دراسات حول تركيب السور المكية
أنجيليكا نويفرت

المترجم : أمنية أبو بكر
"دراسات حول تركيب السور المكية" لأنجيليكا نويفرت من أهم الكتب الغربية المعاصرة عن القرآن، يقارنه بعضهم بتاريخ القرآن لنولدكه، طبّقت فيه الكاتبة مناهج النقد الأدبي على القرآن وصار من أركان المقاربة التزامنية للنصّ، تقدّم ويلكنسون عرضًا وصفيًّا لهذا الكتاب.

  في كتابها (دراسات حول تركيب السور المكيّة Studien zur Komposition der mekkanischen Surenتقدّم الباحثة الألمانية البارزة أنجيليكا نويفرت Angelika Neuwirth للباحث الغربي المختصّ بالدراسات القرآنية مقاربة أصيلة ومُحفِّزة من أجل فهم أفضل للبنية الداخلية للنصّ المقدّس. وتشغل نويفرت مكانة متميّزة في هذا المجال، باستفادتها من المنهجية المستمدّة من النقد الأدبي ونقد الشّكل ونقد النّوع والنقد التحريري. كانت الأفكار الخاصّة بنويفرت جديدة في وقت صدور الكتاب لأول مرة عام 1981، وكما يمكن للمرء أن يلاحظ في النسخة المكمَّلة المعاد طبعها في 2007؛ فإنّ مقترحاتها الأصيلة حول الاتجاهات المحتملة للدراسات القرآنية لم تُستنفَد بعدُ، بل في الواقع، قد تُستقبَل مقاربتها الأدبية للقرآن استقبالًا أفضل من ذاك الذي كان عند نشرها لأول مرة.

وبُغية أن نفهم ما يعنيه عملها بالنسبة إلى هذا الميدان ككلّ، فعلينا أن نتطرّق أولًا إلى النقاط الأساسية لهذا البحث، وهذا البحث هو مجموعة من الدراسات المعنية بنظم السور المكية. والأطروحة التي توحِّد تحليل هذه الدراسات يمكن تلخيصها على النحو الآتي: في البداية وقبل كلّ شيء، تهدف هذه الدراسات لتجنّب اتخاذ النبي أو مجتمعٍ لاحقٍ نقطة ارتكاز لتحديد المقصد الأدبي للنصّ؛ فبينما تقبل نويفرت، وحتى تصرّ على قوة حجة التأريخ المبكّر لتجميع النصّ المُتلقَّى textus receptus في أيّ موضع منذ حياة النبي حتى نهاية سنة 690م تقريبًا، فإنّ مقترح هذه الدراسات الثاني هو الإصرار على المقصد الأدبي الكائن في النصّ نفسه. هذا يعني أنه على الباحث الحديث -وبدلًا من رفض القرآن كمجرد مجموعة محدودة من السور والآيات- أن يفطن إلى حقيقة تركيب القرآن وأخذها على محمل الجدّ بوصفها جزءًا ذا معنى من المقصد الأدبي العامِّ للنصّ.

ومن أجل القيام بذلك، حدّدت نويفرت السورة باعتبارها الوحدة التركيبية الأساسية للقرآن، فوفقًا لها، تعمل السورة -وخاصّة السور المكية- كنوع أدبي تامِّ الفرادة للقرآن.

باختصار، تجادل نويفرت أنه عن طريق تحليل السورة المفردة -من ناحية كلٍّ من طولها وبِنيتها ومحتواها وشكلها الأدبي والتسلسل الزمني الخاصّ المقدّر لها- يمكن للباحث الحديث أن يقف على الأنماط المميّزة التي يطبقها على السور الأخرى، وبهذه الطريقة تجنّبت نويفرت أسئلة تخرصيّة بشأن التأليف والمصدر الدقيقَيْن للنصّ، قاصرة تحليلها على الحقيقة الفعلية للنصّ الموجود بين يديها. ومن ثم، يتوجب علينا فهم النصّ من خلال النصّ، وأن نعود أخيرًا للتحقّق من مخرجاتنا مقابل النصّ. نظريًّا، ستتيح دائرة التحقيق هذه للباحثين تقديم فرضيات عقلانية حول القرآن دون أن يتمَّ فَقْدُ نصِّه في سياق أوسع من النصوص القديمة المتأخرة، وشذرات النصوص، والتراث الشفهي المتشظِّي صعب المنال، وذلك نقدٌ وجهته نويفرت مباشرةً لمعاصريها. وبالتأكيد -وكما سنتطرق لاحقًا متجنبين العوائق المألوفة في هذا الميدان- فمقاربة نويفرت تثير كذلك انتقاداتها الخاصّة التي ينبغي عليها أن تجيب عنها.

وبإلقاء نظرة موجزة على تفاصيل محاججتها، نجد من المهمّ توضيح استخدام نويفرت النصَّ أداةً انعكاسيةً لتحليلِ ذاته.

فمبدئيًّا، يستعير نموذجُ نويفرت الاستكشافيُّ لنشأة القرآن القليلَ من تقاليد السيرة النبوية والتقليد التفسيري[1]. كما أنها ذكرت في مقدمتها الأصلية كيف تم التعامل مع القرآن بطريقة أشبه بالتعامل مع الشعر العربي الجاهلي -شاهدًا وحيدًا على واقع من التراث الأدبي لم يَعُد الوصول إليه ممكنًا، واقتراحها هو تصوير القرآن صلاة طقسية وتلاوة شعائرية، مشيرة إلى القرآن باعتباره Rezitationstext. نصًّا ليتورجيًّا.

وباتِّباعها التسلسل الزمني للسور الذي أسسه نولدكه Nöldeke، عمدت نويفرت إلى صوغ تحليلها بتقسيم السور المكية إلى مجموعات ثلاث: مبكرة ووسطى ومتأخرة. ثم اتجهت إلى تحليل تقسيم الآية، وتراكيب القافية، وتراكيب الآية، والمكونات الداخلية للسورة. بالنسبة إلى تقسيم الآية، فإنها ترى القافية وتركيب الجملة كأقفال، في مفهوم تدعوه: (Reimpotenz)ـ[2].

في بحثها حول تركيب القافية، تميزت نويفرت عن أسلافها[3] في التعامل مع القافية القرآنية كشيء مختلف كليًّا عن القافية الشعرية والسجع، ووصلت إلى نتائج مذهلة بفضل هذه الخطوة المبدعة.

تصنِّف نويفرت القوافي الخاصّة بسور الفترة المكية المبكرة إلى ثمانين نوعًا مختلفًا من القوافي، وسبع عشرة قافية للفترة المتوسطة، وثمانٍ للفترة المكية المتأخرة. وفي ضوء نتائجها، تشكّك نويفرت في الرأي الكلاسيكي بشأن التخفّف تدريجيًّا من صرامة القوافي في القرآن، وذلك يعني أنه بينما قد يوجد (تحويل للقافية) للتشديد على وقف معيَّن في قراءة السور المبكرة، يتزايد ارتباط السور الأطول بعضها ببعضٍ بتكرار استخدام نفس نوع القافية بالقدر الذي يجعل التباين في النوع يكشف عن نفسه عن قصد كما يقال. وهكذا تجادل أنه بحلول الفترتين المكيّتين الثانية والثالثة كانت التغيراتُ التي حلَّت بالقوافي وظيفيةً من الناحية الأدبية[4]. بعبارة أخرى، لا تكون تغيرات القافية عشوائيةً، بل نتاجًا لقصد أدبي.

تَعْرِض نويفرت بعد ذلك التحدي المُمَثَّل في توفير فحصٍ نقدي لمختلف أنظمة تقسيم الآيات بُغية تأسيس قاعدة أكثر ثبوتًا لمعرفة نهايات الآيات الأصلية المقصودة[5]. ومن المثير للاهتمام إلى حدٍّ ما، أنه لا يبدو أن هنالك أيّ محاولات سابقة للبحث عن أدلة على التسلسل الزمني[6] في الآيات الفعلية، بالرغم من وجود محاولات للنظر في التماسك بين الآيات في داخل السورة بحثًا عن أدلة التسلسل الزمني[7]. وللمتابعة، تشير إلى (الكولون) -الوحدة الصغيرة من الكلام التي تتميز عن سياقها السابق واللاحق وتعطي معنى بشكل مستقل- أو التوقف باعتباره محور تركُّز التحليل[8]. كما تأخذ الآية الواحدة على أنها متساوية مع جملة واحدة قائمة بذاتها صانعة بهذا فارقًا واضحًا بين كلٍّ من قافية الآية وجسم الآية. وفي ختام هذا الجزء من بحثها، تقدّم للقارئ وسيلة لتمييزٍ أدقّ بين كلٍّ من النثر الـمُقَفَّى والنثر الحقيقي، وهذا الأخير خاصّ بالقرآن، والأهم من ذلك تبيين أنه كان مخصصًا للتلاوة.

في المرحلة الرئيسة الأخيرة من بحثها، تتطرّق نويفرت إلى التركيب العامّ للسورة والأجزاء المكونة لها. وعلى الضدّ من النظرة التقليدية لنزول الوحي بضعَ آياتٍ في المرة الواحدة، تفهم نويفرت أنه حتى السور الأطول قد وُجدت كوحدة تركيبية واحدة؛ وبالتالي لا يكون طول السورة وليد الصدفة، بل إن ذلك يعكس عوامل المقاصد التركيبية. وتتمثل المعايير التي اقترحتها لتحديد البنية والعناصر التركيبية فيما يأتي: 1- القافية. 2- بنية وطول الآية. 3- السمات الأسلوبية. 4- اللغة الخاصة. 5- تغير الصوت أو الموضوع. 6- الترابط الممكن بين أيٍّ من المعايير المذكورة بالأعلى. عامةً، تكمن الفكرة في الوصول إلى ملاحظة بواسطة دمج بعض تلك المعايير، وبذلك يتقدم تحليل الأجزاء المؤسسة للسورة، كما أنه لا يمكن التغاضي عن أن المقارنة لا يجب أن تقام داخل السورة الواحدة بل بين عدّة سور. وأخيرًا، فإن التحديد الواضح والتمسك الثابت بمجموعة بعينها من المعايير هو مفتاح تحديد إذا ما كان تطبيق المعيار على طول النصّ ممكنًا وذا معنى. وبناء على ذلك، تبيِّن نتائج تحليلها المبدئي أنه على رغم الاختلاف في التعقيد فيما بين السور المكية المبكّرة والمتأخرة، فإن السور ككلّ تتركب من عناصر متناسبة بشكلٍ واضحٍ؛ وبذلك استنتجَت أن فرصة وجود عمل لاحق في تركيبها أقل بكثير مما كان متوقعًا في السابق.

في النهاية وبعد الانتهاء من بحثها كليًّا، تدّعي نويفرت أن القرآن قد جُمِع أولًا بوصفه نصَّ تلاوة ليتورجيًّا، مختلفًا عن التوراة العبرية أو العهد الجديد. وكذلك أنّ السورة تمثِّل نوعه الأدبي الأساس. والسورة هي الشكل الذي أراد النبي أن تُتْلَى به الآيات المكية، ولم يُتَخَلَّ عن هذه الممارسة أو مقصد الوحدة إلا بعد أن صرنا إلى الآيات المدنية الأطول. وهكذا يكون الرأي التقليدي لتقسيم السورة أثناء التلاوة آتيًا من الفترة المدنية المتأخرة وليس المكية[9]. كما تقترح أنّ النزوع إلى احتواء السورة الواحدة على مادة متنوعة الموضوعات، كان دليلًا على فصلها نفسها عن التقاليد السابقة ولتقديم التلاوة كشيء جديد كليًّا[10]. بعبارة أخرى، فإنّ رأي نويفرت حول القصد من وراء الشكل الأدبي للقرآن هو تركيبه المبكّر أثناء حياة النبي. وبينما قد تُمَثِّل بعض ادعاءاتها قفزات ضخمة بعيدًا عن التحليل المجرد للنصّ، فإنّ القيمة من ثمار معالجتها الأولية للمعطيات لا تعتمد بالضرورة على الدّقة الكاملة لاستنتاجها الأكثر إثارة للتأمل.

وتؤكّد نويفرت باهتمامٍ أنَّ القرآن صدَر كوثيقة من الحقبة القديمة المتأخرة أثناء حياة النبي، إلى بيئة متأثرة ومتشكّلة جزئيًّا بواسطة تقاليد أخرى. وينبغي القول بأنّ القرآن ليس منتَجًا مباشرًا لهذه البيئة أو متأثِّرًا بها، كما لا يجب السماح لدَور محمد في إنشاء النصّ بالتشويش على الحوار القائم بين نصٍّ ومجتمع في طريقهما لتكوين هُوية خاصّة. علاوة على ذلك -وكما نوقش أعلاه- يجب النظر في النصّ بحثًا عن وحدته النصيّة والمرجعية جنبًا إلى جنب مع الحرص على ردود الأفعال والانعكاسات المحتملة لغيره من التقاليد الدينية القديمة المتأخرة.

في الوقت نفسه، فإنّ مقاربة أدبية متمركزة حول النصّ مثل هذه، تضع القارئ في خطر القراءة المفرطة للنصّ. وبدون الاحتكام إلى عوامل خارجية؛ مثل المصادر التقليدية أو التأملات التاريخية المعاصرة لن يمتلك القارئ الناقد وسيلة للتحقّق من نتاجه خارج النطاق المنغلق لتحليله الخاصّ. لذلك، بالرغم من أن منهج نويفرت قد يكون عظيم الفائدة إذا اتّبعه الباحثون المعاصرون، فإنّ عليه الاستمرار بالانخراط في حوار أوسع آخذًا في الاعتبار عوامل ومعطيات تتجاوز النصّ نفسه.

برغم ذلك، أحرزت نويفرت تقدّمًا هائلًا في كثير من المناحي. ويعدُّ تحليلها التفصيلي للقافية والبنى الداخلية للسور المكية تحليلًا رائدًا وضروريًّا للغاية. كما أنّ تحوّلها بعيدًا عن المحاولات الأيديولوجية الـمُقنَّعة لنزع الشرعية عن القرآن بوصفه نصًّا مقدسًا هو في حدّ ذاته أمر يستحقّ الثناء. وأخيرًا، تستحقّ مقاربتُها الإبداعية لأخذ المقصد الأدبي في القرآن في الاهتمام -التقديرَ بدورها. وباختصارٍ، عملُ نويفرت يمثل إسهامًا كبيرًا في هذا الميدان. يمكن للمرء أن يأمل فقط في بذل المزيد من الجهود لمواصلة وصقل مناهج البحث المقترحة.

 

[1] في الحقيقة، تقدم نويفرت ملاحظة بخصوص عدم الاعتماد على الأدبيات التفسيرية؛ إذ ظهر في سياقٍ مختلف كليًّا عن القرآن قبل تحريره (ثقافيًّا واجتماعيًّا وجغرافيًّا).

[2] سمة القدرة على العمل كقافية نهائية. راجع صفحة 15.

[3] تشير إلى أن حالة البحث المقام حول أنواع القوافي القرآنية لم يتجاوز نولدكه 1860 وشفالي 1909، وذلك يمثّل فجوة قديمة في الدرس القرآني. علاوة على أن نولدكه لا يميز شكل القافية القرآنية عن غيرها من أشكال القوافي، ويقارنها بعضها ببعضٍ عشوائيًّا إلى حدّ ما، ص86. كذلك يعدُّ شفالي أول من وضع تصنيفًا للقافية القرآنية (في خمسة أنماط) ص69. وتشير نويفرت إلى المأخذ على شفالي في تجاهله اللهجات/ الأدوات المختلفة للكلمة.

[4] نويفرت، 113-114.

[5] نويفرت، 117.

[6] نويفرت، 118.

[7] نويفرت، 119.

[8] نويفرت، 120-121.

[9] نويفرت، 317.

[10] نويفرت، 318.

المؤلف

تارانيه ويلكنسون - Taraneh Wilkinson

باحثة مهمتة بالتعددية الدينية والعلاقات بين الإسلام والمسيحية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))