تفسير القرآن[1]
هل يُعَدّ نشر هذه المجموعة الضخمة من المقالات والفصول المُعاد طبعُها (والمعاد صفُّها) ضمن سلسلة: «المفاهيم النقديّة في الدراسات الإسلامية» مؤشرًا على تحوّل دراسات التفسير إلى تخصّص فرعي مستقلّ وراسخ؟ هذه المجلدات الأربعة -التي تضم أكثر من 2000 صفحة و81 مقالة- تؤكّد هذه الحقيقة. إذا أخذنا في الاعتبار أنّ المجموعة تقتصر على الأعمال المكتوبة باللغة الإنجليزية (هناك فقط مقالتان بالألمانية في الأصل، لكن تُرجمتا وأعيدت طباعتهما من كتاب آخر جمع عدّة مقالات في التفسير)، وأنّ أقْدَم مقالٍ أُعيد طبعه (وهو المقال المأخوذ من نبيا أبوت) يعود إلى عام 1967 =فمن الواضح أنّ ملامح هذا الحقل العلمي (خاصّة عند النظر إليها في نطاقها الكامل متعدّد اللغات) ليست فقط فَتِيَّة، بل آخذة في الازدهار أيضًا. إنّ حداثة هذا التخصّص يؤكدها ظهور أحد المقالات -وهو مقال سليمان مراد[2] عن الجُشْمِي[3]- المأخوذ من كتاب لم يُنشر بعد وأُعلن عنه كجزء من كتاب قادم.
ليس الهدف من هذه المراجعة هو تقييم جودة أو مدى إسهام المقالات الفردية في هذا الكتاب، أو نقد الكتاب لغياب مقالات معينة أو لوجودها (عدد قليل من المقالات الواردة في الكتاب هي من كتابتي؛ لذا من الواضح أن مثل هذه التعليقات لن تكون ملائمة). هناك نسخة مفصلة من المحتويات متاحة على موقع الناشر لأولئك الذين يرغبون في معرفة التفاصيل الدقيقة لمحتويات المجلدات:
www.routledge.com/Tafsir-Interpreting-the-Quran/Shah/p/book/9780415580748
ولكن لأغراض هذه المراجعة أقول: توفّر المجموعة وسيلة جيدة للاطلاع على الحالة الراهنة لهذا التخصّص والطريقة التي تكوّنت بها الدراسة الأكاديمية للتفسير. من الجدير بالذِّكر أن المقدّمة المستفيضة التي كتبها المحرر مصطفى شاه[4] يمكنها أن ترشد القرّاء في تقييمهم للحالة المعرفية لهذا التخصّص. تقع هذه المقدمة في 157 صفحة، ويعدّ هذا عملًا كبيرًا حقًّا، وهو أعمق بكثير مما قد يتوقّع المرء أن يراه في مثل هذه الكتابات. استغرق العرض العام لمحتويات المجلدات الأربعة 25 صفحة من المقدّمة، في حين أنّ الحواشي على الفصل بأكمله تصل إلى 71 صفحة، وهي تقدّم معالجات ببليوغرافية خاصّة[5]. تستحق الصفحات الباقية من المقدمة البالغ عددها 61 صفحة اهتمامًا خاصًّا؛ لأنها تشتمل على نظرة عامة على التفسير في اتجاهاته التاريخيّة والمنهجيّة، وهي بيان وإيضاح لحالة فهمنا لهذا (النوع) -أدب له ملامحه الخاصة[6]-. تتجلى فطنة شاه النقديّة وعمق معرفته بالمصادر خلال هذا القسم؛ وأثناء عرضه النقدي للاتجاهات العامة داخل التخصص، أَولى شاه اهتمامًا خاصًّا لمسألة (الأصول)؛ وهنا يتخذ نهجًا يؤكّد بوضوح على ضرورة التعامل مع المصادر النصيّة الأصلية التي وصلت إلينا من العصور الوسطى، كما لا يغفل عن النصوص التي أُعيد بناؤها مؤخرًا والمنسوبة إلى كبار العلماء في الأجيال المسلمة المبكّرة. إنه يدرك أنه إذا كنا سنحلّل ما وصَلَنا من مواد، فنحن بحاجة إلى أساس نصّي ثابت يمكننا من خلاله المضيّ قدمًا. من الأهمية بمكان الاطلاع على المسح الشامل الذي قدّمه شاه للنوع الأدبي الناضج للتفسير الوسيط، وهو مفيدٌ بشكلٍ خاصّ في تسليط الضوء على أفراد المفسّرين والخصائص المميزة لأعمالهم؛ وقد عرض كلّ هذه المعلومات والسير الذاتية في فقرة أو فقرتين مكتوبتين بدقّة وإحكام، حيث غطى حوالي 25 عملًا في هذا السياق. بالطبع، يدرك شاه أن هذا العرض السريع ليس إلّا غيضًا من فيض مما يمكن كتابته حول هذا النوع ككلّ. والجدير بالملاحظة أيضًا في مناقشة القضايا المتعلقة بالمصادر «الخارجية» (الإسرائيليات) واستخدامها في التفسير؛ هي الطريقةُ التي يقدّم بها شاه منظورًا تاريخيًّا واضحًا ومقبولًا للمسائل الخلافية، وقد سلك نفس المنهج في مناقشته الدقيقة لمفهوم التفسير بالرأي. يدرك شاه بوضوح القضايا التاريخية التي يتوقّف الحكم فيها على استخدام المصطلحات بدقة والصعوبات التي تواجه تصنيفها.
لا يزال وجود هذا الكمّ الهائل من النصوص التفسيرية يمثّل تحديًا لبناء فهمٍ كاملٍ لطبيعةِ التفسير كنوع. يتمسك شاه بمكانة وشرف هذا العلم لدى علماء العصور الوسطى كمبرّر لكثرة الأعمال التفسيرية، حيث يتحرى المؤلّفون «الدقّة والصرامة العلمية» (ص38) عند ابتكارهم لعمل جديد. كما يقترح أنّ كلّ كاتب حاول «تقديم تركيب جديد»، ويفترض أنّ كلّ مؤلف كان «يخاطب جمهورًا مختلفًا»، وأن هذا هو ما أبقى هذا النوع حيًّا ومزدهرًا. من المدهش إذن أن مقدمة شاه والمقالات في المجلدات الأربعة لا تدعم أو تناقش فرضية اختلاف الجمهور بشكلٍ جيّد. في مقالة كارين باور[7] من المجلد الرابع نرى فقط بداية لمناقشة مسألة تصنيف الجمهور المخاطبين بتلك الأعمال؛ كما أن مقالة وليد صالح[8] عن مدرسة نيسابور في التفسير -المدرجة في المجلد الثالث- تلفت الانتباه إلى السياق الفكري للكتابات التفسيرية؛ لكن قدرتنا على تفسير وجود هذه الأعداد الكبيرة من كتب التفسير لا تزال تقوم في الغالب على الحدس لا على التحليل.
عند مقارنة هيكل وبنية مقدمة شاه مع هيكل تنظيم المحتويات الفعلية داخل المجلدات الأربعة، نلحظ في بعض الجوانب درجة من عدم التوافق بين المفهوم والواقع. هذا ليس انتقادًا في حدّ ذاته، ولكنه ملمح مهمّ؛ لأنه قد يعني أن التوصيف النقدي والتاريخي للمشروع التفسيري لا يعكس بالضرورة الطريقة التي تطورت بها اهتمامات علماء التفسير. المقالات في المجلدات مقسّمة بطريقة تعكس المنحى الذي يمكنه أن يجمع مسيرة أربعة عقود من الدراسات.
وهي مقسمة على النحو الآتي:
- المجلد الأول: (التفسير: النشأة والتركيب).
• الجزء الأول: التاريخ والتطوّر.
• الجزء الثاني: النصوص التفسيرية المبكّرة.
- المجلد الثاني: (التفسير: النظرية والتكوُّن - المنظومة المفاهيمية والإجرائية للتفسير).
- المجلد الثالث: (التفسير كتخصص علمي - التفاسير والمفسرون).
- المجلد الرابع: (التفسير: الأفكار الرئيسة والموضوعات والمناهج).
• (الجزء الأول: مادة وموضوعات التفسير).
• (الجزء الثاني: التطوّرات الحديثة في التفسير: التفسير والتأويل الهرمينوطيقي).
هذه المجموعة المنظّمة من الأبحاث الجادّة في حقل التفسير تبدو لي دقيقة ونموذجية؛ بعض تسميات الأقسام قد تحتمل الأخذ والردّ، ولكن البنية نفسها معقولة ومتّسقة. إنّ الاختلاف بين هذه البنية وبين وصف وتحليل التفسير (كما تمثّله مقدمة شاه) يتّضح أكثر خلال الطريقة التي هيمن بها سؤال «الأصول» على الأبحاث السابقة على حساب الاهتمام بالتفسير كتخصّص ناضج؛ وهذه تحديدًا هي النقطة التي أثارها باحثون آخرون (خاصة وليد صالح)، لكنها أصبحت واضحة بشكلٍ يبعث على الدهشة عندما ينظر المرء إلى المقالات الـ21 في المجلد الثالث ويدرك أن هذا المجلد يغطي كلًّا من مفسري العصور المبكّرة والوسطى وكذلك الصوفية والشيعية؛ إنّ هذه الندرة النسبية للأبحاث المتعلقة بالتفاسير التي قدمها علماء السُّنّة (المبكّرة والمتأخّرة) من القرون الوسطى أمرٌ مؤسف، خاصّة بالنظر إلى العدد الهائل من هذه الكتب.
الجانب الآخر الذي لفت انتباه الباحثين كما يتضح من فهرس المحتويات هو العُدة التفسيرية، أي: «كيفية» التفسير الفعلية، وهو ما استغرق كامل المجلد الثاني. يتّضح من تأملات شاه حول المنهج في مقدمته أنه يميل إلى تصوير عمليات التفسير على أنها عمليات محصورة داخل المجتمع المسلم، ويبدو أيضًا أنه لا يهتم كثيرًا بالقضية التي ناقشها آخرون (على سبيل المثال، مقالات وانسبرو[9] وجولد فيلد في المجلد الثاني) حول التداخل الملحوظ في المبادئ ليس فقط مع المدراش اليهودي[10]، بل أيضًا مع جوانب النظرية الأدبية العامة. من الملاحظ أيضًا أن النظرات الحديثة في القرآن التي تظهر في شكل تفسير تشغل مساحة صغيرة نسبيًّا في الكتاب (خمس مقالات فقط) ولم تحظَ سوى ببضع ملاحظات ختامية في مقدمة شاه. قد يعكس هذا -جزئيًّا- نظرة شاه الصارمة إلى التفسير كنوع خاصّ، ورغبته في قصر الاهتمام على الأعمال التي تتوافق مع الصورة التقليدية لهذا النوع، ولا يهتم بالأعمال التي تقدّم التفسير بأشكال أدبية مختلفة (توحي بأنهم ينظرون إلى التفسير كعملية وليس نوعًا مستقلًّا؛ لذلك فإنّ هناك غموضًا ينعكس بشكلٍ مثير للاهتمام من العناوين الفرعية لهذه المجلدات التي جُمعت تحت عنوان: «تفسير القرآن»).
بشكلٍ عامّ، إننا نرى في هذه المجموعة أنها محاولة طموح للوقوف على معالم تخصّص دراسات التفسير من الناحية الأكاديمية حتى هذه اللحظة. أضافت مقدمة شاه قيمة كبيرة إلى الكتاب سواء في إلقائها نظرة عامة وشاملة على التفسير كنوع، أو في الطريقة التي تقدّم لنا بها لمحة عن المساحة التي يجب أن يتوجّه إليها البحث من أجل تقديم نظرة تاريخية متوازنة حقًّا لاستيعاب أسباب وأهداف كتابة كتب التفسير.
[1] جدير بالذكر أن عنوان الكتاب بالإنجليزية: .Tafsīr: Interpreting the Qurʾān (المترجم).
[2] سليمان مراد: باحث لبناني، درس في الجامعة الأمريكية ببيروت، وحصل على الدكتوراه من جامعة ييل في 2004، مهتم بالتاريخ الإسلامي، وبالفكر الإسلامي الحديث، والأديان المقارنة خصوصًا التوحيديات الثلاثة. من كتاباته في هذا السياق: الإسلام المبكر بين الأسطورة والتاريخ، 2000. (قسم الترجمات).
[3] هو القاضي أبو سعد المحسن بن محمد بن كرامة الحاكم الجُشمي المعتزلي، أحد كبار تلامذة القاضي عبد الجبار، وصاحب كتاب: عيون المسائل في الأصول، توفي سنة 494هـ، وكتابه صدر حديثًا لأول مرة عام 2018، بعناية د. رمضان يلدرم. (المترجم).
[4] مصطفى شاه: باحث بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية " SOAS"، تتركّز بحوثه بالأساس على النصوص الإسلامية المبكّرة، خصوصًا تطوّر التقاليد اللغوية والقراءات القرآنية والتفسير.
له عدد من المقالات البحثية المهمّة، كما شارك في بعض الكتب، وحرّر بعضها الآخر، وكتب عددًا من عروض الكتب المهمّة. من بين الكتب والدوريات المهمّة التي شارك في كتابتها:
"The Arabic Language..، اللغة العربية، 2008"
ضمن "' In: Rippin, A., (ed.), The Islamic World. New York; London: Routledge, pp. 261-277، العالم الإسلامي التي يشرف عليها المستشرق الكندي أندرو ريبين".
من بين الكتب التي قام بتحريرها:
كتاب: "Tafsir: Interpreting the Qur'an، التفسير: تفسير القرآن، 2013" ضمن " Critical Concepts in Islamic Studies. London: Routledg، مفاهيم نقدية في الدراسات الإسلامية". (قسم الترجمات).
وقد ترجمنا له دراسة بعنوان: إسهامات النحويين المبكّرة في توثيق القراءات القرآنية، ترجمة: حسام صبري، يمكن مطالعتها ضمن ترجمات الملف الثاني، ملف «تاريخ القرآن» على قسم الاستشراق بموقع تفسير. (قسم الترجمات).
[5] مثل التعريف بالأعلام والكتب وما إلى ذلك. (المترجم).
[6] مصطلح genre الذي استخدمه الكاتب يعني بالأساس الشكل الأدبي، واستخدامه في وصف التفسير يشير لكون التفسير فنًّا له ملامحه الخاصّة، من حيث اشتماله على محدّدات نوعية خاصّة تفرقه عن غيره من الحقول وتعطيه استقلالًا نسبيًّا تجاه المعارف الأخرى مثل الفقه والحديث، وتمنح نصوصه بناءً خاصًّا من حيث الأهداف والبناء المصطلحي والمنهجي وطريقة استخدام الأدوات المنهجية. (قسم الترجمات).
[7] كارين باور: حاصلة على الدكتوراه من جامعة برنستون، وهي كبيرة الباحثين في معهد الدراسات الإسماعيلية بلندن، تتركز اهتماماتها في التفسير والتاريخ الاجتماعي الإسلامي، لها عدد من الكتب منها: هيراركي النوع في القرآن، تفسيرات العصور الوسطى والردود الحديثة، 2015، كما حررت كتاب: أهداف ومناهج وسياقات التفسير، 2013، بالإضافة للمشاركة في عدد من الكتب، وكتابة بعض المقالات العلمية، وقد نشرنا عرضًا مترجمًا لكتاب أهداف ومناهج وسياقات التفسير، كتبته أورليكا مارتنسون، ترجمة: هدى عبد الرحمن النمر، يمكن مطالعته ضمن الترجمات المنوعة على قسم الاستشراق بموقع تفسير. (قسم الترجمات).
[8] وليد صالح: باحث لبناني ولد في كولمبيا، أستاذ بقسم الدين وقسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة تورنتو الكندية، درس اللغة والأدب العربي في الجامعة الأمريكية ببيروت ثم حصل على الدكتوراه من جامعة ييل الألمانية، وجامعة هامبورغ الألمانية. تتركز اهتماماته في القرآن وتاريخ التفسير واللغة العربية، والأدبيات اللاهوتية في الإسلام الوسيط، له عدد من المقالات والأوراق في هذا السياق، بالإضافة لكتابه الأشهر: «تشكيل التقليد التفسيري الكلاسيكي، تفسير القرآن للثعلبي»، والمشاركة في بعض الكتب المهمّة. (قسم الترجمات).
[9] جون وانسبرو (1928م-2002م): مستشرق أمريكي، يعتبر هو رائد أفكار التوجه التنقيحي، وتعتبر كتاباته منعطفًا رئيسًا في تاريخ الاستشراق؛ حيث بدأت في تشكيك جذري في المدونات العربية الإسلامية وفي قدرتها على رسم صورة أمينة لتاريخ الإسلام وتاريخ القرآن، ودعا لاستخدام مصادر بديلة عن المصادر العربية من أجل إعادة كتابة تاريخ الإسلام بصورة موثوقة، ومن أهم كتاباته: «الدراسات القرآنية، مصادر ومناهج تفسير النصوص المقدّسة» (1977م)، وقد نشرنا عرضًا مترجمًا لهذا الكتاب، كتبه: كارول كريستن، ترجمة: هند مسعد، يمكن مطالعته ضمن ترجمات الملف الأول: (الاتجاه التنقيحي)، على قسم الاستشراق بموقع تفسير. (قسم الترجمات).
[10] المدراش بالعبرية (מִדְרָשׁ) أصله [د.ر.ش]، وهي تقارب في العربية الجذر (د ر س) ومعناها: بحث وتعلم؛ وهي شروحات للأسفار المقدَّسة اليهودية آية آية في صورة شعرية، فهو تفسير للنصّ باستخراج التطبيقات العملية والمعاني الجديدة، واستنباط الأمور والأحكام. (المترجم).