مشروع مجالس القرآن للدكتور فريد الأنصاري
عرض وتعريف

يُعَدّ د. فريد الأنصاري مِن أبرز مَن اعتنى بفكرة مجالس مدارسة القرآن الكريم، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بمشروعه "مجالس القرآن"؛ فتسلّط الضوء على أهميته، وتُبرز دور هذه المجالس، وضوابط إنجاحها، وغير ذلك من الأمور المتعلِّقة بها.

مقدمة:

  أنزل اللهُ كتابَه رحمةً وهدايةً للعالمين، ففي القرآن المنهج الذي يهدي للتي هي أقوم ويأخذ الناس لسعادة الدارين، ومن هاهنا كان المسلمون بحاجة دومًا لتعاهد هذا الكتاب وإدمان النظر فيه، والحرص على تلاوته وتدبّره، وأن تكون لهم مجالس خاصّة بهذا الغرض كما كان السلف الصالح رضوان الله عليهم. وتأتي أهمية مثل هذه المجالس من القرآن الذي تتعلّق به؛ فمجالس القرآن بها ينال العبدُ الذِّكر عند الله، والحياةَ الطيبةَ في الدنيا والآخرة، وحاجتنا إليها منبثقة من حاجتنا إلى القرآن نفسه، الذي لا غِنى لنا عنه في المعاش والمعاد؛ إذ فيه نفعنا وفلاحنا في العاجل والآجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإسراء: 9، 10]، ولأنّ حياة الأمة بالقرآن وهو نورها به تهتدي وعليه تسير: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى: 52]، ولا سبيل للانتفاع بالقرآن وهديه إلّا بمدارسته وفهمه وتدبّره والعمل به في الحياة اليومية: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران: 79]. «وقد قُرِئَتْ: (تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) و(تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ)؛ للجمع بين وظيفتي التَّعَلُّم والتعليم، والصلاح والإصلاح، إذْ بذلك يكون التدارس لآيات القرآن العظيم، بما هي علامات دالّة على الله، وراسمة لطريق التعرّف إليه -جل وعلا- في الأنْفُس والآفاق، وتلك هي السبيل الأساس للربانيّة، كما هو واضح من دلالة الحصر المستفادة من الاستدراك في الآية: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)»[1].

وتشتدّ الحاجة لهذه المجالس في زمان كثرت فيه المُدْلَـهِمّات، وأحاطت بالعباد خطوب نفسيّة واجتماعية أورثَت فئامًا منهم قلقًا واكتئابًا وحسرة، في عالم تتواتر المادية فيه وتزداد يومًا بعد يوم، وتزيد معها غفلة الناس عن المقومات الإيمانية الهادية إلى السكينة والطمأنينة في الحياة، وفي مجالس القرآن شفاء لما في الصدور، وفيها إصلاح ما فسد من أحوال العباد والبلاد؛ ذلك أن الزيغ عن سواء السبيل ما نشأ إلّا بالاغتراب عن هذه المجالس، وإبعاد الأجيال عن هدي القرآن وهدايته للتي هي أقوم في كلّ شؤون الحياة صغيرها وكبيرها. ووظيفة هذه المجالس في مجملها «تجديد الإيمان، وتصفية الوجدان، والسَّير إلى الله عَبْر أخصر طريق وأقربه! ومن أجْلِ تداولٍ اجتماعيٍّ للقرآن العظيم، والتزامٍ اجتماعي شامل؛ للمعلوم من مواثيق الدّين بالضرورة! عسى أن نُسْهِم في بناء نهضة إسلامية عمَليّة شاملة، بإذن الله! ما نرى إلّا أن إبَّانَها الحضاري قد آنَ، وأن موسمها الكوني قد حَلَّ بعالم الإنسان! فهذه آمالها القديمة تتمخّض اليوم بالفعل لا بالتخمين، عبر آلام كلّ العالم الإسلامي، تنبت بالبُشرى في كلّ مكان»[2].

والآيات القرآنية والأحاديث النبويّة والسيرة العملية الدالّة على مشروعية هذه المجالس كثيرة ومستفيضة، تواترت بها الأخبار قولًا وعملًا، وسلَكها المصطفون الأخيار، وكلّ ذلك مفصَّل تفصيلًا في مظانّه قديمًا وحديثًا. وما أحوجنا إلى إحياء هذه المجالس والدعوة إليها قولًا وعملًا، ولا يتحقّق الانتفاع بها إلّا بتحصيل شروطها، التي يمكن ردّها إلى أصلين اثنين، وهما: إخلاص القصد لله تعالى، ثم أخذ الكتاب بقوة. ولا غنى لأحدهما عن الآخر؛ إذ بهما يتحقّق تمام الانتفاع ويُكتب للعمل القبول والاستمرار.

وإن من أبرز مَن اعتنى بفكرة مجالس القرآن وسلّط عليها الضوء هو الدكتور فريد الأنصاري، والذي اجتهد في التأصيل لها والتعريف بها والدعوة إليها وفي شرح كيفيات تطبيقها وعقدها؛ لتكون بمثابة مشروع دعوي تربوي لإحياء الربانية وترسيخ قيم الإيمان في النفس والمجتمع وتدويل ثقافة القرآن.

ونحن في هذا المقال سنحاول تسليط الضوء على مجالس القرآن كما طرحها الدكتور فريد، لا سيما كتابه الذي بسط فيه الكلام على هذه المجالس وهو كتاب: (مجالس القرآن؛ مدارسات في رسالات الهُدَى المنهاجيّ للقرآن الكريم من التلقِّي إلى البلاغ). ونبيّن ما طرحه فيها مِن بيانٍ لأغراضها وأهميتها، ومَن له أهلية عقدها، وضوابط إنجاحها...إلخ، آملِين من وراء ذلك التذكير بمجالس القرآن، والدعوة إليها، وإحياءها، وعرضها، وحثّ الناس على التربية والتزكية بالقرآن في مجالس تحفُّها الملائكة، ويذكُر اللهُ أصحابَها فيمن عنده. وسنشرع في ذلك أولًا بالتعريف بالدكتور فريد الأنصاري.

أولًا: تعريف بالعلّامة فريد الأنصاري:

وُلد العلّامة الدكتور فريد الأنصاري سنة 1380هـ/ 1960م بمدينة الراشيدية في المملكة المغربية، وتلقَّى تعليمه بالمغرب، ونال الدكتوراه في الدراسات الإسلامية تخصّص أصول الفقه، وَلِيَ مناصب علمية عدّة، عمل أستاذًا لمادة أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، وكانت له مجالس علميّة عامرة بها، له كتُب عدّة في مجالات مختلفة[3]. وانخرط في مختلف الأنشطة العلمية والدعوية في وقتٍ مبكرٍ من حياته، ومن أكثر ما عني به مشروع (من القرآن إلى العمران)، وظلّ داعيًا بالقرآن إلى القرآن، منشغلًا بهمِّ الدعوة والإصلاح، قاصدًا بدروسه ومؤلفاته العامةَ والخاصةَ من الناس، متخذًا مختلف الوسائل المسموعة والمرئية والمكتوبة لتبليغ الرسالة القرآنية وتحقيق الربانية، وظلّ سائرًا في طريق الدعوة إلى الله إلى أن وافته المنية سنة 1430هـ/ 2009م بتركيا حيث كان يُعَالَج، ثم نُقل بعد وفاته إلى المغرب، وشيّعه الآلاف من الناس في موكب جنائزي مهيب بمدينة مكناس المغربية، ودفن بمقبرة الزيتون، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.

وفي روايته الشيّـقة (كشف المحجوب) تفاصيل عن حياته، لمن رام الاستزادة.

ثانيًا: تعريف بمجالس القرآن:

من آثار العلّامة الأنصاري الدالّة على رؤيته الثاقبة وبصيرته وهمِّه في إحياء الناس بالقرآن كتاب (مجالس القرآن) الذي أراده أن يكون مدارسات في رسالات الهدى المنهاجي للقرآن من التلقِّي إلى البلاغ، وهو وسيلة من وسائل التطبيق العملي لرؤاه في التربية والتزكية، وبناء النفس وفق منهج القرآن، ورؤيته مستخلصة في أن «لا إصلاح إلّا بالصلاح، وأن لا ربانية إلّا بالجمع بينهما، وأن لا إمكان لكلّ ذلك -صلاحًا وإصلاحًا وربانية- إلّا بالقرآن المجيد».

ومجالس القرآن هي المجالس التي يجتمع فيها العباد لتدارس القرآن، حفظًا، وفهمًا، وعملًا، وهي مجالس تتفاوت درجاتها بتفاوت جلسائها، وتختلف وسائلها لكنها متفقة في غايتها، وهي «مشروع دعوي تربوي بسيط، سهل التنفيذ والتطبيق، سلس الانتشار؛ غايته تجديد الدّين، وإعادة بناء مفاهيمه في النفس وفي المجتمع»[4]. وهو ليس حكرًا على صفوة معيّنة أو طائفة دون أخرى، بل هو مشروع كلّ مَن يتخذ كتابَ الله إمامًا ومرشدًا، والمشروع «مدرسة شعبية لنشر ثقافة القرآن، وبناء أخلاق القرآن، ودعوة لتداول القرآن في السلوك الفردي والاجتماعي، من خلال الإقبال العام الشعبي على تعلّم القرآن، وتدارس القرآن، وفتح (صالونات القرآن) داخل الأُسَر، وبين الأصحاب؛ لتقديم كؤوس الذِّكْرِ للأهل والأحباب والأقارب والجيران! ولا أحلى ولا ألذّ من موائد القرآن، ومجالس التدارس الميسَّر لسوره وآياته بين يدي الرحمن»[5].

وليس معنى ذلك الانعزال عن الحياة في جلسات لا تتجاوز تلك المجالس، أو الفرار من مواجهة تحديات الحياة؛ بل مجالس القرآن تلامس العقيدة وتوجِّه العمل وتَظْهَر في السلوك وتقوِّي العزائم وتثبِّت الفؤاد وتحيي الهِمم وتنير طريق السائرين، وهي «مشروع ننطلق فيه (من القرآن إلى العمران)! ولنا اليقين أنه منهجٌ كافٍ -إن شاء الله، إذا أُخذ بشروطه وضوابطه- لبناء النفس المؤمنة في هذا العصر الجديد، وإعادة تشكيلها تربيةً وتزكيةً، ثم بناء النسيج الاجتماعي الإسلامي حضارةً وعمرانًا...»[6]. وما أحوج الأمة لهذا البناء التربوي السليم الذي يزكّي الأنفُس ويوقظ فيها الحيوية والفتوّة فتسعى إلى ربها سعيًا، وتعدّ للحياة إعدادًا ينفعها في دنياها وأخراها، ويثبّتها في مسيرتها ويقيها المخاطر المحدِقة بها.

وقد بيَّن العلّامة فريد الأنصاري -رحمه الله- اللبِنات الأساسية لمشروع (مجالس القرآن)، وفصّل ذلك تفصيلًا في كتابه: (مجالس القرآن؛ مدارسات في رسالات الهدى المنهاجي للقرآن الكريم من التلقِّي إلى البلاغ) من خلال مدخلين أساسين؛ الأول: عبارة عن مدخل لبيان كيفية إقامة المجالس القرآنية، وهو بمثابة الدليل العملي، لمن ليست له دراية بتلك المجالس. والثاني: عبارة عن نموذج تطبيقي لمدارسة القرآن الكريم من خلال بعض سوره. وإذا كان العلّامة الأنصاري قد بيّنه؛ فإن غايتنا التذكير به واختصاره، وتقريبه، وتلخيصه، والدعوة إلى إحيائه، ومَن رامه بتفصيله الطويل فسيجد بغيته ومناله في كتاب: (مجالس القرآن)[7].

والناظر في وصف هذه المجالس يلاحظ أنها عزيزة قليلة في الأمة، غير منتشرة على النحو المطلوب؛ هجرًا لها، وجهلًا بآثارها، أو تقاعسًا عن الالتزام بها، من لدن الخاصّة والعامّة، إلّا مَن رَحِم ربُّك وقليلٌ ما هم.

ثالثًا: أهمية مشروع مجالس القرآن:

(مجالس القرآن) عرض متجدّد لموائد الروح، وغاية تبسيط هذه المجالس على هذا النحو أن تكون (دليلًا عمليًّا)؛ لمساعدة مَن لا خبرة له سابقة في تدارس القرآن وتدبّره، وبيان الخطوات المنهجية بصورة مبسّطة وسهلة؛ حتى يعيها كلّ قارئ ومستمع؛ رغبة في تعميم الاشتغال بالقرآن، والرجوع إليه لتربية الفكر والوجدان، وتمتِين نسيج المجتمع على مِنْسَجَةِ الإيمان[8]. لا تستغني عن ذلك فئة دون أخرى، وتحتاجه الفئة المتعلّمة؛ كما تحتاجه الفئة غير المتعلّمة؛ إذ غاية هذه المجالس ليست تعليمية محضة؛ بل هي تربوية إيمانية هادية، ورُبّ دارس يقضي ليله ونهاره لا يبرح الكُتب والمكتبة وهو أحوج ما يكون لهذه المجالس تغذِّيه، وتقوِّيه، وتمدُّه بالإيمان والعطاء، وتجدّد حياته بنور الإيمان، وتُلْهِم النفس تقواها، وهي سُقْيَا النفوس المؤمنة تشفي العليل وتروي الغليل، وتهدي العبد إلى سواء السبيل.

فلا غنى للفرد والمجتمع عنها، بل هي الغنى عن سائر المجالس، فيها الهُدى والموعظة، والأُنس والراحة، والجمال والجلال، بها تطهر الأنفس من الآفات، وتُتَّقَى بها الخطوب والمدلهمّات، مَن وفّقه اللهُ لإقامة هذه المجالس وملازمتها فقد اجتباه وأراد به خيرًا.

رابعًا: مَن له الأهلية لهذه المجالس؟ وهل هي عامّة أو خاصّة؟

للجواب على ذلك وجب أن نبيّن أن الأهلية لهذه المجالس لها تعلُّقان لا بدّ من التمييز بينهما:

الأول: الأهلية المتعلّقة بالتوجيه والتخطيط والإشراف؛ ولا جدال أنها أهلية تحتاج لذوي العلم والمُكْنَة في هذا المجال، ويتولاها العالمون بالكتاب الراسخون في العلم، المأذون لهم في بيان القرآن وتفسيره، ممّن توفّرت فيهم الشروط والضوابط العلميّة والتربوية المعلومة.

الثاني: أهلية الاستفادة من هذه المجالس؛ وهي للعامّة لا تستثني طائفة دون أخرى، وعمومها من عموم الشريعة وشموليتها في الأحكام والخطاب، وعموم رحمة مَن أُنزِل عليه الكتاب: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

والتعلّق الأول قد تكون فيه أولويات تختلف باختلاف الظروف والأحوال والأشخاص، وقد بيَّن العلّامة الأنصاري -رحمه الله- أن الذي يتولى مشروع المجالس القرآنية: «العلماء الربانيون أولًا، وهم أولى بهذا المشروع من غيرهم، ولكن ليس وحدهم؛ بل بعدهم يأتي أهل الخبرة التربوية من الربانِيّين، وربما كان من هؤلاء مَن فاق أولئك! خاصّة وأنّ المشروع يشتغل بالمعلوم من الدّين بالضرورة، وليس موضوعًا لتخريج الفقهاء والمُفتِين، فذلك له ميدان آخر غير ما نحن فيه، وإنما مجالس القرآن مجال للصناعة التربوية أساسًا»[9]. وهذا فيما يتعلّق بالإشراف والتوجيه والتخطيط والتقديم، أمّا مجال الاستفادة (وهو التعلّق الثاني) فهو عامّ غير مخصوص؛ بل واجب امتداد هذه المجالس للناس كافة، في وقت نرى اقتصارها أحيانًا على الصفوة أو صفوة الصفوة وذوي الاستقامة أحيانًا، ويُحْرَم منها العامّة لدواعٍ غير وجيهة؛ ذلك أنه وجب التمييز في هذا المقام بين الدارسين المتعلمين (وهم لا غنى لهم أيضًا عن هذه المجالس) وبين غير المتعلمين الذين يجب أن يكون لهم نصيب من التزكية والعناية وتجديد العهد بالإيمان.

خامسًا: طريقة عَقْد المجالس القرآنية:

بيَّن العلّامة فريد الأنصاري منهج عقد مجالس القرآن، من خلال عرض نظري وعملي، وآخر تطبيقي، تناوَل مدخلًا إلى المجالس القرآنية نظريًّا وعمليًّا، ثم تناوَل بعض السور مدارسةً. وهو نموذج تطبيقي لما يمكن أن يكون أرضيّة للمتدارسين في منهج تناول القرآن بالمدارسة في المجالس القرآنية لكي لا تخرج تلك المجالس عن مقاصدها إلى فروع قد لا تناسبها، وأنجز فيه ما يسَّر اللهُ من مجالس سورة (الفاتحة)، وسورة (الفرقان)، وسورة (يس)، ثم سورة (الحجرات)، وقد ذكر سبب اختياره لهذه السور دون غيرها[10]. وفي الجزء الثاني تناوَل بالمدارسة سورة (ق)، و(الذاريات)، و(الطور)، و(النجم)، وهي السور الموالية في ترتيب المصحف لسورة (الحجرات)، ثم تناول على نحوٍ تفصيلي سورتي: (البقرة)، و(آل عمران)، وبذلك يكون قد بيَّن ما يتعلق بهذه المجالس نظريًّا وعمليًّا بيانًا وافيًا، ويبقَى تحقيق ذلك مسؤولية كلّ فرد في هذه الأمة بينه وبين نفسه، ثم مع أمته على قدر قدرته ومسؤوليته، لبيان رسالة الله للناس.

وطريق عرض المادة في المجالس القرآنية قائم على المنهج الآتي:

1. تقديم السورة المقصودة بالمدارسة تقديمًا كليًّا.

2. تقسيم السورة إلى مجموعة من المجالس، وجعل كلّ مجلس مقتصرًا على مجموعة من الآيات، ويتولى ذلك مَن تحقّقت فيه الأهلية العلمية.

3. كلمات الابتلاء، والمقصود أن تكون الآيات للعمل والتطبيق، وحقائق للابتلاء والتكليف.

4. البيان العام، وهو: عرض خلاصة تفسير الآيات، دون إغراق في معاني لغوية أو استطراد؛ ذلك أن المقصود في هذه المجالس التربية الإيمانية.

5. الهدى المنهاجي، وهو: ما تحصَّل للقلب من رسالات منهجية، توضح خطوات السير إلى الله تعالى.

6. مسلك التخلُّق، وهو: المسلك العملي للدخول في الحقائق الإيمانية.

7. خاتمة، حتى إذا كان المجلس الخاتم جعلنا بعده مباشرة (خاتمة) ترجع على أهم حقائق السورة بالتذكير، مع النظر في علاقتها بالنفس تحقيقًا وتقويمًا[11].

سادسًا: مقترح تصوُّر عملي لإحياء المجالس القرآنية:

الخطوات المنهجية والعملية لمجالس القرآن ميسَّرة كتيسير الذِّكر الحكيم للذِّكر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر: 17]، وهذه الخطوات هي «مسلك تربوي مبسَّط لسلوك طريق النور؛ قصد التعرّف إلى الله! مشروع ليس لنا فيه من الاجتهاد إلّا الجمع والترتيب، ومراعاة التنزيل في واقع جديد، نأخذه كما هو من القرآن والسُّنة النبوية»[12]. ولن نتيه في تنزيله أو نتخبّط في تطبيقه -إذا تولّاه أهله-؛ لأنّ له مثالًا سابقًا؛ فهو ليس بدعًا من الأمر، ولا جديدًا من القول، ولا عملًا غير مسبوق؛ ذلك أن «مجالس القرآن منهج تربوي أسّسه محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانخرط فيه أصحابه -عليهم رضوان الله-، واستمروا به بعد موته -صلى الله عليه وسلم-؛ مدرسة تربوية تُخَـرِّجُ أفواجَ التابعين! ولم يزل بعد ذلك نموذجًا مقصودًا -عبر التاريخ- للعلماء العاملين، وللمجدّدين الربانيين»[13].

للدخول في فضاء مجالس القرآن طريقتان أو صورتان، يمكن اعتماد إحداهما أو الجمع بينهما معًا، وهو أفضل.

فأمّا الأولى: فهي صورة (مجالس القرآن الأُسرية) وتقوم على تأسيس المجلس داخل الأسرة الواحدة، لبنائها على مفاهيم الإسلام، وتكوين الأبناء بمختلف أعمارهم على مواجيد الإيمان، وقيم الدِّين، والتخلّق بجماله وأنواره[14]. سيما في مراحل النشأة الأولى لأفراد الأسرة؛ حيث النفوس أقرب إلى الفطرة وألصق بالاستقامة، عريَّـة عن الرّان، خالية من غَبَشِ الشهوات والشبهات، يسهل الـتأثير فيها وتقويمها كما تقوّم الأغصان الرطبة، وتستعصي عن التقويم الأغصان اليابسة.

وأمّا الصورة الثانية من صور الدخول إلى فضاء القرآن؛ فهي: صورة (صالونات القرآن)، ونقصد بذلك فَتْح صالون البيت للأحباب والأصحاب؛ من أجل الغاية نفسها، وهي تدارس القرآن الكريم، وتدبّره، والإنصات إلى حقائقه وحِكَمِه. وهذا أفضل ما يجتمع عليه الناس من الخير؛ لأن به تتكوّن الشخصية الإسلامية المتماسكة على المستويين: النفسي، والاجتماعي. وبه يحصل (التعارف) بمعناه القرآني الذي يبني الثقة بين الناس؛ قصد التواصل العمراني، وربط العلاقات الاجتماعية، القائمة على التعاطف والتوادّ والتراحم، مما يعطي للحياة داخل المجتمع الإسلامي معنى جميلًا[15].

ويضاف لذلك ما يمكن أن يكون في مختلف الفضاءات العامّة والخاصّة على نحوٍ منتظم مستمر، يُنظم منهجه على نحوٍ مناسب لكلّ فئة، يحقّق الانتفاع بالقرآن وهدايته للتي أقوم.

والقرآن الكريم قد فصّل كيفية الانتفاع بالقرآن وهديه، وأجمله في ثلاث خطوات، وهي:

1- التلاوة بمنهج التلقِّي. 2- التعلُّم والتعليم بمنهج التدارس. 3- التزكية بمنهج التدبُّر.

فذلك ما ذكره الله -سبحانه وتعالى- بإجمال، عند تحديد وظائف النبوّة الثلاث، وهي المذكورة في قوله جل ثناؤه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[آل عمران: 164]، وهي خطوات تجدها مفصَّلة مبيَّنة في كتاب: (مجالس القرآن)[16].

سابعًا: ضوابط إنجاح مجالس القرآن:

لكي تحقّق مجالس القرآن وظيفتها، حدّد لها العلّامة الأنصاري ضوابط منهجية، وهي كالتالي:

الضابط الأول: تجريد القصد لله تعالى، وإخلاص العمل له، حتى يستمر العطاء وتتواصل المجالس.

الضابط الثاني: تَحَيُّن أوقات الانشراح النفسي للقرآن، والإقبال الوجداني على الذِّكْر، ومظانّ اليقظة الإيمانية.

الضابط الثالث: مراعاة أدب المجلس، وذلك بالاعتدال في هيئة الجلوس بما يحفظ للعلم وقاره، وللقرآن جلاله.

الضابط الرابع: عدم الإخلال بمواعيد اجتماعات (مجالس القرآن)، إفراطًا أو تفريطًا.

الضابط الخامس: عدم طول وقت المجلس الواحد بما يخرجه عن حدِّه.

الضابط السادس: احترام قواعد تدارس القرآن العظيم؛ من التلاوة بمنهج التلقِّي، والتعلُّم والتعليم بمنهج التدارس، والتزكية بمنهج التدبر.

الضابط السابع: مبادرة أحد الجلساء من أهل العلم أو أهل الحِلْم؛ لتسيير المجلس.

الضابط الثامن: أن يعمد إلى إشراك الجميع في عملية التدارس والتدبّر.

الضابط التاسع: من القواعد التربوية المساعدة على إشراك الجميع؛ الحرص على عدم استفحال عدد الجلساء، وذلك عن طريق تفريع المجالس وتعدّدها.

الضابط العاشر: تجنيب الجلساء الدخولَ في الجدَل العقيم، ويُستعان على ضبط هذا المعنى بضابط منهجيّ آخر، هو:

الضابط الحادي عشر: الإعراض عن اللغو من القول والابتعاد عنه مطلقًا، والتنزُّه عن سفاسف الكلام.

الضابط الثاني عشر: تحديد أهداف المجلس من التدارس، والتذكير بذلك من حين لآخر.

الضابط الثالث عشر: أن يُقْرَأ القرآن أولًا، مما هو مقصود بالتدارس لذلك المجلس.

الضابط الرابع عشر: قراءة خلاصة التفسير قراءة مسموعة هادئة مفصَّلة.

الضابط الخامس عشر: تَناوُل قدرٍ قليل من الآيات يُشَكِّل معنى يحسُن السكوت عليه، والوقوف عنده.

الضابط السادس عشر: التحقُّق من الفهم العام للمعاني التي وردَت بها، وأن أهل المجلس على إدراكٍ حسنٍ للمقصود.

الضابط السابع عشر: إذا اتضح المعنى؛ وجب -بعد ذلك مباشرة- الدخول في محاولة التعرُّف على الهُدَى المنهاجيّ للآية أو الآيات، وهو عين الحِكَم المطلوب تعلُّمها، مما ورَد في آيات وظائف النبوة: {ويعلِّمُهم الكتابَ والحكمةَ}.

الضابط الثامن عشر: بمعرفة ما تيسّر من الحكم والمقاصد نفتح باب التدبر للآيات، والتفكر في خلقِ الأنفس والأرض والسماوات.

الضابط التاسع عشر: قطف ثمار المدارسة بالتعرّف على قضايا السورة ومحاورها.

الضابط العشرون: وهو: الضابط الجامع والضابط الكلّي، الجامع لضمان سير مجالس القرآن ونجاحها، هو: الحفاظ على ميثاق القرآن العظيم، والالتزام به بقوة.

وغنيّ عن البيان أن الغرض من هذه المجالس تحقيق مقاصدها التربوية والتعليمية، وضبطها منهجًا ومضمونًا وزمانًا؛ كي لا يرد النفع ببعض الاجتهادات التي تكون في غير محلّها فيكون ضررها أكبر من نفعها، وكم رأينا ذلك في مجالس أطال فيها أصحابها طمعًا في المزيد من العلم؛ فكانت العاقبة النفور وعدم استمرار تلك المجالس، وغاية هذه الضوابط أنها موجّهة أكثر منها مقيّدة، وموضّحة أكثر منها مضيّـقة، فمتى روعيت وسَلِم القصد تحقّق المراد بإذن العليم الحكيم.

وأخيرًا فقد حاولتُ في هذه المقالة تسليط الضوء على مشروع مجالس القرآن كما طرحه العلّامة فريد الأنصاري؛ رغبةً في توجيه النظر إلى هذه المجالس واستدعائها للاهتمام والتطبيق، وبيان أهميتها وحاجة المجتمع إليها في كلّ زمان ومكان، وتوضيح كيفية تنزيلها نظريًّا وعمليًّا.

رحم الله مؤلف (مجالس القرآن) العلّامة فريد الأنصاري وأسكنه فسيح جناته وجعل عمله في ميزان حسناته. ونسأل المولى سبحانه أن يسخّر للأمة رجالًا يبلِّغون الرسالة، ويؤدُّون الأمانة، وينصحون الأمة، إنه وليّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.

 

[1] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 1436هـ/ 2015م، ج1، ص24.

[2] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص57.

[3] منها: بلاغ الرسالة القرآنية من أجل إبصار لآيات الطرق، والفطرية بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام، وقناديل الصلاة مشاهدات في منازل الجمال، وميثاق العهد في مسالك التعرّف إلى الله، وجمالية الدين معارج القلب إلى حياة الروح، وغيرها.

[4] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص50.

[5] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص49.

[6] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص50.

[7] يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء، ومجموع صفحات الأجزاء كلها: 1403 صفحة (طبعة دار السلام بالقاهرة).

[8] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص11.

[9] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص57.

[10] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص97.

[11] ينظر في تفصيل هذه المراحل، مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص101 وما بعدها.

[12] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص49.

[13] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص50.

[14] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص51.

[15] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص53.

[16] مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ج1، ص64 وما بعدها.

الكاتب

الدكتور عبد الكريم القلالي

حاصل على الدكتوراه في العقيدة والفكر الإسلامي، وله عدد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))