كتاب (مصادر يهودية بالقرآن) للمستشرق شالوم زاوي
عرض وتقويم

يُعدّ كتاب (مصادر يهودية بالقرآن) لمؤلِّفه شالوم زاوي من مؤلفات الاستشراق الإسرائيلي المهمّة، وقد سعى مؤلفه في ردّ عددٍ كبيرٍ من آيات القرآن إلى مصادر دينية يهودية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بهذا الكتاب وتعرض فرضياته حول القرآن، مع تحليلها ونقدها.

  يمثّل الاستشراق الإسرائيلي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل تطوّر (المدرسة اليهودية في الاستشراق)[1]، والتي تبدأ بالاستشراق اليهودي العامّ، ثم الاستشراق الصهيوني، وأخيرًا الاستشراق الإسرائيلي. ففي التاريخ الحديث يبدأ الاستشراق اليهودي بالتوجّه نحو دراسة الإسلام والمجتمعات الإسلامية كجزء من الحركة الاستشراقية في الغرب، التي ظهرت مع بدايات القرن الـ 18م[2].

أما الاستشراق الصهيوني فقد ارتبط -بطبيعة الحال- بالحركة الصهيونية التي ظهرت بالأساس في شرق أوروبا عام 1881م، بهدف تقديم خدمات علمية للحركة الصهيونية وتأصيل الوجود اليهودي في فلسطين. ثم يأتي بعد ذلك (الاستشراق الإسرائيلي) مع بداية قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين المحتلة عام 1948م وحتى يومنا هذا، كامتداد للاستشراق (اليهودي) و(الصهيوني)، وبالتالي نجد أن هناك تداخلًا وتشابكًا في موضوعات واهتمامات الاستشراق الإسرائيلي مع موضوعات واهتمامات كلّ من الاستشراق (اليهودي) و(الصهيوني) و(الغربي)[3].

وقد احتل (القرآن الكريم) مكانة مهمّة وبارزة من بين اهتمامات وموضوعات الاستشراق الإسرائيلي سواء بالدراسة أو الترجمة أو النقد والتحليل، وفي إطار هذا الاهتمام يأتي الكتاب الماثل للعرض النقدي بعنوان: (מקורותיהודײםבקוראןمصادر يهودية بالقرآن) باللغة العِبرية لمؤلِّفه الحاخام والمستشرق الإسرائيلي א.שלוםזאוי أندريه شالوم زاوي، الصادر في القدس عن دار نشر (دافير) الإسرائيلية عام 1983م، والذي يعدّ من المؤلَّفات النادرة التي تركز بالتحليل والنقد على الآيات القرآنية؛ إِذْ شمل جميع سور القرآن الكريم، رادًّا عددًا كبيرًا من آياته إلى مصادر دينية يهودية قديمة ومتأخرة، ولمصادر أخرى غير أصيلة، علاوة على اعتبار عدد من ألفاظه ذات أصول (عبرية) وأخرى أجنبية.

يعدُّ الكتاب كذلك من المؤلفات التي تعكس اهتمامات وموضوعات مرحلة الاستشراق الإسرائيلي كواحدة من أهم مراحل المدرسة اليهودية في الاستشراق وأكثرها خطورة، كما أنه يعكس سمات هذه المرحلة وما يميزها عن مراحل استشراقية يهودية أخرى وعن مدارس استشراقية غربية عامّة؛ لا سيما فيما يتعلق بفهم الرؤية الاستشراقية الإسرائيلية للقرآن الكريم، وكيفية توظيف هذه الرؤية ومحاولة ترويجها في الغرب سواء في المحافل العلمية أو حتى الإعلامية، وفي الوقت نفسه كيفية توظيفها في الداخل الإسرائيلي لتقديم صورة مغلوطة ومشوَّهة عن القرآن الكريم باعتباره الكتاب المقدّس للمسلمين والمصدر الأول لعقيدتهم الدينية. وهو ما يمثّل إضافة معرفية وعلمية لفهم الاستشراق الإسرائيلي ومثاقفته على نحو جيد.

تزيد من أهمية الكتاب أنه من المؤلفات الاستشراقية القليلة التي قدمت (ترجمة) لمعاني القرآن الكريم إلى العبرية شملت الكثير من آيِ القرآن بجميع سوره الـ(114)، رغم أن مؤلفه لم يحدّد إذا كان هو صاحب هذه الترجمات أم لا، إلا أنه وجّه الشكر في بداية كتابه إلى دار نشر (دافير) الإسرائيلية التي سمحت له باقتباس أجزاء من ترجمة (ريفلين) لمعاني القرآن الكريم إلى العبرية[4]، وهي ترجمة لا تخلو من أخطاء؛ إِذْ إنّ صاحبها حاول من خلالها إثبات التأثيرات اليهودية في القرآن الكريم من خلال الهوامش العديدة التي عرضها أسفل صفحات الترجمة[5].

بالتالي نحن أمام كتاب يحتوي على قِسْمَين عن القرآن الكريم؛ الأول: ترجمة لمعانيه إلى اللغة العبرية. والثاني: نَقْد للآيات القرآنية وردّها لمصادر يهودية وأخرى أجنبية غير أصيلة. مع ملاحظة صعوبة تمييز أيّ الترجمات قام بها مؤلف الكتاب وأيّ منها اقتبسها من ترجمة ريفلين العبرية لمعاني القرآن الكريم أو من ترجمات أخرى لمعاني القرآن الكريم سواء عبرية أو حتى فرنسية، إلا أن الكتاب يعرِّفنا على صورة من صور تناول الاستشراق الإسرائيلي للآيات القرآنية المترجمة للعبرية بالنقد والتحليل، وغرض الفكر الاستشراقي الإسرائيلي من ذلك، وهو ما يزيد من أهمية عرضه ونقد منهجيته وفرضياته التي يطرحها لفهم توجهات الاستشراق الإسرائيلي نحو القرآن الكريم.

يقع الكتاب في (269) صفحة من القطع الكبير، وينقسم وفقًا لقائمة محتوياته إلى: 1- تمهيد. 2- مقدمة. 3- ملاحظات وتفسير للقرآن. 4- سورة الفاتحة. 5- السورة الثانية حتى الأخيرة. 6- ملخص. 7- بيبلوغرافيا. 8- قائمة سور القرآن. 9- خلاصة بـ(اللغة الإنجليزية). إلا أنه من الممكن تقسيم محتويات الكتاب -من حيث طريقة عرضه للأفكار والموضوعات- إلى جزأين أساسيّين: الأول (نظري)، ويشمل أقسام: (التمهيد والمقدمة، وملاحظات، وتفسير للقرآن، والملخص والخلاصة بالإنجليزية) بالكتاب، والتي تتناول أهم أفكار المؤلف حول ردّ القرآن إلى مصادر يهودية، مستشهدًا بعدّة أدلة تاريخية ودينية ولغوية، ومنها أن القرآن لم يدوَّن إلا في أواخر القرن السابع الميلادي أو أوائل القرن الثامن الميلادي، في حين أنّ العهد القديم سبقه بحوالي ألْف عام[6]، إضافة إلى استشهاده بكلٍّ من المستشرقَين اليهوديين: اجنتس جولدتسيهر[7] وأبراهام كاتش[8]، واللذَين قالا بأنّ اليهود المعاصرين لمحمد كانوا أصحاب تأثير على الأفكار المتضمَّنة في القرآن، وأنّ هناك الكثير من الأساطير الدينية اليهودية تم تضمينها في كتب المسلمين الأوائل حول القرآن وسيرة محمد مثل تفاسير الطبري والبيضاوي وكتاب البخاري، مؤكدًا أنّ القرآن انبنَى بشكل عامّ على أفكار العهد القديم، وفي مقدمتها حبّ الإله ووحدانيته المطلقة[9].

يتضمّن هذا الجزء أيضًا عددًا من الفرضيات اللغوية التي حاول من خلالها التشكيك في أصالة لغة القرآن وردّها للغات أخرى سامية لا سيما العبرية منها، فيذكر أن لفظة (القرآن) جاءت من اسم الفعل في العبرية: (קרא) بمعنى: قراءة أو تلاوة أو تسميع، وهذا اللفظ العبري جاء منه أيضًا كلمة: מקרא (المِقْرا/ أي: الشريعة المقروءة في اليهودية) التي تشير إلى التسمية اليهودية لكتابهم المقدّس المعروف في الأوساط العربية بـ(العهد القديم)[10].

أما الجزء الثاني فهو (تطبيقي)، والذي يقع في قسمي (سورة الفاتحة والسورة الثانية حتى الأخيرة) بالكتاب، ويشمل ترجمةً لعدد من آيات السور القرآنية والتعليق عليها لردِّ ما وردَ بها إلى مصادر دينية يهودية مختلفة، سواء على مستوى العقيدة أو الشريعة أو حتى اللغة، مثال ذلك ترجمته صيغة (البسملة)؛ إِذْ يردّ لفظ الرحمن (רחמן) إلى التلمود والمدراشيم وصيغ صلوات بني إسرائيل، دون أن يضرب مثالًا على ذلك أو يحدد مواضع معيّنة في هذه المصادر اليهودية[11].

من الأمثلة الواردة في هذا الجزء أيضًا ترجمته للآيات 60-70 من سورة البقرة، والتي علّق عليها زاوي بالقول: «إنّ القرآن خلَط في هذه الآيات بين البقرة الحمراء الوارد ذِكرُها في سِفْر العدد بالتوراة وبين العجل مقطوع الرأس الوارد ذِكره في سِفر التثنية بالتوراة». كما أنه يذهب لأبعد من ذلك بإقحام كلمات غير واردة بالنصّ القرآني فيه بعد ترجمتها للعبرية، ومن أمثلة ذلك ترجمته للآية 124 من سورة البقرة: {...قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا...}؛ إِذْ يُترجم لفظة (إمام) إلى (כוהן) كاهن العبرية، ويردّ أصلها إلى التلمود[12].

يلاحظ كذلك في هذا الجزء من الكتاب أنّ ترقيم الآيات القرآنية المترجَمة إلى العبرية يختلف عن ترجمتها في الأصل القرآني العربي، ومن الواضح أنّ ذلك عائد إلى اعتماده على ترجمات للأصل العربي للقرآن ولم يعتمد على النصّ الأصلي؛ وكان من ضمنها ترجمة أهارون بن شيمش العبرية[13] لمعاني القرآن الكريم[14]. والتي جاء فيها الترقيم مخالفًا للأصل؛ فقد جاء في نهاية كلّ خمس آيات وليس في نهاية كلّ آية، كما أغفل في بعض الأحيان ذكر بعض فواتح السور المكونة من حروف منفصلة[15].

أولًا: مؤلّف الكتاب ونقد منهجه:

أ- المؤلف وسيرته العلمية:

رغم قلّة المعلومات البيبلوغرافية المتوفّرة عن الحاخام شالوم زاوي مؤلّف الكتاب، إلَّا أن ما يتوفّر منها يمكن أن يساعد على الوقوف على الكثير من جوانب شخصيته العلمية والفكرية، ومحاولة معرفة الدوافع التي وقفَت وراء تأليفه لهذا الكتاب وهل هو مؤهَّل لهذا العمل أم لا.

والحاخام أندريه شالوم زاوي هو يهودي من أصول جزائرية، ولد في مدينة وهران (غرب الجزائر) عام 1916م لأسرة يهودية جزائرية متديّنة، وتوفي في القدس عام 2009م، وهو بالأساس حاخام ينتمي إلى تيار اليهودية الليبرالية أو الإصلاحية التي نادت بإدخال تعديلات وتيسيرات على اليهودية التقليدية على مستوى الأفكار والتشريعات والطقوس[16].

تلقَّى زاوي تعليمه الأساسي في مدينة وهران الجزائرية بإحدى المدارس الفرنسية، وفيما بين عامي 1936-1939م تلقى تعليمًا دينيًّا يهوديًّا في فرنسا وأصبح حاخامًا، كما حصل على شهادة الفلسفة من جامعة السوربون الفرنسية بباريس، وعقب ذلك تولّى عدّة وظائف ومناصب، من أبرزها: حاخام للجنود اليهود في الجيش الفرنسي، وكذلك حاخام الطائفة اليهودية في مدينة سيدي بلعباس الجزائرية. كما أنشأ عام 1955م المعهد الوطني للدراسات العبرية في باريس، الذي تتمثل مهمّته في تدريب الحاخامات الليبراليين الناطقين بالفرنسية ومعلمي اليهودية، وخلال عقد الستينيات من القرن الماضي عاد إلى الاستقرار النهائي في القدس[17].

أما عن مؤلفاته؛ فمعظمها بالفرنسية إلى جانب عدد قليل منها بالعبرية والإنجليزية، ومن أبرزها بالفرنسية كتاب: مقدمة يهودية للعهد القديم، عام 1966م. وبالعبرية كتاب: اليهودية الحيّة، عام 1969. كما قام بعدد من الترجمات من العبرية إلى الفرنسية بالاشتراك مع مترجمِين آخرين ومن أشهرها كتاب: (موسى بن ميمون؛ كتاب المعرفة) الذي صدر في باريس عام 1961م، إضافة إلى أنّ له عدّة مقالات باللغات الفرنسية والعبرية والإنجليزية، ومن أبرزها مقال: اليهودية الليبرالية، المنشور بمجلة الفكر اليهودي بباريس عام 1985م، ومقال: محمد وإسرائيل، المنشور بمجلة سينس الفرنسية عام 1983م، ومقال عن يهود الفلاشا: (يهود أثيوبيا)، باللغة الإنجليزية من غير المعروف مكان وتاريخ نشره[18].

من خلال هذه السيرة العلمية للمؤلف يمكن الخروج بعدّة ملاحظات ونتائج؛ لعلّ في مقدمتها أنّ صفة التخصّص أو الأهلية للكتابة في الدراسات القرآنية وترجمة معانيه إلى اللغة العبرية غير متوفرة في الحاخام زاوي، الذي من دون المبالغة القول بأنه من الصعب حسابه على فئة (المستشرقين) اليهود أو حتى الإسرائيليين بالأساس؛ فكتابه: (مصادر يهودية بالقرآن) هو مؤلَّفُه الوحيد في مجال الدراسات القرآنية، إضافةً إلى مقاله المقتضَب بعنوان: محمد وإسرائيل، والذي يدور في نفس فلَك فكرة الكتاب، كما أنه في هذا الكتاب لم يعتمد فيه على أيّ نصّ عربي أصلي للقرآن الكريم، بل اعتمد على ترجمتَين عبريتين لمعاني القرآن الكريم، وهما: لـ(ريفلين وبن شيمش)، إضافة إلى ترجمة بلاشير الفرنسية لمعاني القرآن الكريم، والمرجع العربي الوحيد الذي اعتمد عليه هو تفسير الجلالين طبعة بيروت عام 1931[19].

يتضح كذلك من سيرته أنه لم يتعلّم أو يدرس العربية بشكلٍ أكاديمي متخصّص، بل إنه تعلمها نتيجة أنه ذو أصول جزائرية ونشأ في مجتمع عربي، إلا أن تعليمه من البداية إلى النهاية كان فرنسيًّا بحتًا سواء داخل الجزائر أو خارجها، إضافة إلى أنه كان متشبعًا بالتعليم الديني اليهودي منذ صغره وعمل حاخامًا طوال سنوات عمره سواء داخل الجزائر أو خارجها، وهو ما انعكس على أن كتابه عن القرآن دار في فلَك فكرة واحدة فقط وهي اقتباس القرآن من المصادر اليهودية الدينية المختلفة. وهو ما كان أكثر وضوحًا في اعتماده على كتب استشراقية يهودية هي الأبرز حول هذه الفكرة، مثل كتاب: (ماذا اقتبس محمد من القرآن؟) للحاخام والمستشرق اليهودي الألماني أبراهام جايجر[20]، وكتاب: (اليهودية بالإسلام) للمستشرق الأمريكي اليهودي أبراهام كاتش، وكذلك كتاب المستشرق اليهودي الهنجاري اجنتس جولدتسيهر بعنوان: (محاضرات حول الإسلام)[21].

يمكن ملاحظة -أيضًا- سمة (التعددية اللغوية) التي يتّصف بها صاحب الكتاب، وهي سمة شائعة لدى غالبية المستشرقين الإسرائيليين[22]؛ إِذْ إِنّ زاوي يكتب بالفرنسية والعبرية والإنجليزية، وهو ما برز بوضوح في إرفاقه بنهاية كتابة خلاصة له باللغة الإنجليزية، ورغم أنه لم يذكر سبب ذلك، لكن من الواضح أنه تقمص دور (الداعية الدينية والفكرية اليهودي) الذي يحاول إيصال فكرة (أنّ القرآن مقتبَس من اليهودية) لأكبر شريحة ممكنة من القرّاء؛ فالعبرية -لغة الكِتاب- هي لغة إسرائيل الرسمية إلا أنها محدودة الاستخدام والانتشار والفهم، في حين أن الإنجليزية -لغة الخلاصة- هي اللغة العالمية الأولى على مستوى الانتشار والفهم والاستخدام.

ب- منهج المؤلف ونقده:

كان منهج (التأثير والتأثُّر) هو الأكثر استخدامًا من جانب مؤلّف الكتاب في دراسته وتحليله للنصّ القرآني، شأنه في ذلك شأن غالبية المستشرقين اليهود والإسرائيليين في استخدامهم لهذا المنهج؛ وهو ما جسَّد ظاهرة أو سمة (الامتداد والتكرار) التي تَسِم معظم الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية التي مثَّلت امتدادًا للاستشراق الغربي وتكرارًا لنفس مناهجه وفرضياته العلمية حول القرآن الكريم والشؤون الإسلامية عامّة.

كما يأتي استخدام زاوي لهذا المنهج لأنه الأكثر شيوعًا واستخدامًا لدى كافة المستشرقين خاصة اليهود منهم؛ لأنه الأفضل في تحقيق أيديولوجيتهم الاستشراقية المتمثلة في ردّ المادة القرآنية لمصادر يهودية، الأمر الذي دفع الكثير من نقاد الأعمال الاستشراقية إلى اعتبار أنّ كلّ الدراسات والموسوعات التي كتبها المستشرقون تسير على هذا المنهج ولا تعدوه[23].

يمكن تقسيم استخدام زاوي لهذا المنهج في كتابه، إلى:

1- تأثير وتأثّر معنوي يتعلق بالظواهر والأفكار والمعتقدات: ومن أبرز أمثلته ما ذكره في مقدمة كتابه من أنّ محمدًا اقتبس من العهد القديم والتراث الإسرائيلي نصيب الأسد من أفكاره، ووجد مصدر اقتباسه من الشرائع والقوانين التوراتية التي تأثر بها جدًّا، مضيفًا أنه من المحتمل أن يكون ناسخو كتاب القرآن هم من اليهود والمسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام وكان فكرهم مستمدًّا من التلمود والعهدين القديم والجديد وفكر آباء الكنيسة[24]. وضرب زاوي مثالًا لهذا التأثر القرآني بالعهد القديم بعناوين السور القرآنية التي أشار إلى أنها مأخوذة من أول كلمة بالسورة تأثرًا بمنهج العهد القديم في ذلك[25].

2- تأثير وتأثّر لفظي: فقد ردّ زاوي عددًا من الألفاظ القرآنية إلى ألفاظ عبرية لا سيما الوارد منها في العهد القديم، ومن أمثلة ذلك ردّه لفظة: {سَكينة} القرآنية إلى لفظة (שכינה) العبرية[26].

 يقوم منهج التأثير والتأثر على محاولة تفريغ الظاهرة الفكرية من مضمونها محاولًا ردّها إلى عناصر خارجية في بيئات ثقافية أخرى، دون وضع أيّ منطق سابق لمفهوم التأثير والتأثر، بل بإصدار هذا الحكم دائمًا لمجرد وجود اتصال بين بيئتين أو ثقافتين، وظهور تشابه بينهما، مع أنّ هذا التشابه قد يكون كاذبًا وقد يكون حقيقيًّا، وقد يكون لفظيًّا وقد يكون معنويًّا[27].

يؤخذ على من يستخدمون هذا المنهج من المستشرقين -ومن ضمنهم زاوي-، أنهم لا يأخذون في الاعتبار أربعة عوامل مهمّة، وهي: - العامل الفضائي (المكاني). - العامل اللغوي والثقافي. - العامل الزمني. - عامل الأعاجم الذين اعتنقوا الإسلام. إِذْ إنّ من الطبيعي أن تحدث عملية التأثير والتأثّر، غير أنّ العوامل الثلاثة الأولى تعمل لصالح التأثير من جانب الإسلام في غيره، والعامل الأخير وحده يطرح إمكانية تأثّر الإسلام بغيره[28]، وفي هذا الصدد نستعين بما أورده زاوي نفسه في مقدمة كتابه من اعتراف وإقرار بفضل الإسلام والقرآن واللغة العربية على الفكر اليهودي في العصر الوسيط لدرجة أن كثيرًا من علماء الدين اليهودي الذين كتبوا التلمودَيْن البابلي والأورشليمي؛ تأثروا بالإسلام، كما أن الإسلام كان صاحب تأثير على الفكر اليهودي في قرطبة وبابل (العراق) وفلسطين[29].

في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن عملية التأثير والتأثّر المتبادل هي في الأساس عملية حضارية معقّدة تتم على مستويات عدّة: اللغة، والمعنى، والشيء، فلو كان هناك اتصال تاريخي بين حضارتين، وظهر تشابه بين ظاهرتين فإنّ ذلك قد يكون في اللغة، وفي هذه الحالة لا يكون تأثرًا بل (استعارة)، فعادة ما يحدث أن تُسْقِط الحضارة الناشئة ألفاظها القديمة وتستعير ألفاظ الحضارة المجاورة وتستخدمها للتعبير عن المضمون القديم[30]. أمّا إذا حدث تشابه في المضمون بين ظاهرتين من حضارتين مختلفتين فإنّ ذلك أيضًا لا يمكن تسميته تأثيرًا وتأثرًا، دون تحديدٍ لمعنى الأثر؛ لأنّ إمكانية التأثر من اللاحق بالسابق موجودة لأنّ الشيء نفسه موجود ضمنًا في الظاهرة اللاحقة[31]. وبشكل عامّ لا شك أن التأثير والتأثر بين الحضارات والثقافات والجماعات هو سُنة اجتماعية وتاريخية لا يمكن إنكارها.

فيما يتعلق بالإسلام والنصّ القرآني تحديدًا، فإن ظاهرة التأثير والتأثر غير معتمدة بالأساس، ويحل محلها الرؤية القرآنية والإسلامية حول الوحدة الإلهية للأديان في علاقاته باليهودية والنصرانية وكتبهما المقدسة، فمن الطبيعي أن تكون المتشابهات موجودة بين نصوص هذه الأديان طالما أن المصدر واحد[32]؛ وهو ما يتّضح أكثر من خلال مفهوم (الهيمنة) القرآني، وهو من المفاهيم (المُهمَلة) في الدراسات الاستشراقية عن الإسلام[33]، رغم أنه مفهوم قرآني مستمد من الآيات [48-50] من سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ*وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

وفق الفهم والتفسير الإسلامي، فإنّ هذا المفهوم لا يعني فرض السيادة الإسلامية/ القرآنية على اليهودية والنصرانية، بل يعني (الحفظ) أي: الإحاطة بالكتب السماوية السابقة و(الائتمان) عليها، أي: إنّ القرآن الكريم مؤتمَن على الكتب السماوية السابقة له وليس (بديلًا) عنها؛ فالقرآن الكريم احتوى الكتب الدينية السابقة في مفاهيمها ومعتقداتها الصحيحة والسليمة والأصلية رافضًا وناسخًا للخاطئ منها[34].

ويرى الباحث في مفهوم (الهيمنة) القرآني تجليًا لمقدرة الإسلام في المزج دائمًا بين مقدرته على تمثل العناصر الأجنبية، والعزوف في الوقت نفسه عن الإقرار بالأصول التي استمدت منها[35]. ولعلّ ذلك يعود إلى اعتماد القرآن الكريم منذ البداية قاعدة ثابتة في علاقته بالديانتين السماويتين السابقتين له: (اليهودية، النصرانية)؛ وهي أنه رغم اعترافه بهما، إلا أن ذلك لا يعني القبول بكلّ ما جاء بهما، وذلك بعد تعرُّض مصادرهما الأصلية لعمليات تحريف وتشويه خرجت بهاتين الديانتين عن الخطّ الإلهي الصحيح، وتجلَّى ذلك في النقد الإسلامي الشديد والمباشر لكثير من مفردات هاتين الديانتين على شكلها الحالي[36].

في ضوء ما سبق؛ لم يكن غريبًا أن تبرز عدة مشتركات أو متشابهات بين الإسلام والديانتين التوحيديتين السابقتين له، والتي لا تعني تأثرًا إسلاميًّا بهما لكنها تعبير عن علاقة الإسلام بالنصرانية واليهودية، والتي تقول بوحدة المصدر المشترك بين الديانات الثلاث[37]. وهو ما أقرَّ به زاوي نفسه في تمهيد الكتاب؛ إِذْ أكّد على أنّ «الأسس الروحية والأخلاقية السائدة في العهد القديم (مشتركة) بين اليهودية والنصرانية والإسلام»[38].

ثانيًا: فرضيات الكتاب حول القرآن الكريم ونقدها:

جمع الكتاب بين خاصيتين مهمّتين ميّزت الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية حول القرآن الكريم، وهما: الامتداد والتكرار[39]: بمعنى أنّ الفرضيات الواردة بالكتاب حول القرآن الكريم كانت امتدادًا وتكرارًا لنفس الفرضيات الاستشراقية الغربية حول مصدر القرآن الكريم، وتمحورت حول ردّ القرآن إلى مصادر يهودية. وغلبة الطابع السياسي[40]: إِذْ هدفت معظم الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية حول القرآن الكريم لخدمة إسرائيل ككيان سياسي وتبرير وجودها بالمنطقة، وهو ما برز في الكتاب من خلال تأكيد مؤلفه بمقدمته على أنه سيسعى لدعم الحوار بين المسلمين واليهود وبين العرب ودولة إسرائيل، من خلال إعادة تفسير القرآن وإصلاح المناهج والنظريات الإسلامية بشكل يُثبِت حقّ اليهود، وإبراز دعوة محمد الحقيقية في صورتها العالمية وأساسها التوراتي، مما قد يؤدي إلى إنهاء الحروب الدينية بعد أن تتحقق نبوّة أنبياء العهد القديم[41].

وبشكل عامّ، فإنّ فرضيات هذا الكتاب حول القرآن الكريم انحصرت في ردّه القرآنَ لمصادر يهودية، وذلك على مستويين أساسيين، وهما: 1- قصص القرآن. 2- لغة القرآن. وهو ما يمكن عرض ونقد أمثلة له على النحو التالي:

1- قصص القرآن:

ردَّ زاوي العديد من قصص القرآن إلى مصادر يهودية ومنها قصة ولدي آدم، وذلك في إطار تعليقه على الآيات [32-72] من سورة المائدة: {منْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ...}؛ إِذْ يرى أنها قصة قتل (قايين لهابيل) التوراتية مع بعض التغييرات الملحوظة، والتي استنبط منها حكم تحريم سفك الدماء[42]. وبهذا يقصد القصة التوراتية الواردة في سفر التكوين، 4/ 3-16:

«וַיְהִי, מִקֵּץיָמִים; וַיָּבֵאקַיִןמִפְּרִיהָאֲדָמָה, מִנְחָה--לַיהוָה.דוְהֶבֶלהֵבִיאגַם-הוּאמִבְּכֹרוֹתצֹאנוֹ, וּמֵחֶלְבֵהֶן; וַיִּשַׁעיְהוָה, אֶל-הֶבֶלוְאֶל-מִנְחָתוֹ.הוְאֶל-קַיִןוְאֶל-מִנְחָתוֹ, לֹאשָׁעָה; וַיִּחַרלְקַיִןמְאֹד, וַיִּפְּלוּפָּנָיו . . . חוַיֹּאמֶרקַיִן, אֶל-הֶבֶלאָחִיו; וַיְהִיבִּהְיוֹתָםבַּשָּׂדֶה, וַיָּקָםקַיִןאֶל-הֶבֶלאָחִיווַיַּהַרְגֵהוּ. . .».

«3 وَحَدَثَ بَعْدَ مُرُورِ أَيَّامٍ أَنْ قَدَّمَ قَايِينُ مِنْ ثِمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ، 4 وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ خَيْرَةِ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَأَسْمَنِهَا. فَتَقَبَّلَ الرَّبُّ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَرَضِيَ عَنْهُ. 5 لَكِنَّهُ لَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ قَايِينَ وَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ. فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَتَجَهَّمَ وَجْهُهُ كَمَدًا...8 وَعَادَ قَايِينُ يَتَظَاهَرُ بِالْوُدِّ لأَخِيهِ هَابِيلَ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا مَعًا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ هَجَمَ عَلَى أَخِيهِ هَابِيلَ وَقَتَلَهُ...».

وأول ما يُلحَظ في تعليق زاوي أنه أقرّ بأن القصة القرآنية بها تغييرات وصفها بـ(الملحوظة) عن القصة التوراتية، ما يعني أنّ هناك اختلافات حقيقية بين القصتين التوراتية والقرآنية، كما يُلحظ كذلك أنّ الآيات التي علّق عليها لم تَرِد بها قصة ولدي آدم في القرآن، بل وردَت في الآيات 27 حتى 32 من السورة نفسها.

للردّ على ما أورده زاوي حول هذه القصة، يمكن القول أنّ الخطوط العامّة لقصة ولدي آدم القرآنية متشابهة بشكلٍ عامّ، مع ما وردَ في التوراة حول هذه القصة، غير أنّ القصة التوراتية سمَّـتْهما باسم (קײןוהבלقايين وهابيل، وأوضحتا أن قايين هو الذي قتل هابيل. كما أنّ قصة الغراب الموجودة في القرآن الكريم بثنايا هذه القصة، الواردة في [الآية: 31] من السورة نفسها: {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} اختفَت من التوراة ولا وجود لها.

تبرز الاختلافات أيضًا في أنّ شخصية هابيل في التوراة غائبة إلا في الجانب السلبي، بينما نرى أن هابيل في القرآن الكريم شخصية عاقلة ومؤمنة أيضًا؛ لأنه قال لقابيل: إنْ نويتَ قتلي فلن أنوي قتلك: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[المائدة: 28]. وهذا يعني أن هابيل كان تقيًّا وقابيل لم يكن كذلك، وهو ما لم يكن واضحًا في التوراة[43].

2- لغة القرآن:

علّق زاوي على الآية (248) من سورة البقرة: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ...}، بالقول أنّ لفظة (سَكينة) اقتبسها محمد من اليهود الذين سمعها منهم، وأنّ هذه اللفظة مرتبطة بقصة عودة التابوت من أرض فلسطين زمن صموئيل (أحد أنبياء بني إسرائيل)[44].

يتضح من تعليق زاوي أنه يردُّ لفظة (سَكينة) إلى لفظة (שכינה) العبرية والتي تعني حضور الله بالمعنى الروحي البحت[45]؛ نظرًا لوجود تشابه كبير في (مبنَى) اللفظة بين العبرية والعربية، إلَّا أنّ معناها في العربية هو السكون والهدوء والطمأنينة، وهي من الألفاظ التي صيغت بصياغة دينية بعد ظهور الإسلام، أمّا في العبرية فجاءت بمعنى الروح القدس أو الوحي الإلهي[46]، وهو ما يدلّل بوضوح على وجود فارقٍ كبيرٍ في (المعنى) رغم وجود تشابه في اللفظ الذي -على الأرجح- من الممكن أن يكون عائدًا لظاهرة الإبدال الشائعة بين الساميات لا سيما بين ما يُعرَف بالحروف الصَّفِيريَّة ومنها الشين والسين[47]. بشكل دفع بعض المستشرقين إلى اعتبار أن (سكينة) مأخوذة من (שכינה) لتشابه المبنى رغم اختلاف المعنى.

يضاف إلى ما سبق، أنه بتتبُّع الجذر اللغوي للّفظة تاريخيًّا ولغويًّا يتضح أنها لفظة عربية الأصل، وهي تُنسب لألفاظ اللغة العربية الشمالية، وجذرها العربي هو (س. ك. ن) [48]، وربما بعض اللغات السامية الأخرى قد أخذَتْها منها وطوّرَتْها أو أبدلتها بعض حروفها مثلما حدث مع العبرية، وهو ما يعني أنها لفظة عربية أصيلة موجودة بالقرآن الكريم.

 كما أشار زاوي في تعليقه على الآية (93) من سورة البقرة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} إلى أنّ القرآن يغيّر من القسم التوراتي: (נעשהונשמע): (نسمع ونفعل) الوارد في سِفر الخروج 19/ 8 و24/ 3[49]، إلى التعبير: (سمعنا وعصينا).

ومن الواضح أن زاوي في تعليقه على هذه الآية يحاول مقارنة الفعل العربي (عصى) بالفعل العبري (עשה بمعنى: فعل) الذي يوجد تقارب بينهما من الناحية الصوتية في النطق، إلا أنه من ناحية اللغة والمعنى لا توجد علاقة بين (עשה) العبرية و(عصى) العربية، رغم وجود تقارب صوتي بينهما؛ وهذا ما أشار إليه جزنيوس[50] في معجمه الشهير حول اللغات السامية؛ إذ قارن بين (עשה) العبرية و(عسى أو عثى) العربية بمعنى أشعر؛ نظرًا لوجود صلات بين هذه الألفاظ؛ في حين لم يقارن بين (עשה) العبرية و(عصى) العربية لعدم وجود أيّ صلة بين هذين اللفظين سوى مجرّد تقارب صوتي[51].

ثالثًا: الخاتمة والخلاصات:

من خلال هذا العرض السابق لأهم محتويات الكتاب ومنهجيته، ونقد لنماذج مختارة لِما طرحه من شبهات حول الآيات القرآنية، إضافة إلى عرض السيرة الذاتية لمؤلِّفه، فإنه يمكن الخروج بعدد من النتائج والخلاصات، وذلك على النحو التالي:

  • يعكس الكتابُ المفهوم والنهج الاستشراقي الإسرائيلي حول دراسة القرآن الكريم ونقده، كما أنه يعكس جانبًا مهمًّا من اهتمامات وموضوعات الاستشراق الإسرائيلي وسِماته التي تميزه عن مراحل استشراقية يهودية أخرى أو حتى عن مدارس استشراقية غربية.
  • يعد الكتاب من الدراسات الاستشراقية الإسرائيلية النادرة التي تقدِّم ترجمة لمعاني القرآن الكريم للعبرية، رغم عدم تحديد إذا كان مؤلِّفه هو صاحبها أو أنه اقتبسها من ترجمات عبرية أخرى، إضافةً إلى أنه يقدِّم نقدًا من منظور استشراقي إسرائيلي لهذه الآيات ينصبُّ على ردّها لمصادر دينية يهودية قديمة ومتأخرة.
  • ينقسم الكتاب من حيث طريقة عرضه للأفكار والموضوعات، إلى جزأين أساسيين: الأول (نظري) يَعرِض آراء مؤلِّفه حول ردِّ القرآن الكريم لمصادر يهودية. والثاني (تطبيقي) يشمل ترجمة لعدد من سور القرآن الكريم والتعليق عليها بغرض ردّها لمصادر يهودية، وإثبات شبهاتٍ يهودية حولها تتعلّق بلفظ القرآن وقصصه وعقائده وشرائعه.
  • انتماء مؤلِّف الكتاب الحاخام والمستشرق شالوم زاوي إلى فئة المستشرقين الإسرائيليين من اليهود الذين هاجروا من البلدان العربية (الجزائر) إلى إسرائيل، والذين يحظون بمعرفة كبيرة بالعرب وشؤونهم، وهي فئة غلب عليها طابع الجدل الديني اليهودي المضاد للإسلام في كتابتها؛ نظرًا لأنها تشبَّعَت بفكر ديني يهودي متطرف يزعم بأن الإسلام يمثل خطرًا على اليهود واليهودية.
  • استخدام مؤلِّف الكتاب لمنهج التأثير والتأثّر في ردّ القرآن الكريم لمصادر يهودية، بشكل مكرّر ولا خصوصية فيه؛ نظرًا لأنه المنهج الذي يساعده على تحقيق فرضيته العلمية المتمثلة بالأساس في عنوان الكتاب والقائلة بوجود (مصادر يهودية بالقرآن)، إضافةً إلى أنّ المؤلف لم يكن متخصصًا علميًّا أو حتى أكاديميًّا في موضوع الدراسات القرآنية وكانت منطلقاته في عرض أفكار الكتاب منطلقات أيديولوجية استشراقية يهودية بحتة تهدف للتشكيك في أصالة النصّ القرآني وردّه لمصادر يهودية.
  • أن إقرار مؤلِّف الكتاب بوجود مشترَكات رُوحية وأخلاقية بين الكتب المقدّسة في الإسلام واليهودية والنصرانية، يدحض صحة منهج التأثير والتأثير في تناول النصّ القرآني، ويؤكّد صحّة الرؤية القرآنية عن وحدة الأديان السماوية الثلاث والتي يوضحها مفهوم (الهيمنة) القرآني الذي يعني: «حفظ الكتب السماوية السابقة لها، أي: الإحاطة بها والائتمان عليها، مؤكّدًا على الصحيح منها ورافضًا وناسخًا للخاطئ والمنحرف منها من أفكار وعقائد».
  • برزت من خلال الكتاب خاصية (الامتداد والتكرار) التي ميّزَت الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية؛ إِذْ كرّر نفس الفرضيات الاستشراقية الغربيّة حول مصدر القرآن الكريم، وتمحورَت حول ردِّ القرآن إلى مصادر يهودية، وكذلك خاصية (غلبة الطابع السياسي)؛ إِذْ حاول من خلال كتابه تطويع الأفكار والفرضيات الفكرية به لصالح خدمة أغراض وأهداف سياسية إسرائيلية بحتة تهدف لإثبات ما سمّاه بـ(حقوق اليهود الدينية والتاريخية).
  • أن ما طرحة مؤلِّف الكتاب حول ردّ قصص القرآن ولفظه لمصادر يهودية، اعتمد على فرضيات علمية غير موثوقة وتشابهات سطحية بين النصّ القرآني ونصوص دينية يهودية أخرى، رغم احتفاظ النصّ القرآني بخصوصيته واختلاف مضامينه سواء على مستوى الغرض أو حتى السياق.
 

[1] محمد خليفة حسن: المدرسة اليهودية في الاستشراق. مجلة رسالة المشرق، الأعداد 1-4، المجلد 12، القاهرة 2003. ص45-60.

[2] المرجع نفسه، ص45.

[3] أحمد صلاح البهنسي: الاستشراق الإسرائيلي؛ الإشكالية، السمات، الأهداف. مجلة الدراسات الشرقية، العدد 37، 2007، ص470.

[4] هي الترجمة الثانية من الترجمات العبرية الكاملة والمطبوعة لمعاني القرآن الكريم، وصدرت عن دار نشر (دافير) التي كانت تتبع المستوطنين اليهود في يافا شمال فلسطين عام 1936م، وقام بها المستشرق اليهودي (يوسف يوئيل ريفلين)، وجاءت تحت عنوان:אלקוראן - תרגום מערבית (القرآن- ترجمة من العربية)، (انظر: أحمد صلاح البهنسي، الترجمات العبرية لمعاني القرآن الكريم، التاريخ، والأهداف، والإشكاليات، بحث منشور في كتاب المؤتمر العالمي للقرآن الكريم، جامعة أفريقيا العالمية الإسلامية، السودان، ديسمبر 2011، الكتاب الأول، ص15).

[5] أحمد صلاح البهنسي، الترجمات العبرية لمعاني القرآن الكريم، التاريخ، والأهداف، والإشكاليات، مرجع سابق، ص15-16.

[6] א.שלוםזאוי: מקורותיהודײםבקוראן: הוצאתדביר: ירושלים 1983: עמ׳ 26.

[7] اجنتس جولدتسيهر (م 1850-1921)  Ignaz Goldzihe: مستشرق يهودي من أصل مجري، ويعدُّ عمدة المستشرقين اليهود في التاريخ الحديث، بل يعدّ بحقّ أهم مستشرق ظهر في الغرب خلال القرون الثلاثة الأخيرة. وهو المسؤول عن إحياء الاهتمام اليهودي بالدراسات الإسلامية والعربية في العصر الحديث. وهو الذي وضع قاعدة الدراسات الإسلامية وأسّسها بالنسبة للاستشراق الحديث على وجه العموم، وأعماله في مجال الدراسات الإسلامية لا يستغني عنها مستشرق (انظر: نقره التهامي، القرآن والمستشرقون، في مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية. الجزء الأول، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. الكويت 1985، ص46، 47).

[8] أبراهام إسحق كاتش (م 1998-1908) Abraham Katsh: يعدّ واحدًا من أهم الباحثين في مجال الوثائق التاريخية اليهودية، ولد في بولندا وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1952م، وحصل من جامعة نيويورك على درجات علمية مختلفة في الرياضيات والقانون، كما أنه درّس بالجامعة اللغة العبرية لأول مرة في تاريخ هذه الجامعة (انظر: Abraham Katsh. Judaism in Islam; New York University Press; USA ;.1954 ;PP1-2).

[9] שלוםזאוי:שם، עמ 30-14.

[10] שם، עמ15.

[11] שם، 16.

[12] שלוםזאוי:שם، עמ 59.

[13] قام بهذه الترجمة الدكتور أهارون بن شيمش، وصدرت الطبعة الأولى منها عام 1971م، تحت عنوان: הקוראן הקדושתרגום חופשי (القرآن المقدس...ترجمة حرة) (انظر: أحمد صلاح البهنسي، الترجمات العبرية لمعاني القرآن الكريم؛ التاريخ، والأهداف، والإشكاليات. مرجع سابق، ص16، 17).

[14] انظر قائمة المراجع للكتاب، ص259.

[15] أحمد الشحات هيكل، الترجمات العبرية لمعاني القرآن الكريم... أهداف سياسية ودينية. مجلة القدس، العدد 94، أكتوبر 2006، ص87.

[16] انظر الرابط الإلكتروني: www.nikibar.com/news/rabbin-zaoui-hommage.html

[17] انظر الرابط الإلكتروني: www.nikibar.com/news/rabbin-zaoui-hommage.html

[18] انظر الرابط الإلكتروني: www.nikibar.com/news/rabbin-zaoui-hommage.html

[19] انظر قائمة مراجع الكتاب، ص259-261.

[20] أبراهام جايجر: مستشرق وحاخام يهودي ألماني (1810م-1874م)، له عدة مؤلفات في الدراسات اليهودية والقرآنية، من أشهر مؤلفاته: ماذا أخذ محمد من اليهوديّة؟ - ?Was hat Mohammed aus dem Judenthume aufgenommen الذي شارك به في مسابقة في كليّة الفلسفة في بون سنة 1832م، ثم ترجم إلى الألمانيّة ليكون أطروحة دكتوراه في ماربورغ سنة 1834م. (انظر: أحمد محمود هويدي، الردّ على شبهات المستشرق اليهودي أبرهام جايجر حول قصص الأنبياء في القرآن الكريم، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، مجلد 60، عدد 4، أكتوبر 2000، ص123-124).

[21] انظر قائمة المراجع للكتاب، ص259-261.

[22] أحمد صلاح البهنسي: الاستشراق الإسرائيلي؛ الإشكالية، السمات، الأهداف. مرجع سابق، ص477.

[23] محمد بشير مغلي، مناهج البحث في الإسلاميات لدى المستشرقين وعلماء الغرب، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 2002، ص97-101.

[24] שלוםזאוי:שם، עמ 25 .

[25] שם، עמ 44.

[26] שם، עמ 63.

[27] حسن حنفي: التراث والتجديد؛ موقفنا من التراث القديم. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، بدون تاريخ، ص78.

[28] محمد بشير مغلي، المرجع السابق، ص97-101.

[29] שלוםזאוי:שם، עמ 14.

[30] حسن حنفي، مرجع سابق، ص80.

[31] حسن حنفي، مرجع سابق، ص81.

[32] محمد بشير مغلي، المرجع السابق، ص97-101.

[33] محمد خليفة حسن، تاريخ الأديان: دراسة وصفية مقارنة. دار الثقافة العربية، القاهرة 1996، ص253.

[34] المرجع نفسه، ص256.

[35] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي. دار الفكر، بيروت، الطبعة السادسة، 1973، ص596.

[36] محمد خليفة حسن: تاريخ الأديان؛ دراسة وصفية مقارنة. مرجع سابق، ص112-125.

[37] المرجع نفسه، ص238-266.

[38] שלוםזאוי:שם:עמ9.

[39] أحمد صلاح البهنسي: الاستشراق الإسرائيلي؛ الإشكالية، السمات، الأهداف. مرجع سابق، ص471.

[40] المرجع نفسه، ص472.

[41] שלוםזאוי:שם، עמ.47-48

[42] שלוםזאוי:שם، עמ 82.

[43] حسن الباش، القرآن والتوراة أين يتفقان وأين يفترقان؟ الجزء الأول، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، بدون تاريخ، ص95.

[44] שלוםזאוי:שם، עמ 63.

[45] Arthur Jeffery; The Foreign Vocabulary Of The Qur'an; Oriental Institute ;Baroda;1938; pp 174.

[46] Ibid; p 170.

[47] يحيى كمال: الإبدال في ضوء اللغات السامية، دراسة مقارنة. بدون ناشر، بيروت، 1980، ص214.

[48] وحيد أحمد صفية، الألفاظ القرآنية التي قيل بأعجميتها، دراسة مقارنة في ضوء اللغات السامية. رسالة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة عين شمس، كلية الآداب، 2002، ص107، 108.

[49] שלוםזאוי:שם، עמ 58.

[50] (م Heinrich Friedrich Wilhelm Gesenius (1842-1786: مستشرق ألماني، درس منذ العام 1803 الفلسفة واللاهوت في جامعة هيلمستيدت، وعمل محاضرًا في عدّة جامعات ألمانية في جوتنجين وإكستروردينريوس وهال. ويُرْجِع الكثيرُ من الباحثين والمتخصصين له الفضل في إخراج فقه اللغات السامية من عوائق التحيز الدينية واللاهوتية، وابتكار علم اللغات السامية المقارنة.
(انظر: en.wikipedia.org/wiki/Wilhelm_Gesenius).

[51] Wilhelm Gesenius; A Hebrew and English Lexicon of the Old Testament; Clarendon Press, Oxford; first edition 1906 ;pp 829-832.

الكاتب

الدكتور أحمد صلاح البهنسي

حاصل على الدكتوراه في الآداب، تخصص الديانة اليهودية وتاريخ الأديان، وله عدد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))