التفسير الإذاعي وأهمية استثماره في الوقت الحاضر
الحمد لله ربّ العالمين، وصلى اللهُ وسلّم وبارَك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدّين، وبعد:
فمهمّةُ الرسولِ محمد -صلى الله عليه وسلم- هي البيان، والعلماءُ ورثةُ الأنبياء؛ لذلك كان دَوْرُهم فعّالًا في تبليغ كلمة الإسلام وبيان ما أنزل اللهُ من القرآن الكريم، في كلّ الأصقاع والبلدان، وبكلّ الوسائل حسب الإمكانيات المتوفّرة في كلّ زمان؛ وذلك حتى يتمكّن الناس من استيعاب كلام اللهِ بكلّ تلقائية، مما يزيد في مستوى التديّن الصحيح الذي هو الإسلام كما أراده الله للناس جميعًا.
وقد اتخذ العلماءُ عَبْر التاريخ الإسلامي وسائلَ شتى لتقريب القرآن وعلومه للناس، منها: الخُطَب المنبرية، وحلقات الذِّكر المقامة في المساجد، والمحاضرات في النوادي والكليات، ومنها السفر إلى الناس في الأمصار، ومنها تأليف كتُب التفسير وتدريسها، ومنها استعمال وسائل الإعلام المستحدَثة في المجتمعات الإنسانية على اختلاف أنواعها. وأَخُصّ بالذِّكر في هذه الدراسة: الاستعمال الإذاعي لتقريب تفسير القرآن الكريم بواسطة الحصّة اليومية للتفسير.
إلا أننا نجد التفسير الإذاعي -على أهميته- لم يأخذ حقّه الكامل في الإذاعات المتنوّعة، رغم أنه استطاع أن يقرِّب القرآن وعلومه إلى شريحة واسعة من الناس. ومن هذا المنطلق نحاول أن نجيب على بعض الأسئلة التي تتمحور حول التعريف بالتفسير الإذاعي، وخصائص الحصّة التفسيرية المخصّصة له، وما هي أنجع الوسائل لجعل هذا النوع من التفسير ورشًا دعوية لإيصال رسالة الإسلام في كلّ وقت وحين؟
نظرة عن التفسير الإذاعي:
التفسير الإذاعي كلمة مركّبة من: التفسير والإذاعة. أمّا التفسير فجاءت مادته كما هو معروف من الفَسْر، وهو: «الإبانة، وكشف المغطَّى»[1]. فإذا كان التفسير في اللغة هو الكشف والبيان والإيضاح، فإنّ التفسير في الاصطلاح تعدّدت الأقوال في معناه، وسأكتفي هنا بتعريفين: الأول لابن جزي (ت:741هـ)، وقد عرّفه بقوله: «ومعنى التفسير: شرح القرآن وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصّه أو إشارته أو فحواه»[2]. والثاني للزرقاني (ت:1367هـ)، الذي عرّفه بأنه: «علمٌ يُبْحَث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية»[3].
وبهذا يكون المعنى الاصطلاحي للتفسير يتوافق مع المعنى اللغوي في الكشف والبيان؛ وذلك لكونه يبحث عن بيان مراد الله تعالى، عن طريق شرح ألفاظه وإيضاح مشكله وبيان معناه، والتوصّل إلى معرفة مقاصد الآيات وأهدافها، وما ترمي إليه من المعاني والحِكَم والأحكام، وذلك قصد الانتفاع بما فيها من العلم والإيمان، والاهتداء بها والامتثال بما تدعو إليه.
وأمّا مصطلح الإذاعة في اللغة، فهو من: «ذاعَ الخبَرُ يَذيعُ، ذَيْعًا وذُيُوعًا وذَيْعوعَةً وذَيَعانًا، محرَّكةً: انْتَشَرَ. والمِذْياعُ، بالكسر: من لا يَكْتُمُ السِّرَّ... وأذاع به: أفْشاهُ وأظهَرَهُ، أو نادَى به في الناس»[4]. فالإذاعة تدلّ على معنى نشرِ الخبر وإظهاره على أوسع نطاق، وهي خلاف الكتمان.
والإذاعة في الاصطلاح: «فهي وسيلة التبليغ الصوتية التي تعمل عن طريق الأثير»[5]. ويمكن تعريفها بأنها: «الانتشار المنظَّم والمقصود بواسطة الراديو لمواد إخبارية وثقافية وتعليمية وتجارية وغيرها من البرامج، ليلتقطها في وقت واحد المستمعون المنتشرون في شتى أنحاء العالم -فرادى وجماعات- باستخدام أجهزة الاستقبال المناسبة»[6]. وتعتبر الإذاعة وسيلة فعالة في نشر الأخبار المتنوعة، وتهدف إلى مخاطبة المستمعين والمستمعات على اختلاف أنماط عيشهم ومستوياتهم الثقافية. وهي أنواع؛ منها الإذاعة الوطنية والجِهَوية والدولية، كما أن منها الحكومية والخاصّة. وتتميز الإذاعة ببرامجها المتعدّدة التي منها: حصة التفسير الإذاعي للقرآن الكريم الذي هو موضوع هذه الدراسة.
والتفسير الإذاعي للقرآن الكريم يُعرف بأنه: «هو بيان معاني القرآن الكريم عن طريق إعداده وطرحه في الإذاعة»[7]. وهذا التعريف يميز التفسير الإذاعي عن غيره من البرامج التفسيرية غير المعدّة للإذاعة، كالتي أُلْقِيَت في أماكن أخرى وجَرى بثّها بالإذاعة، دون أن تخضع للمعايير الخاصّة بالبرامج الإذاعية.
فالتفسير الإذاعي يَفرض على المفسِّر أن يكون ملتزمًا بالحضور للأستوديو وبالمدّة الزمنية الخاصّة بالحصّة وبتوقيت الإلقاء، مما يجعله مقيَّدًا في كلّ مراحل الكتابة والإعداد والإلقاء. وهذا النوع من التفسير هو اتجاه معاصر ظهر بظهور الإذاعة في العالم الإسلامي، بهدف توعية الجماهير العريضة، وتقريب رسالة القرآن لهم؛ بما تحمله من توجيهات ربانية لإصلاح معاشهم ومعادهم.
ومن الروّاد الأوائل لهذا النوع من التفسير في العالم العربي: الشيخ محمد المكي الناصري بالمغرب، والأستاذ الدكتور عبد الله الطيب بالسودان، والأستاذ الدكتور حسن عباس بالأردن، والأستاذ الدكتور محمد السعدي فرهود بمصر، والأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي بسوريا.
كيف نعطي للتفسير الإذاعي قيمة مضافة؟
1- الاستفادة المباشرة من طرف المستمعين والمستمعات:
إنّ للإعلام بصفة عامّة وللإذاعة بصفة خاصّة دورًا مهمًّا وخطيرًا في المجتمعات؛ فالإعلام هو الذي يصنع الأبطال ويقضي على عادات قديمة، ويرسّخ عادات جديدة، ويغيّر الأحاسيس، ويصنع النماذج في المجتمعات، ويغيّر الأذواق. وبهذا يكون التفسير الإذاعي للقرآن الكريم أحوج أن تُعطى له الأسبقية في البرامج الإذاعية، وأن يُبَثّ بصفة منتظمة في الأوقات المختلفة، حتى يستفيد منه المستمعون والمستمعات على اختلاف أنواعهم ودرجاتهم، مما يجعل الناس يتعرفون على هذا النوع من التفسير، ويصبح جزءًا مهمًّا من ثقافتهم اليومية. فرسالة القرآن الكريم يحتاجها المسلمون في كلّ وقتٍ وحين، وهذه البرامج بما فيها من تعاليم الوحي القرآني، لا يملّ منها الناس حتى ولو أُعيد بثّها مرات ومرات، بل بالعكس كلّما تكررت ازدادت الاستفادة منها أكثر، فهي من نوع البرامج التي يبقى لها رونقها وحلاوتها؛ لأنها تكتسب خاصيتها من بركة القرآن الكريم الذي لا يخلق عن كثرة الردّ.
2- دراسة التفسير الإذاعي من خلال مقرّرات الجامعات:
التفسير الإذاعي من الأنواع الجديدة التي تَعَرَّف عليها العالم الإسلامي في المنتصف الثاني من القرن العشرين الميلادي، مما جعله من مواد البحث العلمي الحديث؛ فقد فطنت بعض جامعات العالم الإسلامي إلى أهمية هذا النوع من الدراسات، التي لها ارتباط كبير بوسائل الإعلام التي يُعتبر المذياع من أقدمها، حيث ما زالت له القدرة الفعالة على القيام بدوره كاملًا في المجتمعات الحديثة. كما أن تدريس مادة التفسير الإذاعي، وتناولها في البحوث الجامعية من طرف الطلاب، يُعتبر عاملًا فعّالًا في تطوير الدراسة القرآنية وجعْلِها مواكِبةً لكلّ الإبداعات الصادرة في حقل الثقافة الإسلامية.
3- التعليق على التفسير طريقة فعّالة لإغناء الدرس التفسيري:
وأعني بالتعليق على التفسير: ما شاع في أيامنا هذه من فعلِ العلماء الشيوخ في تناولهم لتفاسير معيّنة، واتخاذها قاعدة لشرح أفكارها وتوضيح مناهجها، ومناقشة علومها؛ مما يتيح لطلبة العلم الفرصة لمباشرة الدرس التفسيري، والاستفادة بما يحمله من علوم تتمحور حول التفسير وعلوم القرآن. وقد زاد هذا الأسلوب التعليمي إشراقًا وإشعاعًا لكونه لم يقتصر على أمكنةٍ معيّنة، بل رافقته الوسائل الحديثة في التواصل، حيث أصبحنا نجد الدروس منتشرة عبر الوسائل المتعدّدة من إذاعات وقنوات تلفزيونية، وعبر الشبكة العنكبوتية في شتى أنواع التواصل الاجتماعي، مما زاد من إمكانية الاستفادة منه في جميع أنحاء العالم؛ لأن الغاية المنشودة من ذلك هي إشاعة ثقافة التفسير وعلوم القرآن في العالم الإسلامي، وتلك من أجَلِّ خصائص الدعوة الإسلامية التي ترتكز على تقريب كلام الله إلى كلّ الناس.
خاتمة:
حصة التفسير الإذاعي للقرآن الكريم من الآليات المستحدثة في تقريب القرآن وعلومه. وقد أثبتت التجارب نجاعته وقدرته على الوصول إلى قلوب المستمعين في شتى الأنحاء، إلّا أن هذا النوع من التفسير لم يُستثمَر كما يجب؛ فهو يحتاج إلى من يحيطه بالدراسة المستفيضة والتسويق الجيّد، وذلك بتجديد برمجته بالإذاعات حتى يؤدي رسالته كاملة للأجيال المتعاقبة، كما أنه لم يحظ بالعناية اللازمة لجعلهِ جنسًا كتابيًّا له خصائصه المتميزة ليكون حافزًا للمفسرين حتى يقتفوا أثره، وذلك بإنتاج تفاسير إذاعية قابلة للتسويق، وبثّها ودراستها والتعليق عليها حتى تكون ورشًا مفتوحة للثقافة القرآنية الخاصّة بالجماهير على اختلاف مستوياتهم.
وفي هذا الإطار أقترح ما يأتي:
1- ضرورة استثمار التفاسير الإذاعية الموجودة، وإعادة بثّها في الإذاعات الوطنية والمحلية.
2- تشجيع الكتابة الأكاديمية حول التفاسير الإذاعية بواسطة المقررات الجامعية والبحوث الأكاديمية والوِرَش العلمية.
3- الاجتهاد في تقديم التفاسير الإذاعية عبر الوسائط المختلفة السمعية والبصرية، بشتى الأساليب الإبداعية، قصد إيصالها إلى أكبر قدر ممكن من الناس.
4- نقل التفاسير من كتب التفسير إلى المستمعين اعتمادًا على آليات الحصص التفسيرية.
5- إنتاج تفاسير إذاعية مترجمة للغات أخرى غير العربية، حتى تصل رسالة القرآن إلى غير الناطقين بلسان القرآن في كلّ مكان.
[1] القاموس المحيط، الفيروزآبادي، د.ط، مادة: (تفسير)، (1/ 456).
[2] التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، ط1، (1/ 15).
[3] مناهل العرفان في علوم القرآن، الزرقاني، ط3، (2/ 3).
[4] القاموس المحيط، الفيروزآبادي، فصل الراء، (1/ 718).
[5] تقويم أساليب تعليم القرآن الكريم وعلومه في وسائل الإعلام، محمد حسن سبتان، ص16.
[6] الإعلام الإذاعي والتلفزيوني، إبراهيم إمام، ص256.
[7] التفسير الإذاعي للقرآن الكريم، عبد العزيز الضامر، مجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، ع1، ربيع الآخر 1427هـ.