنسان في ليله -وقت الظلام والهدوء والسكينة- أن يرتبط بالقرآن في قيام الليل؛ رزقه اللهُ من خلال هذا القرآن الزاد والنور، فإذا جاء النهار تحرَّك بهذا النور بين الناس، وقد قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان: 63-64]، فقرن بين مشيهم في الأرض وبياتهم في الليل سجَّدًا وقيامًا.

أما النظرة الكليَّة: فهي للعام كلِّه، فإذا نظرنا وجدنا أن العام عند الإنسان يبدأ من رمضان، فيدخل الإنسان في رمضان في حالة من الخَلوة والسكون، ومن هذه الخَلوة الاعتكاف الذي سنَّه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خاصّة في رمضان، وكذا كانت الخلوة من شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل نزول الوحي في غار حراء، وكذا ظلّ موسى -عليه السلام- بعيدًا عن الناس قبل نزول التوراة أربعين ليلة، وهذه الخلوة تُعين الإنسان على تلقي آيات القرآن.

فإذا نجح في رمضان أن يتلقى هذا الوحي، وكذا أن يعتكف ليتلقَّى؛ فإنه ينطلق في نهاره -نهار العام- ليطبِّق ما تلقَّاه، والذي يبدأ في أشهر الحج التي تعقب رمضان، لتمثّل بداية نهار الإنسان الذي يتحرك فيه بما استضاء به من نور القرآن في رمضان، حتى يأتي شهر شعبان في نهاية هذا العام، والذي تُرفع فيه أعمال العام إلى الله -عز وجل-، كما ورد في الحديث[10].

إذًا فعلاقة المسلم بهذا الشهر هي علاقة استضاءة واستبصار وعكوف على تلقي هذا النور؛ حتى ينطلق بعد رمضان مستبصِرًا بما تزوّد به من نور القرآن في رمضان.

س12: مع قدوم شهر رمضان وإقبال المسلمين على كتاب الله -عز وجل- يحتاج الفرد إلى خطة عامَّة لتعامله مع القرآن الكريم، خاصّة مع ورود بعض الإشكالات المتعلّقة بقراءة القرآن في شهر رمضان كلّ عام، نحو: أجدُني أقرأ ولا أفهم، فهل يتحقَّق انتفاعي بالقرآن؟ هل أُكثر الختمات أم أعتني بالتدبّر خاصّة؟ هل لمعايشة القرآن في هذا الشهر أعمال أخرى سوى قراءته وسماعه في الصلوات؟ فما توجيهكم بشأن ذلك؟

د/ أحمد عبد المنعم:

هذا سؤال يتكرَّر كثيرًا في هذا الشهر بعد ما يُقال للناس: استغلوا هذا الشهر في علاقتكم بالقرآن، وبعد ما يسمع الناسُ كثيرًا عن أهمية الارتباط بالقرآن في هذا الشهر.

وإجابة هذا السؤال مبنيةٌ على ما تكلمنا عليه سابقًا؛ مِن أنَّ الارتباط بكتاب الله -سبحانه وتعالى- يحتاج إلى وقتٍ وجهدٍ، ولا بد أن يعلم الإنسان -أيضًا- أنه لن يستطيع أن يجني كلَّ الثمار بفعلٍ واحدٍ، بل كلُّ فعل من الأفعال له مزايا، ولن يستطيع أن يحصِّل كلّ المزايا بفعلٍ واحدٍ، ثم هو لن يستطيع أن يفعل كلّ شيءٍ في هذا الشهر؛ فيكثر من الختمات، ويقرأ قراءة متأنية متدبِّرة، ويجرد كتاب تفسير، ويعقد مجالس لمدارسة القرآن، بل لا بد له أن يقوم الإنسان باختيار أمر من هذه الأمور أو بعضها.

وليس ثَمَّ إجابة توقيفية واحدة تناسب كلّ الناس؛ بل فلان قد يصلح معه الإكثار من الختمات، ويجد قلبَه في هذا الأمر، وإذا قرأ ختمة واحدة متأنية بتدبُّر قد يصيبه نوع من الإغلاق والإحباط، على عكس بعض الناس إذا أكثر من الختمات قراءة سريعة يجد أنه خرج من الشهر ولم يستفد الاستفادة العظمى، وكان يتمنى أن لو قرأ قراءة متأنية.

إذًا الإجابة: ليست هناك إجابة واحدة تناسب الجميع، ولكن لا بدَّ أن يختار الإنسان شيئًا واحدًا ويُركِّز فيه، فإذا اختار أن يقرأ تفسيرًا فليركِّز فيه، ولينتقِ كتابًا مناسبًا له على مقدار علمه ووقته، فقد يكون الإنسان متقدمًا في طلب العلم -مثلًا- لكن لا وقت لديه في رمضان.

ثم تتمة السؤال: هل لمعايشة القرآن في هذا الشهر أعمال أخرى سوى قراءته وسماعه في الصلوات؟ فالجواب: إن هذا أيضًا يختلف على حسب الأوقات، فإذا استطاع الإنسان أن يُضيف مجلسًا للمدارسة بينه وبين إخوانه في هذا الشهر، أو أن يقرأ في بعض الكتب التي تفتح له آفاقًا في فهم السورة؛ فهذا جيِّد، لكن كما ذكرتُ حسب ما يناسب حاله ووقته.

س13: هل حُسْن الاتصال بالقرآن في رمضان والتغيُّر به يُمكن أن يُحصِّله مَن كان بعيدًا عن القرآن قبل رمضان؟ وهل هناك فرصة له لتدارك ذلك؟ وإن كان كذلك فما النصيحة الخاصّة الموجَّهة له حتى يستطيع أن يُقيم نفسه في هذا الأمر؟

د/ أحمد عبد المنعم:

نعم، له فرصة في ذلك، بل إنَّ أول تغيير حدث للنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أول اتصال بالقرآن في رمضان، وكثير من الناس تغيَّروا بالقرآن وكانت أول علاقتهم بالقرآن في شهر رمضان، فهذه هي الفرصة الحقيقية، التي يجب ألَّا يضيِّعها الإنسان بكثرة التحسُّر، وأن يبدأ في استغلالها، ولا يتردَّد في الاستفادة منها.

والنصيحة الموجَّهة له أقول:

أولًا: لا بد من التركيز: فلا يُكْثِر من المشورات وجمع الخطط والأفكار، ولا يُكْثِر من التحسُّر والتخوّف الزائد من فوات شهر رمضان، ثم هو لا يقضي وقتًا مع كتاب الله سبحانه وتعالى.

فإذا اختار مثلًا أن يركِّز مع سورة طويلة في هذا الشهر فبها ونعمت، ومن أراد أن يركِّز في كثرة القراءة فبها ونعمت، ومن أراد أن يركِّز في كتاب يفتح له آفاقًا في التفسير فبها ونعمت، لكن الخلاصة أن يركِّز الإنسان، وكلُّ علاقة بكتاب الله مثمرة بإذن الله تعالى.

 ثانيًا: أن يعطي وقتًا جادًّا مقدَّسًا، وأن يتفرَّغ فيه بدنيًّا ونفسيًّا: ولا يكفي أن يتفرَّغ بدنيًّا فقط، بل لو أعطى ساعة للقرآن وهو متفرغ نفسيًّا للقرآن أفضل من أن يعطي وقتًا طويلًا لكتاب الله -سبحانه وتعالى- وهو مشغول الذّهن في هذا الوقت.

فإذا ركَّز وخصَّص وقتًا مقدَّسًا مع التفرّغ البدني والنفسي للقرآن جنى ثمرة طيبة بإذن الله، وتغيَّر حاله مع كتاب الله تعالى، وسيشعر أنه خرج من هذا الشهر بغير القلب الذي دخل به.

س14: كثيرًا ما يقع النشاط لتلاوة القرآن وتدبُّره في شهر رمضان، وكذلك سائر أعمال الطاعات، ولكن بانقضاء الشهر يدبُّ الفتور، ويقع الهجران لكثير من الطاعات، خاصّة هجران القرآن تلاوة وتدبُّرًا، فكيف يستطيع المتعبِّد في شهر رمضان أن يجعل من رمضان انطلاقة له في تعامله مع القرآن الكريم، وأن يتجاوز قضية الفتور والهجران التي يعاني منها الكثيرون بعد الشهر؟

د/ أحمد عبد المنعم:

هذا سؤال جيد، وكلنا يحتاج إليه، وهناك قاعدة مفيدة في ذلك: أن تغتنم لحظات القوة، وتحترِمْ فترات الضعف، ففي رمضان مع إقبال عموم المسلمين على الطاعات من صلاة وقراءة قرآن وغيرها؛ يكون الإنسان في مرحلة قوة، فيحاول قبل أن ينتهي الشهر أن يضع لنفسع خطة، ويبدأ في تطبيقها؛ حتى لا تفتر همته بعد الشهر، فمثلًا إذا لم يكن حافظًا لكتاب الله -سبحانه وتعالى- اجتهد قبل أن ينتهي الشهر أن يكون قد رتَّب كيف سيحفظ ومع مَن سيحفظ، وإذا أراد أن يقرأ في التفسير ارتبط بمجموعة للقراءة على المدى البعيد، ومن الممكن في آخر رمضان أن يشترك في مساق من المساقات التعليمية، أو برنامج من البرامج المهتمة بقضية القرآن والتدبّر؛ الخلاصة أن يستغلّ لحظات القوة.

ثانيًا: لا بد أن يحترم فترات الضعف، فلا تكون خطة بعد رمضان كحاله التي كان فيها في رمضان؛ لأنه ليس بنفس القوة بعد رمضان، فينبغي أن تَتَّسم الخطة بنوعٍ من البساطة والواقعية، ولا تكون بنفس التركيز الذي كان في رمضان.

وكذلك من احترام لحظات الضعف: ألا يعتمد على الذاتية فقط بعد رمضان؛ بل يرتبط مع مجموعة أو مركز أو موقع أو نحو ذلك.

س15: تمرّ الأمة الإسلامية -بل العالم أجمع- في هذا العام بحدث استثنائي بانتشار فيروس كورونا، وكان لهذا أثره كما هو معلوم على أجواء رمضان، في اجتماع الناس في المساجد، وتعطّل التراويح، وغير ذلك. فنرجو منكم نصيحة خاصّة للمسلمين في هذه الظروف الاستثنائية: كيف ينتفعون بالقرآن خاصّة في هذه الأجواء؟

د/ أحمد عبد المنعم:

حقيقةً؛ هذا السؤال مؤلم، والإنسان لا يدَّعي أنه يملك إجابة، ولكن كما تفضَّلتم في السؤال أن العالَم يمرُّ بحدث استثنائي، فلا بد أيضًا أن يكون الارتباط بالقرآن استثنائيًّا، ولا بد أن يكون هناك تعبّد وعبادة استثنائية، ومشاعر استثنائية، وقد كانت هناك لحظات استثنائية تمرُّ على الصحابة في أوقات الغزوات، كغزوة أُحُد وغزوة حُنين، فكان ارتباطهم فيها بالقرآن استثنائيًّا، وظهرت منهم صور استثنائية من التعبّد.

هذه الأزمات فرصة ينبغي ألا يُغْبَن فيها المسلم، بل هي من أفضل الأوقات للارتباط بكتاب الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنّ الإنسان يكون فيها أشدّ احتياجًا إلى الوحي، وإلى خطاب يأتي من خارج الإنسان الضعيف الذي خُلِقَ من عَلَق، يحتاج إلى خطاب يأتيه من ربِّ البشر -عزّ وجلَّ-.

وكذلك فإنّ هذه الأجواء فرصة لتحقيق الخلوة التي تحدَّثنا عنها من قبل، وها هي الخلوة قد تحقّقت إجباريًّا بعد أن كان يصعب علينا الخلوة بأنفسنا، وكما ذكرت أن الاستفادة القصوى من القرآن تكون في مرحلة الخلوة، ومن أهم صورها الاعتكاف، وها هو العالَم كلّه في اعتكاف، وكأنه يُقال له: قوموا مثنى وفرادى ثم تفكَّروا، وها نحن نجلس مثنى وفرادى، وتبقَّى أن نتفكر من خلال الوحي في كتاب الله تعالى.

فرغم كونها حالة استثنائية مؤلمة إلا أنها قد تكون فرصة عظيمة للخروج بمشاعر عجيبة، وخطاب من الوحي يُنير لنا الطريق، فلا بد أن نرتدي النظارة القرآنية ونرى العالم الآن فيما يمر به من خلالها، وسنفاجأ بالرؤية القرآنية التي تأتي من خلال كلام الله عز وجل، لا من خلال البشر الضعفاء الذين يصيبهم الفزع والهلع.

المحور الرابع: أسئلة متفرقة:

س16: لكم مشروع قرآني منذ سنوات، يتمثَّل في عدد من المساقات التعليمية والفاعليات والمحاضرات، والتي لقيت قبولًا وتفاعلًا، نسأل الله أن يتقبل منكم. حبذا لو تطلعوننا على مشروعكم وأهم ملامحه وأنشطته.

د/ أحمد عبد المنعم:

جزاكم الله خيرًا على هذا السؤال، وهذا المشروع «إنه القرآن» هو مشروع قرآني تربوي هدفه كسر الحواجز بين الناس والقرآن؛ حتى تتذوّق قلوبهم روعة هذا الكلام الذي لو نزل على جبل لتصدّع من خشية الله.

وقد بدأ هذا المشروع بصورة فردية شخصية منذ سنوات طويلة كمحاولة ذاتية للعيش مع القرآن الكريم، حين فوجئتُ أنني أستطيع أن أستفيد من القرآن في زيادة الإيمان وفي بناء المعتقدات الكلية وتصحيح التصوّرات، وأنه يحوي في ثناياه تصورًا إيمانيًّا فريدًا لا يوجد في كثير من الكتب، فرأيتُ أنه ينبغي أن يكون القرآن هو (المتن) الذي نعود إليه كثيرًا، وبقية هذه الكتب -مهما كانت أهميتها وقوّتها في باب السلوك وغيره- هي الحاشية التي تساعدنا على فهمه، لا العكس، ثم بفضلٍ من الله نشأت علاقة مع كتاب الله -تعالى- من خلال القراءة في كتب التفسير ومجالس عديدة لمدارسة وتدبّر القرآن.

وبعد مرحلة من المراحل أحببتُ أن أنقل إلى الناس أهم شيئين في هذه الرحلة البسيطة المتواضعة جدًّا، أولًا: الانبهار بالقرآن من خلال الحديث (عن القرآن)، وثانيًا: الرؤية بنظَّارة القرآن والاستفادة منه في واقعنا من خلال الحديث فيه في (مجالس القرآن)، وتم تسجيل أول هذه الدروس مع شبكة الطريق إلى الله.

وكانت الجهود في بادئ الأمر متناثرة، حتى مَنَّ اللهُ علينا بجمعها في موقع (إنه القرآن: www.itsthequran.com)، وهو قائم على محورين أساسيّين:

- الدروس والمحاضرات القرآنية، وهي مقسَّمة تقسيمًا موضوعيًّا إلى أقسام: (مجالس القرآن، وعن القرآن، والتفسير الموضوعي، ومجالس السُّنَّة، والدروس التربوية والفكرية).

- المساقات التربوية والعلمية، وهي مسارات منهجية تساعد الراغبَ في الارتقاء في علاقته بالقرآن في خطواته الأولى في الجانبين التربوي التدبري والعلمي. وهي بمشاركة أخي الحبيب الشيخ عمرو الشرقاوي -جزاه الله خيرًا-، وقد تيسّر منها حتى الآن (مساق تدبّر القرآن تشويق وتطبيق، ومساق الدليل إلى القرآن، ومساق مقدّمة أساسية في علم التفسير).

ويسّر اللهُ -بفضله وكرمه ومنّه- جمعَ فريق عمل من جامعي محتوى ومصممين ومحرّرين فيديو وفريق التفريغ وفريق الترجمة وغيرهم للقيام على أنشطة الموقع على صفحات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، وتويتر، وتيليجرام)، وتتمثل هذه الأنشطة في:

= تفريغ وإخراج الدروس والمحاضرات القرآنيّة.

= ترجمة بعض المقاطع والدروس المهمّة.

= جدول محتوى للصفحات يتضمّن: (نشر الدروس والمقاطع المميزة، ووقفات تفسيرية وتدبريّة مع آيات من القرآن، ودعاية للمساقات والدورات الجديدة، وغيرها).

= عمل مجموعات تفاعلية لمدارسة المساقات.

= عمل دورات وأنشطة موسميّة، كدورة الارتباط بالقرآن استعدادًا لشهر رمضان، ودورة المشوّق إلى رمضان.

وقد استفاد -بفضل الله وحده- من هذه الأنشطة أعداد كبيرة، فبلغ عدد المشتركين في المساقات على الموقع ودورة الارتباط بالقرآن فقط ما يقارب خمسة عشر ألفًا، واشترك في قناة التليجرام لمتابعة الدورات نحو خمسة وأربعين ألفًا، غير متابعي الصفحات ومشاهدات الدروس على موقعي (يوتيوب، وساوندكلاود)، نسأل الله الإخلاص والقبول.

ولا يزال الموقع وملامحه تتّضح أكثر وتتطوّر مع الوقت، والأمنية التي نسأل الله أن يتمّها علينا أن تكتمل هذه المساقات، وأن يمنّ الله عليّ بإتمام مجالس القرآن، وعمل معهد لتدريس كلّ ما يحتاجه المسلم من أدوات علميّة وتربوية تساعده على الاقتراب من كتاب الله تعالى.

س17: من وجهة نظركم؛ ما هي المساحات العلميّة التي تحتاج إلى تكملة وتتميم في باب التدبّر، والتي يُمكن أن يتوجّه إليها الباحثون والمتخصصون المعتنون بهذا الجانب؟

د/ أحمد عبد المنعم:

هذا سؤال لعلَّكم أدرى به منّي، ويُسأل فيه أهل التخصّص، ولكن من باب المشاورة لعلّ الله أن ييسّر لمن هو أهل للقيام بهذا العمل؛ فهناك عدَّة جوانب علميّة وجوانب تربويّة، ويمكن الدمج بينها حتى لا يحدث نوع من الانفصال، وأذكر منها أربعة مجالات أرى أنها جديرة بالعناية والتكميل:

أولًا: من الجوانب التي أظنّ أنها تحتاج إلى بذلِ مجهود: مجالات عمل آثار السلف، وحيّز العمل لفهم السلف؛ ومما يتعلَّق بذلك قضية إحداث قول جديد، وهذه المسائل بُحثت وقد قرأت فيها كثيرًا بفضل الله، ولكن أرى أن الاهتمام بالتأصيل العام غلب الكلام على التفاصيل والتطبيقات، فحبذا لو تُنتقى بعض التفاسير التي توسَّعت في ذكر الاحتمالات من الآي القرآنية، أو التي اهتمت بذكر احتمالات لغوية، أو بتنزيل الآيات على الواقع، ثم يُطبَّق عليها مثل هذه القواعد، فإن هذا يساعدنا كثيرًا.

ثانيًا: من المجالات المقترحة أيضًا: البحث في فاعلية النصّ القرآني في الواقع بصورة متوازنة، بين الفتح المطلق للنصّ الذي قد يؤدي إلى نسبيّة الحقيقة، وبين حبس النصّ عن العمل في الواقع والذي ربما أدَّى عمليًّا -لا أقول تأصيليًّا- إلى تاريخية القرآن ومنعه من النزول إلى واقعنا والتأثير فيه.

والمكتبة القرآنية بحاجة إلى هذه الموازنة تأصيلًا وتطبيقًا، وإنزال الآيات القرآنية على الواقع، وهذا من أكثر ما يؤثِّر في الناس ويبهرهم بكتاب الله -عز وجل-، ويزيد يقينهم أن القرآن بالفعل هو النور والبصائر والبينات في حياتهم.

وقد كان كثيرٌ من المفسِّرين المتقدِّمين يستعملون الآيات القرآنية في استدلالاتهم سواء كانت في النوازل الفقهية أو المناقشات العقدية التي لم تكن موجودة من قبل، ولعلّ من الرسائل اللطيفة التي اهتمت بجمع بعض الكلام «تنزيل الآيات على الواقع عند المفسِّرين» للدكتور عبد العزيز الضامر، ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد تقعيد وإلى كثير من التطبيقات.

ثالثًا: نحتاج إلى فنّ صياغة المعنى المجمل للآية القرآنية بصورة مختصرة ومركَّزة وبأسلوب أدبيٍّ يشجع على القراءة، وأعلم أن هناك جهودًا كثيرة قد بذلت في مثل هذا، مثل صياغة التفسير الميسّر أو المختصر في التفسير، أو غيرهما من الكتب، ولكن أرى أن الأمر يحتاج إلى مزيد اهتمام في الصياغة الأدبيَّة التي تجعل كثيرًا من الناس يُقبِلون على فهم القرآن، ولو كان ذلك بالاهتمام ببعض السور كالمفصّل أو السور التي تقرأ كثيرًا كسورة الكهف ونحوها.

رابعًا: قضية المصطلحات القرآنية، وهي قضية وقع فيها اهتمام في بلاد المغرب خاصّة، والمشروع الذي يقوم به د. الشاهد البوشيخي وهو مشروع ضخم، وقد قدَّموا كثيرًا من المصطلحات القرآنية، ولكن نحتاج في سياق التدبر إلى استحضار المفاهيم القرآنية لهذه المصطلحات حتى نستعيد نظرتنا للحياة من خلال كتاب الله، وبعض مصطلحات المشروع أحيانًا يغلب عليها الجانب الأكاديمي ما يجعلها تبدو بعيدة عن واقع الناس، وهذا طبيعي في مثل هذه المشروعات ذات النكهة العلمية، وأنا لا أقلّل من جهودهم، ولكن أبيّن أنها تحتاج لتقريب وتيسير، وأسأل الله أن يبارك لهم في مشروعهم وينفع بكلّ العاملين في هذا المجال وأن يتقبل منا جميعًا. وجزاكم الله خيرًا جميعًا.

 س18: إليكم مساحة مفتوحة غير مقيَّدة بسؤال؛ تتفضلون فيها بما تشاءون.

د/ أحمد عبد المنعم:

حقيقة أودّ أن أشكركم على هذا الحوار الراقي، ومركز تفسير هو مركز متميّز متخصّص لطالما استفدنا منه، أسألُ اللهَ أن يبارك لكم في جهودكم ويفتح عليكم وعلى كلّ القائمين على هذا المركز المبارك.

وكلّ ما أريد أن أقوله هو معنى كان يجول في صدري قديمًا، حينما كنتُ أَحْضُر خطبة لبعض الدعاة أو أسمع عن القرآن وقيمته في الحياة، وأنه النور الذي يضيء لنا حياتنا إلى غير ذلك من الأوصاف؛ كنت أخرج متأثرًا جدًّا، ولكن كنتُ أشعر بحالة من الشَّلَل ولا أستطيع أن أطبِّق هذا الكلام، وكنت أتمنى أن أجد من يأخذ بيدي إلى ذلك، ولكن اكتشفت بعد هذا السير أنّ الله كريم -سبحانه وتعالى-، قال ربنا: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، قال مطر الورَّاق -فيما أورده البخاري-: «فهل من طالب علم فيُعان عليه»[11]، فطالب علم كتاب الله يعينه الله -سبحانه وتعالى-.

وأقول لكلّ محبٍّ لكلام الله -سبحانه وتعالى- ولكن يشعر بفجوة: لا تفقد الأمل، أقبل على كتاب الله العزيز الذي يحتاج منك إلى وقتٍ وبذلٍ وتضحيةٍ وصدقٍ، أسألُ اللهَ أن يجعلني والقرّاء من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وجزاكم الله خيرًا.

 

[1] يُمكن أن يُراجع في هذا المعنى كتاب: «الإنسان ذلك المجهول»، تأليف: د. ألكسيس كاريل، تعريب: شفيق أسعد فريد، ط. مكتبة المعارف - بيروت.

[2] للاطلاع على محاضرة: مميزات الخطاب القرآني: soundcloud.com/itsthequran/khetab_alquran.

[3] رواه البخاري (3649).

[4] لي محاضرة في هذا الموضوع بعنوان: «مشاعرنا تجاه القرآن»، وهي منشورة على هذا الرابط: soundcloud.com/itsthequran/nqxo8pcyyyi3.

[5] رواه البخاري (5027).

[6] رواه مسلم (2699)، وتتمته: «...إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».

[7] رواه أحمد (24609)، وقال محقِّقو المسند: صحيح لغيره.

[8] إشارة إلى حديث رواه البخاري (79)، ومسلم (2282).

[9] رواه البخاري (6)، ومسلم (2308).

[10] ورد رفع الأعمال في شهر شعبان في حديث أسامة بن زيد مرفوعًا، رواه أحمد (21753)، والنسائي (2357)، وحسّنه الألباني ومحقِّقو المسند.

[11] ذكره البخاري تعليقًا في كتاب التوحيد من صحيحه، باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، (13/ 521 - فتح).

ضيف الحوار :

الدكتور أحمد عبد المنعم

مدرس بكلية الطب جامعة المنصورة - مصر، والمشرف العام على موقع إنه القرآن.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))