الاستدلال على مشروعية الأذان من القرآن الكريم
قراءة في مقولات المفسرين
مقدمة:
الأذان لغة: الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج: 27][1].
وشرعًا: هو الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة[2].
وقد اتفق الفقهاء -رحمهم الله- على مشروعيته وأنه من خصائص الإسلام وشعائره الظاهرة، وأنه لو اتفق أهلُ بلد على تركه قوتلوا، وأنه لو صَلَّى مصلٍّ من غير أذان فصلاته صحيحة[3].
وقد دلّت على مشروعيته أحاديث كثيرة؛ منها خبر الصحيحين: «إذا حضرت الصلاة، فليؤذِّن لكم أحدُكم، وليؤمّكم أكبرُكم»[4]، ودلّ حديث (عبد الله بن زيد) على كيفية الأذان المعروف بالرؤيا التي أيّده فيها عمر بن الخطاب في حديث طويل، فقال النبي -صلّى الله عليه وسلم-: «إنها لرؤيا حقٍّ إن شاء الله، فَقُمْ مع بلال فألقِ عليه ما رأيتَ، فإنه أندَى صوتًا منك»[5].
وذكر الدكتور وهبه الزحيلي أن مستند الأذان ليس الرؤيا فقط، «بل وافقها نزول الوحي، فقد روى البزار: (أن النبي -صلّى الله عليه وسلم- أُرِي الأذان ليلة الإسراء وأُسمعه مشاهدةً فوق سبع سماوات، ثم قدّمه جبريل، فأمَّ أهل السماء، وفيهم آدم ونوح عليهم أفضل الصلاة والسلام، فأَكمل له اللهُ الشرف على أهل السماوات والأرض)[6]، لكنه حديث غريب، والخبر الصحيح أن بدء الأذان كان بالمدينة كما أخرجه مسلم عن ابن عمر. وعلى هذا كانت رؤيا الأذان في السَّنة الأولى من الهجرة، وأيّده النبي -صلّى الله عليه وسلم»[7].
أمّا الدليل على مشروعيته من القرآن، فذكر بعضهم وجود ما يقرّر مشروعية الأذان، وأنه ثابت بالقرآن والسُّنة لا بالسُّنة فقط، وسوف نحاول في هذه المقالة أن نسلط الضوء على هذه النقطة ونبيِّن وجه استدلال المثبِتين وعِلله، وفيما يأتي بيان ذلك:
ذكَر بعضُ المفسرين أن في قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}[المائدة: 58]، ما يحمل دليلًا على ثبوت مشروعية الأذان.
قال فخر الدين الرازي: «قالوا: دلّت الآية على ثبوت الأذان بنصّ الكتاب لا بالمنام وحده»[8].
وقال ابن عجيبة عند تفسيره لهذه الآية: «وفي الآية دليل على مشروعية الأذان من القرآن»[9].
وقال السيوطي: «قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}[المائدة: 58]، أصلٌ في الأذان والإقامة»[10].
وقال أبو البقاء الكفوي: «والأذان المتعارف: من التأذين كالسلام من التسليم؛ والدليل على مشروعيته للصلاة قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}[المائدة: 58]»[11].
وصحيح أن الأذان وردَت له إشارة في سورة الجمعة، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الجمعة: 9]، إلّا أن هذه الآية ليست في عموم الأذان، وهو ما بيّنه القرطبي، حيث قال: «ليس للأذان ذكر في القرآن إلّا في هذه السورة [يعني سورة المائدة]، أمّا ما جاء في سورة (الجمعة) فمخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات»[12].
ولذا فإن الآية في سورة المائدة هي عمدة الاستدلال في ثبوت مشروعية الأذان في القرآن، وفيما يلي نبيِّن وجه الاستدلال فيها:
أولًا: سبب نزول الآية:
أورد الواحدي في سبب نزول هذه الآية ثلاث روايات، قال:
«قال الكلبي: كان منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نادى إلى الصلاة، فقام المسلمون إليها، قالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا. على طريق الاستهزاء والضحك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال السدي: نزلت في رجل من نصارى المدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: حُرِّق الكاذب. فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام، فطارت منها شرارة في البيت فاحترق هو وأهله[13].
وقال آخرون: إنّ الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين على ذلك، فدخلوا على رسول الله، وقالوا: يا محمد لقد أبدعْتَ شيئًا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية، فإن كنت تدّعي النبوّة فقد خالفْتَ فيما أحدَثْتَ من هذا الأذان الأنبياءَ مِن قبلك، ولو كان في هذا الأمر خيرٌ كان أولى الناس به الأنبياء والرسل مِن قبلك، فمِن أين لك صياح كصياح العِير؟ فما أقبح مِن صوتٍ ولا أسمج مِن كفرٍ! فأنزل الله تعالى هذه الآية...»[14].
والناظر في هذه الروايات يجد أنّ سائرها يتّفق في أن الآية نزلت بسبب الأذان، وعليه فالمراد بالمناداة في الآية: الأذان، قال الواحدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الجمعة: 9]، أي: إذا دعوتم الناس إلى الصلاة بالأذان»[15].
ثانيًا: المعنى الإجمالي للآية والسياق الذي وردت فيه:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة: 57-60].
والناظر في هذا السياق يجد أنّ فيه إخبارًا عمّا كان يفعله اليهود والنصارى إذا سمعوا المناداة للصلاة، وكيف أنهم يسخرون من ذلك، وبالتالي فالمناداة للصلاة هاهنا لم تذكر في الآية إلّا لبيان بعض مظاهر استهزاء أهل الكتاب بالدّين وشعائره[16]، ما يجعل المراد بالمناداة هاهنا هو الأذان للصلاة باعتباره شعيرة رئيسة للإعلام بها.
ومن خلال ما سبق يظهر أن سبب النزول للآية وسياق الآيات قبلها وبعدها مؤكِّد على أن المراد بالمناداة في الآية هو الأذان، وهو ما يدلّل على وجود مشروعية للأذان بنصّ القرآن؛ لأنه قرّره بالصورة التي كان عليها.
قال وليّ الدين العراقي: «فنزول الآية على وفق ما فعل دليل على مشروعيته»[17].
وتجدر الإشارة هاهنا لأمرين:
الأول: اعتبار أن المناداة في الآية هي الأذان يفيد تقرير القرآن لمشروعية الأذان، غير أنه يجب الإنباه إلى أن الأذان شرع في أصله بالسُّنّة، وأن القرآن قرّر هذه المشروعية وأكّدها لا أنه هو من سَنّها. يقول ابن عاشور: «والنداء إلى الصلاة هو الأذان، وما عبّر عنه في القرآن إلّا بالنداء، وقد دلّت الآية على أن الأذان شيء معروف، فهي مؤيدة لمشروعية الأذان وليست مشرِّعة له؛ لأنه شُرِع بالسُّنّة»[18].
الثاني: أنّ أبا حيّان ردّ الاستدلال بآية المائدة على مشروعية الأذان، بحجة أن قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} جملة شرطية دلّت على سبق المشروعية لا على إنشائها، قال: «ولا دليل في ذلك على مشروعيته؛ لأنه قال: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ولم يقل: (نادُوا) على سبيل الأمر، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها بالشرط»[19].
وكلام أبي حيان مشكل، وقد تعقبه السيوطي؛ حيث أورد في حاشيته على تفسير البيضاوي على كلام أبي حيان كلامًا نقله عن شيخه وليّ الدين العراقي وأنه قال: «ولا شك أن فيه دليلًا على مشروعيته وإن لم يكن بصيغة الأمر، ولا يلزم من كونه دليلًا على المشروعية ألّا يفعل إلّا بعد نزول الآية، فنزول الآية على وفق ما فعل دليل على مشروعيته»[20].
وكلام ولي الدين العراقي ظاهر؛ فلا يلزم من كون الآية دليلًا على مشروعية الأذان ألّا يفعل إلّا بعد نزول الآية، فتقرير الآية لمشروعية الأذان تأكيد لهذه المشروعية.
خاتمة:
من خلال ما مرّ معنا، فحاصل المسألة أنّ ما ذهب إليه فخر الدين الرازي والسيوطي وغيرهما من المفسرين والفقهاء من التأصيل لمشروعية الأذان من قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}[المائدة: 58]، أنه استنباط صحيح ومليح، وله دلائل تدعمه وتقوّيه.
قال وليّ الدين العراقي: «وهذا استنباط حسن لا ينبغي إنكاره»[21]. وأمّا ما ذكره أبو حيّان من ردّ هذا الاستنباط فغير دقيق.
[1] لسان العرب، ابن منظور، دار صادر - بيروت، الطبعة الثالثة: 1414هـ، (13/ 12).
[2] الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، دار الفكر، سورية - دمشق، الطبعة الرابعة، (1/ 691).
[3] ينظر: الفقه الميسر، عبد الله بن محمد الطيّار وغيره، مدار الوطن للنشر الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية: 1433هـ-2012م، (1/ 165).
[4] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، رقم: 628، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422هـ، (1/ 128).
[5] أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، رقم: 499، المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، (1/ 135).
[6] لم أعثر على هذا الحديث لا في مسند البزار ولا في غيره من كتب الحديث المعروفة.
[7] الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، (1/ 692). والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب بدء الأذان، رقم: 377، (1/ 285).
[8] التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثالثة - 1420هـ، (12/ 388).
[9] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ابن عجيبة، المحقق: أحمد عبد الله القرشي رسلان، الدكتور حسن عباس زكي - القاهرة، طبعة 1419هـ، (2/ 54).
[10] الإكليل في استنباط التنزيل، السيوطي، دار الكتب العلمية - بيروت، 1401هـ-1981م، ص113.
[11] الكليات، أبو البقاء الكفوي، المحقق: عدنان درويش، مؤسسة الرسالة - بيروت، ص721.
[12] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ-1964م، (6/ 30-31)، وينظر: (6/ 225).
[13] رواه الطبري في تفسيره، المحقق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420هـ-2000م، (10/ 432)، وابن أبي حاتم في تفسيره، المحقق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، الطبعة الثالثة - 1419هـ، (4/ 1164)، بسنديهما إلى السدّي.
[14] أسباب النزول، الواحدي، المحقق: عصام بن عبد المحسن الحميدان، دار الإصلاح - الدمام، الطبعة الثانية: 1412هـ-1992م، ص200-201.
[15] التفسير الوسيط، الواحدي، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود وغيره، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى: 1415هـ-1994م، (2/ 203). وينظر: زاد المسير، لابن الجوزي، المحقق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى: 1422هـ، (1/ 562).
[16] ينظر: التفسير الوسيط، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة - القاهرة، الطبعة الأولى: (4/ 18)، و(4/ 203، 204).
[17] نواهد الأبكار وشوارد الأفكار، السيوطي، جامعة أم القرى - كلية الدعوة وأصول الدين - المملكة العربية السعودية، 1424هـ-2005م، (3/ 282).
[18] التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984، (6/ 242).
[19] البحر المحيط، أبو حيان، المحقق: صدقي محمد جميل، دار الفكر - بيروت، طبعة: 1420هـ، (4/ 303).
[20] نواهد الأبكار وشوارد الأفكار، السيوطي، (3/ 282).
[21] المصدر السابق، (3/ 282).
مواد تهمك
- البلاء في القرآن: تأملات من وحي آيات الرجز في سورة الأعراف
- ثنائيات الوقاية الأُسريّة في ظلال الآية السادسة من سورة التحريم
- سورة الفاتحة (صيغة الاسم - الدلالة - مشتقات الكلمة في القرآن)
- القواعد القرآنية؛ صيغها، وكيفية الاستفادة منها
- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى﴾ تفسير الآية 69 من سورة الأحزاب
- مفهوم الدعوة في القرآن؛ دراسة مصطلحية (1-2)